شرح هداية المسترشدين حجية الظن

هویة الکتاب

شرح هداية المسترشدين

حجّية الظن

تأليف

آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ

محمّد باقر النجفي الاصفهاني

( 1235 - 1301 )

نجل صاحب الهداية

تحقيق

الشيخ مهدي الباقري السيّاني

سرشناسه : النجفي الاصفهاني، محمدباقر، 1235 - 1301ق. ، شارح

عنوان قراردادی : معالم الدین و ملاذالمجتهدین. شرح

هدایه المسترشدین فی شرح معالم الدین. شرح

عنوان المؤلف واسمه: شرح هدایة المسترشدین(حجیة الظن)/ محمّد باقر النجفي الاصفهاني؛ تحقیق مهدي الباقري السيّاني

تفاصيل النشر: قم : عطر عترت ، 1427ق. = 2006م. = 1385.

مواصفات المظهر: 832ص.

شابک : 60000ریال: 964-7941-27-7

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

لسان : العربية

ملحوظة : کتاب حاضر شرحی است بر بخش حجیه الظن " هدایه المسترشدین فی شرح معالم الدین محمد تقی بن عبدالرحیم الاصفهانی (ایوان کیفی) که خود شرحی است بر کتاب " معالم الدین و ملاذ المجتهدین" اثر ابن شهید ثانی

ملحوظة : کتابنامه: ص. [773] - 812؛ همچنین به صورت زیرنویس

موضوع : ابن شهیدثانی، حسین بن زین العابدین، 959؟ - 1011ق. . معالم الدین و ملاذ المجتهدین -- نقد و تفسیر

موضوع : ایوان کیفی، محمدتقی بن عبدالرحیم، - 1248ق. . هدایه المسترشدین فی شرح معالم الدین -- نقدو تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: باقری سیانی، مهدی، محقق

معرف المضافة: ابن شهید ثانی حسین بن زین العابدین ، 959؟ - 1011ق. . معالم الدین و ملاذ المجتهدین. شرح

معرف المضافة: ایوان کیفی، محمدتقی بن عبدالرحیم ، - 1248ق. . هدایه المسترشدین فی شرح معالم الدین. شرح

تصنيف الكونجرس: BP158/86/الف2م602185 1385

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 85-11084

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

تقديم بقلم سماحة آية اللَّه الشيخ هادي النجفي دام ظله

اشارة

آل العلامة التقي صاحب الهداية

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد للَّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين .

أمّا بعد ، فإنّ أئمة أهل البيت - سلام اللَّه عليهم أجمعين - وسيّما الإمام محمّد بن علي بن الحسين الباقر عليه السلام ونجله الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يعدّون المبتكَرَيْن والمؤسّسَيْن لعلم الاُصول .

لأنّهم ألقوا على تلاميذهم ورواة أحاديثهم اُسس التفكير الأصولي ، وأنت تجد في رواياتهم بذرتها ، نشير إلى عدّة من الروايات حتّى تعلم ذلك بيقين :

منها : صحيحة عبداللَّه بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ، ويجى ء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال : ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي فإنّه سمع

ص: 5

من أبي وكان عنده وجيهاً(1) .

ومنها : صحيحة شعيب العقرقوفي قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : ربّما احتجنا أن نسأل عن الشي ء فمن نسأل ؟ قال : عليك بالأسدي - يعني أبا بصير -(2) .

ومنها : معتبرة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام قال : سألته وقلت : من اُعامل ؟ أو عمّن آخذ ؟ وقول مَنْ أقبل ؟ فقال : العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون .

قال : وسألت أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان الحديث(3) .

ومنها : صحيحة سليمان بن خالد قال : سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول : ما أجد أحداً يحيي ذكرنا وأحاديث أبي إلّا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ، ولو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا ، هؤلاء حفّاظ الدين واُمناء أبي على حلال اللَّه وحرامه وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون إلينا في الآخرة(4) .

ومنها : خبر أحمد بن إبراهيم المراغي قال : ورد على القاسم بن العلاء - وذكر توقيعاً شريفاً يقول فيه - : فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما

ص: 6


1- رجال الكشي 161 ح 273 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 144 ح 23 طبع آل البيت .
2- رجال الكشي 400 ح 291 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 142 ح 15 .
3- الكافي 1 / 265 ح 1 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 138 ح 4 .
4- رجال الكشي 1 / 136 ح 219 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 144 ح 21 .

يرويه عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحملهم إيّاه إليهم(1) .

أقول : الروايات الواردة في حجّية أخبار الثقات كثيرة ذكر صاحب الوسائل(2) أكثر من أربعين رواية ، وصاحب المستدرك(3) أكثر من ثلاثين رواية ، وجاءت في جامع أحاديث الشيعة(4) أكثر من مائة وعشرين رواية .

ولا يخفى على من له إلمام بالفقه بأنّ أخبار الثقات وحجّيتها أساس الفقه ، ولولاها لا يمكن الاستنباط والاجتهاد في أبواب الفقه ، ولذا يبحث عن حجّيتها في اُصول الفقه .

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما - إلى أن قال : - فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقِّهما واختلفا في ما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه - إلى أن قال - فإن كان الخبران عنكم بمشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم

ص: 7


1- رجال الكشي 2 / 535 ح 1020 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 149 ح 40 .
2- وسائل الشيعة 27 / 136 .
3- مستدرك الوسائل 17 / 311 .
4- جامع أحاديث الشيعة 1 / 268 الطبعة الحديثة .

الكتاب والسنّة وخالف العامّة . يؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة . قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ ؟ فقال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد ، فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ، ويؤخذ بالآخر .

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً ؟ قال : إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات(1) .

أقول : الروايات الواردة في ما يعالج به تعارض الروايات كثيرة ، ذكر صاحبي الوسائل(2) ومستدركه(3) ستّين رواية في ذلك المجال . ومن أهمِّ الأبحاث في علم الأُصول بحث التعادل والتراجيح في الروايات .

ومنها : صحيحة زرارة قال : قال لي أبو جعفر محمّد بن علي عليه السلام : يا زرارة إيّاك وأصحاب القياس في الدين ، فإنّهم تركوا علم ما وكّلوا به ، وتكلّفوا ما قد كفوه ، يتأوّلون الأخبار ، ويكذبون على اللَّه عزّ وجل ، وكأنّي بالرجل منهم ينادي من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادي من خلفه فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين(4) .

ومنها : صحيحة أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : ما تقول في

ص: 8


1- الكافي 1 / 54 ح 10 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 106 ح 1 .
2- وسائل الشيعة 27 / 106 .
3- مستدرك الوسائل 17 / 302 .
4- أمالي المفيد . المجلس السادس ح 12 / 51 ونقل عنه في وسائل الشيعة 27 / 59 ح 43 .

رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : عشرة من الإبل . قلت : قطع اثنتين ؟ قال : عشرون . قلت : قطع ثلاثاً ؟ قال : ثلاثون . قلت : قطع أربعاً ؟ قال : عشرون . قلت : سبحان اللَّه يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان ! فقال : مهلاً يا أبان هذا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين(1) .

أقول : القياس حجّة عند العامّة ، ولكن ردّه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وأنكروه عليهم أشدّ الإنكار ، والروايات الواردة في عدم حجّية القياس كثيرة ، ذكر صاحب الوسائل(2) أكثر من خمسين رواية وصاحب المستدرك(3) أكثر من ثلاثين وجاءت في جامع أحاديث الشيعة(4) أكثر من مائة وثلاثين رواية .

ومنها : صحيحة حريز بن عبداللَّه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم رفع عن اُمتي تسعة : الخطاء ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة(5) .

أقول : يجى ء البحث عن حديث الرفع في بحث البراءة الشرعيّة مِنْ علم

ص: 9


1- الكافي 7 / 299 ح 1 ونقل عنه في وسائل الشيعة 29 / 352 ح 1 .
2- وسائل الشيعة 27 / 35 .
3- مستدرك الوسائل 17 / 252 .
4- جامع أحاديث الشيعة 1 / 326 .
5- الخصال / 417 ونقل عنه في جامع أحاديث الشيعة 1 / 389 ح 3 .

الاُصول .

ومنها : صحيحة زرارة قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له من الماء فأصبت ، وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك ، قال : تعيد الصلاة وتغسله ، قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أن قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته ، قال : تغسله وتعيد ، قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت ولم أر شيئاً ثمّ صلّيت ورأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : ولم ذلك ؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً ، الحديث(1) .

أقول : الإضمار في الرواية لا يضرّ بها حيث مضمرها زرارة ، وله في هذا المجال صحاح اُخر ، فراجع إن شئت إلى جامع أحاديث الشيعة(2) ويبحث عنها في بحث الإستصحاب من علم الاُصول .

ثمّ هذه عشرة من صحاح الأحاديث وهي وأمثالها بذرة التفكير الاُصولي المنتشرة من أئمّة أهل البيت عليهم السلام .

وهناك روايات اُخر حول بعض مسائل تبحث عنها في علم الاُصول نحو حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » وقاعدة الميسور ، وقاعدة القرعة ، وقاعدة اليد ، وأصالة الطهارة ، وأصالة الحلّية ، ونحو ذلك .

وأيضاً هناك روايات اُخر لا تبحث عنها في علم الاُصول ، بل تبحث في

ص: 10


1- تهذيب الأحكام 1 / 421 ونقل عنه في جامع أحاديث الشيعة 1 / 406 ح 4 .
2- جامع أحاديث الشيعة 1 / 405 .

علم القواعد الفقهية ، وهي القواعد التي تنطبق على الحكم الشرعي الفرعي في أبواب مختلفة ومسائل متعدّدة في علم الفقه ، وهي كثيرة :

منها : قاعدة الإتلاف ، قاعدة الإقرار ، قاعدة الإلزام ، قاعدة الغرور ، قاعدة نفي السبيل ، قاعدة الجبّ ، قاعدة الإحسان ، قاعدة سوق المسلمين ، قاعدة حجّية البيّنة ، قاعدة التقيّة ، وغيرها من القواعد الفقهية .

والفارق الرئيسي بين القواعد الفقهية والمسائل الاُصولية : أنّ القواعد الفقهية كبريات تنطبق على الحكم الشرعي الفرعي ، وأمّا المسائل الاُصولية فتقع نتائجها في كبرى قياس الاستنباط ، فينتج منه العلم بالحكم الشرعي الفرعي .

فعلى ما ذكرنا لا يجوز التقليد في المسائل الاُصولية ، لأنّها ليست من المسائل الفرعية التي نعلم بجواز التقليد فيها ، ولكن يجوز التقليد في القواعد الفقهية لأنّها من المسائل الفرعية الشرعيّة ، فاغتنم .

والحاصل أنّ بذرة التفكير الاُصولي انتشرت من أئمة أهل البيت عليهم السلام وصنّف بعض أصحابهم رسالات في علم الاُصول من جمع أحاديثهم :

ومنهم : هشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها كما صرّح به ابن النديم في الفهرست(1) .

ومنهم : يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام وهو مبحث تعارض الحديثين كما صرّح به الشيخ في الفهرست(2) .

ص: 11


1- الفهرست لابن النديم / 244 .
2- الفهرست للشيخ الطوسي / 181 الرقم 789 .

ثمّ لعلم الاُصول أدوار وعصور قد مرّ من والدنا(1) قدس سره إجماله في مقدمته على كتاب جدّه العلّامة المحقّق آية اللَّه العظمى أبي المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الإصفهاني طاب ثراه المتوفّى عام 1362 الموسوم ب « وقاية الأذهان » المنتشرة ثانياً بواسطة مؤسسة آل البيت - لا زالت مؤيّدة لنشر تراث أهل البيت عليهم السلام فراجعها إن شئت .

امّا هذا الكتاب

كتب العلّامة الثاني آية اللَّه العظمى الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الإصفهاني المتوفّى في وقت الزوال من يوم الجمعة منتصف شهر شوال المكرم عام 1248 قدس سره حاشيته على مقدمة كتاب « معالم الدين في ملاذ المجتهدين » في علم الاُصول ، للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني المتوفّى عام 1011 قدس سره ، وقد طبع باسم « هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين » عدة مرّات وآخرها عام 1420 في ثلاث مجلّدات ضمن منشورات جماعة المدرسين بقم المقدسة .

وقد كتب على هذه الطبعة والدنا العلّامة آية اللَّه الشيخ مهدي غياث الدين مجد الإسلام النجفي قدس سره المتوفّى عام 1422 مقدمة عرّف فيها هداية المسترشدين خير تعريفٍ وثبت انّها كتاب يرجع إليه أعلام الطائفة الحقّة من بعده

ص: 12


1- راجع ترجمته في كتابي : قبيله عالمان دين / (208 - 153) .

في كتبهم وأبحاثهم الأُصوليّة في مرحلة الدراسات العالية المسمى بالخارج ، ويغنينا عن التعريف بالهداية .

وقال في مقدّمته تحت عنوان شرح الهداية : « أوّل من شرح قسماً من كتاب الهداية نجل المؤلف العلّامة الفقيه المحقّق الرئيس آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد باقر النجفي الاصفهاني المعروف بحجة الإسلام طاب ثراه عام 1301 ، فإنّه شرح بحث حجّية المظنة من هداية والده ، وقد طبع مع الهداية في عام 1283 في قريب من مأة وثلاثين صفحة كبير من الطبع الحجري ... »(1) .

وقال العلّامة الطهراني في تعريف الكتاب : « شرح حجّية المظنة من هداية المسترشدين في شرح معالم الدين تأليف الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم الاصفهاني المتوفّى 1248 ه ، لولده العلّامة الشيخ محمد باقر والد الآقا نجفي والمتوفى سنة 1301 ه ، اوّله : الحمد للَّه الذي شرح صدور العلماء العاملين بإشراق أنوار اليقين . . . الخ يقرب من 12000 بيتاً ، رأيتُ منه نسخة في مكتبة شيخ الشريعة الاصفهاني في النجف فرغ منها الكاتب سنة 1279 ه »(2) .

وقال المؤلف في شأن كتابه : « ... إنّي لما رأيتُ الرسالة الشريفة بل الجوهرة النفيسة التي اُدرجت في كتاب « هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين » التي صنّفها وهذبّها والدي الإمام عماد الإسلام فقيه أهل البيت عليهم السلام ... وجدتها مشتملة على تحقيقات فائقة تفرد بها عن السابقين ، وتدقيقات رائقة لم يسبقه إليها أحد من الأوّلين والآخرين ، قد عملها في إبطال

ص: 13


1- هداية المسترشدين 1 / 12 .
2- الذريعة 13 / 185 الرقم 641 .

القول بالظن المطلق وإثبات مذهب الحق ، كشف فيها عن مشكلات هذه المسألة نقابها ، وذلّل صعابها ، وملك رقابها ، وحلّل للعقول عقالها ، وأوضح قيلها وقالها ، ففوائدها في سماء الإفادة نجوم ، وللشكوك والشبهات رجوم ، غير أنّها قد استصعبت على علماء هذا العصر حتى اختفت عليهم دقائقها وانطوت عنهم حقايقها ، فجعلوها غرضاً لسهام النقض والإبرام ، وليس ذلك إلّا مِن زلل الإفهام ، وحيث وجدت الأمر بهذه المثابة مع كون المسألة مِن أعظم المسائل التي تعمّ بها البليّة وتشتدّ إليها الحاجة ، بل يبتني عليها اساس استنباط الأحكام الشرعيّة ، رأيتُ أن أكتب عليها شرحاً وافياً بإيضاح مبهماتها ، كافيّاً في بيان مشكلاتها ، متكفّلاً بدفع الشكوك والشبهات عنها وتنقيح مطالبها وتهذيب مقاصدها ... »(1) .

ثم من بعده استفاد الأعلام من هذا الشرح الشريف لتبيين مراد والده العلّامة (قدس سرهما):

منهم : حفيده العلّامة الشيخ أبي المجد محمد الرضا النجفي الاصفهاني المتوفى عام 1362 في كتابه وقاية الأذهان قال فيه : « تفسير الجد حجة الاسلام لكلام والده الإمام طاب ثراهما »(2) ثم تعرض لهذا التفسير بعد التعرض ايماءً بشهادة عمّه آية اللَّه العظمى الحاج آقا نور اللَّه النجفي طاب ثراه في عام 1346 ق بمدينة قم بيد رضاخان البهلوي لعنه اللَّه تعالى .

وهكذا تعرّض لكلامه في مواضع اُخرى من كتابه(3) .

ص: 14


1- راجع هذا الكتاب ص 62 .
2- وقاية الأذهان / 597 طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام .
3- راجع في هذا المجال وقاية الأذهان / 569 و 573 .

ومنهم : العلّامة المحقّق الشيخ محمد حسين الإصفهاني المعروف بالكمباني المتوفّى عام 1361 في تعليقته المشهورة على الكفاية فإنّه ذكر بيان المؤلِّف في شرح كلام والده المحقّق ، عقد له تنبيه ، قال : « ذكر بعض الأجلّة رحمه الله في شرح كلام والده المحقّق قدس سره . . . »(1) .

وامّا المؤلّف

اسمه : الحاج الشيخ محمد باقر النجفي الاصفهاني المعروف بالشيخ الكبير والملقّب بحجّة الإسلام .

والده : العلّامة الفقيه الاُصولي الشيخ محمد تقي ابن الحاج محمد رحيم الرازي النجفي الاصفهاني .

اُمّه : نسمة خاتون المعروفة بحبابة - بنت الشيخ الأكبر الشيخ جعفر النجفي صاحب كشف الغطاء - المتوفاة عام 1295 ودفنت في جوار مرقد زوجه العلّامة في بقعته الخاصة بتخت فولاد إصبهان . ذكرها السيد المهدوي ووصفها ب « العالمة والفاضلة والزاهدة »(2) .

ولادته : المشهور بين أرباب التراجم أنّه ولد عام 1235 بإصفهان ، ولكن يظهر من بعض(3) أنّه ولد في عام 1234 .

ص: 15


1- نهاية الدراية 3 / 326 طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام .
2- دانشمندان و بزرگان اصفهان 1/89 من الطبعة الحديثة في عام 1384 ش .
3- كما يظهر من كلام حفيده العلّامة محمد باقر الفت في كتابه المخطوط نسبنامه . والسيد محسن الامين في اعيان الشيعة 13 / 439 ( طبع عام 1420 ) والدكتور محمد باقر الكتابي وهو من أسباطه في رجال اصفهان 1 / 137 .

اساتيده ومشايخه وهجرته الى النجف الاشرف

اشتغل بالتحصيل في مسقط رأسه اصبهان عند أعلامها ، ثمّ بعد وفاة والده انتقل إلى النجف الأشرف بهمّة والدته العالمة ، وحضر على جماعة ، وقد ذكروا هؤلاء الأعلام من أساتيده ومشايخه ، وهم آيات اللَّه العظام :

1 - والده العلّامة الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين عام 1248 .

2 - الحاج السيد محمد باقر الموسوي الشفتي المعروف بحجة الاسلام المتوفّى عام 1260 .

3 - الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهرالمتوفّى عام 1266 .

4 - خاله الشيخ حسن ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة المتوفّى عام 1262 .

5 - عديل والده ، ووالد زوجته السيد صدر الدين الموسوي العاملي المتوفّى عام 1264 .

6 - الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الانصاري المتوفّى عام 1281 .

وقد استفاد من الشيخ الأعظم في أوائل تدريس الشيخ في بيته وقرأ عليه هداية والده وتشرف الى حجِّ بيت اللَّه معه وأجازه الشيخ بخطه وهي صورتها إليك :

ص: 16

تصوير اجازة الشيخ الأعظم الأنصاري للمؤلف

صورة إجازة الشيخ الأعظم الأنصاري بخطه للمؤلِّف قدس سرهما

ص: 17

قالوا في حقه

1 - كتب آية اللَّه السيد محمد حسن الحسيني الميرزا الشيرازي الكبير المتوفى عام 1312 - وهو من تلاميذ والده العلّامة في جواب استفتاء حيث سأل عنه فيها ما يكون معرّبه : « المرحوم جنّة المكان الحاج الشيخ محمد باقر - أعلى اللَّه مقامه - في أيام حياته تصرّف في اُمورٍ يرجع إلى الحاكم الشرع المطاع ، فهل هذه التصرّفات ممضيّ ، ويبقى على حاله بعد موته أم لا ؟ وحيث يكون محل الحاجة تفضلوا بخطكم المبارك » .

وكتب الميرزا بخطه الشريف ما ترجمته بالعربية :

« بسم اللَّه الرحمن الرحيم

نعم ، ممضّ ونافذٌ .

حرّره الأحقر محمّد حسن الحسيني » .

ثم ختمه بخاتمه الشريفة واليك صورة نص الإستفتاء وجوابه بالفارسية :

ص: 18

صورة خط الميرزا الشيرازي الكبير في حقِّ المؤلف

تصوير خط الميرزا الشيرازى الكبير في تصديق كون المؤلِّف هو الحاكم الشرع المطاع وأنّ تصرفاته نافذة في حال حياته وبعد مماته

ص: 19

2 - قال آخر من تلاميذ والده والمجازين من الولد(1) وهو صاحب الروضات في ختام ترجمة والده : « . . . ولصاحب الترجمة أيضاً ولد فاضل جليل ، وخلف بارع نبيل ، من ابنة شيخنا الأفقه الأفخر الشيخ جعفر يسمّى بالحاج شيخ محمد باقر - أطاب اللَّه تعالى ثراه - وكان أيام وفاة والده المبرور في حدود المراهقة أو الصبا ، فصبى على مثل تلك الحالة إلى تحصيل المرتبة القصوى والمنزلة العليا بسعى والدته الحميدة الكبرى ، وانتقل بعد برهة من اشتغاله في إصفهان على بعض تلامذة والده الأعيان ، وتزوّجه بابنة خالته الّتي هي من سلالة سيدنا السيد صدر الدين الموسوي العاملي إلى أرض النجف الأشرف الأطهر ، فتتلمذ بها أيضاً سنين عند خاله العلّامة الشيخ حسن [ا]بن الشيخ جعفر ، وكذلك عند شيخنا البارع العلّامة الشيخ مرتضى الدسفولي الانصاري المنتهى إليه رياسة الطائفة في هذا الزمان - حفظه اللَّه من نوائب الأزمان - في طريق مسافرتهما إلى حجِّ بيت اللَّه الحرام وغيرها إلى أن اُجيز له في الرواية والفتوى فردّ إلى وطنه سالماً غانماً ، وعاد إلى مسكنه عالماً حازماً وأخذ

ص: 20


1- نقل العلّامة السيد أحمد الروضاتى عن ظهر نسخة أمل الأمل التي كلّها بخطّه جده صاحب الروضات ، عن خطه اجازة آية اللَّه الشيخ محمّد باقر النجفى مؤلِّف هذا الكتاب للمحقق الفقيه السيد محمّد باقر صاحب الروضات هكذا : « بسمه تعالى والحمد للَّه وصلى اللَّه على محمّد وآله لقد أجازني شفاهاً بعد التنطّق بالحمد والصلاة ، جناب الشيخ السمى سلّمه اللَّه في رواية جميع ما صحت روايته عن شيخه الفاضل المدقّق المرحوم الشيخ مرتضى عن المحقّق النراقي ، وعن شيخيه الآخرين الفاخرين الشيخ محمّد حسن صاحب جواهر الكلام والشيخ حسن [ا]بن الشيخ جعفر خاله الرفيع المقام عن مشايخهم عليهم رضوان اللَّه الملك العلاّم ، وكان ذا في شهر محرم الحرام 1286 والحمد للَّه أوّلاً وآخراً . [فراجع مقدمة كتاب علماء الاُسرة /80] .

هنالك في الترويج والتدريس والإمامة والتأسيس والتصنيف والتأليف والقيام بحقِّ التكليف - وهو سلمه اللَّه تعالى - . من أجلّة مشفقينا المعظّمين والمحرّصين على تتميم هذا الكتاب المتين - أتاه اللَّه ما لم يؤت أحداً من العالمين »(1) .

3 - وقال تلميذه العلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسين النائيني قدس سره اُستاذ الفقهاء في النجف الأشرف على منبر تدريسه بعد التذكر باسم شيخنا المترجم له : « كان فقيهاً كبيراً » - ثلاث مرات -(2) .

4 - وقال حفيده العلّامة أبي المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الإصفهاني في شأنه : « كلّ لسانٍ من وصفه قاصر ، وكلّ فكر في كهنه حاسر(3) ، أحسن وصف لمعاليه أنّه أشبه الخلق بأبيه ، كان وقت وفاة والده العلّامة مراهقاً أو بلغ الحلم ، وبعد بلوغه بمدّة قليلة بعثته والدته الصالحة العابدة بنت الشيخ الأكبر الشيخ جعفر إلى النجف الأشرف لتحصيل العلم ، ولم يزل مشغولاً بتحصيل العلم عند خاله الفقيه الأعظم صاحب أنوار الفقاهة وعند صاحب الجواهر وحضر في فن اُصول الفقه على العلّامة الشيخ مرتضى وكان ذلك ابتداء أمر الشيخ ، كان يمضي إلى داره ويقرأ عليه حاشية والده وهوأوّل تلامذته وأعظم مَنْ استفاد مِنْ صحبته واشتغل من خلال ذلك بتكميل مراتب التقوى وبتحسين الأخلاق والمجاهدات ، حتّى منحه اللَّه سبحانه حالات شريفة وعرضت له كرامات منيفة

ص: 21


1- روضات الجنات 2 / 1217 .
2- كتبه بعض تلاميذ المحقّق النائيني في تقريظه على رسالتي « إزاحة الشكوك عن حكم اللباس المشكوك » وهي لا يزال مخطوطة .
3- حَسَرَ بصرُه يَحسِرُ حُسُوراً ، أي كلَّ وانقطع نَظَره من طول مَدىً وما أشبه ذلك ، فهو حَسِيرٌ ، ومحسُورٌ أيضاً .

لا أرى ذكرها . . . »(1) .

5 - وقال صاحب أحسن الوديعة : « آية اللَّه العظمى الفقيه الماهر ، فخر الأوائل والأواخر ، ابن الأعلم الأفضل الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية المشهورة على المعالم ، مولانا الحاج الشيخ محمد باقر الإصفهاني ، وكان هذا الشيخ من أكابر الفقهاء والمجتهدين وأعاظم العلماء المحقّقين ، وأفاضل الدنيا والدين ، مجسّمة الزهد والورع والتقوى ، تاركاً بالكلّية الدنيا ، مشتغلاً باُمور الاُخرى »(2) .

6 - وقال المؤرّخ الميرزا حسن خان الجابري الأنصاري قدس سره ما معناه بالعربية : « له النسب الأعلى من الفردين العظيمين ، وهو شمس القلادة من البيتين الجليلين ، وهما الشيخ الكبير جعفر والشيخ محمد تقي نوّر اللَّه مضجهما ، وكان مرجعاً لتقليد الأكابر والأعاظم ، وربيعاً للعلم والعمل ، وساعياً في إعلاء لواء الشريعة بحيث لم يكن فوقه متصوّراً ، وفي زمن رياسته على مسند الشريعة يعيشون قاطبة الناس في راحة . . . »(3) .

7 - وقال السيد محسن الأمين رحمه الله : « شيخ شيوخ اصفهان وأحد أعيان الرؤساء في ايران ، رأس بعد أبيه . . . ثمّ عاد إلى اصفهان اتفق موت إمامها السيد اسد اللَّه وغيره من الشيوخ فانحصر الأمر فيه ورأس بها زعامة قلَّما تتفق حتّى أقام الحدود الشرعيّة من القتل قصاصاً وقصده الناس في المهام إلى غير ذلك ولم يبق معه شأن لولاة اصفهان ، أبطل حكومتهم حتّى ضاق بهم الخناق بل كان

ص: 22


1- حلي الدهر العاطل في مَنْ أدركته من الأفاضل ، ونقل عنه في فوائد الرضوية 2 / 410 .
2- أحسن الوديعة 2 / 16 .
3- تاريخ اصفهان 1 / 98 .

حكمه فوق كلّ حكم وتعدي ذلك إلى غيرها من بلاد إيران خصوصاً بعد رحلاته إلى طهران وقد قصده طلاب الفقه من كلِّ صوب وتخرجوا به وبعضهم من المشاهير مثل : السيد اسماعيل الصدر والسيد كاظم اليزدي الطباطبايي وشيخ الشريعة الإصفهاني واولاده المشهورون ( أي أولاد المترجم ) ... »(1) .

8 - وقال السيد حسن الأمين رحمه الله « ... ثمّ عاد إلى اصفهان وتولى التدريس مكان والده في حوزة مسجد الشاه وقد تخرج عليه عدد من العلماء . وبعد وفاة كبار علماء اصفهان اشتغل بأمور الناس وجلس للقضاء بينهم وحلّ مشاكلهم واصبح هو صاحب السلطة الفعلية في اصفهان وتولّى إقامة الحدود الشرعيّة فقتل عدد من البابيين بأمر منه ، كما حكم بإعدام سبعة وعشرين شخصاً في يوم واحد ، أعدم منهم إثنا عشر وتمكن الباقون من الفرار ... »(2) .

9 - وقال حفيده الآخر العلّامة محمد باقر الفت رحمه الله ما معربه : « اشتهر بالعلم والتقوى إشتهاراً واسعاً ، وصار إماماً لأئمة الدين بإصبهان . . . وكان في أواخر عمره أوّلاً مِن الأشخاص المتنفذين في ولاية إصبهان ، ويحسب من جملة الاوّلين من العلماء الروحانيّين في إيران وغيره . . . »(3) .

10 - وقال في نفحات الروضات في ذيل ترجمة والده : « . . . وولده الشيخ محمد باقر أيضاً عالمٌ فاضلٌ من أجلّة علماء المعاصرين وكان زمن وفاة والده في حدود المراهقة فاشتغل بإصفهان مدّة ، ثم قدم العراق وقرأ بها وفاز من العلم والعمل المرتبة العليا فقدم إصفهان وهو الآن بها من مروجي الدين - سلمه اللَّه

ص: 23


1- اعيان الشيعة 13/439 طبع عام 1420 في بيروت .
2- مستدركات اعيان الشيعة 9/208 طبع عام 1419 في بيروت .
3- نسبنامه / مخطوط .

تعالى - »(1) .

11 - وقال حفيده الآخر العلّامة آية اللَّه الشيخ مهدي النجفي المتوفّى عام 1393 في شأنه ما ترجمته بالعربية : « كان فقيهاً كاملاً وعالماً متجراً ، ويجمع بين حسنى الصورة والسيرة ، ويكون خليقاً ووقوراً ، وله جديّة تامة في إعلا كلمة الدين ورفع شرّ الظالمين وإشاعة الخيرات ودفع المنكرات ، ويكون خدماته إلى الدين الحنيف مشهوداً للعالمين ... »(2) .

12 - وقال العلّامة الطهراني رحمه الله : « الشيخ محمد باقر الاصفهاني الكبير ، هو الشيخ محمد باقر ابن الشيخ محمد تقي محشي المعالم الاصفهاني من مشاهير علماء عصره . ولد في اصفهان (1235) وتوفّى والده العالم الكبير وهو في سنِّ المراهقة ، وبعد بلوغه بعثته والدته بنت الشيخ الأكبر كاشف الغطاء إلى النجف ، فاشتغل عند خاله الفقيه الشيخ حسن مؤلّف أنوار الفقاهة والعلّامة مؤلّف الجواهر والشيخ الأنصاري ، ثم عاد إلى اصفهان فقام مقام والده في البحث والتدريس وإقامة الشعائر وامامة الجماعة في مسجد شاه ، خرج من مجلس درسه جماعة من الفقهاء الأعلام ، وله تصانيف جليلة منها : رسالة في حجّية الظن الطريقي طبعت مع حاشية والده على المعالم ، ولبّ الاُصول قال سيدنا في التكملة : لا أدري أنّه تمّ أم لا ؟ وكذا كتاب لبّ الفقه الموجود عنده مجلد منه في الطهارة ناقصاً و . . . »(3) .

ص: 24


1- نفحات الروضات / 166 الرقم 148 وهي إختصار روضات الجنات بقلم العلّامة محمد باقر الفت . وقد طبعهاالعلّامة المرحوم السيد احمد الروضاتي « رهما » .
2- أنهار /28 .
3- نقباء البشر 1 / 198 الرقم 439 .

13 - قال الشيخ عبّاس القمّي رحمه الله في شأنه : « كان عالماً جليلاً ، اُمّه بنت الشيخ الأكبر كاشف الغطاء ، وزوجته بنت العلّامة السيّد صدر الدين الموسوي ، وكانت بنت خالته أيضاً ، تلّمذ على بعض تلامذة والده ، ثمّ على خاله العلّامة حسن بن الشيخ جعفر ، وعلى العلّامة ، المحقّق الشيخ مرتضى الأنصارى - رضوان اللَّه تعالى عليهم - توفّى في النجف الأشرف سنة 1301 ( غشا ) »(1) .

14 - قال السيد محمد مهدي ابن السيد محمد علي ابن السيد محمد باقر حجة الإسلام الشفتي قدس اللَّه أسرارهم المتوفّى عام 1326 في ترجمة والده : « . . . وله ولد جليل عالم محقّق عامل ماهر الشيخ محمد باقر قدّس روحه ، قد انتهت إليه أواخر عمره رياسة العامة ببلدة اصفهان وبعض بلاد ايران ، وقد لقّب بلقب حجة الاسلام وكان بمحلّه ، وقد انتقل إلى جوار اللَّه بعد تشرّفه بزيارة أولياء اللَّه عام الواحد وثلاث مأة بعد الألف ودفن جنب قبر كاشف الغطاء في الغري(2) على مشرفه ألف سلام ، ولا يخفى أنّ هذا من كراماته فإنّه كان في نهاية العجلة بهذه المسافرة نُوّر قبره وقدّس سرّه »(3) .

15 - وقال العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره المتوفّى عام 1377 في كتابه بغية الراغبين بعد ترجمة والده : « . . . وكان ولده الشيخ محمد باقر حينئذ [يعني حين وفاة والده في عام 1248] في سنّ المراهقة فنشط لتهذيب نفسه وتصفيتها من كلّ شائبة ، مشمّراً عن ساعد الجدّ في ذلك ، قائماً في تحصيل

ص: 25


1- الكُنى والألقاب 2/6 .
2- وكان عمره قريباً من سبعين (حاشية من السيد محمد مهدي على متنه) .
3- غرقاب / مخطوطة بخط المؤلف .

العلوم وتمحيص الحقائق على ساق ، فما اكتهل حتى كان خلف أبيه وعمّه ، يمثلهما في هديه وفهمه وينسج على منوالهما في علمه وحلمه وحكمه ويسير سيرتهما في أفعال وأقواله وينهج نهجهما في جميع أحواله . . . وكان في ايران ركناً من أركان الهدى والإيمان ، وعلماً من أعلام التُقى والرضوان على شاكلة أستاذه ومربّيه ومخرّجه وحميه(1) السيد صدر الدين بن السيد صالح شرف الدين الموسوي العاملي ، وقد أبلى السيد في تدريبه وتثقيفه بلاءً حسناً ، زقه العلوم والآداب زقاً .

وكان الشيخ صهر السيد على كريمته(2) وهي أم العلماء الأعلام من أولاد الشيخ وبهذا نال من الخطوة بالسيد ما لم يتسن لغيره ، فبرز أعلى اللَّه مقامه مرجعاً في الدين ومفزعاً للمؤمنين ، وكان يجيب نداء العافي بلسان نداه ، ويروى صدى اللهيف قبل رجع صداه ، إلى أن دعاء ربّه فلباه في السنة الاولى بعد الألف والثلاثمأة »(3) .

16 - وقال العلّامة المؤرّخ الشيخ محمد على المعلّم الحبيب آبادي رحمه الله ما تعريبه : « . . . وبعد سكن اصفهان وصلّى بالناس في مسجد شاه وأقام الدرس هناك وحصل له رياسةٌ حقّةٌ وتموّلٌ كاملٌ . وكان عند الشدائد مرجعاً وملجأً لاُناس البلد . . . »(4) .

17 - وقال العلّامة السيد مصلح الدين المهدوى رحمه الله في شأنه ما تعريبه :

ص: 26


1- أي والد زوجته .
2- وكانت كريمة السيد بنت خالة الشيخ لأنّ اُمّه واُمّها اُختان أبوهما الشيخ الأكبر كاشف الغطاء .
3- بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين 1 / 156 .
4- مكارم الآثار / 3 / 1007 .

« من أكابر العلماء والمجتهدين ورؤساء الملّة والدين ... تتلّمذ حتّى صار عالماً جليلاً و محققّاً وحيداً ، واستفادوا عنه جمعٌ كثيرٌ من أكابر العلماء والفضلاء ... »(1) .

18 - قال العلّامة السيد احمد الروضاتي رحمه الله في شأنه : « الإمام العلّامة الفقيه المرجع الديني الحاج الشيخ محمد باقر ابن الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم . . . »(2) .

رجوعه إلى اصبهان

في حدود عام 1260 عاد إلى موطنه إصبهان وسكن منزل والده واقام الجماعة في مسجد الجامع العبّاسي واشتغل بالإرشاد والهداية ، وكان مُجدّاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجرى الحدود الشرعيّة ولذا لقّبه الناس بحجة الاسلام بعد العلّامة السيد محمد باقر الشفتي المتوفّى عام 1260 - ، فإنّها قد انقطعت بعده حتّى يجريها المترجم له .

فيصير في رأس أعلام إصبهان ويكون أبا وإماماً ومرجعاً وملجأً لهم حتّى أنّه في عام المجاعة 1288 الّتي اشتهر بأنّه يأكل الناس بعضهم بعضاً استقرض ما يعادل جميع ما يملكه ، وأنفقه بفقراء المؤمنين الّذين يكونون في معرض الهلكة .

ص: 27


1- دانشمندان و بزرگان اصفهان /160 ( 1/312 من الطبعة الحديثة في عام 1384 ش ) .
2- مقدمة نفحات الروضات / 116 .

وفي عام 1292 حيث يريد الشاه وضع ضريبة حديثة على الناس ، سافر شيخنا المترجم له بنفسه إلى طهران وأخذ من الشاه حذف تلك الضريبة الحديثة لعموم الساكنين بمحروسة اصبهان .

وفي عام 1299 بنى مسجداً عظيماً في سوق إصبهان يُسمّى بمسجد نو ، وقيل في تاريخ بنائه بالفارسية :

« اصفهان را مسجد نو شمع شد »

1299

وجميع هذه الأمور صار سبباً لبلوغ هلاله إلى البدر التمام فصار أوّل الشخص المتنفذ من العلماء الفقهاء ، لا في اصفهان فقط بل في ايران .

تدريسه وبعض تلاميذه

قام بالتدريس من أوّل وروده الى إصبهان وقد اجتمع الطلّاب عليه وصعد منبر التدريس أربعين سنة ، واستفاد منه في العلوم جمع كثير ، قد ذكر العلّامة السيد مصلح الدين المهدوي قدس سره في كتابه(1) قريباً من ثمانين شخصاً من تلاميذه ، ولكن هنا أذكر بعضهم ، وبين مَنْ أذكر وبين مَنْ ذكره السيد المهدوي يكون عموماً وخصوصاً من وجه . وهم آيات اللَّه العظام :

ص: 28


1- بيان سبل الهداية في ذكر اعقاب صاحب الهداية أو تاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 1 / 321 و 3 / 356 .

1 - الآخوند محمد ابراهيم بن محمد رضا الأنجداني الأراكي .

وقد أجازه بالرواية والإجتهاد وهو صاحب المصابيح الثلاثة وهي :

الف : مصباح القلوب في حرمة الغيبة .

ب : مصباح الكرامة في الرضاع .

ج : مصباح السعادة في حرمة الغناء المطبوع في « ميراث فقهي غنا وموسيقي » 2 / (1054 - 985) ، والعجب من مصححه حيث نسب اجازة شيخنا المترجم له إلى غيره ، وسبحان من لا يسهو .

2 - الميرزا أبو تراب البروجردي الاصفهاني المتوفّى عام 1328 ق .

3 - السيد أبو تراب الموسوي الخوانساري النجفي (1217 - 1346) .

4 - السيد أبو القاسم الحسيني الدهكردي (1272 - 1353) .

5 - الشيخ أبو القاسم الدهاقاني يعرف بصدر العلماءالمتوفّى عام 1354 ق .

6 - الميرزا أبو القاسم القاضي الاصفهاني(1) .

7 - الحاج الميرزا أبو الهدى ابن أبي المعالي ابن الحاجي محمد ابراهيم الكلباسي المتوفّى عام 1356(2) .

8 - الملا اسماعيل الحكيم البسطامي(3) .

9 - السيد اسماعيل الصدر ابن السيد صدر الدين (1258 - 1338) .

ص: 29


1- ذكره السيد على الجناب في الاصفهان / مخطوط .
2- كتاب خاندان كلباسي / 248 .
3- عنونه السيد على الجناب في الاصفهان / مخطوط .

10 - الشيخ محمد باقر البيرجندي (1276 - 1352) .

11 - الشيخ محمد باقر الفشاركي المتوفّى عام 1314 .

12 - الشيخ محمد تقي آقا النجفي الاصفهاني ، نجله (1262 - 1332) .

13 - جهانگير خان القشقائي(1) .

14 - الشيخ جمال الدين النجفي الاصفهاني ولده (1284 - 1354) .

15 - الميرزا حسن بن ابراهيم المحرّر العراقي المتوفّى عام 1324(2) .

16 - الميرزا محمد حسين المدرسه اي النطنزي(3) ( 1270 - 1346 ) .

17 - الشيخ محمد حسين النائيني (1277 - 1355) .

18 - الشيخ محمد حسين النجفي الاصفهاني ولده (1266 - 1308) .

19 - الشيخ حسين الورنامخواستي اللنجاني الاصفهاني(4) .

20 - الشيخ الملّا زين العابدين النخعى الگلپايگاني .

21 - السيد محمد صادق الچهار سوقي ابن ميرزا زين العابدين الموسوي الخوانساري(5) .

22 - الشيخ عباس كاشف الغطاء (1235 - 1323) .

23 - الشيخ الميرزا عبد الجواد النوري ، صهر الحاج محمد ابراهيم

ص: 30


1- ذكره السيد علي الجناب في الاصفهان / مخطوط .
2- ذكره السيد علي الجناب في الاصفهان / مخطوط .
3- المذكور في كتاب ميراث فرهنگى نطنز2 / 217 تأليف السيد حسين الأعظم الواقفى .
4- قد ذكروا هذا الرجل من تلامذ والده الشيخ محمّد تقي صاحب الهداية ولكن الصحيح أنّه من تلاميذ نجله الشيخ محمّد باقر كما في نقباء البشر 2/495 الرقم 888 الطبعة المصححة .
5- ذكره السيد علي الجناب في الاصفهان / مخطوط .

الكلباسي المتوفّى عام 1323(1) .

24 - الملا عبد الكريم الجزي(2) .

25 - السيد عبد الكريم الخواجوئي(3) .

26 - السيد عبد المجيد الفريدني المتوفّى عام 1313 في طريق الرجوع من مكة المكرمة(4) .

27 - الشيخ علي بن محمد رضا كاشف الغطاء (1268 - 1350) .

28 - الشيخ محمد علي النجفي الاصفهاني ، ولده (1271 - 1318) .

29 - السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى (1247 - 1337) .

30 - السيد محمد بن محمد صادق الحسيني الخوانساري(5) .

31 - الآخوند محمد الكاشاني(6) .

32 - الشيخ محمّد الگلپايگاني(7) .

33 - السيد محمود الموسوي الخوانساري(8) المجاز من المؤلِّف في عام 1298 .

ص: 31


1- كتاب خاندان كلباسي / 143 .
2- ذكره السيد علي الجناب في الاصفهان / مخطوط .
3- ذكره السيد علي الجناب في الاصفهان / مخطوط .
4- ذكره السيد علي الجناب في الاصفهان / مخطوط .
5- تراجم الرجال 3 / 15 .
6- ذكره السيد على الجناب في الاصفهان / مخطوط .
7- وقد اجازه في شهر رجب المرجب 1274 ق وطبعت الاجازة في شرح حال دانشمندان گلپايگان 3/111 و112 .
8- تاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 3 / 357 وتراجم الرجال 3 / 434 .

34 - الميرزا محمود بن عبد العظيم الموسوي الخوانساري المتوفّى عام 1315(1) .

35 - السيد مصطفى الكاشاني (1260 - 1336) .

36 - الحاج آقا منير الدين البروجردي (1269 - 1342) .

تأليفاته

كثرة اشتغالاته لا يمنعه من التأليف والتصنيف ويبقى لنا تراثاً قيّماً في هذا المجال :

1 - تعليقة فتوائية على الرسالة الصلاتية

أصلها تكون لأبيه العلّامة بالفارسية وهي كتاب فتواه . وبعده علّق عليها ولده شيخنا المترجم له وأضاف في أوّلها فصل الإجتهاد والتقليد وقد وفّقنا اللَّه تعالى لطبع الرسالة مع التعليقة للوالد والولد ، سلام اللَّه عليهما في عام 1425 .

2 - رسالة في الاستصحاب

تكون صورة خطه في هذه الرسالة عندنا موجودة .

3 - رسالة في النقود والموازين والمكائيل والمقاييس

ذكره العلّامة المهدوي في كتابه(2) .

ص: 32


1- تراجم الرجال 3 / 437 .
2- تاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 1 / 326 .

4 - شرح هداية المسترشدين ، حجّية الظن

وهو الكتاب الذي بين يديك وقد مرّ منّا تعريفه .

5 - لبّ الاصول

ذكره العلّامة الطهراني في الذريعة(1) ونقباء البشر(2) .

6 - لبّ الفقه

ذكره العلّامة الطهراني في الذريعة(3) ونقباء البشر(4) .

اولاده

رزقه اللَّه ثلاث بنات وستة ذكوروهم :

1 - آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد تقي آقا النجفي الاصفهاني (1262 - 1332)

ذكره جميع أرباب كتب التراجم والتاريخ في كتبهم لأنّه من أشهر الفقهاء في المأة الرابعة بعد العشرة وعنونه العلّامة المهدوي في أكثر من مأتي صفحة في كتابه(5) ، وقد انتشرت ترجمته أيضاً في كتابين مستقلين بالفارسية : « حكم نافذ آقا نجفي » و « در حريم وصال » .

ص: 33


1- الذريعة 18 / 282 .
2- نقباء البشر 1 / 199 .
3- الذريعة 18 / 287 .
4- نقباء البشر 1 / 198 .
5- تاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 1 / 341 وما بعدها .

2 - آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد حسين النجفي الاصفهاني (1266 - 1308)

صاحب التفسير المشهور « مجد البيان في تفسير القرآن » وترجمه تلميذه وأخيه الحاج آقا نور اللَّه في رسالة مستقلة مطبوعة مع التفسير ، وأنا أيضاً كتبتُ ترجمته في كتابي « قبيله عالمان دين » / (84 - 63) .

3 - آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد علي النجفي الاصفهاني (1271 - 1318)

كان من المراجع والفقهاء وقد ترجمه ولده آية اللَّه الشيخ مهدي النجفي المتوفى عام 1393 في كتابه « الأنهار » المطبوع والعلّامة المهدوي(1) وسبطه الدكتور الكتابي(2) وأنت تجد ترجمته في موسوعة طبقات الفقهاء(3) .

4 - آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ نور اللَّه النجفي الاصفهاني (1278 - 1346)

كان في الواقع أباً للثورة المشروطية بايران واستشهد على يد « رضاخان الپهلوي » مسموماً بقم ، وانتقل جنازته إلى النجف الاشرف ودفن هناك وترجمته تكون زينة لكتب التراجم والتاريخ ، ذكره العلّامة المهدوي في قريب من مأتي صفحه من كتابه(4) وقد انتشر كتابات مستقلات بالفارسية في ترجمته(5) .

ص: 34


1- تاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 3 / 109 .
2- رجال اصفهان 1 / 157 .
3- موسوعة طبقات الفقهاء ، الجزء الثاني من مجلد 14 / 774 .
4- تاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 2 / (198 - 9) .
5- انديشه سياسي وتاريخ نهضت بيدار گرانه حاج آقا نور اللَّه اصفهاني - و - حاج آقا نور اللَّه اصفهاني ، ستاره اصفهان - و - تنهاتر از پگاه - و - قيام آية اللَّه حاج آقا نور اللَّه نجفى اصفهانى - و - فرازى از زندگانى سياسى حاج آقا نور اللَّه اصفهانى به روايت اسناد - و - مجموعة مقالات ، طبعت في ترجمته - و - اُقيمت له حفلّ تأبينيّ بمناسبة مرور ثمانين عاماً لاستشهاده بمدينة اصبهان في يوم الإثنين ، الثاني من رجب المرجب 1426 - 17 مراد 1384 - .

5 - آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ جمال الدين النجفي الاصفهاني (1284 - 1354)

كان من المراجع التقليد وأقام الجماعة في مسجد الشيخ لطف اللَّه الميسي باصبهان ، وفي أيام إقامته الإجبارية بطهران أقام الجماعة في مسجد الحاج السيد عزيز اللَّه في السوق وجاءت ترجمته في كتب التراجم منها : تاريخ اصفهان / 326 للجابري الانصاري ، تاريخ اصفهان / 116 مجلد الابنية والعمارات للهمائي ، مكارم الآثار 7 / 2613 ونقباء البشر 1 / 308 وتاريخ علمي واجتماعي اصفهان 3 / 68 وغيرها .

6 - آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد اسماعيل النجفي الاصفهاني (1288 - 1370)

وهو من العلماء والفقهاء الكبار ، أقام الجماعة في مسجد الجامع العباسي وانتقل جنازته بعد ارتحاله إلى كربلاء المعلى ودُفن في إحدى حجرات صحن أبي الفضل العباس عليه السلام . وأنت تجد ترجمته في نقباء البشر 1 / 152 وأعيان الشيعة 5/179 الرقم 2406 ومكارم الآثار 8 / 2888 والمسلسلات 2 / 347 وتاريخ علمي واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 3 / 27 .

قال حفيده العلّامة الشيخ أبي المجد محمد الرضا النجفي الاصفهاني في شأن اولاده : « له اولاد علماء وأجلاء من أعلام الدين ، لم يتفق لأحدٍ من علماء

ص: 35

عصرنا ما اتفق له من فضل الاولاد »(1) .

وقال السيد شرف الدين : « وخلفه أبناؤه الأبطال الأبدال وكلّهم جاؤوا على غراره وجروا على أعراقه . . . »(2) .

وقال صاحب الروضات : « آتاه اللَّه ما لم يؤت أحداً من العالمين »(3) .

وقال العلّامة السيد جعفر الحلي (1277 - 1315) في قصيدته التي مدح بها آية اللَّه الحاج آقا نور اللَّه النجفي في ستّين بيتاً :

رعى اللَّه أبناء التقي فكلّهم *** نجوم بهم نهدى اذا دجّت السبل

لقد ثبتت أقدامهم في مزالق *** على مثلها لا يثبت الأعصم الوعل

زهت عُمة العرب الكرام عليهم *** وللتاج تاج الكسرويين هم أهل

اباحوا دماء المظهرين بديننا *** زخاريف لا يرضى بها اللَّه والرسل

فكم باب جور سده كان منهم *** وشدّ عليه من حمايتهم قفل

ولو فرّ بابيٌّ مدى العمر هارباً *** لقالت له أقلامهم خلفك القتل

إذا نقضوا أمراً أبي اللَّه شدّه *** وإن عقدوا أمراً فليس له حلّ

إلى آخر قصيدته فراجعها إن شئت في ديوانه المطبوع سحر بابل وسجع البلابل المطبوع عام 1331 في صيدا لبنان(4) بإشراف العلّامة المحقّق آية اللَّه الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء طاب ثراهما .

ص: 36


1- حلى الدهر العاطل في مَنْ أدركته من الأفاضل ونقل عنه في فوائد الرضوية 2 / 410 .
2- بغية الراغبين 1 / 156 .
3- روضات الجنات 2 / 127 .
4- سحر بابل وسجع البلابل / 368 .

وفاته ومدفنه ورثائه

في أيّام إنزواء ، وعبادته السنوية عند قبر والده العلّامة بتخت فولاد إصبهان في شهر رجب عام 1300 اُلهم بأنّ موته قريب ، فلذا ترك إصبهان وساكنيه من دون وداع معهم خوفاً من ممانعتهم لخروجه ، وقصد العراق وعتباته العاليات بسرعة تامة بحيث يسير في يوم واحد مسير يومين ولم يدخل في كثير من البلاد خوفاً من الإستقبال والضيافة والزيارة واعتذر منهم بأنّي عاجل في هذا السفر ، وهكذا اعتذر من العلّامة السيد محسن العراقي رحمه الله في مدينة سلطان آباد [اراك ]ولم يدخل البلد .

سار بهذه الكيفية حتى يدخل مدينة كربلاء في ليلة عاشوراء من سنة 1301 فزار مولاه الإمام الحسين عليه السلام في ثلاث ليال ثمّ خرج إلى مدينة النجف الاشرف وعند دخوله زار أميرالمؤمنين عليه السلام ثمّ ذهب إلى بقعة جدّه الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره وبها أعيان أولاده وهم أخواله وأبنائهم ، وعيّن لنفسه قبراً وأمر بحفره ثمّ خرج من المقبرة ودخل في منزل جدّه الشيخ جعفر كاشف الغطاء حيث عيّن له من قبل ولم يبق أياماً حتّى وافاه الأجل في ثمان ليال مضى من شهر صفر عام 1301 ودفن عند قبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء في الغري الشريف .

يحكى لنا حفيده العلّامة الشيخ أبي المجد محمد الرضا النجفي الاصفهاني قدس سره هذه الواقعة وحيث كان هو وأبوه الشيخ محمد حسين (قدس سرهما) في معيّة الشيخ في السفرة العاجلة من إصبهان إلى النجف الأشرف : « ولما كان شهر رجب سنة 1300 وعمره يقرب من السبعة والستين اعتزل أيّاماً عند قبر والده

ص: 37

العلّامة خارج البلد وكان ذلك دأبه في كلّ سنة يعتزل أيّاماً من ذلك الشهر هناك مشغولاً بالعبادة والطاعات ، ولمّا رجع إلى البلد لم يكن له همٌّ إلّا السفر إلى العراق وزيارة قبور الأئمة عليهم السلام هناك ، واجتمع لمنعه جميع أصناف أهل البلد فلم يزده إلّا الأمر بالتعجيل .

حدثني والدي قال : إنّي سألته ذات يوم عن سبب هذه العجلة ؟ فقال : لمّا كنتُ معتزلاً في تخت فولاد ظهر لي بسبب غير عاديٍّ أنّ أجلي قريب ، فرأيتُ أن أسرع إلى تلك البقاع الشريفة ولا أدع حمل جنازتي إلى غيري ، فخرج مختفيّاً ليلاً مخافة منع الناس ولم يزل يطوي المنازل ويغذ في السير إلى أن ورد كربلاء غياب الشمس من ليلة عاشوراء سنة 1301 ولم يبق بها إلّا ثلاث ليال ، فلمّا كان اليوم الثالث خرج إلى النجف وكانت السماء تمطر شديداً ، ولمّا ورد النجف تشرّف بالحضرة ثمّ خرج وذهب إلى بقعة جدّه الشيخ جعفر وجلس هناك ومعه المشايخ من آل كاشف الغطاء ، فقال لهم : عيّنوا لى موضعاً للدفن ، فلمّا تعيّن أمر بإحضار الفعلة فحفر الموضع ولم يقم من المقبرة إلّا بعد ذلك ، ثم جاء إلى الدار المعدّة لنزوله وهي دار جدّه الأكبر الشيخ جعفر ولم تمض أيام حتى فجعه الدهر بموت العالم الشيخ علي ابن الشيخ عباس ابن الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة فتطيّر الشيخ من ذلك ، فتمرض ولم تطل أيام مرضه حتّى لقى ربّه وقضى نحبه في شهر صفر سنة 1301 »(1) .

قال المؤرّخ الميرزا حسن خان الجابري الأنصاري ما معربه : « خلّف منه دِيْناً يعادل عشرين ألف توماناً والعلماء العاملين والذكر المخلّد »(2) .

ص: 38


1- حلي الدهر العاطل في مَنْ أدركته من الأفاضل ونقل عنه في فوائد الرضوية 2 / 410 .
2- تاريخ اصفهان / 313 .

وقد رثاه جمع من العلماء والشعراء في أبيات :

منهم : العلّامة الشيخ محمد السماويّ صاحب الطليعة من شعراء الشيعة قال في رثائه ومادة تاريخ وفاته :

وشيخنا الباقر الاصفهاني *** ابن التقى العالم الرباني

مضى به قبر بقرب الجسم *** ارّخ « مضى بباقر وعلم »(1)

( 1301 )

ومنهم : الحاج الميرزا علي المستوفي الأنصاري (1248 - 1305) والد الميرزا حسن الجابري الأنصاري صاحب تاريخ اصفهان يقول في بيتين فيه مادة تاريخ وفاته بالفارسية :

أصل او چون زنجف بود سوى أصل برفت *** اين جهان داد وجنان يافت بپاداش عمل

سال تاريخش از انصارى جستم گفتا *** « موطن شيخ نجف بود بانجام وازل »(2)

( 1301 )

ومنهم : الأديب الأريب والشاعر الأستاذ فضل اللَّه خان الأعتمادي الخوئي المتخلص ببرنا المولود عام 1309 ش - حفظه اللَّه تعالى - يقول إجابة لدعوتنا في أبيات بالفارسية فيها مادة تاريخ وفاته :

شيخ مفتى ، محمد باقر *** فحل نامى و مقتداى صفى

ص: 39


1- عنوان الشرف في وشي ء النجف / 92 ونقل عنه العلّامة الروضاتي في مقدمة نفحات الروضات / 119 .
2- تاريخ اصفهان ورى / 290 .

آنكه چندى زمام دينى شهر *** به كفش بوده زآشكار و خفى

آنكه در أمر حاكمين رأيش *** بوده نافذ زدينى وعرفى

آنكه فتواش در حدود و قصاص *** بوده بر همگنان او مكفى

بيتى أندر وفات او برنا *** بنوشت از براى حبر حفى

شخص مجد الأفاضل آنكه بود *** هادى فاضل و صديق وفىّ

« باز از قيد و كيد و حكم أجل *** باقر ابن تقى بود نجفى »(1)

( 1301 )

ص: 40


1- قبيله عالمان دين / 61 .

مصادر ترجمة المؤلف

أنت تجد ترجمته في جميع كتب التراجم وحتى كثير من كتب التاريخ منها :

تاريخ علمى واجتماعي اصفهان در دو قرن اخير 1 / 311

قبيله عالمان دين (62 - 41)

رساله صلاتيه (53 - 44)

روضات الجنات 2 / 126

شهداء الفضيلة / 350

المآثر والآثار / 142

لباب الألقاب / 50

تاريخ اصفهان / 313 للميرزا حسن خان الجابري الانصاري طبع عام 1378 ش

دانشمندان و بزرگان اصفهان / 160 (1 / 312)

دائرة المعارف الاسلامية 2 / 11

نقباء البشر 1 / 198

رجال اصفهان 1 / 137 للدكتور الكتابي

الذريعة في مختلف مجلداته منها 18 / 287

دائرة المعارف بزرگ اسلامي 1 / 481

ص: 41

ريحانة الادب 3 / 404

اثر آفرينان 3 / 83

مكارم الآثار 3 / 1007

موسوعة طبقات الفقهاء الجزء الثاني من 14 / 616

اعيان الشيعة 44 / 104 (13 / 439)

مستدركات أعيان الشيعة 9/208

تذكرة القبور / 47

بغية الراغبين 1 / 156

فوائد الرضوية 2 / 409

تاريخ اصفهان / 102 مجلد الأبنية والعمارات لجلال الدين الهمائي

هدية الأحباب / 185

الكنى والألقاب 2/6 طبعة جماعة المدرسين

أنهار /28 للشيخ مهدي النجفي المسجد شاهي

نسبنامه الفت / مخطوطة

ريشه ها و جلوه هاى تشيع و حوزه علميه اصفهان 1 / 505

نفحات الروضات / 166 الرقم 148

وارسته پيوسته / 65

ص: 42

شكرٌ وتقديرٌ

في ختام هذا المقال يجب علينا أن نشكر من المحقّق الجليل حجة الإسلام الحاج الشيخ مهدي الباقري - دامت بركاته - حيث حقّق هذا الكتاب الشريف وصحح متنه مع نسخة واحدة مطبوعة حجريّة عام 1283 ، حيث لم يجد منه مخطوطة وخرّج مصادره على قدر الوسع والطاقة وأعطانا متناً مصححاً منقحاً محققاً . جزاه اللَّه عنّا وعن العلم خير الجزاء وآتاه اللَّه خير الدنيا والعقبى .

ونشكر أيضاً من الفاضل الألمعي الأستاذ رحيم القاسمي - حفظه اللَّه تعالى - من مقابلته المتن مع النسخة الحجرية وتصحيحاته وملاحظاته على الكتاب قبيل الطبع وفّقه اللَّه تعالى لإحياء التراث ولما يحبّ ويرضى .

قد تمّت هذه المقدّمة في يوم الثلاثاء السادس عشر من شهر جمادي الثانية عام 1425 في المشهد المقدس الرضوي حيث سافرت إليه قبل أيّام لأجل زيارة سيّدي ومولاي وإمامي علي بن موسى الرضا عليه آلاف التحية والثناء ورزقني اللَّه شفاعته في الدارين .

وأنا العبد هادي ابن الشيخ مهدي ابن الشيخ مجد الدين ابن الشيخ محمد الرضا ابن الشيخ محمد حسين ابن الشيخ محمد باقر مؤلِّف شرح هداية المسترشدين ابن الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الإصفهاني صاحب هداية المسترشدين في شرح اصول معالم الدين . رحمة اللَّه عليهم أجمعين وجعل

ص: 43

الجنة مثواهم ومنزلهم .

والحمد للَّه أوّلاً وآخراً وصلّى اللَّه على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين .

ص: 44

مقدمة المحقّق

اشارة

بسم اللَّه الرّحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره وسبباً للمزيد من فضله ودليلاً على آلائه وعظمته والصلاة والسلام على أمين وحيه وخاتم رسله وبشير رحمته ونذير نقمته محمّد المصطفى وعلى آله الطاهرين لا سيّما مولانا بقية اللَّه في الأرضين - أرواح العالمين له الفداء - واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين .

تعريف علم الاُصول والإشارة إلى اداوره

اشارة

امّا بعد فقد يقال : في تعريف علم الاُصول ب « أنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة »(1) .

اجتاز هذا العلم من لدن تأسيسه في زمن الإمامين الهمامين أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر وأبي عبد اللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام - لأنّهما ألقيا القواعد الكلّية في الاستنباط على اصحابهما(2) - إلى زماننا مراحل مختلفة .

ص: 45


1- كفاية الاُصول /9 .
2- وإن كان تشمّ رائحة اسّ بعض مسائل علم الاُصول في كلمات سائر المعصومين عليهم السلام ولكن تكون اعتزازها في زمن هذين الإمامين عليهما السلام ، وجدير بالذكر أنّ بعض اصحابنا الاماميّة - قدّس اللَّه أسرارهم - قد جمعوا هذه القواعد الكليّة في الاستنباط ورتّبها على ترتيب مباحث علم الاُصول منهم : ألف : المحدث الخبير الشيخ حرّ العاملي ( المتوفّى 1104 ه ) في كتابه « الفصول المهمّة في اُصول الأئمة » . ب : المحقّق العلّامة السيّد عبد اللَّه شبّر ( المتوفّى 1242 ه ) في كتابه « الاُصول الأصليّة » . ج : الفقيه المتبحّر الميرزا هاشم بن زين العابدين الخوانساري ( المتوفّى 1318 ه ) في كتابه « أصول آل الرسول » .

ولهذا العلم - كغيره من العلوم - أدوار وتطوّرات بين صعود واعتزاز وخمود واعتزال وما كنت في هذا المجال بصدد بيان هذا السير التاريخي ، بل غرضي ألان بيان مرحلة كانت بُعْدها منّا قريب من مأتين عاماً و يعبّر المحقّقون من أصحابنا منها بمرحلة الإبداع والابتكار ؛ ولهذه المرحلة و مؤسِّسها والتي جرت قبلها وما انجرّ إليها دورٌ خاصّ في تبويب مباحث العلم كفنٍّ راقٍ لا يشبه مستواه فيما سلف عليه من العصور .

قد انتشرت مسلك الأخبارية بمساعي الشيخ محمّد أمين الأسترآبادي ( المتوفّى 1033 ه ) في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر فهجم هجمة عظيمة على الأصول والاُصوليّين وطعن على مسلك الاجتهاد المبني على القواعد الاُصولية ، فكلامه في ذمّ الاجتهاد والمجتهدين معروف ومشهور ؛ ومن أراد أن يطّلع عليها فليراجع كتابه « الفوائد المدنيّة »(1) .

ومع هذه الهجمة العظيمة من ناحية الأخبارية وعلى رأسهم محمّد أمين الأسترآبادي نرى قيام بعض الأعلام بتأليف كتب يمكن أن يعبّر عنه بحركة تمهيديّة علميّة للأصولي الكبير ، البطل المقدام ، الزعيم المؤسّس المحيي لعلم

ص: 46


1- الفوائد المدنيّة /30 .

الاصول والمتكفّل بتربية جيل من المفكّرين والعلماء على اُسس مستقاة من الكتاب والسنّة والعقل الصريح واتّفاق الأصحاب ، وهو الشيخ محمّد باقر الإصفهاني المشهور بالوحيد البهبهاني ( المتوفّى 1206 ه ) .

ونحن نذكر هذه المرحلة ثمّ هذه المقدّمة في طيِّ مقامين :

المقام الأوّل : بعض المؤلَّفات ومؤلّفيها في هذه الحركة التمهيديّة العلميّة :

1 - الوافية في علم الاُصول ؛ للشيخ عبد اللَّه بن محمّد البشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني ( المتوفّى 1071 ه ) .

2 - التعليقة على المعالم للمحقّق الشيخ محمّد بن الحسن الشيرواني ( المتوفّى 1098 ه ) .

3- التعليقة على شرح مختصر الأصول للمحقّق جمال الدين محمّد بن الحسين الخوانساري ( المتوفّى 1121 ه ) .

المقام الثاني : الأدوار الثلاثة بعد الوحيد البهبهاني :

وجدير بالذكر والتأمّل أنّ الموقع السامي في هذه المراحل الثلاثة للشيخ محمّد تقي صاحب الهداية وأخيه العلّامة الشيخ محمّدحسين صاحب الفصول ( المتوفى 1255 ه ) ونجله الجليل الشيخ محمّد باقر شارح الهداية ( المتوفّى 1301 ه ) ؛ ولكلّ مِنْ هؤلاء الأعلام الثلاثة في هذه المراحل موقع ومكانة .

الف : الدور الأوّل المعبّر عنه بدور الانفتاح .

كان بدأ هذا الدور حصيلة جهدٍ قام به بعض تلامذة الوحيد في مجالي التدريس والتأليف ، نأتي هيهنا بقائمةٍ تمثّل أهمّ هؤلاء التلاميذ وما حبّرته

ص: 47

يراعتهم :

1 - الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي ( المتوفّى 1228 ه ) ، وتأليفه الخالد « كشف الغطاء » قد أورد في مقدّماته أبحاثاً أصولية وصنّف كتاباً في اُصول الفقه سمّاه « غاية المأمول في علم الاُصول » .

2 - الاُصولي المتبحّر الميرزا أبو القاسم الجيلاني القمّي ( المتوفّى 1231 ه ) وأثره القيّم « قوانين الاُصول » .

3 - رئيس المحقّقين(1) الشيخ محمّد تقي بن محمّد رحيم الرازي النجفي الاصفهاني ( المتوفّى 1248 ه ) وأثره الكبير « هداية المسترشدين » .

ب : الدور الثاني المعبّر عنه بدور النضوج .

تكوّن هذا الدور بيد خرّيجي مدرسة الوحيد البهبهاني . ونخصّ بالذكر من بينهم :

1 - الشيخ الجليل محمّد شريف الآملي المعروف بشريف العلماء المازندراني ( المتوفّى 1245 ه ) ، ومن آثاره رسالة « جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط » .

2 - الاُصولي الكبير الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الحائري ( المتوفّى 1255 ه ) ، وتراثه القيّم « الفصول الغروية » .

ج : الدور الثالث المعبّر عنه بدور التكامل .

ص: 48


1- هذا التعبير قد ذكره بعض أعلام علم الاُصول وهو المحقّق الكبير آية اللَّه العظمى الشيخ حسين علي التويسركاني مشيراً إلى مرتبته السامية بين أعلام هذا الفن وأساتذته ، وهو من أعاظم تلامذته والقائم مقامه في التدريس .

والجدير بالذكر في هذا الدور وفي تطوّرات تكون بعده المقام العالي والمكان الرفيع للبطل الباحث والاُصولي الكبير ، بل من كان في سماء علم الاُصول كالبدر المنير والنجم الساطع الشيخ مرتضى بن محمّد أمين الدزفولي المشهور بالشيخ الأعظم الأنصاري ( المتوفّى 1281 ه ) وتراثه الاُصولي الخالد « فرائد الاُصول » - الذي كان منذ تأليفه وحتى الآن قطب رحى الأبحاث العلميّة العليا في الأوساط العلميّة - وخريجي مدرسته الاُصوليّة ؛ وأذكر في هذا المجال ثلّة منهم وليس من الجزاف في القول لو عدّهم أحد أعلام تلك المدرسة المباركة ، وهم حسب التسلسل الزمنيّ كالتالي - كما قد راعينا هذا التسلسل فيما مضى من هذه التقدمة - :

1 - الفقيه الأُصولي الشيخ محمّد باقر النجفي الاصفهاني ( المتوفّى 1301 ه ) مؤلِّف « شرح هداية المسترشدين » (مبحث حجيّة الظن) .

وحيث إنّ آثاره لم تصل إلى المحقّقين ولم تطبع منها إلّا « شرح هداية المسترشدين » - المطبوع حجريّاً في عام 1283 ه - ، فقد خفى عند المحقّقين والأعلام مقامه العالي إلّا القليل منهم ، وهم تلامذته وتلامذة تلامذته .

2 - السيّد الإمام المجدّد الشيرازي ( المتوفّى 1312 ه ) صاحب التقريرات .

3 - المحقّق الكبير الشيخ محمّد كاظم الخراساني ( المتوفّى 1329 ه ) مؤلّف كتاب « كفاية الاُصول » ؛ ولهذا الكتاب مكانةٌ كمكانة الفرائد لاستاذه الشيخ الأعظم الأنصاري .

ص: 49

المؤلِّف في سطورٍ

قد أغنانا عن ذكر ترجمة المؤلِّف في هذه التقدمة ما أورد حفيد المؤلِّف العلّامة الجليل الاُستاذ الشيخ هادي النجفي - سلّمه اللَّه تعالى - في تقديمه على كتابنا هذا ، فنحن بينما نشكره لما جاء به في هذا الصدد نأتي بعبائر بعض الأعلام حول مكانة الشيخ المؤلّف العلميّه .

1 - قال استاذه الشيخ الأعظم الأنصاري في إجازته له : « ... للأعزّ الأمجد والأتقى الأوحد ... صاحب التدقيقات الرائقة بالذهن والتحقيقات الفائقة بالفهم المستقيم سلالة الفحول ... »(1) .

2 - قال المحقّق المتتبع السيّد علي أصغر الجابلقي البروجردي ( المتوفّى 1313 ه ) في شأنه : « الحاج شيخ محمّد باقر بن الشيخ محمّد تقي ألان في اصفهان ، بل في غيرها من البلدان كنَارٍ على عَلَمٍ ، نعم ! ومن يشابه أبه فما ظلم(2) ، رئيسٌ مطبوع القولِ عند السلطان ، مجرٍ للحدود والسياسات »(3) .

3 - قال تلميذه الفاضل الفقيه الاُصولي والرجالي الكبير الحاج آقا منيرالدين البروجردي الاصفهاني ( المتوفّى 1342 ه ) في رسالته القيّمة الموسومة ب « الفرق بين النافلة والفريضة » :

« ... نعم قد حكى شيخنا المحقّق العلّامة [الشيخ محمّد باقر النجفي الاصفهاني] في بعض الأيّام في أزمنة حضوري في حلقة درسه الميمون عن

ص: 50


1- تجد هذه الإجازه بخط المجيز في كتاب « قبيله عالمان دين » /45 ومقدمة هذا الكتاب .
2- وتمامه : « وبأبه اقتدى عديٌ في الكرم » ، ينسب هذا البيت لرؤبة بن العجاج . اُنظر : مجمع الأمثال 2 / 300 ، الرقم 4020 .
3- طرائف المقال 1/50 ، الرقم 57 .

خاله العالي صاحب المفاخر والمعالي الشيخ حسن بن الشيخ جعفر الغروي [كاشف الغطاء] أعلى اللَّه مقامهما ... »(1) .

4 - قال تلميذه الآخر الشيخ الملّا زين العابدين النخعي الگلپايگاني في شأن اساتيده بإصفهان : « ... أجلّهم وأسناهم الشيخ الجليل والعالم النبيل البحر الزاخر والعلم الباهر صاحب المناقب والمفاخر الحاج شيخ محمّد باقر قدس سره ابن المحقق قطب فلك التحقيق ومركز دائرة التدقيق العالم العامل الصفي التقي الشيخ محمّد تقي قدس سره صاحب التعليقات على المعالم وكان قدس سره مع ما فيه من الحسب المنيع والنسب الرفيع ومرجعيته للناس وجامعيته للأساس ، ذاتواضع وتكارم وتحمّل وتحلّم وسماحة الوجه وبشاشة الخلق وكان قد يتفق من بعض تلامذته سوء الأدب في المكالمة والمشاجرة حين التدريس والمذاكره وهو رحمه الله يغمض العين كانّه لم يقع في البين ، وتوفى إلى رحمة اللَّه في الأرض الغري النجف - على ثاويها آلاف التحية والتحف - حين تشرفه بزيارة ساداتي المدفونين في العراق فأعلى اللَّه درجته وحشره معهم وفي زمرتهم ؛ وكنت حينئذٍ مشرفاً في الأرض الغري او المشهد المقدّس كربلاء وتشرفت بخدمته وتوفّى بعده بقليل من الأيّام فرضى اللَّه عنه وأرضاه عنّي »(2) .

5 - المحدّث الخبير الشيخ عباس القمّي ( المتوفّى 1359 ه ) قال في

ص: 51


1- الفرق بين النافلة والفريضة : 7 ، وللمحقّق البروجردي رسائل اُخرى ك « رسالة في قبض الوقف » طبعت بتحقيقنا في مجلة « ميراث حوزه اصفهان » ، المجموعة الثانية ؛ « وأسئلة وأجوبة فقهيّة » و « رسالة الفوائد » لم تطبع بعد وقد وفقّنا اللَّه تعالى لإحياء هذين الأثرين القيّمين وتصحيحهما وتحقيقهما وستصدران قريباً إن شاء اللَّه .
2- مصباح الطالبين » المطبوع في ضمن « شرح حال دانشمندان گلپايگان » 3 / 283 .

« الفوائد الرضوية » ما ترجمته بالعربيّة :

« ... وهو [الشيخ محمّد باقر النجفي الاصفهاني] من الطبقة الاُولى من تلامذة الشيخ الانصارى ... »(1) .

إلمام إلى ما للمؤلِّف من الحالات النفسيّة النفيسة

إنّ للمؤلّف تلامذةً كثيرين منهم الاُستاذ الأعظم للحوزة العلميّة في النجف الأشرف الفقيه المحقّق الاُصولي آية اللَّه الشيخ محمّد حسين النائينى ( المتوفّى 1355 ه ) - قدّس اللَّه نفسه الزكيّة - وهو ممّن نشأ في بيت المؤلّف و ترعرع في حجر تربيته ؛ وهو يقول عن حالاته النفسيّة وارتباطه مع الربِّ الودود : « كتب والدي - المرحوم الشيخ عبدالرحيم شيخ الإسلام النائيني - إلى المرحوم الشيخ محمّد باقر الاصفهاني : إنّي أريد أن اُرسل ولدي إلى محضركم ليستفيض منكم ، فقبل الشيخ ذلك .

وكان عمري في هذه الآونة قريباً من 16 سنة حيث وصلت إلى خدمة الشيخ ، فدعاني إلى السكنى في منزله وكان في برّاني منزله عدّة غرف يسكن فيها المشتغلون بأموره فسكنت في إحداها وفي صباح كلّ يوم كنت أذهب إلى المدرسة طلباً للحضور في محضره ومحضر غيره من السادة المدرّسين وكان هذا برنامجي في مدّة ثمان سنوات حيث كنت مشغولاً بالتحصيل في مدينة اصفهان .

وكان الشيخ يأتي في أشهر رمضان المباركة إلى برّاني منزله قبل طلوع

ص: 52


1- فوائد الرضوية 2/409 .

الفجر بساعتين أو ثلاث ساعات ليقوم بما أخذه على عاتقه من التهجّد وقراءة الدعاء المعروف بأبي حمزة الثمالي مصلياً باكياً قائماً على رجليه .

وما تركت يوماً واحداً تلك الدروس حتّى أبحاثه الخاصّة التي كان يلقيها على جماعة من خصيصي فضلائه ... »(1) .

المؤلَّف في سطورٍ

من الآثار الّتي تظهر وتكشف لنا المقام العلمي الرفيع للمحقّق النحرير والاُصولي الكبير الفقيه الماهر الشيخ محمّد باقر النجفي الإصفهاني هذا الكتاب الّذي بين يديك - أيّها القاري ء الكريم - ، ولا يخفى أنّ مؤلِّفه هو نجل صاحب الهداية مضافاً إلى أنّه من أفضل وأقدم تلامذة الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ، وهو صاحب الفكر المستقيم والذوق السليم والاستعداد الذاتي الذي ورثه من أبيه العلّامة الشيخ محمّد تقي واُمّه الفاضلة بنت الشيخ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء .

المؤلِّف قدس سره يحاكم في هذا الأثر النفيس بين آراء والده العلّامة واستاذه الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سرهما)، وقد يتعرّض لأقوال عمّه العلّامة الشيخ محمّد حسين صاحب الفصول ، وربّما يتعرّض لأقوال الاُصولي الكبير الميرزا أبي القاسم المعروف بالمحقّق القمّي صاحب القوانين قدس سره .

ولعمري أنّه قدس سره جلس على مسند التمييز بين الآراء وتبيّن صحيحها من

ص: 53


1- نقل هذا البيان عن المحقّق النائيني تلميذه وصهره آية اللَّه السيّد محمّد الحسيني الهمداني . اُنظر : مجلة حوزه ، الرقم 30 / 40 - 39 .

سقيمها ، ويرى الناظر في الكتاب أنّه ما جلس إلّا في مجلسه وما تصدّر لأمرٍ إلّا لما هو الحقّ له ... إن يقبل قولاً فيستدلّ عليه بالدليل المحكم وإن لم يقبله فيذكر دليل ردّه من دون تعصّب وعناد ؛ وهذه طريقة أبيه العلّامة الشيخ محمّد تقي صاحب الهداية في تراثه الاُصولي والفقهي(1) . وإن شئت الاطلاع على تفصيل هذه الطريقة فراجع إلى ما كتبناه في تقدمتنا المطبوعة على « رساله صلاتيه »(2) لصاحب الهداية .

بعض ميزات هذا الأثر القيّم

1 - قد صُنّف هذا الأثر في زمن حياة الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ومن المحتمل أنّ الشيخ رأى هذا التصنيف ، لأنّ المصنِّف عبّر عنه في كتابه بما يشعر بحياة الأستاذ حيث عبّر عنه ب « سلّمه اللَّه تعالى »(3) .

وهكذا يؤيّد هذا الاحتمال أنّه طبع - لأوّل مرّةٍ ، على الحجر - بعد عامين من وفاة الشيخ الأعظم في سنة 1283 ه .

2 - النسخة الّتي كانت بيد المؤلّف من الهداية لأبيه والفرائد لأستاذه تُعدُّ من أصحّ النسخ ، وسيتّضح هذا في ما بعد انشاء اللَّه .

ص: 54


1- وجدير بالذكر أنّ للمحقّق الشيخ محمّد تقي صاحب الهداية أثران قيّمان في الفقه أحدهما : « تبصرة الفقهاء » استدلالية سيصدر قريباً في مجلّدين . ثانيهما : رسالة عمليّة لا تخلو من الاستدلال ونقل الأقوال ووفقنّا اللَّه تعالى لإحياءها وتصحيحها وتحقيقها وقد طبعت باسم « رساله صلاتيه » في عام 1425 ه فله الشكر والحمد .
2- رساله صلاتيه / 59-58 .
3- أنظر : الصفحة 282 من هذا الكتاب .

3 - الفرق بين منهجى الشيخ الأعظم وتلميذه الشيخ محمّد باقر (قدس سرهما) إنّ المؤلِّف في كثير من الآراء يتأثّر من أستاذه الشيخ الأعظم الأنصاري ، وكلّما يستعمل لفظة « الشيخ » من دون اضافةٍ ، فمراده هو الشيخ الأنصاري ، ولكن مع إلمامه الخاص بأستاذه يختلف منهجي المؤلِّف وأستاذه صاحب الفرائد في مباحث علم الرجال .

إنّ الشيخ الأعظم وكثيراً من الأصوليّين ربّما لم ينهجوا فيما يلى مباحث علم الرجال منهج التدقيق ؛ وإليك نموذجاً منه :

قال الشيخ في فرائد الأصول عند الاستدلال بالأخبار على حجيّة خبر الواحد ما هذا لفظه : « ... مثل ما في كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد اللَّه الكوفي - خادم الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح - حيث سأله ... »(1) .

وقال المؤلّف أيضاً عند الاستدلال بالأخبار على حجيّة خبر الواحد - وكأنّه أرسل صحّة السند إلى عبد اللَّه الكوفي إرسال المسلّمات كما قاله الشيخ الأعظم - ما هذا لفظه :

« ... ومنها ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة عن الشريف النقيب أبي محمّد المحمّدي الحسن بن أحمد بن القاسم بن محمّد بن علي بن أبي طالب الذي قرأ عليه النجاشي وقال : أنّه سيّد في هذه الطائفة ؛ وذكره الشيخ مترضّياً مترحّما عليه عن أبي الحسين محمّد بن علي بن الفضل - الثقة العين الصحيح الاعتقاد الجيّد التصنيف - قال ... »(2) .

ص: 55


1- فرائد الاُصول 1 / 305 .
2- راجع : الصفحة 449 من هذا الكتاب .

ولمّا لم يكن لأبي محمّد المحمّدي أثر من التوثيق الخاصّ بين مسفورات الرجاليين - وإن كان مدحه العلّامة المامقاني في التنقيح(1) - سهّل المؤلّف لنا الطريق بنقل تصحيح السند بذكر أمورٍ ، منها :

الف : أنّه من مشايخ شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ( المتوفّى 460 ه ) [حيث روى عنه في التهذيب راوياً عن الفضل بن شاذان(2)] .

ب : قد ترضّى عليه الشيخ [في كتاب الغيبة(3)] .

ج : قد ترحّم الشيخ عليه [في كتاب الغيبة(4)] .

د : [لم يصل إلينا قدحٌ فيه وهو من المعاريف] .

ولكنّ الشيخ الأعظم قدس سره - كما مرّ كلامه الشريف - يقول : « ... بسنده الصحيح ... » من دون تعرّض إلى وجه تصحيح السند .

الاُمور الثمانية في خاتمة الكتاب

وقد وُشّح الكتابُ بخاتمةٍ ذكر فيها اُمور ثمانية ، قدخلى الكتب عنها ؛ ألا وهي :

الأوّل : أنّ حجيّة الظنّ كما يجري في حقّ المجتهد يجري في حقّ المقلّد والمتجزّي .

الثاني : حكم الظنّ بالموضوعات المستنبطة يرجع إلى الظنّ بالحكم

ص: 56


1- تنقيح المقال 1/268 الطبعة الحديثة .
2- تهذيب الأحكام 10/86 .
3- الغيبة /389 ، الحديث 354 .
4- الغيبة /175 ، الحديث 132 .

الشرعي .

الثالث : يظهر من الماتن تقديم العمل بالظنّ المطلق عند فقد الطريق الظنّي على العمل بغيره والمناقشة فيه .

الرابع : أقسام من الظنون الّتي قد ثبت اعتبارها في الشريعة .

الخامس : حكم الظن في مسائل اُصول الفقه .

السادس : الأقوال في اعتبار الظنّ في مسائل اُصول الدين .

السابع : أنّ المعتبر من الظنّ بالطريق هو الظنّ الفعلي الحاصل بعد استفراغ الوسع .

الثامن : الظنون المطلقة بعد القول بعدم حجيّتها هل تجري مجرى الظنون غير المعتبرة أم لا ؟

بعض التعابير والتوصيفات للأعلام في بيان صاحب الهداية وولده العلّامة

قد ذكرنا في ما مضى أنّ المؤلّف حينما يستعمل لفظة « الشيخ » من دون اضافة فمراده استاذه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره وقد حظى الأستاذ عند التلميذ مكاناً عالياً حيث يعبّر عنه بهذه التعابير : « بعض المحققّين » ، « بعض مشايخنا المحققين » ، « بعض مشايخنا المعاصرين » و« بعض أفاضل المعاصرين » كما يعبّر عن عمّه صاحب الفصول ب « عمّي العلّامة » و« بعض المتأخّرين » ؛ ويعبّر عن السيّد محمّد الطباطبايي المجاهد « المتوفى 1242 ه » صاحب مفاتيح الاُصول « بعض المحقّقين » .

كما وأنّ أبيه العلّامة صاحب الهداية يقول : « بعض الأعلام » و« بعض الأفاضل » مشيراً به إلى المحقّق القمّي قدس سره ، ويعبّر ب « الشريف الاستاذ » لاستاذه

ص: 57

السيّد مهدى بحر العلوم النجفي قدس سره ( المتوّفى 1212 ه ) صاحب الدرّة النجفية وب « السيّدان الأفضلان » للسيّد على الطباطبايي صاحب رياض المسائل ( المتوفّى 1231 ه ) والسيّد صدر الدين الرضوي القمّي شارح الوافية ( المتوفّى 1160 ه ) (قدس سرهما).

بين يدي الكتاب

1 - صحّحنا متن هذا الكتاب من النسخة الوحيدة المطبوعة بالحجر عام 1283 ه ؛ وحيث إنّ هذه النسخة تكون مصححّةً ومطبوعةً في حياة مؤلِّفها العلّامة ولعلّ مع إشرافه عليها قليلة الأخطاء .

2 - أنّ الطابع الأوّل للكتاب قد عثر على نسختين منه فأشار إلى الخلاف الواقع بينهما في هامش الأوراق ، وقد أوردنا مواضع الخلاف في مختتم الأوراق .

3 - ربّما يجد القارى ء الكريم بعض الاختلاف بين ما ذكره المصنّف من متن كتاب والده هداية المسترشدين وبين الطبعات المتعدّدة للهداية . وحيث كانت نسخته أصحّ النسخ - كما ذكرناه سابقاً - جعلناها متن الهداية وذكرنا اختلاف النسخ في الهامش .

4 - لمّا كانت هذا الشرح غير مزجيّ فنحن نقلنا عبارات الهداية بالحروف السوداء والسطور المتمايزة .

5 - لمّا كانت الطبعة الحديثة من كتاب « هداية المسترشدين » مصحّحة فقط قمنا بتخريج مصادرها - مبحث حجيّة الظن - مهما أمكن .

6 - كثيراً ما يتعرّض اُستاذ المؤلِّف - الشيخ الأعظم الأنصارى قدس سره - لآراء

ص: 58

بعض الأصوليّين - كأصحاب القوانين والهداية والفصول - ونقدها ، والمؤلِّف في هذه الموارد يجيب عن هذه الاعتراضات وينتصر عن أرباب الأقوال كما هو دأب حفيده الجليل الفقيه الاُصولي والأديب الكبير آية اللَّه العظمى أبي المجد الشيخ محمّد رضا النجفي الاصفهاني قدس سره ( المتوفّى 1362 ه ) في وقاية الأذهان ونحن ذكرنا في مورد خاصٍّ ما أجاب به صاحب الوقاية عن اعتراض الشيخ الأعظم على كلام صاحب القوانين ؛ لأن يقاس بين ما أفاده شارح الهداية وحفيده صاحب الوقاية ، ولكي يظهر للقاري ء الكريم النبوغ العلمي والموقعية العالية لهذا النجم الساطع في سماء العلم والأدب .

ويكفيك في هذا المجال أن أذكر لك كلامين للعلمين الجليلين - أحدهما من مشايخ صاحب الوقاية والآخر من أجلّ تلامذته والمجازين منه - حول شخصيّته العلميّة(1) :

الف : العلّامة الفقيه آية اللَّه السيّد حسن الصدر الكاظمي قدس سره ( المتوفّى 1354 ه ) في تقريظه على كتاب « نُجعَةُ المرتاد » - من تأليف صاحب الوقاية - وقد أجازه فيه ، واليك نصّ كلام السيّد الصدر قدس سره :

« ... وبعد فقد نظرت في هذا الشرح الجليل للفاضل النبيل ، نابغة العصر ، ووحيد الدهر ، الفقيه على التحقيق ، والمحقّق لكلّ غامض دقيق ، الشيخ أبي المجد محمّد الرضا الإصفهاني ، فوجدته كصاحبه بلاثاني ، فهو بين الكتب

ص: 59


1- للعثور على كلام غيرهما من الأعلام حول هذا النجم الساطع راجع إلى ما أفاده صدّيقنا المكرّم المحقّق الفاضل مجيد هادي زاده في تقدمته على كتاب « السيف الصنيع لرقاب منكري علم البديع » لصاحب الوقاية وسيصدر بتحقيقه قريباً انشاء اللَّه تعالى .

كالسبع المثاني ، محكم المباني ، دقيق المعاني ... »(1) .

ب : الزعيم الديني الأعلى وقائد الثورة الإسلامية الفقيه المحقّق الإمام الخميني - قدّس اللَّه نفسه الزكيّة - « المتوفّى 1409 ه » ، وهو يعبّر عن استاذه هذا بتعبيرات وعبارات لا يعبّر بها عن غيره ؛ واليك نصّ كلامه الشريف في ذكر طرقه إلى مشايخه العظام في مقدمّة الحديث الاُولى من مصنَّفه الروائي والأخلاقي العظيم الموسوم بأربعون حديثاً قال : « أخبرني إجازة ... عدّة من المشايخ العظام والثقات الكرام منهم الشيخ العلّامة المتكلّم الفقيه الاُصولي الأديب المتبحّر الشيخ محمّد رضا آل العلّامة الوفيّ الشيخ محمّد تقي الإصفهاني - أدام اللَّه توفيقه - حين تشرّفه بقم الشريف »(2) .

7 - لمّا كان مؤلِّف هذا الأثر بصدد بيان ما أفاد والده العلّامة في مبحث حجّية الظن فلذا أجمل في بعض المباحث ونحى سبيل الاختصار ، ونحن في هذه الموارد أرجعنا المحقّقين إلى المصادر المتأخّرة التي تبحث عنها بنحوٍ مستوفى ، كمبحث المحكم والمتشابة وإحالة المحقّق إلى ما أفاده الفقيه الاُصولى سماحة آية اللَّه العظمى الحاج السيّد عبدالأعلى السبزواري قدس سره ( المتوفّى 1414 ه ) في أثره القيّم « مواهب الرحمن في تفسير القرآن » حول هذا الموضوع ، وأنّه قدس سره قد أحسن وأجاد ، فللّه درّه وعليه أجره .

8 - قمت باستخراج الآيات والروايات من مصادرها الأصليّة بالإضافة

ص: 60


1- تقريظ العلّامة السيد حسن الصدر الكاظمي على « نجعة المرتاد في شرح نجاة العباد » [المطبوعة ضمن « ميراث حوزة اصفهان » المجلد الأوّل] /327 ، طبعت بتحقيق صدّيقنا الفاضل الشيخ رحيم القاسمي الدهكردي .
2- أربعين حديث [للإمام الخميني قدس سره] /5 .

إلى الوسائل أو المستدرك والبحار وذكرتها في الهامش كما استخرجت النصوص والعبارات والأقوال الاُصوليّه والفقهيّة والرجاليّة وغيرها مع ذكر قائلها - مهما أمكن - حتّى الأقوال التي يذكرها المصنّف في ضمن الأقوال من دون التعرّض إلى قائلها بنحو « قيل » أو « قد يقال » أو مثلهما مع الإشارة إلى الاختلاف - بين ما نقله المصنّف وما في المصدر المنقول عنه - ؛ إن وجد .

9 - جعلت في آخر الكتاب فهرساً عاماً مبسوطاً شاملاً لمحتوياته ومطالبه لتسهيل المراجعة كما قمت بوضع قائمة المصادر التي اعتمدتها في تحقيق الكتاب ومقدّمته مع الإشارة إلى ميزاتها [من المؤلِّف والمحقّق ، تاريخ الطبع ، المطبعة و ...] .

10 - و أقدّم في الختام بجزيل الشكر والثناء إلى كلّ من ساهم لمساعدتي على إتمام هذا المشروع العلمى فللّه درّهم وعليه أجرهم ، وأخصّ بالذكر منهم العلّامة المحقّق شيخنا الأستاذ آية اللَّه الشيخ هادي النجفي - دامت بركاته - من آل المؤلِّف لبذله نهاية وسعه في إحياء هذا الأثر القيّم وإرشاداته حين تصحيح الكتاب وتحقيقه ، وصديقنا المعظّم المحقّق الفاضل الشيخ رحيم القاسمي الدهكردي - وفّقه اللَّه لمرضاته - فانّ له سهماً مشكوراً في تصحيح الكتاب وإخراجه بهذه الحلّة القشيبة .

وتلك عشرة كاملة وللَّه الحمد .

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين .

مهدي الباقرى السيّاني [الجرقويه اي] الإصفهاني

اصفهان

84/8/4 - 23 / رمضان / 1426

ص: 61

صفحه بعد اسكن شود بعد از اين سطور

ص: 62

صفحه بعد اسكن شود بعد از اين سطور

ص: 63

شرح هداية المسترشدين

اشارة

ص: 64

علّة تأليف الكتاب

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد للَّه الّذي شرّح صدور العلماء العاملين بإشراق أنوار اليقين ، وفضلّهم على جميع العالمين بما مدحهم في كتابه المبين ، وذمّ آخرين على إتّباع الظنّ والتخمين ، وحرّم العمل به في الدين ، حتّى قرنه مع الفواحش والإثم والبغي على المؤمنين ، فقال «وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(1) ونبّه على وضوح قبحه بقوله : «أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(2) وكشف عن ظهور حال الفريقين بقوله : «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(3) .

والصلاة والسلام على مَن أرسله بالهدى ودين الحقّ إلى العالمين ، بشيراً و نذيراً وداعياً إلى اللَّه تعالى بإذنه وسراجاً منيراً ، فجاهد في اللَّه سبحانه حقّ جهاده ، وأجهد نفسه في إرشاد عباده ، حتّى محى من الجاهلية آثارها ، ورفع للحنيفية منارها ، وأطلع شموسها وأقمارها «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» ولا يبقى للناس على اللَّه تعالى حجّة(4) ، وذلك بعد أن أكمل الدين وأتمَّ

ص: 65


1- سورة البقرة / 169 .
2- سورة الأعراف / 28 .
3- سورة الزمر / 9 .
4- إشارة إلى الآية 165 من سورة النساء .

النعمة على أشرف العالمين بنصب الأئمّة الهادين والحجج المعصومين واحداً بعد واحد إلى يوم الدين ، فأزاح بهم العلّة في التكليف ، وسوّى في ذلك بين القويّ والضعيف ، ولئن قضت الحكمة البالغة في أزمنة الهدنة للحجة بالاحتجاب ، لكن كالشمس إذا سترها السحاب ، فلم تزل ولا تزال أنواره مشرقة على قلوب العارفين ، وعلومه وآدابه مثبتة في صدور العالمين ، فهم ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ولو لا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل ، ولالتبس الأمر على اللبيب العاقل ؛ فصلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين ، ولعنة اللَّه على منكريهم وشانئيهم ومخالفيهم إلى يوم الدين .

أمّا بعد ، فيقول العبد المفتاق الأخفض على الإطلاق ، الخاسر العاثر ، محمّد باقر - أصلح اللَّه سبحانه أمر داريه ، وغفرله ولوالديه ، وعامله بفضله وإحسانه ، وأذاقه حلاوة عفوه وغفرانه - إنّي لمّا رأيت الرسالة الشريفة ، بل الجوهرة النفيسة الّتي أدرجت في كتاب « هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين » الّتي صنّفها وهذّبها والدي الإمام ، عماد الإسلام ، فقيه أهل البيت عليهم السلام مشكاة حنادس(1) الظلام ، ومربي الفضلاء الكرام ، بل اُستاد العلماء الأعلام ، وفخر الفقهاء العظام ، كشّاف غوامض عويصات العلوم بفهمه الثاقب ، وحلّال مشكلاتها بفكره الصائب ، محيي ما درس من سنن المرسلين ، ومحقّق حقايق السابقين ، طود العلم الشريف ، وعضد الدين الحنيف ، مالك أزمّة التصنيف والتأليف ، الّذي جمع من أنواع الفنون فانعقد عليه الإجماع ، وتفرّد بأصناف الفضائل فبهر النواظر والأسماع ، فما من فنٍ إلّا وله فيه القدح المعلّى

ص: 66


1- الحنادس : جمع حندس : الليل المظلم والظلمة « القاموس المحيط 2/209 » .

والمورد العذب المحلّي ، إن قال لم يدع قولاً لقائل ، أوطال لم يأت غيره بطائل ، أو صنّف ألّف أشتات الفنون كالدرّ المكنون ، وإذا جلس مفيداً في صدر ناديه(1) وجثيت(2) بين يديه طلّاب فوائده وأياديه ، ملأ أصداف الأسماع من الدرّ الفاخر ، وبهر الأبصار والبصائر محاسن ومفاخر ؛ فهو علّامة البشر ومجدّد المذهب في القرن الثالث عشر - قدّس اللَّه سبحانه نفسه الزكية ، وأفاض على تربته المراحم الرحمانية ، ورفع مقامه فى بحبوحة جنّته ، وجمع بينه وبين أئمته - وجدتها مشتملة على تحقيقات فائقة تفرّد بها عن السابقين ، وتدقيقات رائقة لم يسبقه إليها أحد من الأوّلين والآخرين ، قد عملها في إبطال القول بالظنّ المطلق ، وإثبات المذهب الحقّ كشف فيها عن مشكلات هذه المسألة نقابها ، وذلِّل صعابها ، وملك رقابها ، وحلّل للعقول عقالها ، وأوضح قيلها وقالها .

ففوائدها في سماء الإفادة نجوم ، وللشكوك والشبهات رجوم ، غير أنّها قد استصعب على علماء هذا العصر حتّى اختفت عليهم دقايقها ، وانطوت عنهم حقايقها ، فجعلوها غرضاً لسهام النقض والإبرام ، وليس ذلك إلّا من زلل الأفهام .

وحيث وجدت الأمر بهذه المثابة مع كون المسألة من أعظم المسائل الّتي تعمّ بها البلية ، وتشتدّ إليها الحاجة ، بل يبتنى عليها أساس استنباط الأحكام الشرعيّة ، رأيت أن اكتب عليها شرحاً وافيا بإيضاح مبهماتها ، كافياً في بيان مشكلاتها ، متكفّلاً بدفع الشكوك والشبهات عنها ، وتنقيح مطالبها ، وتهذيب مقاصدها ، فها أنا باسط كف السؤال إلى من لا يخيب لديه الآمال ، أن يعصمني من

ص: 67


1- النادي : المكان ، المجلس ، العشيرة « مجمع البحرين 4/289 » .
2- جثا كدعاورمى ... : جلس على ركبتيه أوقام على أطراف أصابعه « قاموس المحيط 4/311 » .

الخطأ والزلل في المقال ، بل وفي كلّ حال ، وأنْ يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، موجباً لثوابه الجسيم ، وذاكر لجميع ما أفاده قدس سره في هذه المسألة على الترتيب ، وما توفيقي إلاّ باللَّه ، عليه توكلت وإليه اُنيب .

قال وحيد زمانه تغمّده اللَّه بغفرانه :

حصر الأدلّة الأربعة

توضيح المؤلف وبيانه في المقام

نقل كلام الشيخ البهائي ونقده

« ثمّ إنّ الأدلّة عندنا منحصرة في الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل » [ج 3 ص 315] .

أقول : هذا هو المعروف ، بل المتّفق عليه بين علمائنا ، غير أنّ شرذمة من متأخرى الفرقة الأخباريّة حصروا الحجّة في السنّة ، وأنكروا التعويل على الثلاثة الباقية ، وأطلقوا القول بحجيّة الأخبار المروية في الكتب المعتبرة ، وهو بالإعراض عنه أجدر ، إذ فساده ظاهر للوجدان ، غني عن البيان ، وقد أشبعنا القول في إبطال الحصر الأوّل كالإطلاق الثاني في مواضعهما ، وانعقد الإجماع سابقاً ولاحقاً على خلافهما .

وقد ذكر جماعة من أفاضل المتأخرّين(1) في وجه الحصر في الأربعة « أنّ الدليل على الحكم الشرعي إمّا وحي ، أو لا .

والاوّل : إمّا نوع لفظه معجز ، أو لا .

الأوّل الكتاب .

والثاني السنّة .

وغير الوحي إمّا كاشف عن تحقّق وحي أو لا .

الأوّل الإجماع ، والثّاني دليل العقل » .

ص: 68


1- منهم الشيخ بهاء الدين محمّد بن حسين العاملي في زبدة الاُصول /165 .

وفيه :

أوّلاً : أنّ إطلاق الوحي على السنّة الّتي هي قول المعصوم وفعله وتقريره خروج عن معناه المعروف ، إلاّ أن يريد كشفه عن الوحي ، فيشتمل الإجماع أيضاً على ما ذكره ؛ أو يريد اختصاص السنّة بالحديث القدسي ، فيخرج عن معناها المعروف ؛ على أنّه يخرج معظم الأدلّة وهي السنّة عن الحصر المذكور .

وثانياً : أنّ العقل القاطع أيضاً كاشف عن تحقّق الوحي ، لورود جميع الأحكام في الشرع وامتناع المخالفة بين العقل والشرع ، نظراً إلى تحقّق الملازمة بين الحكمين ، وإلاّ لم يكن من أدّلة الشرّع ، فلم يحصل التفرقة بين الإجماع والعقل بما ذكر ، إذ لا حجّة في غير العقل القاطع .

وثالثاً : أنّ معظم الأدلّة عندنا هو الأخبار المأثورة ، والقطّعي منها إنّما يكشف عن السنّة وإن اُطلقت عليه توسّعاً ، فينبغي أن يندرج على ما ذكر في الإجماع ، وهو كما ترى .

والآحاد منها خارجة عن الحصر المذكور ، إذ لا علم بكون مدلولها وحياً ، وإنّما تثبت التعبّد بالعمل بها .

ورابعاً : إنّ من الأدلّة فعل المعصوم وتقريره ، وهما ليسا من الألفاظ ، فلا يندرج في شي ء من قسميها وإنّما يندرج في الكاشف عن الوحي ، فلا يختصّ بالإجماع .

وقد يجاب عن الأوّل بأنّه لا فرق بين السنّة والكتاب في كونهما من الوحي ، لاشتراكهما في الصدور عن المعصوم عليه السلام الّذي «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى»(1)

ص: 69


1- سورة النجم /3 .

بل ولا يعمل عليه «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى»(1) وإنّما الصادر عنه مطابق للوحي الّذي اُنزل عليه ، غاية ما في الباب أنّ موافقة الكتاب والحديث القدسي له من حيث اللفظ ، وموافقة السنّة من حيث المعنى ، فأطلق الوحي على مطلق الصادر عن المعصوم عليه السلام توسّعاً .

وعن الثّاني : بأنّ الكشف عن الوحي مأخوذ في معنى الإجماع عندنا ، فهو إنّما يعتبر من حيث دلالته على الوحي بطريق التضمّن أو الالتزام ، بل هو مأخوذ من الوحي مستند إليه ، بخلاف دليل العقل وإن ثبتت المطابقة بينه وبين الوحي من باب الملازمة الثابتة بدليل من خارج ، بل وإن كان هو المناط في حجيّته والعمل عليه إلاّ أنّه غير مأخوذ عن الوحي ، والكشف عنه غير ملحوظ في مفهومه ، ففرّق بين الدلالة على الوحي بنفسه والمطابقة له بدليل خارجي ، وهذا القدر هو المقصود من التفرّقة بينهما في الكلام المذكور .

نعم ، الإجماع على طريقة المخالفين كالعقل إنّما يطابق حكم الوحي نظراً إلى ما دلّ على كونه حقّاً ، بل الظنّ من مذهبهم أنّه لا يلزم ورود الحكم في جميع الوقايع بطريق الوحي في الواقع ، فلا يلزم كشفه عن الوحي عندهم أصلاً .

وعن الثالث : بأنّ الحجّة بحسب الأصل إنّما هي السنّة الواقعيّة ، إلاّ أنّها قد تثبت بما يوجب العلم كما في المتواتر والمحفوف بالقرائن ، وقد تثبت بالطريق المعتبر في الشرع ، كما أنّ ألفاظ الكتاب والسنّة في الأصل إنّما تعتبر بحسب المراد الواقعي ، غير أنّه قد يثبت بما يوجب القطع به ، وقد يثبت بالطرق المعتبرة ، وإنّما يرجع الأمر في ثبوت اعتبار تلك الطرق في المقامين أيضاً إلى أحد الأربعة

ص: 70


1- سورة النجم /4 .

المذكورة ، وذلك لا يوجب خروجها عنها وإفرادها بالذكر .

وفيه : أنّ المثبت للسنّة غير السنّة ، وإنّما يندرج في قسم الكاشف عن السنّة ، فلا يختصّ بالإجماع ، إلاّ أنّهم لمّا توسّعوا في إطلاق السنّة على الأخبار المرويّة أخرجوها عن القسم المذكور ، فهو إذن توسّع في توسّع ، لا بطريق سبك المجاز ، عن المجاز لإطلاق الوحي على السنّة ، والسنّة على الأخبار المأثورة .

تقسسيم آخر للأدلّة

وعن الرّابع : بأنّ الفعل والتقرير وإن لم يندرجا في الألفاظ إلاّ أنّهما من حيث ورودها في الأخبار المأثورة من جملة الألفاظ ، وذلك أنّ الموجود في أيدي الأصحاب ليس إلاّ هذه الأخبار الحاكية عن السنّة .

وإنّما المقصود من الأدلّة في المقام الاُمور الموجودة الّتي يرجع إليها بالفعل ، وكفى بذلك قرينة على التوسّع المذكور . على أنّه لم يشترط في الوحي كونه من جنس الألفاظ ، إنّما عني من القسمة المذكورة أنّه حيث يكون لفظاً ينقسم إلى القسمين المذكورين ، وإنّما شرط في الأوّل منهما أن يكون لفظه معجزاً ، لأنّ الخبر قد يكون معجزاً من حيث معناه فلا يعمّ مثله .

وقد يقال : « إنّ الدّليل إمّا أن يكون نقليّاً أو لا ، والأوّل إمّا أن يكون نوع لفظه معجزاً ، أو لا ، الأوّل : الكتاب ، والثاني : الأخبار .

والثاني إمّا أن يكون كاشفاً عن الدليل النقّلي ، أو لا ، الأوّل : الإجماع القولي والعملي ، والثاني : حكم العقل .

أو يقال : الدليل إمّا وحي أو لا ، والأوّل إمّا أن يكون من جنس ما يتلى أو من غيره ، الأوّل الكتاب ، والثاني الحديث القدسي .

وغير الوحي إمّا أن يكون كاشفاً عن تحقّقه أو لا ، والثاني : دليل العقل .

والأوّل إمّا أن يكون كاشفاً عن تحقّقه من جنس الخبر أو الفتوى ، الأوّل :

ص: 71

السنّة ، والثّاني : الإجماع .

أو يقال : إنّ الدليل على الحكم الشرعي الّذي هو خطاب اللَّه المتعلّق بأفعال المكلّفين ينحصر بحسب الواقع في الصادر عن اللَّه سبحانه ، والصّادر عن أحد المعصومين عليهم السلام ، والكاشف عن أحدهما أعني الدال عليه ، والمطابق المستلزم له بدليل من خارج .

فالأوّل : الكتاب والحديث القدسي ، والثّاني : السنّة الواقعية ، والثالث إن كان من جنس الخبر فحديث ، أو الفتوى فإجماع ، أو العمل فسيرة ، والرابع : حكم العقل .

وأنت خبير بأنّ الحصر المذكور في الأخيرين على كلّ من الوجوه المذكورة محلّ منع ، بل قد يقال : إنّ حصر الأدلّة في الأربعة من أصله ليس على ما ينبغي .

وذلك أنّه إن اُريد من حصر الأدلّة في الأربعة المذكورة أنّ اُصولها واُمّهاتها الّتي لايرجع بعضها إلى بعض منحصر فيما ذكر ففيه أنّ هذه الأربعة أيضاً يرجع بعضها إلى بعض ، ألا ترى أنّهم إنّما احتجّوا على حجّية الكتاب بالإجماع والأخبار ، وعلى حجّية الأخبار بالكتاب والإجماع وبعض الأخبار المتواترة ، وعلى حجيّة الإجماع بالكتاب والسنّة والعقل .

وكان الأصل في الجميع هو العقل ، وإن استدلّوا عليه أيضاً بالكتاب والسنّة ، إلاّ أنّه في نفسه مستغن عن ذلك ، لانتهاء جميع الأدلّة إلى إدراك العقل ، فلو توقّف على دليل آخر لزم الدور ، وإنّما احتاجوا في حجيّة العقل إلى إثبات الملازمة بين الحكمين من حيث إنّ المقصود من ذلك إثبات الحكم الشرعي به ، وهو موقوف على ثبوت الملازمة ، فكان الصواب إذن حصر الدليل في حكم

ص: 72

العقل لرجوع الجميع إليه .

والأصل في الإجماع هو السنّة ، لكشفه عنها . والكاشف هو العقل على طريقة اللطف العقلي ، أو النقل إن استند فيه إلى الأخبار ، أو العادة على طريقة الحدس ، وإن اُريد حصر مطلق الأدلّة فيما ذكر توجّه أنّ الاستصحاب ، وأصلي البرائة والاشتغال ، وأصل العدم ، وأصل الصحّة ، والظنّ المطلق عند القائل به ، والظنون المخصوصة عند غيره ، وساير الاُصول اللفظيّة والعمليّة والقواعد الشرّعية والمرجّحات المعتبرة في الأدلّة المتعارضة كلّها حجّج شرعيّة وإن كانت مأخوذة من غيرها ، كما أنّ بعض الأربعة المذكورة مأخوذ من بعض على حسب ما ذكر ، فلا وجه لحصر الأدلّة فيها .

ثمّ إنّ كثيراً من الأحكام مستفادة من الاستقراء وتنقيح المناط والفحوى والأولوّية والعلّة المنصوصة - وهي القياسات المعمول عليها عند الخاصّة - فكما أنّ القياس حيث كان معتبراً عند العامّة عدّوه دليلاً خامساً - كما نشير إليه إن شاء اللَّه تعالى - فكذا القياسات المعتبرة عندنا ينبغي أن تعدّ دليلاً برأسها .

وكذلك الكاشف عن السنّة ليس بمنحصر في الإجماع ، فإنّ السّيرة الفعليّة والقرائن العلميّة أيضاً كاشفة عن الوحي ، والقواعد الرجاليّة المعتبرة في تمييز المشتركات وأحوال الرواة وتعيين الطبقات مستندة غالباً إلى القرائن والإمارات .

والاستناد إلى عدم الدليل في الاُمور الّتي تعمّ بها البلوى وما أشبه ذلك راجع إلى الحدس الصائب ، فلا ينحصر في الإجماع ، كما أنّ دلالة الإمساك عن النكير في موارد التقرير على صحّة الحكم راجع إلى إدراك العقل .

والجواب : أنّ هذه الأدلّة الأربعة لها اُصول لايرجع بعضها إلى بعض ، فإنّ مدلول كلّ من الكتاب والسنّة بحسب المراد الواقعي حجّة في نفسه بعد ثبوت

ص: 73

الشرع ، من غير أن يتوقّف على إقامة الدليل عليه من غيره ، وإنّما الموقوف على الدليل حجّية ظواهرها المستندة إلى الاُصول اللفظيّة والقواعد المقرّرة في مباحث الألفاظ ؛ وحجيّة المنقول من السنّة بطريق الآحاد وكذلك الإجماع الكاشف قطعاً عن الواقع حجّة برأسه مستغن في ذلك عن إقامة الدليل عليه ، وإنّما الكلام في طريق كشفه عن ذلك وفي المنقول منه بطريق الآحاد . وهكذا العقل المستقلّ بإدراك الحكم من غير توسّط الشرع دليل برأسه غير متفرّع على غيره .

فاُصول هذه الأدلّة اُمور مستقلّة في نفسها ، لارجوع لبعضها إلى بعض ، وإنّما يرجع إلى ذلك المباحث المتعلّقة بها ، ورجوع الجميع إلى حكم العقل غير ما هو المقصود من دليل العقل الّذي عدّ من الأربعة ، فإنّ المعدود فيها هو العقل المستقلّ بإدراك الحكم من غير توسّط النقل ، فلا يرجع إليه وإن أثبتنا الملازمة بين الحكمين بدليل آخر ، فإنّ العقل إن استقلّ بإدراك حكم الشرع ابتداء فلا توقّف له على أمر آخر ، وإلاّ توقّف إدراكه على إدراك الملازمة ، فهو حينئذٍ من مقدّمات إدراكه لحكم الشرع وجزمه به ، أمّا بعد إدراكه فلا سبيل إلى إرجاعه إلى دليل آخر ، إذ ليس وراء ذلك شي ء وإلاّ لدار أو تسلسل .

وأمّا سائر ما ذكر من الأدلّة ونحوها فهي راجعة لا محالة إلى أحد الأربعة المذكورة ، وما لا رجوع له إلى شي ء منها ليس بحجّة ، فإنّ القائل بالظنّ المطلق إنّما يستند في قوله إلى إدراك العقل وحكمه به ، والقائل بالظنون المخصوصة إنّما يرجع فيها إلى أدلّة مخصوصة راجعة إلى إدراك العقل أو حكم النصّ أو الإجماع ، فلا تخرج عنها .

وأمّا الأُصول العمليّة فهي معدودة من الأدلّة العقليّة وإن استندوا في إثباتها

ص: 74

إلى النقل أيضاً ؛ وعدّ الاستصحاب من بينها دليلاً خامساً برأسه كما عن المعارج(1) وغيره ليس على ما ينبغي .

وأمّا الفحوى والأولويّة والمفاهيم المعتبرة ونحوها فان تعلّقت بالنصّ لحقت به ، لاندراجها في المدلول التضمّني أو الالتزامي بأقسامه ، وإن تعلّقت بالحكم المدلول عليه بالإجماع أو العقل لحقت بهما ، والسيرة الفعليّة راجعة إلى الإجماع الكاشف ، فإنّهم لا يتّفقون على العمل إلاّ بعد الاتّفاق على الحكم ، وعدم الدليل في الاُمور العامّة راجع إلى إدراك العقل ، وكذلك ساير القرائن العمليّة ؛ وأمّا الوجود الظنيّة فلابدّ في الحكم بحجيّتها من الرجوع إلى غيرها من أحد الأربعة ؛ فالحصر المذكور لا غبار عليه .

وأولى منه أن يقال : إنّ الدليل إمّا أن يكون عقليّاً أو عاديّاً أو سمعيّاً من جنس ما يتلى أو غيره ، وهي الأربعة المذكورة ، غير أنّه يدخل في الثاني المتواتر والمحفوف بالقرائن العلميّة وتراكم الظنّون وعدم الدليل في الأمور العامّة والسيرة ونحوها .

وأمّا الإجماع ، فهو من الدليل العقلي على طريقة الشيخ ، والعادي على طريقة المتأخّرين ، فإنّ العادة هي الّتي تحيل إتّفاق الجمع الكثير على الخطاء في موارده ؛ ومن النقلي عند من تمسّك في إثباته بالأخبار ، فتامّل .

ثمّ إنّ المصنّف قدس سره أشار بقوله : « عندنا » إلى خلاف العامّة ، حيث إنّ القياس وغيره عندهم من جملة الأدلّة ، وذلك غير الأربعة .

والفرق بينه وبين القياس المعتبر عندنا أنّ الثاني إنّما يستند إلى مفاد قول

ص: 75


1- اُنظر : معارج الاُصول 210-206 .

الحجّة على وجه القطع أو الظنّ المعتبر كالفحوى والأولوية والعلّة المنصوصة ، بخلاف القياس المطلق ، فإنّه اعتبار محض . لكن يبقى فيه شي ء ، وهو أنّ القوم قد استندوا فيه بزعمهم إلى نصّ أو إجماع أو عقل ، فيرجع إلى أحد الأربعة ، ولا معنى إذن لعدّه دليلاً خامساً .

رجع إلى كلام الشيخ البهائي ونقده

قال شيخنا البهائي(1) قدس سره بعد ذكر وجه الحصر كما مرّ : « وقال مخالفونا : الوحي إمّا متلوّ وهو الكتاب ، أو لا وهو السنّة ، وغير الوحي إن كان قول الكلّ فإجماع ، أو مشاركة فرع لأصل في علّة فقياس ، وإلاّ فاستدلال » .

وفيه أنّ السنّة عند أكثر القوم لا ينحصر في الوحي الغير المتلوّ ، بل ولا كاشفة عنه ، لزعمهم أنّ النبي صلى الله عليه وآله متعبّد بالاجتهاد في الأحكام ، قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون .

نقل كلام الآمدي ونقده

ولعلّه لذلك قال الآمدي : « الدليل الشرعي إمّا أن يكون وارداً من جهة الرسول صلى الله عليه وآله أو لا [من جهته] فإن كان الأوّل فلا يخلوا إمّا أن يكون من قبيل ما يتلى أو لا [من قبيل ما يتلى] فإن كان من قبيل ما يتلى فهو الكتاب ، وإن كان من قبيل ما لايتلى فهو السنّة .

وإن لم يكن وارداً من جهة الرسول فلا يخلو إمّا أن يشترط فيه عصمة مَن صدر عنه أو لايشترط [ذلك] .

فإن كان الأوّل فهو الإجماع ، وإن كان الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون صورته حمل معلوم على معلوم أو لايكون كذلك .

فإن كان الأوّل فهو القياس ، وإن كان الثاني فهو الإستدلال .

ص: 76


1- زبدة الأُصول 166 - 165 .

قال : والأصل فيها إنّما هو الكتاب . لأنّه راجع إلى قول اللَّه المشرِّع للأحكام ، والسنّة مخبرة عن قوله تعالى وحكمه ومستند الإجماع [فراجع إليهما] .

تمهيد المطالب الخمسة

اشارة

وأمّا القياس والاستدلال فحاصله يرجع إلى معقول النصّ أو الإجماع ، فالنصّ والإجماع أصل والقياس والاستدلال فرع تابع لهما » انتهى(1) .

وفيه أوّلا : إنّ الدّليل عندهم أو عند جماعة منهم لاينحصر فيما ذكر كالاستحسان والمصالح المرسلة ومذهب الصحابي وشرع مَن قَبْلَنا وعدم الدليل والأخذ بالمتيقّن وأصل الإباحة في المنافع والحرمة في المضارّ والاستقراء الظنّي والاستصحاب وغيرها ، لكن ظاهر الحصر في كلامهم إدراج الكلّ في الاستدلال ، وهو كما ترى .

وثانياً : إنّ إرجاع الجميع إلى الكتاب إنّما يحسن على مذهبنا ، لعدم اشتماله عندهم إلاّ على جملة من الأحكام ، غاية الأمر إنّ جملة اُخرى منها ترجع إلى قول اللَّه تعالى وحكمه ، والباقي لارجوع له إلى قوله سبحانه أصلاً .

نعم ، الكتاب أصل عندنا ، لاشتماله في الواقع على جميع الأحكام وكونه تبياناً لكلّ شي ء ، وإن اختصّ الإمام عليه السلام بالعلم به دون غيره .

وثالثاً : إنّ إرجاع القياس والاستحسان إلى معقول النصّ والإجماع أيضاً ليس على ما ينبغي كما لا يخفى ، والأمر في هذا الباب سهل .

قال قدس سره :

المطلب الأوّل في معنى الدليل

اشارة

« ولنذكر قبل الشّروع في بيانها مطالب الأوّل في بيان الدّليل وتفسيره على حسب ما بيّنوه » . [ج 3 ص 315]

ص: 77


1- الإحكام 1 / 158 .

أقول : قد أهمل المصنّف قدس سره بيان هذا المطلب ، لقلّةِ فائدته ، ولا بأس بالإشارة إليه إتماماً لما قصده من بيانه ، فنقول :

بيان المصنف في معنى الدليل ونقل الأقوال فيه ونقده

الدّليل في اللغة هو الدال والمرشد ، فهو فعيل بمعنى الفاعل ، يقال : دَلّه على الطريق دلالة - بالفتح وبالكسر ، بل قيل : هي مثلّث الدّال - ودلولة بالضمّ(1) وفي الصحاح « إنّ الفتح أعلى » قيل : ويطلق على مَن نصب شيئاً دلّ على أمرٍ ، وعلى الذاكر له ، وعلى نفس ذلك الشي ء ؛ كالصّانع فإنّه نصب علامة دالّة على وجوده(2) والعالم بها ، فإنّه يذكر للمستدلّين كونها دليلاً عليه ونفس تلك العلّامة الّتي يستدّل بها . والأوّلان راجعان إلى المعنى المذكور ، إلّا أنّ الفرق بينهما هو الفرق بين ما بالقوّة والفعل ، وظاهر اللفظ يعطي كونه بمعنى الدّال بالفعل فينبغي ، أن يكون إطلاقه على غيره مجازاً . وكذا المعنى الثالث يحتمل أن يكون معنى مجازيّاً وإن ذكره جماعة من أهل اللغة في معانيه ، بل ربما قدّموه على الأوّل(3) فقالوا : الدليل ما يستدلّ به والدّال - كما في الصحاح(4) والمجمع(5) - لجريان العادة بضمّ المعانى المجازيّة إلى الحقايق ، وإلّا فليست الدلالة قائمة بتلك العلامة على وجه الحقيقة ، وإنّما الحاصل هناك معنى القوّة والشّأنية ، ولذا نسبه جماعة من الاُصوليّين إلى اصطلاحهم أو اصطلاح الفقهاء ، فيدلّ على مغايرة المعنى المصطلح عليه للمعنى اللّغوى ؛ إلاّ أن يقال : إنّ المغايرة بين

ص: 78


1- مصباح المنير 1 / 199 .
2- الصحاح 4 / 1698 .
3- لسان العرب 11 / 248 .
4- الصحاح 4 / 1698 .
5- مجمع البحرين 5 / 373 - 372 .

المعنيين بالعموم والخصوص أو اعتبار انحصار المعنى فيه عندهم ، وإلاّ فتخصيص المعنى المذكور باصطلاح الفقهاء والأُصولييّن مع قطع النظر عن ذلك غير ظاهر ، لتبادره في عرف ساير أرباب الفنون أيضاً ، وشيوع استعماله في ذلك في العرف العام ، فيمكن كونه من المجاز أو بلوغه من كثرة الاستعمال حدّ الحقيقة .

وكيف كان ، فقد ذكروا في تعريفه حدوداً نسبوا بعضها إلى اصطلاح الأصحاب ، وبعضها إلى اصطلاح علماء الميزان ؛

منها : « أنّه ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري » ذكره جماعة من الاُصوليّين(1) .

وقيّد آخرون بقولهم : « إلى العلم بمطلوب خبري » ذكره العلّامة في النهاية(2) وشيخنا البهائي(3) وغيرهما(4) .

وفرّق الآمدي في الإحكام بذلك بين عرفي الفقيه والأُصولي ، فزعم أنّ الأوّل إنّما هو بالنظر إلى اصطلاح الفقهاء ، حيث إنّه عام للقاطع والظنّي بخلاف الثاني ، فإنّه إنّما يعتبر بالنّظر إلى عرف الاُصوليّين ، لمقابلتهم له بالأمارة الّتي يتوصّل بها إلى الظنّ بمطلوب خبريّ(5) .

وفيه نظر ، لعدم شمول الدليل للأمارة في شي ء من العرفين ، كما يدلّ عليه

ص: 79


1- انظر : الإحكام 1 / 10 .
2- نهاية الوصول 1 / 83 .
3- زبدة الأُصول / 26 .
4- الشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار / 237 .
5- الإحكام 1 / 9 .

ما ذكروه في تعريف الدلالة ، لأخذ العلم فيه ؛ وهو الذي يقتضيه النظر في إطلاقاتهم ، إذ لا يطلق الدليل عندهم إلّا على ما يثبت به المطلوب ، وكأنّه حيث نظر إلى استدلال الفقهاء غالباً بالوجوه الظنيّة زعم شمول الدليل عندهم للأمارة .

وفيه : إنّهم لايستدلّون بها إلّا بعد إثبات اعتبارها ولزوم العمل عليها ، فإنّما يطلق الدليل عليها بهذا الاعتبار ، فرجع إلى العلم ، إمّا ما يفيد الظنّ الغير المعتبر ، فلا يطلق عليه الدليل قطعاً ، ولو أطلق عليه فإنّما هو من باب التجوّز ، إلاّ أنّ غرضه من ذلك عمل فقهاء الجمهور ، لكنّهم أيضاً لايستدلّون بذلك إلّا بزعم الاكتفاء به ، على أنّ الظاهر إتحاد الحدّين في المعنى ، لعدم صدق التوصّل إلى المطلوب بمجرّد الظنّ به ، إنّما هو ظنّ بالتوصّل أو توصّل إلى الظنّ ، وهو خلاف ظاهر الحدّ ، فقيد العلم في الثاني مستدرك .

ويمكن التفرقة بين الحدّين بشمول الأوّل لما يفيد الظنّ المعتبر ، لإمكان التوصّل به في الشرع إلى المطلوب الغير المعلوم ؛ بخلاف الثاني ، فإنّه إنّما يشمل مثله إذا كان المطلوب الخبري جواز العمل ، أمّا إذا كان نفس الواقع فلا ، لأنّ العلم بجواز العمل لايوجب العلم بنفس الحكم .

فهذا هو المراد من الفرق بين العرفين ، لأنّ غرض الفقيه ليس إلّا العمل ، بخلاف الاُصولي فإنّ المطلوب فيه العلم ، لا أنّ الأوّل يشمل مطلق الأمارة وإن لم يجز الرجوع إليها في الشرع .

وفيه : أنّ جواز العمل لا يصحّح صدق التوصّل إلى الشي ء بمجرّد الظنّ به ، وإلّا فقد يجوز العمل مع عدم الظنّ بل الظنّ بالعدم أيضاً ، ولو كان مجرّد الظنّ بالشي ء موجباً لصدق التوصّل إليه لم يفرق فيه بين جواز العمل به وعدمه ، إنّما يفرق بينهما حيث يكون العمل مأخوذاً في المطلوب ، فتأمّل .

ص: 80

وإنّما اعتبروا الإمكان في الحدّ ليدخل الدليل المغفول عنه ، فإنّه دليل في الواقع ، كما يشير إليه تعريف الدلالة أيضاً . واحترزوا بالصحيح عن النظر الفاسد . ليخرج الدليل الباطل ، فإنّه يمكن التوصل بفاسد النظر فيه إلى المطلوب ، إذ المراد بالتوصل إليه تحصيل العلم به ، فيمكن حصوله منه ولا يسمىّ دليلاً ، إنّما يسمّى شبهة لمشابهته للدليل أو اشتباهه به ، ولا يتمّ الإحتراز عنه بقيد العلم بناء على اعتبار المطابقة للواقع في مفهومه ، لإمكان فساد الدليل ومطابقة المدلول للواقع .

والنظر « ترتيب اُمور ذهنيّة ليتوصّل بها إلى آخر »(1) ، وظاهره الاختصاص بالمطلوب الخبري ، فيمكن الاستغناء عن القيد الأخير ؛ ويمكن الاستغناء عنه بقيد العلم أيضاً ، لظهوره في التصديق .

وقيل : « هو تأمّل معقول لكسب مجهول »(2) وهو أعمّ من ذلك .

ويخرج بقيد النظر المعلوم بالضرورة ، لعدم تعلّق النظر به إلّا قبل حصول الضرورة فيه ، ولا مانع حينئذٍ من صدق الدليل فيه .

والمراد بالنظر فيه ما يعمّ النظر في نفسه أو في أحواله وصفاته ، فيشمل المفرد والمركّب ، لصدق الدليل بحسب اصطلاح القوم على المفرد وهو الوسط ، كما في الأدلّة الأربعة ؛ كما يصدق على المركّب من المقدّمتين . فكما يقال : « الدليل على حدوث العالم أنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » كذا يقال : « التغيّر دليل على حدوث العالم » فيكون ذلك فارقاً بين هذا الاصطلاح واصطلاح المنطقيّين ،

ص: 81


1- نهاية الوصول 1/84 .
2- انظر : مجمع البحرين 4 / 331 ، الحاشية على تهذيب المنطق / 16 و178 .

لاختصاصه عندهم بالمركّب .

وقد يقال : ظاهر العبارة يعطي النظر في نفسه ، وإنّما يتحقّق في مجموع المقدّمات الّتي إذا ترتّبت أدّت إلى المطلوب ، وحمله على النّظر في أحواله بعيد .

الفرق بين الدليل والدلالة

واحترزوا بالقيد الأخير عن القول الشارح والحدّ الموصل إلى العلم التصوري ، مع إمكان الاستغناء عنه بما عرفت ، فإنّه لا يطلق على ذلك لفظ الدليل حقيقةً ، بخلاف لفظ الدلالة ، فإنّهم عرّفوها بأنّها كون الشي ء بحيث يلزم من العلم به العلم بشي ء آخر(1) فتشمل الدلالات اللّفظية مفرداتها ومركّباتها ، مع أنّه ليس من شأنها من حيث كونها دلالات لفظيّة إلاّ إفادة تصوّر مداليلها وإحضارها ببال السّامع ، فيكون العلم المأخوذ في تعريف الدلالة بمعنى مطلق الإدراك الشامل للتصور والتصديق .

هذا بالنسبة إلى دلالة اللّفظ على نفس المعنى بملاحظة دلالتها على إرادة اللافظ ، فمدلولها أمر تصديقي ، لانتقاله من اللّفظ إلى التّصديق بإرادة اللافظ ذلك تصديقاً علميّاً أو ظنيّاً ، ولا فرق في ذلك أيضاً بين المفردات والمركّبات ، لكون الدلالة إذن في المقامين تصديقية .

وينبغي أن يكون المراد بالعلم المأخوذ في تعريفها ما يعمّ الظنّ ، لأنّ دلالة الألفاظ على معانيها ظنيّة غالباً ، فيفيد ذلك اندراج الظنّ الحاصل من الأمارة في الدّلالة ، وهو ممنوع ، لظهور الفرق بين الظنّ المعتبر بحسب الشرع أو العرف والعادة ، كالحاصل من الألفاظ والخطابات وغيرها .

وإنّما يندرج الأوّل في الدلالة ، نظراً إلى ثبوت اعتبارها ، بخلاف الظنّ

ص: 82


1- انظر : شرح الشمسيّة / 19 ، الحاشية على تهذيب المنطق / 188 .

الحاصل من الأمارة الغير المعتبرة ؛ وحينئذٍ فإمّا أن يفسّر العلم بما يعمّ الظنّ المعتبر ، أو يحمل على معناه الظاهر ، لحصول العلم بالمطلوب منه ، نظراً إلى ما دلّ على اعتباره .

وعلى كلّ حالٍ فلابدّ من القول باختلاف الاصطلاح في لفظى الدليل والدلالة وإن كانا من مادة واحدة ، لوضوح أنّ دلالة الألفاظ على المعاني والنقوش على الألفاظ تصوريّة غالباً ، ولو أخذ العلم في تعريفها بالمعنى الأعمّ من الظنّ كان وجهاً آخراً للفرق .

وهناك وجه ثالث للفرق ، وهو أنّ تعريف الدلالة لايصدق في الأمور التصديقية إلاّ على المقدّمات المترتّبة ، فلا يشمل المفرد ولا المقدّمات الغير المترتّبة ، إذ لا يلزم من العلم بها العلم بالمطلوب ، بخلاف تعريف الدليل . ويمكن الإيراد على التعريف المذكور بوجوه ؛

منها : أنّ الإمكان بمعنى القوّة المقابلة للفعليّة ، فلا يصدق على الدليل بعد حصول التوصّل به إلى المطلوب فعلاً ، مع القطع بأنّه لايخرج بذلك عن كونه دليلاً ، كما لايخرج بذلك عن تعريف الدلالة ، بل المقدّمات المترتّبة بالفعل أظهر في إطلاق الدليل ، لكثرة إطلاقة عليها حقيقة وعدم صحّة سلبه عنها ، بل يختصّ الدليل بها على بعض الحدود الآتية فكيف يصحّ إخراجها عنه .

ويمكن الجواب عنه بأنّ المراد بالإمكان : الإمكان الذاتي الّذي لا ينافي الفعليّة ، لا مجرّد القوّة المحضة ؛ على أنّ الفعلية بالنسبة إلى المستدلّ لاينافي بقاء القوّة بالنظر إلى غيره فرضاً ، فيصدق الإمكان بالمعنى المذكور في الجملة .

ومنها : أنّ المقدّمات المرتّبة بالفعل لو لم يخرج بقيد الإمكان لخرجت بقيد النظر ، فإنّها إنّما يتوصّل بنفسها لا بالنظر فيها ، لأنّ النّظر في القضايا المترتّبة

ص: 83

المستجمعة للشرايط الصورّية والماديّة تحصيل لأمر حاصل ، إذ النّظر كما عرفت ترتيب اُمور ذهنية أو تأمّل أمرٍ معقول ، فبعد حصوله فعلاً لامعنى لتحصيله ثانياً ، فيخرج جميع الأدلّة بعد ترتيبها وبيانها عن كونها أدلّة ، ويختصّ الدليل بالمفرد أو المركّب من المقدّمات الّتي إذا ترتبّت أدّت إلى المطلوب .

ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ تحقّق فعليّة كون النظر سبباً للعلم لاينافي حصوله بالفعل ؛ على أنّ النظر من واحد لاينافي بقاء الإمكان والقوّة بالنسبة إلى غير النّاظر المرتّب ولو على سبيل الفرض والتقدير ، فيصدق على تلك القضايا المؤلّفة أنّه يمكن التوصّل بالنظر فيها من غير مؤلّفها إلى المطلوب .

ومنها : أنّ الحدّ بظاهره لايشمل المفرد ، مع صدق الدليل عليه في اصطلاحهم وشيوع استعماله فيه عندهم ،

وجوابه ما مرّ ، فالظاهر شموله للأقسام الثّلاثة ، لكن يظهر من بعضهم تخصيص الدليل بالمفرد الّذي من شأنه أن يتوصّل بالنظر الصحيح في أحواله إلى المطلوب ، كما أنّ منهم من خصّه بغير القضايا المؤلّفة ، وهما بعيدان عن اصطلاحهم ، بل قد يقطع بخلافه ، لصدقه على الأدلّة الأربعة وعلى الأقيسة المرتّبة .

ومنها : أنّ أكثر الأدلّة الشرعيّة اُمور ظنيّة ، بل الظواهر اللفظية ربّما لا تفيد الظن أيضاً ، فتخرج عن الحدّ المذكور ، مع القطع بصدق الدّليل عليها في اصطلاحهم .

والجواب أنّ التوصّل يعمّ العقلي والعرفي والعادي والشرعي ، كلّ على حسبه ، فإن كانت الظواهر اللفظيّة معتبرة في الشريعة أمكن التوصّل بها إلى الحكم الشرعي ، وكذا الحال في اعتبارها في المخاطبات العرفيّة والمحاورات

ص: 84

العاديّة على حسب العادات الجارية ، فإنّه كافٍ في صدق التوصّل بها إلى المطلوب عرفاً ، بخلاف ما إذا لم يكن الظاهر معتبراً في العرف والعادة ولاحجّة في الشريعة ، فإنّه حينئذٍ لايطلق عليه الدليل في عرفهم ، وإنّما يعبّر عنه بالأمارة ، ويقابلونها بالدليل كما مرّ .

نعم ، من اعتبر في الحدّ التوصّل إلى العلم ورد عليه النقض بما يوصل إلى الظنّ المعتبر ، إلّا أن يقال : إنّ إطلاق الدليل على مثله من حيث حصول العلم بالحكم الظاهري الذّي هو المطلوب منه ، لا من حيث التوصّل به إلى الظنّ بالحكم الواقعي وإن جاز العمل عليه ، فإنّ جواز العمل لا يجعل الظنّ علماً .

ومنها : أنّ الحدّ المذكور شامل لكلّ مطلوب ، عقليّاً كان أو عرفيّاً أو شرعيّاً ، مع أنّ مرادهم من الدليل الأخير ، وهو خلط ، فإنّ إطلاقه عليه في كلامهم من حيث تعلّق الغرض لا يقتضي اعتباره في مفهومه وحقيقته .

ومنها : أنّه لا يشمل الدليل الذي لايمكن الوصول إليه مع كونه دليلاً .

وفيه أنّه لاينافي الإمكان الذاتي الذي هو المأخوذ في الحدّ ، مع أنّ إمكان الوصول إليه ولو بالنسبة إلى بعض الآحاد كافٍ في ذلك .

ومنها : أنّه لايشمل الدليل المسبوق بدليلٍ آخر ، لحصول التوصّل إلى المطلوب به فعلاً ، فلا يمكن التوصّل إليه ثانياً ، لكونه تحصيلاً للحاصل ؛ بل لا يشمل الأدلّة المتعدّدة ، لامتناع تعدّد العلّة مع اتّحاد المعلول حينئذٍ .

وجوابه ما عرفت من أنّ المراد بالإمكان الإمكان الذاتي ، فلا ينافيه الامتناع الغيري ، مع أنّ الإمكان حاصل بالنسبة إلى غير العالم بذلك المطلوب .

ومنها : أنّ الإمكان الذاتي يجتمع مع الضرورة ، فلا يتّم الاحتراز عنها ، لإمكان ترتيب المقدّمات النظرية معها .

ص: 85

وفيه : أنّ قيد النظر يشعر باختصاص المطلوب بالنظري على أنّ صدق الدّليل عليها حينئذٍ ليس بمستبعد ، إنّما لا يصدق على نفس الضرورة ، وخروجها بقيد النظر ظاهر .

ومنها : أنّه يخرج عن الحدّ ما يفيد العلم بالخطابات الشرعيّة ، فإنّها إنشاءآت وليست بمطلوب خبري .

وفيه : أنّ كون الخطاب إنشائياً لا ينافي كون المطلوب من الدليل خبريّاً ، إذ المطلوب صدور هذا الإنشاء عن الشارع ، وهو مطلوب خبري ، كما لا يخفي .

ومن جملة الحدود ما حكاه العلّامة قدس سره(1) من « أنّ الدليل ما يفيد معرفته العلم بشي ء آخر إيجاباً أو سلباً » و كان القيد الأخير لإخراج المعرّف ، بناء على أنّ المراد بالعلم مطلق الإدراك الشامل للتصوّر والتصديق ، وهو خلاف ظاهره ، فيمكن الإستغناء به عنه ، كما مرّ نظيره .

ويرد عليه أوّلاً : أنّه إنّما ينطبق على القضايا المترتّبة المستجمعة للشرايط الصوريّة والماديّة ، فإنّها التي يستلزم معرفتها العلم ، أمّا معرفة المفرد بمجرّده فلا يفيد علماً ، وقد عرفت أنّ الدليل لايختصّ بها في اصطلاحهم ، ألا ترى أنّ موضوع الاُصول هو الأدلّة المفردة التي يبحث فيها عن عوارضها ، ويعرف منه جملة من طرق النظر فيها .

وثانياً : أنّه يشمل الدليل الفاسد ، لإمكان حصول العلم منه من باب الاتّفاق ، وليس بدليل ، إنّما هو شبهة كما مرّ ، واعتبار المطابقة الواقع في مفهوم العلم غير ثابت ، وعلى تقديره ففساد الدليل لا يقتضي بطلان المدلول ، فيمكن

ص: 86


1- حكى عنه في الفصول الغروية / 4 .

حصول الجزم بالأمر الثابت من الدليل الفاسد ، فيندرج في الحدّ .

وثالثاً : أنّه لا يشمل الدليل المسبوق بالعلم بمدلوله من غيره ، لأنّه لا يفيد علماً آخر ؛ وحمله على ما له شأنيّة الإفادة تكلّف في الحدّ .

ومنها : « أنّه قول مؤلّف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر » .

حكاه العلّامة قدس سره في النهاية(1) قولاً في تعريف الدليل ، وكأنّه عنى بذلك مصطلح أهل الميزان ، إذ هو بعيد عن عرف المتشرّعة جدّاً ، لاختصاصه بالقضايا المترتّبة بالفعل ، وشموله للصحيح والفاسد ، وهما خارجان عن الاصطلاح ، وإنّما ذكر ذلك علماء الميزان(2) في تعريف القياس ، إذ لا يشترط مسلميّة المقدّمات في صدق القياس من حيث هو .

ومنها : أنّه قولان فصاعداً يكون عنه قول آخر ، أو يستلزم لذاته قولاً آخر ، أو قول مؤلّف من قضايا يلزمه لذاته قول آخر . وفي إفراد الضّمير إشعار بأنّ الهيئة التركيبية هي المفيدة للقول الآخر .

وفرّقوا بين الأوّل والأخيرين بدخول الأمارة وعدمه ، كما فرّقوا بذلك بين الحدّين الأوّلين أيضاً .

وقد عرفت ما فيه ، بل الدليل يقابل الأمارة عندهم حتّى على مذهب الأشعري ، لجريان العادة عنده بالعلم بالنتيجة عقيب الدليل دون الأمارة ؛ فالقول ب « أنّ الأشعري لا يفرق بينهما في عدم الاستلزام »(3) كما ترى .

ص: 87


1- نهاية الوصول 1 / 84 .
2- انظر : المحصول 5 / 16 - الحاشية على تهذيب المنطق / 86 .
3- والقائل الشيخ بهاء الدين محمّد بن حسين العاملي في زبدة الاُصول / 28 .

وقد يفرّق بين الحدّين أيضاً بشمول الأوّل للصناعات الخمس من البرهانيّات والجدليّات والخطابيّات والشعريّات والمغالطات ، واختصاص الأخيرين بالبرهان .

وفيه : أنّ الاستلزام لايتوقّف على تحقّق الملزوم ولا اللاّزم ، وقد اشتهر تعريف القياس بنحو ما ذكر في المنطق ، فكأنّه يرادف الدليل عندهم ، وتمام الكلام فيه موكول إليه .

نقل كلام السيّد الطباطبائي في معنى الدليل الشرعي

ومنها : ما ذكره السيّد الطباطبائي في فوائده ، حيث قال : « الدليل الشرعي هو الموصل إلى الحكم الشرعي ، ونعني بالموصل ما لايتوقّف في الإيصال على شي ء آخر وإن توقّف التصديق بكونه موصلاً أو فهم المراد منه على أمر آخر ، فالكتاب موصل بمعنى أنّه لايتوقّف في كونه موصلاً إلى أن يوصل إلى موصل آخر . والحاصل أنّه لا واسطة بينه وبين المقصود من جهة الإيصال بأن يكون الموصل بالذات إلى المطلوب شيئاً دلّ عليه الكتاب ، وذلك لا ينافي توقّفه على المقدّمات العقلية الدّالة على كونه كلام اللَّه تعالى وأنّه صادق ، وكذا لاينافي توقّفه على فهم الخطابات الواقعة فيه المتوقف على معرفة متن اللغة والنحو والصرّف .

قال : « ومثله الحديث المتوقّف إيصاله على دليل حجيّته وانطباقه على حكم اللَّه تعالى ، لكن لايتوقّف في نفس الإيصال على أمر آخر بأن يكون الخبر موصلاً إلى دليل آخر يدلّ على المطلوب ، كما ينقل الحجّة كلاماً عن غيره من الحجج ، فالموصل هو الكلام الّذي نقله الحجّة عن غيره ، لا نفس كلام الحجّة »(1) .

ص: 88


1- فوائد الاصول للسيّد محمّد مهدي بحر العلوم الطباطبائي قدس سره المتوفّى 1212 ه ، ونقل عنه في مفاتيح الاُصول / 322 .

وهكذا الكلام في الإجماع « فإنّه لايتوقّف في الإيصال إلى المقصود نفسه على شي ء آخر ودليل ، بمعنى أنّه لايحتاج في كونه موصلاً إلى واسطة بينه وبين المطلوب يتحقّق بهما الإيصال ابتداء ، ويكون الإجماع موصلاً إلى الموصل إلى المطلوب ، وإن توقّف التصديق بكونه موصلاً على كشفه عن قول الحجّة عندنا ، وعلى الأدلّة الدالّة على كونه حجّة بمحض الوفاق عند العامة ، فإنّا نستدلّ على المطلوب الفرعي بالإجماع وعلى حجّية الإجماع بكونه كاشفاً مثلاً ، كما إستدللنا بالكتاب على المطلوب ، وعلى كونه حجة بما دلّ عليه ، ولا نحتجّ بالإجماع على الخبر وبالخبر على المطلوب »(1) هذا ملخصّ كلامه قدس سره ، وفيه ما لا يخفى .

المطلب الثاني في أقسام الدليل

اشارة

[ قال قدس سره : ]

ثانيها : أنّ الدليل ينقسم إلى ما يكون حجّة في نفسه مطلقاً - كظاهر الكتاب وخبر الواحد - وما يكون حجّة عند عدم قيام الحجّة على خلافه فيكون حجيته في نفسه مقيّدة مشروطة بما ذكر لا مطلقة . فإذا كان تعارض في القسم الأوّل من الأدلّة لزم الرجوع إلى حكم الترجيح والتعادل بخلاف ما إذا وقعت المعارضة بينه وبين القسم الثاني من الأدلّة ، فأنّ الدليل على الوجه الثاني غير قابل لمزاحمة شي ء من الأدلّة على الوجه الأوّل ، إذ المفروض كونه دليلاً حيث لا دليل ، فلو قام هناك دليل من القسم الأوّل ولو من أضعف

ص: 89


1- فوائد الاُصول للسيّد محمّد مهدي بحر العلوم الطباطبائي قدس سره ، ونقل عنه في مفاتيح الاُصول / 494 و 495 .

الأدلة قدّم عليه ، لعدم اندراجه في الدليل مع وجوده .

فإن قلت : إنّ حجيّة القسم الأوّل أيضاً ليست مطلقة ، فإنّه إنّما يكون حجّة مع عدم حصول معارض أقوى منه ، وأمّا مع حصوله فلا ريب في سقوطه عن الحجيّة .

قلت : المراد بإطلاقه في الحجيّة كون حجيته في نفسه مطلقة غير مقيّدة بشي ء كما في القسم الثاني لا وجوب العمل به مطلقاً ، إذ من البيّن كون المعمول به هو(1) أقوى الحجّتين ، ولا ملازمة بين الحجّية على الوجه المذكور ووجوب العمل به بالفعل ، فهناك فرق بين ترك حجتّه لوجود حجّة أقوى منها وعدم حجيّة شي ء من أصله » .

[ج 3 ص 316]

كلام المؤلف في شرحه
الفرق بين الدليل الاجتهادي والأصل العملى

أقول : الفرق بين القسمين أنّ الأوّل إنّما يدلّ على ثبوت الحكم لموضوعه بحسب الواقع ، من دون تقييد له بالجهل بحكم ذلك الموضوع ، وإن كانت حجّية ذلك الدليل - بمعنى لزوم العمل عليه - منوطة بعدم وجود معارض أقوى منه .

والثاني إنّما يدلّ على طريق عمل المكلّف في المقام الذّي لايعلم حكمه من حيث جهله بذلك .

ويأتي القسمان المذكوران في تشخيص الموضوعات أيضاً ، فإنّ من الطرق ما يفيد تشخيص الموضوع الواقعي والحكم به ولو في الظاهر ، كالبيّنة .

ومنها : ما يدلّ على طريق العمل عند الجهل به ، كالاُصول الجارية في

ص: 90


1- ضمير « هو » لم يكن في المطبوعة الحديثة .

الموضوعات .

ويسمّي الأوّل بالدليل الاجتهادي ، والثاني بالأصل العملي ؛ ومن المعلوم أنّه لا يعقل المعارضة بين الدليلين المذكورين ، فإنّ المعارضة إنّما يعقل مع اتّحاد موردهما واختلاف مقتضاهما ، فإذا دلّ الأوّل على حكم الشي ء في نفس الأمر ارتفع به الجهل المأخوذ في موضوع الثاني .

فإن قلت : إن كان الأوّل مفيداً للقطع بالواقع كان الحال على ما ذكر ، وإلاّ فالمعارضة على حالها .

قلت : إنّ الأوّل وإن لم يفد اليقين إلاّ أنّ الدّليل القاطع قد قام على حجيته ، فثبت به حكم الواقع ، فلا يبقي هناك شكّ يرجع فيه إلى الأصل .

فإن قلت : إنّ الدليل على الحجيّة لايزيل الشكّ المتعلّق بحكم المسألة في نفس الأمر ، بل الواقع باق على المجهولية ، غاية الأمر لزوم البناء في مقام العمل على أحد الوجهين ، نظراً إلى الدليل الأوّل عند سلامته عن المعارض ، فإذا كان مقتضى الدليل الثاني بناء العمل على الوجه الآخر حصلت المعارضة .

قلت : إنّ الجهل المأخوذ في موضوع الأصل العملي إنّما يراد به عدم العلم بشي ء من الوجهين ، مثلاً إذا ثبت بأصل البرائة أنّ التكليف المجهول مرفوع عن هذه الاُمّة فأيّ فرق بين العلم بالوجوب الواقعي والعلم بوجوب البناء عليه في الظاهر ؟ لصدق العلم بالتكليف في كلّ منهما وإن اختلف الجهة والحيثية ، فلا مجرى للأصل في شي ء من المقامين . وكذا إذا ثبت بالاستصحاب عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ، فكما ينتفي موضوعه مع العلم بزوال الأمر الأوّل كذا ينتفي مع العلم بلزوم العدول عنه ، لصدق اليقين على كلّ منهما .

نعم ، بالنظر إلى التدقيق العقلي لا مجال لإنكار المعارضة ، إذ يصدق في

ص: 91

الحقيقة أنّ بعض التكليف المجهول غير مرفوع ، وأنّ بعض ما يعلم ثبوته ويشكّ في زواله لايحكم عليه بالبقاء ، نظراً إلى الدليل الدالّ عليهما ، ومن المعلوم أنّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكليّة وبالعكس ، إلاّ أنّ المدار في الخطابات الشرعيّة على المفاهيم العرفية الجارية في المحاورات ، وظاهر أنّ المفهوم من أدلّة أصالة البرائة لزوم البناء عليها عند فقد الدليل بالكلية ، وكذلك الاستصحاب وساير الاُصول العملية ، فليس مفادها إلاّ ما يحكم به العقل في موارد حكمه ، ولاريب أنّ حكم العقل بالبرائة والاستصحاب إنّما هو معلّق على فقد كلّ من الدليلين وانتفاء اليقين على كلّ من الوجهين ، والأدلّة النقلية الواردة في الاُصول العملية إنّما تجري هذا المجرى ، بل هي مؤكّدة لحكم العقل مقرّرة له ، ومع الغض عن ذلك فلا شكّ أنّ ما دلّ على حجيّة الأدلّة الاجتهادية حاكم على مقتضى الأصل العملي ووارد عليه ، كما فصّل في محلّه .

فإن قلت : إنّا نرى الفقهاء يتمسّكون في المسألة الواحدة بكلّ من الدليلين ، فيستدلّون على المقصود بالاُصول العمليّة والأدلّة الاجتهادية ، وإذا كان الأصل ممّا لا مجرى له مع وجود الدّليل الاجتهادي امتنع الجمع بينهما .

قلت : إنّ من شأن المستدلّ أن يتمسّك بكلّ ما يوافق مطلوبه ، وإن كان بعض أدلّته مبنيّاً على الإغماض وقطع النظر عن بعض آخر ، فيستدلّ به على وجه التنزّل ، ولذا تراهم يقدّمون الأصل على الدليل غالباً ، لتحقّق مورده من الشّكّ قبل إقامة الدليل ، وربما يتمسّكون بالأصل أخيراً على معنى أنّ الدّليل إن تمّ فهو الحجّة وإلاّ فالأصل بحاله .

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك أنّ حجّية الاُصول العمليّة في مواردها غير مقيّدة بشى ء كما هو الحال في الدليل الاجتهادي ، وإنّما التقييد في مورد الأصل

ص: 92

لاشتراط الجهل في موضوعه ، فلا يقع المعارضة بين الدّليلين من رأس ، كما مرّ ، بخلاف ما إذا وقعت المعارضة في الأدلّة الاجتهاديّة ، فإنّه يرجع فيها إلى التعادل والتراجيح ، ففي العبارة نوع مسامحة في التعبير ، والمقصود ما ذكرناه .

قال قدس سره :

تقسيم آخر للأدلّة الشرعيّة
اشارة

ثمّ إنّ الأدلّة الشرعيّة تنقسم أيضاً إلى أقسام :

أحدها : ما يفيد القطع بالواقع كالإجماع المحصّل ودليل العقل .

وثانيها : ما يفيد الظنّ بالواقع ويكون حجيّته من حيث حصول الظنّ منه ، فالدليل هناك على الحقيقة هو الظنّ الحاصل من تلك الأدلّة ، فلولا حصول الظنّ منها لم يكن حجّة ، وحصول هذا القسم في الأدلّة غير ظاهر عندنا كما سنفصّل القول فيه إن شاء اللَّه تعالى .

ثالثها : ما يكون الحجّة خصوص اُمور ناظرة إلى الواقع كاشفة عنه بحسب دلالتها سواء كانت مفيدة للظنّ بالواقع أولا ، ومن ذلك كثير من الأدلّة الشّرعية كظواهر الكتاب والسنّة ، فإنّ حجيّتها غير منوطة بإفادة الظنّ بالحكم الواقعيّ كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة في المباحث المتقدّمة .

رابعها : أن لا يكون الدلالة على الواقع ملحوظة فيها أصلاً لا من حيث إفادة المظنّة بالواقع ولا من حيث النظر إليه والدلالة عليه ، بل يكون المناط فيه هو بيان حكم

ص: 93

المكلّف في ما يرد عليه من التكليف ، ويراد منه في الحال الّتي هو عليها كما هو الحال في أصل البرائة والاستصحاب ، فإنّ الثابت بهما هو الحكم الظاهريّ من غير دلالة على بيان حكم الواقع ، وإن اتّفق حصول الظنّ منهما بالواقع في بعض الوقائع .

وقد عرفت ممّا قررّناه وجود القسم الأوّل والأخيرين من الأقسام المذكورة .

وأمّا القسم الثّاني فلا يكاد يتحقّق حصوله في الأدّلة الشرعيّة ، بل الظاهر عدمه وإن تسارع إلى كثير من الأوهام كون معظم أدلّة الأحكام من ذلك القبيل ، إلّا أنّ الّذي يظهر بالتأمّل خلافه ، لعدم إناطة الحجيّة بحصول الظنّ بالأحكام الواقعيّة في شي ء من الأدلّة الشرعيّة كما يتبيّن الحال فيه إن شاء اللَّه تعالى . [ج 3 ص 317 - 316] .

بيان المؤلف في شرحه

أقول : أمّا القسم الأوّل فلا ينبغي الكلام فيه ، لدوران الحجّة فيه مدار اليقين وليس ورائه شي ء ، وأمّا القسم الأخير فهو مورد الاُصول العملية الّتي تقدّمت الإشارة إليها آنفاً ، سواء تعلّقت بالأحكام - كما هو المقصود في المقام - أو بالموضوعات ، فليس المطلوب فيها الدلالة على الواقع ، إنّما المقصود منها بيان حكم المكلّف عند جهله به في الإقدام والإحجام ، فلا يدور الأمر فيها مدار الظنّ بالواقع ، بل لايمنع من جريانها الظنّ بخلافه ما لم يقم على حجيته دليل ، وقد أغرب من زعم بناء الأمر في الاستصحاب وأصل البرائة ونحوهما على إفادة الظنّ ، فإنّ فساد ذلك مع شذوذه أمر مقطوع به لايكاد يعتريه شايبة ريب أو

ص: 94

شبهة ، كما تبيّن ذلك في محلّها .

وأمّا القسم الثّاني الّذي أنكر المصنف قدس سره حصوله في الأدلّة فإنّما غرضه عدم إناطة الحجية في شي ء من الأدلّة الاجتهادية الثابتة بالأدلّة الخاصّة بحصول الظنّ بالحكم الواقعي ، ليكون الحجّة هي نفس الظنّ الحاصل منها بالحكم الشّرعي ، لاعدم إناطة الحجيّة في شي ء من المقامات بحصول المظنّة ، لثبوت دوران الأمر في أسانيد الأخبار - من جهة صدورها وأحوال رجالها وتميز مشتركاتها - وفي معاني الألفاظ بحسب الأوضاع اللغويّة والعرفية والاُصول اللفظية وفي علاج الأخبار المتعارضة على نوع من المظنّة ، غير أنّ شيئاً من ذلك لايدور مدار الظنّ بنفس الحكم الواقعي ليكون هو الحجّة بنفسه ولو مقيّداً بحصوله من الطرق المخصوصة وإن صادفه في الأغلب .

نعم ، لو فرضنا انسداد باب العلم بالواقع والطريق معاً وتعذّر الرجوع إلى الاُصول العملية مع العلم بالتكليف رجعنا إلى العمل بالمظنة ، وكذا لو قلنا بحجية الشهرة والاستقراء الظني ونحو ذلك ، ونحن وإن أنكرنا ذلك على الوجه الكلّي لكنّه يتّفق في بعض المقدّمات الخاصّة ، كما يمكن فرضه في بعض الأمكنة والأزمنة أيضاً ، إلاّ أنّه خارج عمّا هو المقصود في المقام .

إنّما الكلام في أنّ العمل بالظواهر اللفظية هل يدور مدار الظنّ بالمراد الواقعي الّذي هو الحكم في نفس الأمر أو لا ؛ وهذه المسألة وإن لم تكن معنونة في كتب القوم إلاّ أنّ استكشاف الحال فيها من النظر إلى طريقتهم والتّأمل في سيرتهم والرجوع إلى كلماتهم والفحص البالغ في عباراتهم غير متعسّر على الفطن اللبيب .

غير أنّه اشتبه الأمر على بعض من قارب هذا العصر ، فخلط بين المقامات

ص: 95

المذكورة ، وزعم إناطة الحجيّة فيها بحصول الظنّ بالمراد الواقعي ، قائلاً : « إنّ أصالة الحقيقة لم يثبت دليل على اعتبارها ولو مع انتفاء المظنة ، لأنّ القدر الثابت هو حجيّة ما هو ظاهر مظنون بالنسبة إلى العالم بالاصطلاح ، وأمّا أزيد منه فلم يثبت »(1) .

وكأنّه إنّما فهم من لفظ الظاهر الّذي يدور الحجّة مداره نفس الظنّ المذكور وآكده ما هو معلوم من إناطة الأمر في المقامات المذكورة ونحوها بالظنون الخاصّة ، وانحصار الخلاف في مسألة الظنون بين القول بحجيّة الظنّون المطلقة والمخصوصة .

وقد شاع هذا الوهم بين طلبة هذا العصر حتّى زعموا جريان الطريقة عليه ؛ ومنشأ ذلك عدم التفرقة بين ظهور اللفظ لغةً وعرفاً في المعني المخصوص ، وحصول الدلالة بحسب العرف وانصرافه إليه في متفاهم الناس ، وكونه بحيث يحمل عرفاً على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن الحالية والمقالية المكتنفة به ، وبين الظنّ بالمراد الواقعي ؛ فظنّ إناطة الحجيّة به على وجه لا يبني على حمل اللفظ على ظاهره إلاّ مع حصول الظنّ بإرادته وانتفاء ما يوجب الشكّ فيه ، فلا يصلح البناء عليه بعد انتفائه ولو من غير حجّة شرعية ؛ كما إذا عارض القياس أو الاستحسان إطلاق النص ، أو دلّ خبر ضعيف على تخصيص العلم ، أو شكّ في ورود المخصّص عليه إذا كان هناك ما يقضي بحصول الشكّ المذكور ، فيتساوي احتمال وجوده وعدمه .

ص: 96


1- لم نجدها ولكن نقلها عنه في هداية المسترشدين 1 / 210 - 209 .

وربّما فصّل بعضهم(1) بين ما إذا كان احتمال إرادة خلاف الظاهر ناشياً من أمارة غير معتبرة ، فلا يصحّ رفع اليد عن الظاهر ، وبين ما إذا حصل الاحتمال من دليل معتبر ، كما إذا ورد في السنة المتواترة عامّ و ورد فيها أيضاً خطاب مجمل يمنع من حصول الظنّ بالواقع من اللفظ العام ، فلا يعمل بالأصل تعبّداً .

تفصيل السيّد المجاهد ونقده
اشارة

قال : ولا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّداً ، لانّ ذلك ممنوع ، فإنّ أكثر المحقّقين توقّفوا فيما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح .

والتحقيق في ذلك ما أفاد المصنّف قدس سره في مسألة أصالة الحقيقة ، من الفرق بين ما يقترن بحال أو مقال يصلح أن يكون مانعاً من دلالة العبارة بملاحظة العرف ، وباعثاً على عدم انصراف اللفظ إليه بحسب المتعارف في المخاطبة وإن لم يكن ظاهراً في خلافه ، وما لايكون كذلك .

ففي الصورة الاُولى لايتّجه الاستناد إلى ظاهر الوضع ، إذ الحجّة في المخاطبات العرفية إنّما هي ظاهر العبارة على حسب المفهوم في العرف والعادة ، فإذا قام هناك ما يرجّح الحمل على المجاز - لا بأن يرجّحه على الحقيقة ، بل بأن يجعل ذلك مساوياً للظهور الحاصل في جانب الحقيقة - لم يحصل التفاهم عرفاً ، لتعادل الاحتمالين ، وإن كان الظهور الحاصل في أحدهما وضعيّاً وفي الآخر عارضيّاً ، فيلزم التوقّف عن الحكم بأحدهما حتّى ينهض شاهد آخر ، إذ ليس انفهام المعنى من اللفظ مبنيّاً على التعبّد ، وإنّما هو من جهة حصول الظهور والدلالة العرفية .

ص: 97


1- هذا التفصيل للسيّد المجاهد قدس سره ، راجع : مفاتيح الاُصول / 36 - 35 ، فرائد الأصول 1/172 - 171 .

ومن هنا ذهب جماعة إلى التوقّف في المجاز المشهور(1) وخالف فيه جماعة فرجّحوا الحمل على الحقيقة ، وآخرون فحملوه مع الإطلاق على المجاز .

والأظهر القول بكلٍّ من الأقوال المذكورة بحسب اختلاف مراتب الشهرة ، فإنّ الشهرة وغيرها من القرائن القائمة في المقام ممّا تنضمّ إلى ظاهر الكلام(2) قد تقرّب المعنى المجازى إلى الفهم من غير أن يبلغ في الظهور إلى درجة الحقيقة ، فيتعيّن الحمل عليها وإن ضعف به الظهور الحاصل قبلها ، أو نجعل ظهوره مساوياً لإرادة الحقيقة أو غالبا عليها ؛ فيتوقّف في الأوّل ، ويحمل على المجاز في الثاني ، وفي الصورة الثانية لاوجه لاعتبار حصول الظنّ بالفعل بما هو مقصود المتكلّم في الواقع ، بل يصحّ الاستناد إلى ظاهر العبارة حتّى يثبت المخرج ، ومجرّد حصول الشكّ في المخرج ولو من الدليل المعتبر لإجماله أو الظنّ الغير المعتبر لا يكفي فيه ، ولا يجوز الخروج عن مقتضاه إلاّ بعد قيام الدليل على الخروج عنه ، ولايجوز التوقّف في ظاهر خطابٍ لأجل احتمال خطابٍ آخر لمعارضته ، أو رفع اليد عن الخطاب المعتبر للشّك الحاصل من أمر غير معتبر .

ويدّل على ذلك اُمور ؛

1 - حجيّة الظواهر والعمومات والمطلقات

الأوّل : إطباق علماء الأمصار في جميع الأعصار خلفاً عن سلف على التمسّك بالعمومات والمطلقات وساير الظواهر على الوجه المذكور حتّى يثبت المخرج عنها بدليل شرعي ، إذ من المعلوم أنّ أحداً ممّن يعتني به من علماء

ص: 98


1- انظر : المعالم / 53 والقوانين / 277 .
2- انظر : هداية المسترشدين 1 / 314 .

الخاصّة والعامّة - على اختلاف فرقهم وتباين آرائهم - لايستجيز رفع اليد عن عمومات الكتاب والسنّة ومطلقاتها بمجرّد الشكّ في تخصيصها أو تقييدها الناشي من خبر ضعيف في السند أو مجمل في الدلالة ، فضلاً عن غيره من ساير الاُمور الموجبة للشكّ في حكم الفرد المخصوص .

وتلك طريقة جارية مستمرّة بين العقلاء مدى الدهر في جميع التكاليف والخطابات الصّادرة في العادات من السيّد لعبده ، والوالد لولده ، والحاكم لرعيّته ، وكلّ مطاع لمطيعه ، وخصوصاً الأنبياء عليهم السلام لاُممهم ، والعلماء لمقلّديهم ، وساير المقامات كالأُوقاف والوصايا والوكالات وساير المعاملات من العقود والإيقاعات وغيرها ، ألا ترى أنّ العبد لو ترك امتثال الأمر العام في بعض الموارد معتذراً بالشكّ الحاصل من بعض الوجوه الضعيفة عدّ عاصياً ، ولو عاتبه السيّد على ذلك لم يكن ملوماً عند العقلاء .

ودعوى أنّ الشكّ المذكور إنّما يحصل ابتداء مع قطع النظر عن مقتضى الخطاب ، أمّا بعد ملاحظة ظاهر اللّفظ وعدم الوقوف على أمر صارف عنه بعد التتّبع البالغ فإنّما يحصل الظنّ بالمراد ، للزوم الإغراء بالجهل بدون إقامة الصارف عن مقتضى الظاهر ، وبعد عدم وقوف العلماء مع شدّة اهتمامهم في الفحص عن الأدلّة على الصارف الموجود ؛

مدفوعة بأنّه معارضة للوجدان ، أو إنكار لما يشهد به العيان ، لأنّ حصول الشكّ المذكور مع ذلك كلّه - كما هو المفروض - غير عزيز ، بل يتّفق في كثير من المقامات ، نظراً إلى اختلاف الأصحاب في المسألة ، أو غير ذلك من الخصوصيات المكتنفة بالمقام الموجبة لعروض الشكّ أو الظنّ الضعيف بالتخصيص وشبهه ، وكثيراً ما يعرض المانع من تقيّة أو شبهها عن بيان الصارف ،

ص: 99

أو يمنع عوارض هذه الأعصار المتمادية عن وصوله إلينا أو عن ثبوته عندنا .

وبالجملة ، فإنكار حصول الشكّ أو الظنّ الغير المعتبر مكابرة واضحة ، وجعله مانعاً عن التمسّك بالنصّ خروج عن الطريقة الجارية ، وكلّما دلّ على التمسّك بظاهره مع حصول الظنّ منه يدلّ عليه بدونه ، لشيوع كلّ منهما وجريان السيرة المستمّرة على الأخذ ، من غير فرق بين المقامين بوجه من الوجوه ، وهذا ظاهر .

2 - تحريم العمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة

الثاني : إنّ ضرورة المذهب قائمة على تحريم العمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والأخبار الضعيفة والأمارات الواهية ، لكن لا يشكّ عاقل في منع الاُمور المذكورة من حصول الظنّ بالمراد الواقعي من الخطابات الواردة ، لأنّ القطع بعدم الحجية لا يستلزم القطع بالواقع بالضرورة ، فلو كان الظنّ بالواقع شرطاً في التمسّك بالعمومات والظواهر لصحّ تخصيصها وتقييدها بالاُمور المذكورة ، وكان الحال فيها بالنسبة إلى ذلك هو الحال في تخصيصها بالأدلّة المعتبرة ، غاية الأمر أن يكون الوجه في تخصيصها بالثاني أمرين : اعتبار الدليل ، وانتفاء شرط التّمسك بالخطاب ؛ وفي الأوّل هو الأمر الثاني خاصة وإن لم يكن من التخصيص حقيقة . وهذا الفرق لا يجدي شيئاً مع اشتراكهما في الحاصل .

3 - حجيّة استصحاب العموم والإطلاق والظاهر

الثالث : إنّ حجيّة استصحاب العموم حتّى يثبت التخصيص ، واستصحاب الإطلاق حتّى يثبت التقييد ، واستصحاب الظاهر حتّى يثبت التأويل ، من جملة المسلّمات الّتي لم يخالف فيها أحد من القائلين بحجيّة الاستصحاب في الأحكام والمنكرين له ، وقد حكوا الإجماع عليه من الكلّ ، ولا ينبغي الشكّ في انعقاده على عدم كون احتمال مقارنتها بما يوجب الصرف عن ظواهرها باعثاً

ص: 100

على التوقّف عن العمل بها ، وتوهّم كون الإستصحاب مفيداً للظن(1) وهمٌ ، فاحش كما تبيّن في محلّه ، ولو كان الأمر على ما زعموا لكان اللازم إجراء الاستصحاب إلى أن يحصل الشكّ في التخصيص وغيره ، وهذا ممّا لا يقول به أحد .

4 - إطباق العلماء على الرجوع إلى التعادل والتراجيح عند تعارض الأدلّة

الرابع : إنّ العلماء أطبقوا على الرجوع إلى التعادل و التراجيح عند تعارض الأدلّة المعتبرة ، وعلى ما زعمه الجماعة لا يتصوّر التعارض في الأدلّة اللّفظية ، كما لا يتصوّر حصول المعارضة في الأدلّة القطّعية ، إذ كما يمتنع حصول القطع بالشي ء وضدّه كذا يمتنع حصول الظنّ بالشي ء وضدّه .

فلو كان المدار في فهم الألفاظ واعتبارها على الظنّ الفعلي بالواقع امتنع حصول المعارضة بين الكتاب والسنّة أو بين الأخبار الصحيحة ، كما لو كان المدار في ذلك على القطع ، بل كانت المعارضة إذن بين الحجّة وغير الحجّة والدليل وغير الدليل ، أو بين غير الأدلّة من ساير الوجوه الضعيفة الّتي يحرم العمل بها في الشريعة ، إذ بعد المعارضة إمّا أن يبقي الظنّ أو يعود إلى الشك ؛

فإن كان الثاني خرج كلّ من المتعارضين إذن عن الحجيّة ، وإن كان الأوّل انحصرت الحجّة في أحدهما ، لامتناع الظنّ بكلّ منهما ، فلا حاجة إذن إلى مسائل التعادل والتراجيح حتّى عقد القوم لذلك مبحثاً طويلاً ، واختلفوا في مباحثه اختلافا شديداً .

وتوهّم أنّ غرض القوم في ذلك تعيين ما يوجب الظنّ عند المعارضة وهمٌ فاحش ، لأنّه أمر راجع إلى الوجدان يختلف باختلاف خصوصيات المقامات ،

ص: 101


1- انظر : المحصول 5 : 169 ، فرائد الاُصول 2 : 148 .

ولا يقف على حدّ معيّن ، ولا يحتاج الأمر الراجع إلى الوجدان إلى عقد هذا المبحث العظيم ، ولا محصّل إذن للاختلافات الواقعة فيه ؛ على أنّ التخيير بين المتعارضين عند تعادلهما - كما ورد في النصوص وذهب إليه الأكثر - ممّا لا يعقل فيه حينئذٍ ، لعدم حصول الظنّ إذن من شي ء منهما ، فيخرج كلّ منهما عن الاعتبار .

وبالجملة ، فكما لا معنى لعقد المبحث في علاج المعارضة بين الأدلّة القطعية ، كذا لا معنى لعقده في الأدلّة الظنيّة بالمعنى المذكور ؛ وكذا الحال في كثير من المسائل المعنونة في مباحث الألفاظ بعد إناطة الأمر فيها بمطلق الظنّ .

5 - الظن بما هو الظنّ لا يعوّل عليه في الشريعة

الخامس : إنّ الظنّ بالحكم بما هو ظنّ لا معوّل عليه في الشريعة ، وقد ورد النهي عنه في الكتاب والسنّة ، وليس في شي ء من الأدلّة الدالّة على حجّية الأدلّة الشرعيّة ما يفيد إناطة الأمر فيها بمجرّد الظنّ بالحكم الواقعي ، وإنّما الحجة هي الخطابات والنصوص الواردة ، غاية الأمر إناطة الأمر في صدورها ودلالتها بالمظنّة الموجبة للوثوق وسكون النفس نظراً إلى الأدلّة الدالّة على ذلك ، وهو أمر آخر غير ما ذكره الجماعة ، كما أوضحه المحقّق المصنّف - طاب ثراه - هنا في الجواب عن الاعتراضات المتصوّرة في المقام ، والأمر أوضح من ذلك بحمداللَّه وليس العمل بظواهر الكتاب والسنة مع الشكّ في نفس الواقع أمرا نادراً ينصرف عنه إطلاق ما دلّ على حجيتها ولزوم العمل عليها ، بل هو الشايع عند التحقيق على ما مرّ ، ففي نفس تلك الأدلّة ما تغني عن التمسّك بغيرها ، فلاتغفل .

وبالجملة ، فلا شك في أنّا مأمورون مكلّفون بالعمل بالكتاب والسنّة والتمسّك بهما في الأحكام الشرعيّة ، كما دلّت عليه الآيات والروايات المتواترة في المعنى ، حسب ما فصّل في محلّه ، ولا شكّ في صدق ذلك مع التمسّك

ص: 102

بظواهرهما اللغوية ومداليلهما العرفية ، حصل الظنّ منهما بالواقع أو لم يحصل لمانع آخر ، ولا أقلّ من حصول الظنّ من الأدلّة المذكورة بإرادة الإطلاق المذكور من التمسّك بهما ، فلو كان الإطلاق حجّة مع الظنّ بالمراد لدلّت الأدلّة المشار إليها على عدم إناطة الحكم به ، وكفى به دليلاً كما ذكرناه .

في أنّ المدار في حجيّة اخبار الآحاد على الظن أو على التعببد ؟
اشارة

قال قدس سره :

فإن قلت : إنّ المدار في حجيّة أخبار الآحاد على الظنّ دون التعبّد من حيث الإسناد ومن جهة الدلالة كما سيجى ء تفصيل القول فيه في محلّه ، ومع إناطة الحجيّة بالمظنّة لايعقل المنع من حصول الظنّ منها مع القول بحجيّتها ، وأيضاً الوجوه الواردة في التراجيح عند تعارض الأخبار إنّما يناط الترجيح بها بالأخذ بالأقوى والرّجوع إلى ما هو الأحرى فيكون الأمر دائراً مدار الظنّ دون غيره ، إذ لا يعقل الترجيح بين الشكوك لمساواتها في الدرجة .

قلت : هنا أمران ينبغي الفرق بينهما في المقام ليتبيّن به حقيقة المرام :

أحدهما : كون الخبر مفيداً للظنّ بما هو الواقع حتّى يكون الأرجح في نظر المجتهد أنّ ما يفتي به هو المطابق لمتن الواقع .

ثانيهما : كون الخبر محلّاً للوثوق والاعتماد من حيث الدلالة والإسناد ، ولو كان له معارض كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من الاخر .

ص: 103

وتبيّن الفرق بين الأمرين بأنّ الظنّ الحاصل في الصورة الاُولى يقابله الوهم ، لوضوح كون ما يقابل الظنّ بالواقع وهماً .

وأمّا الحاصل في الصورة الثانية فيمكن أن يقابله كلّ من الظنّ والشكّ والوهم ، إذ ليس متعلّق الظنّ هناك إلّا الصدور والدلالة ، ولا منافات بين حصول الظنّ بصدور خبر والظنّ بصدور معارضه أيضاً أو الشكّ فيه . وكذا الحال في الظنّ بدلالة أحدهما على مضمونه والظنّ بدلالة الآخر أيضاً أو الشكّ فيه . فغاية الأمر أن يؤخذ حينئذٍ بالمظنون منهما أو بأقوى الظنّين منهما ، وذلك لايستدعي الظنّ بما هو الواقع في حكم المسألة حتّى يكون ما يقابله وهماً .

إذ من البيّن أنّ مجرّد ظنّ الصدور أو الدلالة لا يقتضي الظنّ بالواقع ، إذ قد يحتمل المكلّف - احتمالاً مساوياً لعدمه - وجود ما يعارضه بحسب الواقع ، بل قد يرى ما يعارضه بسند ضعيف مع وضوح عدم قضاء ضعف الخبر بظنّ كذبه ومع الشكّ فيه لا يمكن تحصيل الظنّ بالواقع من الخبر الآخر وإن كان ذلك حجّة وهذا غير حجّة ، فإنّ مقام الظنّ غير مقام الحجيّة ، بل قد يكون ما يعارضه مظنوناً أيضاً من حيث الإسناد والدّلالة ، إذ لا منافات بين الظنّين .

غاية الأمر حينئذٍ أن يؤخذ بأقوى الظّنين المفروضين ، وهو أيضاً لايستلزم ظنّاً بالواقع ، ومجرّد كونه

ص: 104

أقوى سنداً أو دلالة لا يقضي بالظنّ بكذب الآخر أو سقوط دلالته ، ومع عدم حصول الظنّ به لايعقل حصول الظنّ بالحكم الواقعيّ في المقام .

فإن قلت : كون الخبر مفيداً للظنّ وعدمه إنّما يلحظ بالنظر إلى الواقع ، فإذا كان أحد الخبرين المفروضين مفيداً للظنّ بالنظر إلى الواقع دون الآخر ، أو كان مفيداً للظنّ الأقوى والآخر للأضعف فلا محالة يكون الحكم الحاصل من أحدهما راجحاً على الآخر ، فيكون ذلك مظنوناً والآخر موهوماً ، وإن كان الأضعف مفيداً للظنّ في نفسه مع قطع النظر عن الأقوى ، فإنّ ملاحظة الأقوى يمنع من حصول الظنّ من الأضعف ، بل يجعله موهوماً فكيف لو كان مشكوكاً في نفسه ؟ فالحاصل للمجتهد هنا أيضاً هو الظنّ بالواقع المقابل للوهم كما فرض في الصورة الاُولى .

قلت : ليس الأمر على ما ذكر ، وكشف الحال أن يقال : إنّه إن كان الخبران المفروضان على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه وكان أحدهما أقوى من الآخر كان الأمر - على ما ذكر - لظنّ الكذب حينئذٍ في طرف المرجوح ، وأمّا لو كان الجمع بينهما ممكناً كالعامّ والخاصّ والحقيقة والمجاز لكن لم يكن الخاصّ والخبر المشتمل على قرينة المجاز بالغاً إلى حدّ يفيد الظنّ بالصدور وكان مشكوكاً من تلك الجهة لم يجر العمل به ولا يجوز أن يترك

ص: 105

الحجّة من أجله ومع ذلك لا يعقل حصول الظنّ بإرادة العموم من العامّ المفروض بالنظر إلى الواقع وكذا إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ مع الشكّ في ورود التخصيص عليه في الواقع أو قيام قرينة المجاز .

والحاصل أنّه مع استفادة المعنى من اللفظ بحسب فهم العرف لا يصحّ تركه بمجرّد الشكّ الحاصل في تخصيصه أو الخروج عن ظاهره ، بل لابدّ من العمل به إلى أن يثبت المخرج عنه .

وقد عرفت ممّا قررّناه في المباحث السالفة أن مداليل الألفاظ إنّما يبنى حجيّتها على كونها مفهومة منها عند أهل اللسان ، سواء حصل منها الظنّ بالمراد أو لا ، حسب ما فصلّنا القول فيه . ومن ذلك تعرف الحال في باقي المعارضات مع عدم بلوغ المعارض إلى حدّ الحجيّة أو بلوغه إليه وعدم مكافئته له في القوّة ، هذا بالنظر إلى الدلالة .

وأمّا بالنسبة إلى الإسناد فنقول : إنّ ترجيح أحد الخبرين من حيث القوّة بحسب الصدور لا يقضي بالظنّ بكذب الآخر وعدم صدوره إلّا في الصورة المتقدّمة ، ولا يكاد يوجد تلك في الأخبار المعروفة ، وأمّا في غيرها فلا يقضي قوّة الظنّ بصدور أحد الخبرين بوهن(1) صدور الآخر

ص: 106


1- في المطبوع : لوهن .

وعدم ثبوته في الواقع ، إذ المفروض إمكان صدور الخبرين وورودهما عن الحجّة ، إلّا أنّه لمّا كان صدور أحدهما مظنوناً والآخر مشكوكاً كان علينا الأخذ بالمظنون ، وكذا لو كان أحدهما مظنوناً بالظنّ الأقوى والآخر بالأضعف تعيّن الأخذ بالأقوى ، ولا يلزم من ذلك كون الحكم المدلول عليه بالأقوى مظنوناً ليكون خلافه حسب ما تفتضيه الخبر الآخر موهوماً ، إذ لا تجامع ذلك الشكّ في صدق الخبر الآخر أو ظنّ صدقه بالظن الأضعف ، مع أنّه يحصل الظنّ أو الشكّ المذكوران في غالب الحال .

فإن قلت : إذا كان أحد الخبرين أقوى من الآخر كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل من معارضه وإن تساويا في وجه الدلالة أيضاً فضلاً عمّا لو كانت دلالته أيضاً أقوى فكيف يقال حينئذٍ بعدم حصول الظنّ من الأقوى ؟

قلت : على فرض كون دلالته أيضاً أقوى لايلزم منه كون الحكم مظنوناً بالنظر إلى الواقع فكيف لو تساويا فيها ؟ وذلك لأنّ غاية ما يقتضيه قوّة الإسناد كون الوثوق بصدور تلك الرواية أكثر من الوثوق بصدور الآخر ، وما يقتضيه قوّة الدلالة كون إفادته لمضمونه أوضح وأقوى من إفادة الآخر ، ولا يستلزم ذلك الظنّ بكون الحكم المدلول عليه هو المطابق للواقع ، إذ قد يحتمل عنده وجود الصارف عنه احتمالاً متساوياً كما إذا كان الخبر الآخر مشتملاً على

ص: 107

مشترك دائربين معنيين يكون حمله على أحدهما صارفاً لهذه الرواية عن معناها ، فإنّه مع تساوي الاحتمالين هناك ولو مع الشكّ في صدوره عن الإمام علیه السلام بعد ملاحظة هذه الرواية المعارضة لايعقل حصول الظنّ من الرواية القويّة ، لوضوح اقتضاء الظنّ بكون الشي ء مطابقاً للواقع كون ما يقابله موهوماً ، وهو لايجامع الشكّ فيه حسب ما هو الحال في المقتضي الخبر الآخر .

فإن قلت : إذا كان الحكم الحاصل من الخبر المظنون الصدور أو الخبر الأقوى مشكوك المطابقة للواقع كان الحال فيه على نحو غيره من الخبر المشكوك المطابقة كالرواية الضعيفة أو الخبر الّذي دونه في القوّة فكيف يؤخذ به ويطرح الآخر مع تساويهما في ذلك ؟

قلت : أيّ مانع من ذلك ؟ بعد اختيار كون الحجّية غير منوطة بمظنّة إفادة الواقع كما هو المدّعى ، فإذا وجدت شرايط الحجّية في خبر دون آخر(1) اُخذ به وإن شارك الآخر في عدم إفادة المظنّة بالواقع في خصوص الواقعة .

ودعوى كون التراجيح مبنيّة على الظنون دون التعبّد لا يراد به حصول الظنّ بالواقع ، بل المقصود كون الخبر المشتمل على الرجحان في حد ذاته أقرب إلى مطابقة

ص: 108


1- في المطبوعة الحديثة : « دون خبرٍ » .

الواقع ، فإنّه إذا كان أقوى من حيث الصدور أو من حيث الدلالة كان بالترجيح أحرى ، وإن كان مساوياً لما يترجّح عليه في عدم إفادة الظنّ بالواقع ، إلاّ أنّ جهات الشكّ في إصابة الواقع قد يتّحد وقد يتعدّد ، والجهات المتعدّدة قد يكون أقلّ وقد يكون أكثر ، وحصول الترجيح بين الوجوه المفروضة ظاهر مع اشتراك الكلّ في عدم إفادة الظنّ بالواقع ، وكون المكلّف مع ملاحظتها في مقام الشكّ في الإصابة نظراً إلى حصول الجهة المشكّكة متحدّة كانت أو متكثرة ، ومن هنا يعلم إمكان حصول الترجيح بين الأخبار مع إفادتها للظنّ وسنفصّل القول في ذلك إن شاء اللَّه تعالى في محلّه . وليس المقصود ممّا قررّناه المنع من حصول الظنّ بالواقع كليّا ، بل المراد عدم استلزامه له وعدم إناطة الحجيّة بحصول المظنّة وإن حصل منه الظنّ بالواقع في بعض الأحيان .

ويؤيد ما ذكرناه أنّه قد يقوم في المقام إمارات ظنية كالشهرة أو القياس أو عدم ظهور الخلاف ونحوهما(1) ممّا يفيد ظنّاً بالحكم غير معتبر شرعاً في مقابلة الخبر الصحيح ونحوه من الأدلّة المعتبرة . ولاشكّ حينئذٍ في عدم حصول الظنّ من الدليل لاستحالة تعلّق الظنّين بالمتقابلين

ص: 109


1- في المطبوعة الحديثة : « نحوها » .

في آنٍ واحد مع عدم سقوط الدليل بذلك عن الحجّية ، والقول بأنّ قيام الدليل على عدم حجّية تلك الوجوه قاضٍ بعدم حصول الظنّ منها كما يستفاد من بعض الأجلّة ممّا لايعقل وجهه . [ج 3 ص 321 - 317]

توضيح مختصر للمؤلف

أقول : إنّ شرح هذا الكلام ظاهر لمن تدبّره ، ومحصوله أنّ الظنّ بالحكم الواقعي من حيث هو ليس من الحجّة الشرعيّة ليدور الأمر في الأدلّة الشّرعية مداره ، وإنّما الحجّة هى مداليل الخطابات الشرعيّة ، ومفاهيم النصوص الواردة في الكتاب والسنّة ، وظواهر الأخبار المعتبرة ، على حسب ما دلّت عليه الادلّة الدّالّة على حجيّتها من الآيات والروايات المتكاثّرة بل المتواترة في المعنى ، والإجماع المعلوم من طريقة القوم ، كما فصّل في محلّه . ومن المعلوم أنّ شيئاً من ذلك لايدلّ على إناطة الحجيّة في شي ء من ذلك بإفادة الظنّ بالواقع ، كما هو الحال في الطرق المقرّرة لمعرفة الموضوعات ، كالأقارير والبيّنات وما أشبههما . ومع حصول المعارضة بينهما يرجع إلى ما كان بالترجيح أحرى ، على ما تقرّر في موضعه ، فالمتّبع هو الدليل دون مجرّد المظنّة .

وتوهّم انصراف تلك الأدلّة إلى حجيّة ما أفاد المظنة وهمٌ فاحش ، لأنّ أسباب الشكّ غالبة ، ومع وجودها لا يحصل الظنّ من الأدلّة ، فكيف يسوغ الإعراض عن الدليل لبعض موجبات الشكّ ؟ فليس فرض الشكّ نادراً ليمكن دعوى انصراف إطلاقات الأدّلة ، مع أنّ مجرّد ندرة الوجود لايكفي في دعوى الانصراف ، كما تقرّر في محلّه . وفي إمعان النظر في طريقة القوم في موارد الاحتجاج كفاية لمن نظر ، فتدبّر .

ص: 110

المطلب الثالث في أنّ المدار من الأدلّة الشرعيّة حصول العلم منها

اشارة

قال قدس سره :

ثالثها : أنّ مدار حجّية الأدلّة الشرعيّة على حصول العلم منها واليقين دون مجرّد الظنّ والتخمين ، سواء كانت مفيدة للعلم ابتداءً أو بواسطة أو وسايط ، فلا عبرة بما إذا حصل منها الظنّ من حيث هو ظنّ من دون انتهائه إلى اليقين .

ويدلّ عليه العقل والنقل ، إذ من البيّن استقلال العقل في إيجاب دفع الضرر عن النفس سيّما المضارّ الاُخرويّة لعظمها ودوامها ، فلابدّ من تحصيل الاطمئنان بارتفاعها والأمن من ترتّبها ، ولا يحصل ذلك بمجرّد الظنّ لقيام الاحتمال الباعث على الخوف ، ولأنّ الأخذ بطريق الظنّ ممّا يغلب فيه عدم الانطباق ويكثر فيه الخطاء فلا يؤمن الأخذ به من ترتّب الضرر [ج 3 ص 322 - 321] .

بيان المؤلف حول تأسيس الأصل في عدم حجيّة الظنّ من حيث هو ذكر أدلّتها والمناقشة فيها

وأقول : أراد - طاب ثراه - تأصيل الأصل الاُولى في عدم حجيّة الظنّ من حيث هو ، وظنّي أنّ ذلك معلوم بالضرورة من مذهب أهل البيت عليهم السلام غير محتاج إلى إقامة الأدلّة عليه ، مع أنّ الأدلّة الأربعة متطابقة في الدلالة على ذلك .

أمّا النقل ، فأكثر مِن أن يحصى ، كما سيجى ء الإشارة إليه ، إن شاء اللَّه .

وأمّا الإجماع ، فظاهر لمن أمعن النظر ، وكفاك ما ذكره المحقّق البهبهاني - طاب ثراه - (1) مع ما هو المعروف من طريقته من كون عدم الجواز بديهيّاً للعوام فضلاً عن العلماء .

وأمّا العقل ، فقد يستدلّ منه بوجوه ؛

ص: 111


1- انظر : الفوائد الحائرية / 139 ، الفائدة التاسعة .

منها : ما أفاده الوالد المحقّق - طاب ثراه - هنا ، حيث استدلّ قدس سره على ذلك بما تقرّر في العقول من وجوب ا لتحرّز عن الضرر المخوف .

وقد يناقش فيه : ب « أنّ العقل إنّما يستقلّ بإدراك ذلك حيث يظنّ بالضرّر ، ومن المعلوم أنّ الظنّ بالضرر إنّما يحصل من ترك العمل بالظنون المتعلّقة بالتكاليف الشرعيّة ، إذ مع العمل بها إنّما يحتمل الضرر احتمالا موهوماً ، ولا يستقلّ العقل بالاحتراز عنه ، بل ربما يستقبح في العقول التحرّز عن الاحتمالات الوهميّة ، كالفرار عن قرب الجدران المحكمة لاحتمال سقوطها ، أو عن الأطعمة والأشربة لاحتمال ترتّب الضرر عليها ، فهذا الدليل بالدلالة على ضدّ المقصود أولى » .

والجواب : إنّ الخوف الحاصل من ترك العمل بالمظنون إنّما يتمّ حيث لا يكون هناك طريق عقليّ أو شرعيّ يعوّل عليه في ذلك المقام ، أمّا مع وجود الاُصول العمليّة وساير الطرق الشرعيّة الموجبة للأمن من ضرر المخالفة فلا يتصوّر هناك خوف يوجب الاحتياط فيه ، كما سيجى ء بيانه إن شاء اللَّه تعالى عند احتجاج الخصم بذلك على وجوب العمل بالمظنة .

أمّا مع قطع النظر عن ذلك فلا يجوّز العقل إقدام المكلّف على أمر لايؤمن من ترتّب الضرر العظيم عليه ، من غير فرق بين المظنون والمشكوك والموهوم .

أمّا أوّلاً : فلأنّ الضرر المترتّب على العمل بالمظنون وإن كان موهوماً إلاّ أن الضرر المحتمل حيث كان بالغاً حدّاً لانهاية لشدّته وطول مدّته ودوام بقائه فلا محالة يستقبح العقل إقدام المكلّف عليه واقتحامه فيه مع عدم وجود طريق

ص: 112

يقتضي الأمن من ترتّبه .

وأمّا ثانياً : فلأنّ جواز العمل بهذا الظنّ والتعويل عليه أمر مشكوك فيه ، والشكّ في ذلك يقتضي الشّك في ترتّب الضرّر عليه ، وهو سبب الخوف الموجب لحكم العقل بالاحتراز عنه .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ العمل بالظنّ في مسألة واحدة وإن كان قاضياً بكون الضرر المترتّب عليه موهوماً ، إلاّ أنّ بناء العمل على ذلك يؤدّى إلى الظنّ بالضرر ، لابتناء المسائل المتكثّرة بل الغير المحصورة إذن على الوجوه التخمينيّة ، فلا محالة يحصل الشكّ بل الظنّ بالمخالفة في بعض تلك الوجوه . وهذا مراد المصنّف قدس سره من الوجه الأخير .

وتوهّم أنّ الظنّ الحاصل في كلّ مسألة يقتضي الظنّ بإصابة الواقع في المجموع وهمّ فاحش ، بل ربّما يجتمع مع القطع بالمخالفة في بعضها ، ألا ترى أنّك لو قطعت بوجود الحرام الواحد في الأموال المتكثّرة ، والنجس الواحد في الأواني الغير المحصورة ، بل المحصورة في العدد الكثير ، فلا محالة يحصل الظنّ بالحلّيّة في كلّ فرد فرد بانفراده ، وإن كان المجموع مشتملاً على الحرام قطعاً . وكذلك الفقيه ربّما يقطع بمخالفة بعض الظنون الحاصلة له من أوّل الفقه إلى آخره للواقع ، أو يظنّ بذلك أو يشكّ فيه ، إلاّ أنّه لدورانه بين غير المحصور لا عبرة به .

فإن قلت : إنّ الظنّ قد يتعلّق بغير ما يترتّب الضرّر على العمل في مورده .

قلت : إنّ تعلّق الظنّ بالأحكام الوضعيّة ، فلا ريب في رجوعها إلى التكليفيّة ، فالعمل به اقتحام في ضرره المترتّب على عدم الإصابة ، إذ الغالب فيه دوران الأمر بين المحظور وغيره ، وإن تعلّق بما لا محذور فيه من الأحكام التكليفيّة ، فلا ريب أنّ الفتوى به والعمل عليه تقوّل على اللَّه بغير العلم ، والخوف

ص: 113

المترتّب على ذلك أمر عظيم ، ويستقبح العقل اقتحام المكلّف فيه وإقدامه عليه ، وهذا جار في الأوّل ، كما لا يخفى .

ومنها : إنّ العقل يستقلّ بإدراك أصل البرائة حيث لا يعلم بالتكليف ، وأصل الاشتغال بعد ثبوت التكليف حيث لا يعلم البرائة ، وبالاستصحاب حيث لا يعلم بزوال الحالة السابقة ، وما أشبه ذلك . وقد ورد بها الشرع أيضاً على وجه التنبيه على حكم العقل والتقرير عليه ، على ما تقرّر في محلّه .

فإذا تعلّق الظنّ بخلاف شي ء من ذلك كانت الأدلّة الدالّة على تلك الاُصول قاضية بعدم جواز التعويل على الظنّ ، إلاّ أن يمنع حكم العقل في مورد الظنّ في بعض المقامات ، أمّا إذا تعلّق الظنّ بما يوافق تلك الاُصول ففي الاُصول المذكورة كفاية عنه .

وبالجملة ، مورد الظنّ إمّا أن يكون موافقاً للأصل العملي ، أو مخالفاً له .

وعلى الأوّل ، فالعمل على الظنّ ليس لكونه دليلاً ، بل لعدم الحاجة فيه إلى الدّليل .

وعلى الثاني ، ففي أدلّة الاُصول كفاية في المنع من العمل بالظنّ . نعم ، ليس كلّ أصل ممّا يستقلّ به العقل ، بل بعضه ممّا يستفاد من الشرع .

ومنها : أنّ العقل قاضٍ بأنّ المظنون ليس بأمرٍ ثابت يعوّل عليه ليرجع في الاُمور الدينية إليه ، وإليه الإشارة في بعض الآيات الشريفة الواردة في الاحتجاج على الكفّار باتّباع الظنّ ، ولولا أنّ ذلك يدلّ عليه العقل لما تمّ الاحتجاج بذلك عليهم ، ففي حسن الاحتجاج عليهم بذلك دلالة على ظهوره عند العقل والعقلاء .

ومنها : أنّ العقل يستقبح التزام العبد عن قبل مولاه بما لايعلم بوروده عنه على أنّه منه ، بخلاف الإتيان به لرجاء كونه منه من دون تعبّد بمقتضاه ، فإنّه من

ص: 114

الاحتياط المستحسن عقلاً وشرعاً ، ما لم يعارضه احتياط آخر ولم يثبت خلافه .

أمّا الالتزام والتديّن به على أنّه من سيّده مع عدم علمه فإنّه تشريع لا يرتضيه العقل أو العقلاء ، بل هو مع الشكّ في رضا الشارع بالعمل به تعبّد بالشّك ، فلا يصحّ الاستناد إليه والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه في حقّه ، أمّا مجرّد العمل على خبرٍ من غير التزامٍ به فإنّما يستقبح عند مخالفته لبعض الاُصول والقواعد العقليّة ، كما مرّت الإشارة إليه . كذا أفاده بعض المحقّقين(1) ، وفيه نظر .

ومنها : إنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، والعقل في مثله قاضٍ بالتخيير ؛ أو ترجيح جانب التحريم ، بناء على تقدّم دفع المفسدة على جلب المنفعة ، على ما تقّرر في محلّه ، بل قد يقال : إنّ عدم العلم هنا بالوجوب كافٍ في ثبوت التحريم .

ومن غريب الكلام ما صدر عن بعض الأعلام من التمّسك في المقام بأصل الإباحة ، وأين ذلك من الحجيّة ؟ فإنّ معنى الحجّة أنّها إن دلّت على التكليف بالفعل أو الترك تعيّن الالتزام به ، وإن دلّت على الحكم الوضعي لزم العمل بمقتضاه ، وهل في أصل الإباحة ما يقتضي بشي ء من ذلك ؟ غاية الأمر إنّها إن دلّت على الإباحة حكم بها لا لأجل قيام الحجّة عليها ، بل لأنّ الأصل فيما لم يقم على تحريمه أو إباحته الحجّة الحكم بالإباحة ، وليس ذلك من الحجّية في شي ء .

ومنها : إنّ الحجيّة أمر حادث ، والأصل في كلّ حادث مشكوك فيه عدمه ، وأصل العدم معدود في الأدلة العقلية ، فتأمّل .

ص: 115


1- هو الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد 1 / 131 .

ومنها : إنّه لاشكّ في وجوب تحصيل الاعتقاد بالحكم الشرعي ، والأمر فيه دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ، فيرجع بعد العلم بوجوب تحصيل الاعتقاد إلى الشّك في المكلّف به ودورانه بين التعيين والتخيير ، فيحكم بتعيين تحصيل الاعتقاد القطعي ، ليحصل القطع بالبرائة بعد القطع بالاشتغال .

وفيه نظر ، بل الأولى أن يقال : التكليف بالواجبات والمحرّمات يقيني ، ولا يعلم كفاية مطلق الاعتقاد الراجح فيهما ، فالقطع بالبرائة يقتضي تحصيل اليقين ، فتأمّل .

احتجاج إبن قبة في المنع من التعبّد بخبر الواحد عقلاً ونقده

ومنها : ما احتجّ به إبن قبه(1) في المنع من التعبّد بخبر الواحد عقلاً ، من أنّ العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراماً وبالعكس ، وهذا الوجه كما ترى جارٍ في مطلق الظنّ .

وأجيب عنه تارةً بالنقض بمثل الفتوى والبيّنة واليد وما أشبه ذلك من الأمور الّتي لا تفيد العلم بل والقطع أيضاً ، إذ قد يكون جهلاً مركّباً .

واُخرى بأنّه إن اُريد تحريم الحلال الظاهري وبالعكس فالملازمة ممنوعة ، وإن اُريد تحريم الحلال الواقعي في الظاهر وبالعكس فبطلان اللازم في محلّ المنع .

والتحقيق أنّه إن اُريد المنع من العمل بغير العلم ما لم ينته إلى اليقين فالدليل لاغبار عليه ومرجعه إلى ما ذكره المحقّق المصنّف - طاب ثراه - من لزوم التحرّز عن الضرر المخوف المترتّب على المخالفة ؛ ولا يرد النقض بما ذكر ، لثبوت

ص: 116


1- انظر : معارج الأصول / 141 .

اعتباره وتحقّق انتهائه إلى اليقين ، وبه يحصل الأمن من الضرر .

وإن اُريد عدم جواز نصب الشارع مثلاً لغير العلم طريقاً إلى معرفة الحكم الشرعي فالإيرادان واردان عليه .

غاية ما يمكن في تصوير الاحتجاج على ذلك أن يقال : إنّه على تقدير المخالفة إمّا أن يبقي الواقع على حاله ، أو يكون مشروطاً بالعلم ينتفي بانتفاء شرطه .

مصلحة العمل على الظنّ يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع ونقده

والأوّل يستلزم اجتماع الحكمين المتضادّين في محلّ واحد ، والثاني يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه ، للقطع بأنّ الفاقد لشرط التكليف - كالاستطاعة للحجّ والنصاب للزكاة وغير ذلك - مصيب لحكمه الواقعي ، فيلزم إصابة كلّ من المجتهدين المتخالفين لما هو الواقع في حقّ كلّ منهما ، لأنّ الحكم الواقعي في حقّ المصيب منهما غير الحكم الظاهري في حقّه ، والحكم الظاهري في حقّ الآخر عين الواقع ، إذ ليس له في الواقع إذن حكم آخر ، إذ المشروط ينتفي حقيقته عند عدم شرطه .

والجواب أنّ التصويب إنّما يلزم لو فرض في قيام الإمارة المفروضة حدوث مصلحة راجحة على المصلحة الواقعية الّتي تفوت عند المخالفة ، وتكون تلك المصلحة هي الباعثة على نصب تلك الأمارة ، كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب حصول الظنّ بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها في الواقع ، فيختلف حالها في نفس الأمر بحسب اختلاف المكلّفين في الاعتقاد .

وهذا وإن كان قد يستفاد من بعض عبارات القوم ، كما قال في النهاية تبعاً للشيخ في العدّة : « إنّ الفعل [ الشرعي ] إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن

ص: 117

يكون له مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا الّتي يجوز كون الفعل عندها مصلحة »(1) ؛ إلاّ أنّ في بطلان القول بالتصويب المجمع عليه بهذا المعنى - كما اعترف به العلّامة في النهاية وغيره - غُنية عن إطالة القول في بيان وجوه فساده .

نعم ، يتّجه نحو ذلك في الشرايط العلميّة الراجعة إلى اشتراط الحكم بنفس العلم والجهل دون الواقع ، فالشرط إذن هو العلم ، وهو واقعه دون المعلوم مع قطع النظر عن العلم به ، وهو أمر آخر لا ربط له بما نحن فيه ، بل الوجه أنّ الطريق الشرعي إنّما يجب العمل به لكونه طريقاً إلى الواقع موصلاً إليه ولو في الجملة .

والوجه في تشريعه عند تعذّر العلم بالواقع ظاهر ، وكذا مع تعسّره ولو نوعاً ، لأنّ الحكمة إنّما يقتضي بناء الشرع على غاية السهولة ، ليشترك في العمل به عموم المكلّفين الّذين يغلب عليهم الضعفاء والمستضعفين ، فتفويت المصالح الواقعية في المقامات الّتي يتّفق فيها المخالفة للواقع خير من تفويتها على أكثرهم في جميع المقامات ، مع ملاحظة ما يقتضيه الحكمة البالغة من اشتراك الجميع في التكليف ، والتسوية بين القويّ والضعيف ، فينبغي بناء الشرع على ما يقتضيه حال أضعفهم على الوجه الكلّي ، ثمّ يستثنى مع ذلك أيضاً ما يتّفق عروضه من المعاذير القاضية بتعذّر الامتثال أو تعسّره ، فإنّ الاُمور الإتّفاقية لاتقف على حدّ معيّن .

وأمّا نصب الطريق الظنيّ مع تيسّر الوصول إلى الواقع لعموم المكلّفين فلا

ص: 118


1- نهاية الوصول « مخطوطة » نقل عنه في الفرائد 1 / 110 ، وانظر : بحر الفوائد 1 / 70 - عدّة الاُصول 1 / 103 .

يمتنع أن يكون لمصلحة وحكمة تقتضي ذلك ، لاعلى وجه تزاحم مصلحة الواقع ، بحيث يكون نفس الفعل المفروض من حيث كونه مدلول ذلك الطريق بحسب الواقع ذا مصلحة راجحة على مصلحة الواقع على تقدير المخالفة ، بل الواقع على حاله لا يتغيّر بذلك عن وجهه ، وإنّما الحكمة في تشريع الحكم اقتضت على عدم إلزام المكلّف بتحصيله على جميع الأحوال ، والاكتفاء بتحصيله من الطريق المفروض المؤدّي إليه ولو في الجملة ، فيكون معذوراً عند المخالفة في حكم الشرع ، لا آتياً بما عليه في الواقع .

وتوضيح الحال أنّ نصب الطريق الّذي لايفيد العلم يتصّور على وجوه عديدة ؛

منها : أن يكون الملحوظ فيه مجرّد الكشف عن الواقع والوصول إليه ، من غير أن يكون هناك مصلحة وحكمة سوى ذلك ، وإنّما يكون ذلك حيث لا يكون هناك طريق أقرب إلى الواقع وأكثر إيصالاً إليه منه ، أو يكون ذلك ولكن يشتمل على مفسدة أو علّة تأبى في الحكمة من نصبه . وحينئذٍ فيشترك في الحجّية كلّ طريق يوافقه في الكشف عن الواقع وانتفاء المانع ، لتحقّق مناط الحكم فيه .

ويتصوّر ذلك غالباً عند انسداد باب العلم بالواقع ، إذ الطريق العلمي أقرب إلى الواقع من غيره .

ويتصّور مع انفتاحه أيضاً ، إذ قد يكون في حصر الطريق في القطع من المفسدة ما تأبى عنه الحكمة .

وربّما يتصوّر أن يكون الطريق المفروض أكثر إيصالاً إلى الواقع من القطع ، أو مساوياً له في ذلك ، نظراً إلى كثرة وقوعه جهلاً مركّباً ، وإن كان القاطع حين قطعه لايحتمل ذلك ، إلاّ أنّه إنّما يقتضي اعتبار القطع كائناً ما كان . ولا يمنع من

ص: 119

نصب الطريق على الوجه المذكور .

ومن هنا يعلم أنّه لايلزم أن يكون الطريق على الوجه المذكور ظنيّاً ، فقد ينسدّ باب الظنّ أيضاً ، وقد يكون الطريق الغير الظنّي في علم اللَّه سبحانه أقرب إلى الواقع وأكثر إيصالاً إليه من الظنّي ، وقد يكون في الظنّ من المفسدة ما تأبى في الحكمة عن نصبه طريقاً ، فتعيّن بعده الأقرب إلى الواقع فالأقرب .

ومنها : أن يكون الملحوظ فيه الكشف عن الواقع مع تسهيل الأمر على العباد في طريق الإطاعة والانقياد ، وإنّما يكون ذلك حيث لايكون المصالح الواقعية على وجهٍ يقضي بتحتّم إدراكها مع التعسّر والصعوبة ، أو مع قلّة السّهولة ، وهذه الخصوصية قد تلاحظ بالنظر إلى نوع المكلّفين ، فيتبع الحكم أضعفهم ، نظراً إلى الحكمة القاضية باشتراكهم في التكاليف ؛ وقد تلاحظ بالنظر إلى بعض الأصناف أو بعض الأشخاص أو بعض المقامات على حسب ما يقتضيه الحكمة في ذلك .

ولايلزم من ذلك انتفاء الحكم في نفس الأمر عند مخالفة الطريق للواقع ، للفرق الظاهر بين سقوط الواقع عن المكلّف لتعذّر المكلّف به أو تعسّره ، وبين سقوط التكليف بتحصيل العلم بالحكم أو الطريق الأقرب في الوصول إليه والكشف عنه ، نظراً إلى تعذّر أحدهما أو تعسّره ؛ فإنّ الثاني إنّما يوجب سقوط التكليف بالطريق الأقرب لوجود المانع فيه ، والرجوع إلى الطريق الأبعد ، مع بقاء الواقع على حاله .

غاية الأمر أنّه مع أدائه إلى خلاف الواقع يكون المكلّف معذوراً في مخالفته ، لا آتياً بما هو الواقع في حقّه ، إذ الغرض من نصب الطريق المذكور إنّما هو الوصول إلى ذلك الواقع ولو في بعض الوقايع لئلاّ يفوت عنه ذلك مطلقاً ، فإذا

ص: 120

فاته ذلك في بعض المقامات أخطأ الواقع لا محالة ، لكن على الوجه المعذور فيه في حكم الأمر ، كساير الأعذار العقلية من الجهل المركّب وما أشبهه .

ومنها : أن يكون العمل عليه والالتزام به من حيث أنّه هو الواقع - بمعنى ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على الواقع عليه - مشتملاً على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، من غير أن يكون لذلك الطريق تأثير في نفس الفعل من حيث هو ، وإنّما المصلحة في ترتيب أحكام الواقع عليه ما لم ينكشف خلافه .

وإذا انكشف الخلاف ، فإن كان في الوقت لزم الإعادة ؛ وإن كان في خارجه ، فإن كان القضاء متفرّعاً على فوات مصلحة الواجب لم يثبت عليه ، لتداركها بالعمل بالطريق المقرّر ؛ وإن تفرّع على مجرّد ترك الواجب لزم .

ولا يلزم من تدارك مصلحة الواقع بمصلحة الحكم الظاهري سقوط الوجوب ، إذ قد يترتّب على وجوبه الواقعي حكم شرعي ، فالحال في الطريق المذكور هو الحال في الطرق المقرّرة للموضوعات الخارجية كحياة الغائب ونحوها ؛ فكما أنّ الأمر بالعمل بها لايقضي بجعل الموضوع وإنّما يوجب جعل أحكامه ما دامت الطرق باقية فيه فإذا فقدت وحصل العلم بانتفاء ذلك الموضوع ترتّب عليه في المستقبل جميع الأحكام المترتّبة على عدمه من أوّل الأمر ، فكذلك الحال في الطريق المقرّر للحكم ، فهناك فرق بيّن بين جعل مدلول الطريق حكماً واقعياً وبين الإلزام بتطبيق العمل عليه على أنّه هو الواقع ، على ما هو الحال في طرق الموضوعات .

فإن قلت : إن كانت المصلحة الباعثة على تشريع الحكم الواقعي باقية على تحتّمها مع مخالفة الطريق المفروض لم يجز في حكم العقل تفويتها على

ص: 121

المكلّفين بجعل الطريق الّذي لا يوصل إليها وإلاّ كان العمل بالطريق المقرّر كالعمل بما هو الواقع ، بل لم يجز جعل الحكم الواقعي على وجه يشمل الصورة المفروضة ، لانتفاء المصلحة الباعثة على تشريعه حينئذٍ ، فيكون تلك الصورة خارجة عن مورد الحكم المجعول في نفس الأمر ، ويكون حكمها في الواقع على حسب مقتضى الطريق المقرّر ، فلا يكون الحكم الواقعي شاملاً للعالم والجاهل كما عليه المخطّئة ، ويلزم القول بالتصويب .

قلت : إن كانت الأحكام الشرعيّة تابعة لمجرّد المصالح الواقعيّة الكامنة في ذات الأفعال الاختياريّة بحيث تكون المصالح عللاً تامّةً لتشريعها ، وتكون تلك الأحكام متفرعةً عليها بالكليّة - على ما هو الحال في أوامر الطبيب وساير الأوامر الإرشاديّة - كان الحال فيها على ما ذكرت ، لأنّ جعل الطّريق على غير الوجهين الأوّلين يتوقّف على مصلحة تعادل مصلحة الواقع ، فيختلف الحكمان في نفس الأمر ، فيكون المكلّف في الحقيقة مخيّراً بين تحصيل إحدى المصلحتين ، فكان اللازم الحكم بالتخيير في الواقع دون التعيين .

وليس الأمر كذلك ، وإنّما القدر اللازم في حكم العقل أن يكون في تشريعها حكمة باعثة على حسنها على حسب ما تقع عليه ، سواء كانت الأفعال مشتملة على صفة مطابقة لها من جميع الوجوه أو لم يكن .

فقد لايكون في نفس الفعل مصلحة ويكون في التكليف به حكمة باعثة على حسنه ؛ وقد يكون فيه مصلحة غير بالغة حدّ الوجوب ويكون في إيجابه والإلزام بإتيانه حكمة قاضية بحسنه وإن لم يكن بالغاً حدّ الحتم ، لعدم إخلال الحكيم بما هو الأحسن ؛ وقد يكون الفعل حسناً أو قبيحاً ويمنع من التكليف بفعله أو تركه حكمة ، كما في الصبيّ العاقل المراهق .

ص: 122

فالنسبة بين حسن التكليف وحسن المكلّف به عموم من وجه ، والقدر الّذي يحكم به العقل أن لا يكون الأحكام المجعولة حسنة مطابقة للحكمة .

وقد لا يكون في نفس الفعل من حيث هو مصلحة ويكون المصلحة في الإتيان به من حيث الإطاعة والانقياد ، فيتعلّق الأمر به من تلك الجهة .

إذا عرفت ذلك تبيّن لك الوجه في دفع الإشكال المذكور بحذافيره ، إذ لايمتنع أن يقتضي الحكمة الواقعية جعل الأحكام في نفس الأمر على وجه العموم في حقّ عامّة المكلّفين ، أصابها من أصابها وأخطاها من أخطاها ، ثمّ جعل الطرق المخصوصة الّتي قد توصل إليها وقد تتخلّف عنها . ففي جواز ذلك عقلاً ووقوعه خارجاً كفاية في المقام وإن لم نعلم تفصيل الحكمة ووجه المصلحة في ذلك ، كما هو الحال في الموضوعات الخارجية ، فإنّها اُمور واقعية تعلّقت بها أحكام في نفس الأمر ثمّ قرّر الشارع طرقاً كثيرة إليها يغلب مخالفتها لها ، ولا منافاة بينهما .

فإن قلت : إذا كان مقتضى المصلحة نصب الطريق ألذي قد يتخلّف عن الواقع لم يبق الواقع على تحتّمه ، فلا يبقى الواقع على حاله عند التخلّف .

قلت : لا منافاة بين ثبوت الحكم في الواقع وحصول العذر للمكّلف في مخالفته ، فغاية الأمر أن يكون الطريق المؤدّي إلى خلاف الواقع عذراً للمكلّف في مخالفته على وجه يترتّب الثواب عليه ، نظراً إلى إطاعة التكليف المتعلّق بالطريق وتعرّض العبد للامتثال ، فللمصيب أجران من حيث موافقة الواقع والطريق معاً ، وللمخطئ أجر واحد من حيث موافقة الطريق المقرّر خاصّة .

فإن قلت : إنّ الواجب ما يذمّ تاركه لا إلى بدل ، والحرام ما يعاقب فاعله كذلك ، فإذا ثبت إعذار العبد في مخالفتهما انتفى الحكمان في نفس الأمر .

ص: 123

قلت : الصواب تقييد الذمّ والعقاب في الحدّين بالعالم العامد .

فإن قلت : كما يشترط الحكم في الواقع بالبلوغ والعقل والاختيار كذا يشترط بالعلم ، لعدم قدرة الجاهل والناسي أيضاً على الامتثال ، ولذا عدّوا الأربعة من الشرايط العامّة لجميع التكاليف ، فكما ينتفي الحكم في الواقع بانتفاء الحدّ الثلاثة الاُولى كذا ينتفي بانتفاء الرابع .

قلت : لا مانع من التفرقة بين العجز الناشي من الجهل والنسيان والتعذّر الحاصل من ساير أسباب الاضطرار ، فالأوّل غير مانع من ثبوت الحكم الواقعي ، نظراً إلى كون المصلحة في جعل الحكم في حقّ العالم والجاهل على حدّ سواء ، ليكون هو الّذي يتعرّض الجاهل لتحصيله ، سواء أصابه أو أخطائه .

فإن قلت : إنّ جعل الحكم في حقّ الجاهل المعذور لغو يمتنع على الحكيم .

قلت : إن اُريد امتناع جعله في حقّه خاصّة فمسلّم ، وإن اُريد إمتناع التعميم في الجعل الأوّل فممنوع ، فإنّ عدم العلم بالفائدة لايستلزم نفيها ، وفي قيام النصّ والإجماع بل الضّرورة على أنّ لكل واقعة حكماً معيّناً يشترك فيه عامّة المكلّفين أدلّ دليل على ثبوتها ، ومن فوائده العمل على الواقع عند انكشاف الخلاف وتعرّض العبد لتحصيله الموجب لترتّب الأجر والثّواب عليه وإن أخطائه ، وفي حكمه اطرّاد الأحكام كفاية في المقام ، على أنّ العلم بالحكم والجهل مسبوقان بالحكم ، فإنّ الحكم حين تعلّق الجعل به لايتعلّق إلاّ بالغافل عنه وغير العالم به ، وإنّما يحصل العلم بعد تحقّق الجعل متفرّعاً عليه وحاصلاً منه ، لأنّه أمر لا يعلم إلاّ من قبله ، فلو كان مأخوذاً في المحكوم عليه لزم تحقّق الحكم حين وقوعه من غير تحقّق المخاطب به مع أنّه من إركانه ، بخلاف ساير شرايط الحكم . فالعلم

ص: 124

غير مأخوذ في المحكوم عليه أوّلاً وبالذات ، بل المأخوذ فيه قابليّته لذلك ، وهي حاصلة في الجميع ، فهم مشتركون في الجهل فعلاً وإمكان العلم شاناً .

وإنّما يجب في الحكمة إيصاله على الوجه المعهود إلى المكلّفين بالطريق المعتاد الّذي لايأبى عن الموانع العادية ، ليتمّ بذلك ما هو الغرض من ابتلاء المكلّفين واختبارهم في الاطاعة والعصيان ، وهذا إنّما يناسب عموم الحكم لا اختصاصه بمن وصل إليه ، وإلاّ لم يكن حجّة على من منع [من] وصول الحكم إلى غيره ، أو أهمل في إيصاله إليه حيث يجعل واسطة في إيصاله ، أو حال بين وسايط الإيصال والمكلّفين ، لخروج الغير إذن عن مورد التّكليف واقعاً ، فلا معنى لإيصال الحكم إليه ، ولتفصيل الكلام في هذا المقام محلّ آخر .

مصلحة الطريق تجعل في عرض الواقع ونقده

ومنها : أن يشتمل الطريق المفروض على مصلحة تجعله في عرض الواقع بأن تساوي مصلحة الواقع من جميع الوجوه أو يترجّح عليه ، فيكون قيام تلك الأمارة مانعاً من فعليّة الحكم الواقعي في حقّه ، فالحكم الواقعي فعليّ في حقّ غير الظانّ بخلافه ، وشأنيّ في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لولا الظنّ بخلافه ، ومرجعه إلى اشتراط الواقع بعدمه ، ومعلوم أنّ المشروط ينتفي عند عدم شرطه ، فيكون هذا الشرط كساير الشرايط المأخوذة في الحكم ، كالبلوغ والعقل والاستطاعة للحجّ والنصاب للزكاة وغيرها .

غاية الأمر إنّ هذا الشرط عدمي على نحو اشتراط الحكم بانتفاء ساير الموانع ، كاشتراط وجوب الصلاة بانتفاء الحيض ونحو ذلك ، وتلك شرايط وجودية ، مع اشتراكهما في انتفاء الحكم بانتفاء أحدهما ، ونظير ذلك ما هو الحال في الشرايط العمليّة ، كاشتراط العبادة بإباحة اللباس والمكان ونحوهما ، فعبادة المعتقد للإباحة خطأ مطابقة للواقع ونفس الأمر ، والقول بمثله في طرق الأحكام

ص: 125

ضرب من التصويب ، لإصابة كلّ من المخالفين حينئذٍ لما هو الواقع حقيقة ، ويلزمه صحّة العمل وإن انكشف بعده خلافه على وجه اليقين ، سواء كان في عبادة أو معاملة في الوقت أو خارجه ، وهو باطل كما تقرّر في محلّه .

الواقع هو العمل بالظنّ أو ما يفهمه المكلّف من الطريق ونقده

ومنها : أن يكون الحكم في الواقع هو العمل بالظنّ ، أو بما يفهمه المكلّف من الطرق ، بحيث لايكون في نفس الأمر حكم سوى هذا الحكم الكلّي ، أو يكون الحكم الواقعي في حقّ كلّ مكلّف مطابقاً لما يصل إليه من الطرق على حسب فهمه أو لما يتمكّن منه ، أو تابعاً للطريق بحيث لايكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجوده وعدمه حكم ، فيكون الأحكام الواقعية مختصّة في الواقع بالعالمين ، والجاهل لا حكم له ، أو محكوماً عليه بما يعلم اللَّه سبحانه أنّ الطريق يؤدّى إليه ، فيكون المجعول في الواقع حكمين مختلفين أو أحكاماً مختلفة على حسب اختلاف أدلّة المجتهدين ، على نحو اختلاف حكمي القصر والإتمام والجهر والإخفات ولبس الذهب والحرير باختلاف الحاضر والمسافر والرجل والمرأة ، ويلزمه أن لا يجب تحصيل العلم بالحكم الشرعي ، ولا يجب إيصاله إلى المكلّفين ، ولا يعاقب المانع من وصوله إليهم إلّا على بعض الوجوه . وهكذا بأدلّة خاصّة تقتضي بإثبات تلك الأحكام على وجه التقييد لامن باب المقدّمة ، لوضوح عدم وجوب تحصيل شرايط الوجوب والاندراج في موضوع المكلّف ، وهذا هو التصويب الباطل بضرورة المذهب(1) ، وقد تواترت الأخبار

ص: 126


1- اُنظر في هذا المجال : نهاية الأفكار 4 / 228 ، در الفوائد /697 ، الاُصول العامّة للفقه المقارن /615 ، تهذيب الاُصول ( للسيّد عبد الأعلى السبزواري ) 2 / 115 ، الهداية في الاُصول 4/375 ، اصطلاحات الاُصول /98 .

والآثار باشتراك المكلّفين في الأحكام وشمولها للعالم والجاهل ، ولتفصيل الكلام في إبطال هذين الوجهين من التصويب وإثبات القول بالتخطئة محلّ آخر .

وظهر ممّا قرّرناه صحّة القول بما عداهما من ساير الوجوه السابقة على وجه لايتطرّق إليها شبهة إبن قبه وغيرها ، وقد دلّت أدلّة الأحكام والطرق على كونها من بعض تلك الوجوه ، فلا تغفل .

دلالة الآيات على عدم جواز الأخذ بالظنّ
اشارة

قال قدس سره :

وفي عدّة من الآيات الكريمة دلالة عليه .

والقول بورودها في الاُصول دون الفروع فلا تدلّ على عدم جواز الاستناد إليها في الأحكام ، وأنّ الأخذ بذلك أخذ بالظنّ في عدم جواز الأخذ بالظنّ فيدور مدفوع .

أمّا الأوّل : فبأنّ جملة من تلك الآيات إنّما وردت في الفروع وإنّ المستفاد منها إعطاء القاعدة في عدم الاكتفاء بالظنّ في تحصيل الحقّ ، بل هي واردة في مقام الإنكار على الكفّار وذمّهم في اتّكالهم على الظنون والاحتجاج عليهم بحكم العقل بقبحه ، فهو استناد إلى ما هو مرتكز في العقول من عدم جواز الاعتماد على الظنّ والتخمين في اُمور الدين مع عظم خطرها وشدّة الضرر المتفرّع عليها ، فألمقصود إقامة الحجّة عليهم بمقتضى عقولهم لابالنصّ المتوقّف على صدقه ليدور الاحتجاج ، ولا يكون وقع لإيراد الذمّ عليهم مع عدم ظهور قبح ما ارتكبوه إلّا من جهة ذمّه فيكون ذلك شاهداً شرعيّاً على صحّة ما وجدناه من حكم

ص: 127

العقل بقبح الأخذ بالظنّ ، فاحتمال طروّ التخصيص عليه ساقط جدّاً مضافاً إلى أخذه كبرى في القياس ، ولا يراد به إلّا الكليّة ليتمّ الاحتجاج .

وأمّا الثّاني : فبعد تسليم عدم اقتضاء المقام نصوصيّتها في الدلالة بأنّ دلالة الظواهر على عدم حجيّة الظنّ كافية في المقام ، إذ لا يخلو الواقع عن أحد الأمرين من حجيّته وعدمها . وعلى التقديرين فالمطلوب ثابت ، إذ الثاني عين المقصود . والأوّل قاضٍ بصحّة الاستدلال ، وأيضاً كيف يمكن الحكم بالتّعبد بمجرّد الظنّ مع اقتضاء الظنّ عدم حجيّته ؟ فلو كان الظنّ حجّة لم يكن حجّته لاندفاعه بنفسه ، وكون حصول الحجيّة مقتضياً لعدمها .

وما يتوهّم حينئذٍ من لزوم مراعاة أقوى الظنّين من الظنّ المتعلّق بالحكم والمتعلّق بعدم حجيّة ذلك الظنّ فاسد ، إذ لا معارضة بينهما لاختلاف متعلّقيهما ، فإنّ الأوّل إنّما قضى بثبوت الحكم على نحوٍ غير مانع من النقيض ، والثاني إنّما قضى بعدم حجيّة ذلك الظنّ كذلك وعدم الاعتداد به في الفتوى والعمل ، وأيّ منافاة بين ذينك الظنّين حتّى يلزم الأخذ بأقواهما ؟ فلا معارضة أصلاً للظنّ القاضي بعدم حجّية الظنّ فلا بدّ من الأخذ به على فرض حجّية الظنّ ولو كان أضعف من الأوّل بمراتب .

نعم إن دلّ دليل على حجّية الظنّ حصلت المعارضة

ص: 128

بين ذلك الدليل وهذه الظواهر وهو كلام آخر لاربط له بالمقام [ج 3 ص 323 - 322] .

توضيح كلام صاحب الهداية

أقول : ما أشار إليه - قدس اللَّه سرّه - من الآيات سيأتي - إن شاء اللَّه تعالى - فإنّه قدس سره قد ذكر تفصيل الكلام في ذلك فيما يأتي ، فكان الأولى اقتصاره في بيان ذلك على أحد المقامين ، وما أفاده - طاب ثراه - من دلالة جملة من تلك الآيات على أنّ ذلك أمر مرتكز في العقول فيكون شاهداً شرعيّاً على حكم العقل به فلا يقبل التخصيص جيّد ، إلاّ أنّ الظاهر عدم ابتنائها على ما فهمه قدس سره من حكم العقل بالاحتراز عن الضرر المخوف ، بل الوجه في ذمّ الكفّار بذلك أنّهم لايستندون فيما يزعمونه إلى حجّة ثابتة ، وإنّما يعوّلون على مجرّد الظنّ والتخمين الراجع إلى أوهامهم الفاسدة من دون تثبّت وتحقيق ، ومن المعلوم بضرورة العقول أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يبلغ حدّ الدليل والحجّة ، لأنّه لتقوّمه باحتمال الخلاف لايستلزم المطلوب ، فضلاً عن الظنّ النّاشي عن الخرص والتخمين في الأمور ألّتي لامجال للخرص فيها .

فإن قلت : كيف ادّعى عدم قبول تلك الآيات للتخصيص مع كثرة الظنون المخصوصة الّتي تحقّقت حجّيتها بالأدلّة المخصوصة ؟

قلت : العمل بها ليس عملاً بمجرّد الظنّ والتخمين الّذي لايرجع إلى شي ء مبين ، إنّما هو عمل بالأدلّة الدالّة عليها المفيدة للقطع بجواز الرجوع إليها ، فيخرج بذلك عن مورد الذمّ الوارد في تلك الآيات على التعويل على مجرّد الظنّ من حيث هو ظنّ .

فإن قلت : إنّ الدليل الدالّ على حجيّة بعض الظنون لا يوجب خروجه عن كونه ظنّاً ، إنّما يخصّص العمومات الناهية عن العمل بالظنّ .

ص: 129

قلت : هذا إنّما يتمّ في العمومات التعبديّة ، فإنّه إن نهى السيّد عن العمل بشي ء من الظنون ثمّ أمر بالعمل ببعضها كان من قبيل العامّ المخصوص ، وإنّما الكلام في الآيات المشيرة إلى حكم العقل ، فإنّ العقل إنّما يقضي بأنّ الظنّ بما هو ظنّ ليس بحجّة يعوّل عليها ، فإذا عوّل المكلّف على الدليل الدالّ على حجيّة بعض الظنون لم يكن مخالفاً لحكم العقل ، لامتناع ورود الشرع على خلاف حكم العقل القاطع ، إذ ليس في العقل ما يدلّ على امتناع تجويز الشرع لذلك بعد إقامة الدّليل عليه ، بل لايمنع من تجويز العمل بمطلق المظنّة أيضاً ، إنّما يمنع من العمل بغير دليل ، فإذا جاء الدّليل خرج عن موضوع حكم العقل .

وكذلك الحال في ساير النصوص الناهية عن العمل بالظنّ من حيث هو ، ممّا ورد على سياق حكم العقل وجرى هذا المجرى ، فإنّه أيضاً لايقبل التخصيص ، لخروجه بذلك عن موضوع الحكم .

وظنّي أنّ جميع ما جاء في المنع من الظنّ والحكم والفتوى بغير علم من هذا القبيل ، فإنّ المقصود تحريم القول والعمل من غير دليل ، فلا يرد عليها التخصيص أصلاً ، فلا تغفل .

وأمّا ما ذكر من الدور في التمسك بالظنّ على عدم جواز الأخذ بالظن ففي غاية الغرابة ، لأنّه ليس من الدور المصطلح في شي ء ، لكنّه أوضح فساداً من الدور ، لأنّ امتناع الدور راجع إلى امتناع توقّف الشي ء على نفسه ، وما نحن فيه من قبيل توقّف الشي ء على ضدّه ونقيضه واستلزام وجوده لعدمه ، وكأنّه قدس سره أراد معناه اللغوي ، والأمر بعد وضوح المقصود سهل .

وأمّا ما ذكره قدس سره في دفع الدور المتوهّم فمحلّ مناقشة ، لأنّ الظنّ المانع لو كان من قبيل الظنّ الممنوع يمتنع اندراجه في الحجّة على تقدير الحجيّة ، لأنّ ما

ص: 130

يلزم من وجوده عدمه باطل ، فإنّما يدور الأمر في الواقع بين حجيّة ما عدا هذا الظنّ من ساير الظنون وعدمها ، وسيأتي لهذا الكلام مزيد بيان وتفصيل في محلّه الآتى في كلام المصنّف - طاب ثراه - إن شاء اللَّه تعالى .

والّذي يهوّن الخطب في المقام أنّ الظنّ المانع هنا لاستناده إلى النصّ ليس من جنس الممنوع ، لقيام الدليل على حجيّته بالخصوص ، والظنّ الممنوع إنّما هو الظنّ الّذي لا ينتهي إلى القطع .

وأيضاً فالمنع هنا بعد دلالته على تقدير حكم العقل وإعتضاده بالكثرة والسنّة المتواترة راجع إلى القطع .

وأمّا ما ذكره - طاب ثراه - في الوجه الثاني ، فقد يقال برجوعه إلى الوجه المذكور ، وإنّما الاختلاف في التعبير ، فيجري فيه ما ذكر من المناقشة ، فإنّ الظنّ إذا فرض حجة امتنع شموله للظنّ المفروض ، وأنت خبير بأنّه ليس المقصود فيه فرض الظنّ حجة في الواقع شموله للظنّ المفروض ، وإلاّ لما ذكره وجهاً آخر ، لأنّه حينئذٍ عين الأوّل ، بل المقصود أنّ حجيّة الظنّ تنفي نفسها ، بمعنى أنّه يلزم من وجودها عدمها ، وما هذا شأنه باطل .

وهذا الاستدلال إنّما يتصوّر قبل قيام الدليل على حجّية الظنّ ، إذ بعد قيامه على ذلك يخرج الظنّ المفروض عنه ، فيكون هذا الظنّ معارضاً للدليل ، ومعلوم أنّ مجرّد الظنّ لايصلح لمعارضة الدليل ، وأمّا مع انتفاء الدليل - كما هو المفروض - فالاستدلال بحاله .

وهذا معنى استدلالهم على عدم حجيّة الشهرة بأنّها لو كانت حجّة لدلّت على أنّها ليست بحجّة ، لقيام الشهرة على عدمها ؛ وعلى حجّية عدم الخبر بأنّه لو كان حجّة لدلّ على أنّه ليس بحجّة ، لدلالة الخبر على عدمها ؛ وعلى عدم حجّية

ص: 131

ظاهر الكتاب بأنّه لو كان حجّة لدلّ على عدم حجّيته ، لدلالة ظواهر جملة من الآيات على ذلك ، وهكذا الحال في نظائر ذلك .

فالفرق بين الوجهين المذكورين في جريان المناقشة في الأوّل دون الثاني أنّ الواقع في الوجه الأوّل لايدور بين حجّية مطلق الظنّ الشامل للظنّ المفروض وعدمها ، وإنّما يدور بين حجّية ما عدا الظنّ المفروض وعدمها ، وهذا لا يجدي شيئاً .

وأمّا الثاني ، فإنّما المقصود فيه امتناع حجيّة كلّي الظنّ باستلزام وجودها لعدمها ، وهذا استدلال صحيح لا غبار عليه ، فلا يجوز أن يكون كلّيّ الظنّ حجة .

نعم ، يمكن أن يكون بعض الظنون حجّة ، وهو ما عدا الظنّ المفروض ، لكن يبقي عليه أنّ مقصود القائل بحجّية الظنّ ليس إلاّ ذلك ، فلا يكفي الدليل المذكور في ردّه وإبطاله .

أمّا لو كان المقصود مجرّد إبطال حجيّة كلّي الظنّ ليكون فيه تقريب إلى المطلوب تمّ الاستدلال ، لامتناعها حينئذٍ ، فلا معنى لترجيح أحد الظّنين والجواب بعدم المعارضة بينهما ، لكن كلامه قدس سره يبتني على وجه آخر يأتي تفصيل الحال فيه ، إن شاء اللَّه تعالى .

دلالة الأخبار الكثيرة على عدم الاكتفاء بغير العلم

قال قدس سره :

ثمّ إنّ في الأخبار الكثيرة دلالة على وجوب تحصيل العلم وعدم الاكتفاء بغيره كالروايات الآمرة بالتعلّم ومعرفة الأحكام والدالّة على توقّف العمل على العلم ، والروايات المشتملة على النهي عن الحكم بغير العلم والأخذ بالظنّ ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، ولا يبعد دعوى التواتر

ص: 132

فيها بعد ملاحظة الجميع . وفي ملاحظة الطريقة الجارية بين العلماء من الصدر الأوّل إلى الآن من مطالبة الدليل على حجيّة ما يدّعي من الظنون وعدم الاكتفاء بكونه مظنّة كفاية في ذلك ، فإنّه لازالت العلماء مطبقة عليه في جميع الأعصار والأمصار . ومن ادّعى حجّية مطلق الظنّ فإنّما يستند فيه إلى حجّة قطعية كيف ؟ ولو استند فيه إلى الظنّ لدار .

فظهر ممّا قرّرناه أنّ المستفاد من العقل والنقل كتاباً وسنّة وإجماعاً عدم حجّية الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، نعم لو قام دليل قطعي ابتداءً أو بواسطة على حجّيته كان حجّة وجاز الاستناد إليه وكان ذلك الظنّ خارجة عن القاعدة المذكورة .

فإن قلت : من المقرّر عدم قبول القواعد العقليّة للتخّصيص فلو ، كان العقل مستقلّاً في الحكم المذكور لم يمكن القول بحجّية شي ء من الظنون الخاصّة .

قلنا : إنّا لا نقول باستثناء ذلك من القاعدة المذكورة وإنّما نقول بخروجها عن موضوع تلك القاعدة .

وتوضيح ذلك أنّ مقتضى القاعدة المذكورة عدم حجّية الظنّ من حيث هو ظنّ إذا لم يلاحظ انتهائه إلى اليقين ، والمقصود في الاستثناء المذكور هو حجّيته الظنون المنتهية إلى اليقين ، وليس أحدهما مندرجاً في الآخر ، بل هما

ص: 133

أمران متباينان ؛ فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة ولا قابلة للتخصيص ، والعقل والنقل مطابقان في الحكم بها من غير طريان التخصيص عليها . وكيف يتوّهم لزوم التخصيص في تلك القاعدة من جهة حجّية بعض الظنون ، مع أنّ الآخذ به بعد إنتهائه إلى اليقين أخذ باليقين دون الظنّ ؟

فإن قلت : إذا أخذ الظنّ في بعض مقدّمات المطلوب كانت النتيجة تابعة للأخسّ ، فكيف يدّعى كونها قطعيّة في المقام مع أنّ المفروض كون بعض مقدّماتها ظنيّة ؟

قلت : فرق بين أخذ المقدّمة الظنيّة في المقدّمات وأخذ الظنّ بها فيها ، إذ لا شكّ في كون الثاني من الاُمور المعلومة الوجدانيّة ، والمأخوذ في المقام إنّما هو الثاني دون الأوّل .

والحاصل : أنّ المدّعى عدم حجّية الظنّ من حيث هو ، والظنّ الذي دلّ الدليل القاطع أو المنتهي إلى القطع على حجّيته ليس من هذا القبيل ، إذ ليس الحجّة حينئذٍ في الحقيقة هو ذلك الظنّ ، بل الدّليل القاطع الدالّ عليه ؛ فيرجع الأمر حينئذٍ إلى العلم وكذا الحال لو قلنا بقيام الدليل القاطع على حجيّة مطلق الظنّ ، فإنّ الحكم هناك إنّما يتبع ذلك الدليل القاطع لا مجرّد الظنّ الحاصل المتعلّق بثبوت الحكم ، وهو ظاهر .

ص: 134

وربّما توهّم متوهّم(1) حجيّة الظنّ من حيث هو ظنّ من دون انتهائه إلى اليقين وهو ضعيف سخيف وظهر فساده ممّا بيّناه وربما يؤول كلام قائله بما يرجع إلى ما ذكرناه [ج 3 ص 325 - 323] .

المؤلف يدعي تجاوز الأخبار عن حدّ التواتر على عدم الاكتفاء بغير العلم

أقول : ما ذكره قدس سره من احتمال تواتر الأخبار في ذلك معنىً ظاهرٌ بل ينبغي القطع به ، بل الأخبار في الدلالة على ذلك قد تجاوزت حدّ التواتر ، كما لا يخفى على المتتبّع فيها .

وما أفاده من الإجماع على ذلك أيضاً ظاهر لا شبهة فيه . كيف ولو صحّ التعبّد بالظنّ من غير دليل لزم التعبّد بالشكّ ؟ نظراً إلى الشكّ في حجّيته حينئذٍ ، والاستناد إلى الشّك بديهي البطلان ، فحجيّة الظنّ دعوى محتاجة إلى البيان ، لأنّ شيئاً من الدعاوي المجهولة لا تقبل إلاّ بالدليل ، وهذا أمر بديهىّ للعوام فضلاً عن العلماء الأعلام .

وما أفاده قدس سره فى الجواب عن السؤال الّذي ذكره أمر بيّن لاخفاء فيه ، لأنّ منشأ حكم العقل على ما ذكره هو لزوم الاحتراز عن الضرر المخوف ، فبعد قيام الدليل على الحجيّة لايتصوّر هناك ضرر حتّى يجب التحرّز عنه ، إذ المقصود من الضرر العقاب الاُخروي والوقوع في مخالفة الشرع ، وقيام الدليل على الحجيّة موجب للأمن من ذلك بلا شبهة .

نعم ، لو كان المقصود من الضرر المفسدة الكامنة في الأفعال الباعثة على

ص: 135


1- وهو صاحب القوانين / 448 ، وفي حاشية الاستصحاب للشيخ الأعظم الأنصاري [/ 112] وأوثق الوسائل [/ 98] نسبا هذا القول إليه .

الحكم باجتنابها كان للسؤال وجه ، لكنّا نمنع من بلوغها حدّاً يستقلّ العقل مع قطع النظر عن الشرع بالاحتراز عنها ، كما يظهر من ملاحظة الطرق المقرّرة للموضوعات الجاريّة مع الظنّ بالمخالفة في كثير من المقامات .

اللّهمّ إلاّ أن يفرض تلك المفسدة في بعض المقامات خاصّة كالسمّ المخوف ، فحينئذٍ يكون احتماله الموجب للخوف معتبراً في نظر العقل فضلاً عن الظنّ به .

التنبيه على اُمور
اشارة

هذا ؛ وينبغي التنبيه في المقام على اُمور ؛

الأوّل : حجيّة العلم ليست أمراً مجعولاً شرعيّاً

الأوّل : إنّ العلم وإن عدّ طريقاً إلى إثبات الأحكام ، حجّة قاطعة في كلّ مقام ، إلاّ أنّ حجيّته واعتباره ليس أمراً مجعولاً من الشارع مدلولاً عليه بالأدلّة النقليّة ليحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، بل ولا أمراً قابلاً لتعلّق الجعل به من أيّ جاعل كان ، بل ولا حجّة عقليّة واسطة في ثبوت المعلوم ، إذ هو الغاية المقصودة من كلّ حجّة والفائدة الحاصلة من كلّ دليل ، والحجّة هي الّتي تبعث على حصول العلم ، وهي الوسط ألّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، كالتغيّر الموجب للعلم بحدوث العالم ، ومنه الظنون المعتبرة ، فإنّها وسايط لإثبات أحكام متعلّقاتها ، كما يقال : هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما كان كذلك فهو حكم اللَّه في حقّ المقلّد .

وليس العلم كذلك ، إذ هو عين انكشاف المعلوم ، فالعالم حين علمه إنّما يرى المعلوم يرتّب عليه آثار الواقع من حيث هو واقع لا من حيث هو معلوم ، فلا يقال : هذا معلوم الخمريّة ، وكلّ معلوم الخمريّة فحكمه كذا ؛ لأنّ أحكام الخمر إنّما يثبت للخمر ، لا لمعلوم الخمريّة ، إنّما يقال : هذا خمر وكل خمر فهو كذا ، وإنّما العلم هو انكشاف صدق الصغرى ، وليس واسطة في إثباتها ، وإنّما يطلق

ص: 136

الحجّة عليه لكونه المقصود من الحجّة ، فحجيّته عند العالم حين علمه بمعنى اعتباره ووجوب العمل على حسبه أمر لايقبل التفصيل بين أسباب العلم وأزمنته ، وأصناف العالم وأنواع المعلوم ، فلايعقل المنع من العمل به في بعض موارده بالنسبة إلى إثبات متعلّقه وهو الأمر المقطوع به ، للزوم التناقض معه ؛ إذ بعد القطع بكون المايع المعيّن خمراً يصحّ له أن يقول : هذا خمر وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ؛ فالحكم بعدم اعتباره مناقض للحكم بالاجتناب عن كلّ خمر ، فلابدّ حينئذٍ من الحكم باعتباره على وجه الإطلاق .

نعم ، قد لايكون الحكم معلّقاً على نفس الواقع ، بل يكون العلم مأخوذاً في موضوعه لا طريقاً في إثباته ، فيكون تابعاً لدليل ذلك الحكم إطلاقاً ، كحكم العقل بحسن إتيان العبد بما يعلمه مطلوباً للمولى ، وقبح إقدامه عليه مايعلمه مبغوضاً له ؛ وحكم الشرع بالمنع من الصلاة فيما علم نجاسته أو غصبه .

أو تقييداً ، كجواز القضاء والشهادة والإفتاء بالمعلومات في مقامٍ ، دون مقامٍ وزمانٍ دون زمانٍ ، لشخصٍ دون آخر ، من شخصٍ دون غيره ، بسببٍ دون آخر ، على وجهٍ دون غيره ، على حسب ما دلّ الدليل عليه ؛ ولا يقوم مقام العلم المأخوذ موضوعاً للحكم غيره من الطرق الشرعيّة والأمارات والأُصول المعتبرة ، لأنّها طرق إلى الواقع أو جارية مجرى الطرق ، والمفروض أنّ الحكم غير معلّق على الواقع ، بل على العلم ، وغيره ليس طريقاً إلى العلم بل إلى الواقع ، إلاّ إذا اُعتبر القدر المشترك بينهما أعني العلم الشرعيّ في موضوع الحكم ، فإذا اُعتبر في إقامة الشهادة نفس العلم الواقعي لم يجز إقامتها بمجرّد قيام البيّنة أو بعض الطرق الغير العلميّة إلاّ بدليل آخر ، كما في اليد المقتضية للملكية ، وإن جاز اكتفاء الشاهد في عمل نفسه بكلّ ما قام مقام العلم .

ص: 137

وكذا لو اُعتبر اليقين في متعلّق الالتزام الشرعي ، كما لو علّق نذره على اليقين بحياة زيد ، فلا يكفي استصحابها ، بخلاف ما لو علّق على نفس الحياة . ويأتي الوجهان في الظنّ المعتبر ، فإنّه قد يؤخذ طريقاً إلى الواقع فيقوم مقامه ساير الطرق المعتبرة ، وقد يؤخذ موضوعاً للحكم فيفتقر إلى دليل آخر .

الثاني : القطع بخلاف الواقع عذرٌ والبحث حول التجري
اشارة

الثّاني : إنّ المعلوم قد يطابق الواقع ، فلا كلام فيه ؛ وقد يخالفه ، وحينئذٍ فلا شبهة في عدم العصيان بمخالفة الواقع ، لمكان العذر العقلي .

وهل يعصى حينئذٍ بمخالفة المعلوم ؟ الحقّ ذلك ، كساير الطرق الشرعيّة والأمارات المجعولة إذا خالف مقتضاها الواقع ، للقطع بمخالفة التكليف المعلوم المتعلّق بالعمل عليها ، والعلم وإن كان الحال فيه على حسب ما عرفت إلّا أنّه أولى بتحقّق العصيان من الطرق الظنّية المجعولة ، لاستقلال العقل بإدراك قبح التجرّي على المعصية والإقدام في العمل على المخالفة ، وليس ذلك من النيّة المجرّدة الّتي لاتكتب - على حسب ما دلّت عليه الأخبار المتكثّرة(1) - بل هي نيّة مقرونة بالعمل على حسب اعتقاد العالم وإن لم يكن كذلك بحسب الواقع ، وذلك

ص: 138


1- بعض الروايات الواردة حول عدم كتابة نيّة الذنب على المؤمن ، الف : موثقة أبي بصير ، الكافي 2 / 313 ، ح 2 . ب : صحيحة أو موثقة إبن بكير ، الكافى 2 / 319 ، ح 1 . ج : صحيحة جميل بن دراج ، كتاب الزهد / 72 ، ح 192 . د : حسنة حمزة بن حمران ، التوحيد / 408 ، ح 7 . ه : موثقة أو معتبرة مسعدة بن صدقه ، قرب الاسناد / 6 . و : خبر زراة ، الكافي 2 / 313 ، ح 1 . واُنظر : وسائل الشيعة 1 / 49 ، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات - مباحث الاُصول 1 / 288 .

خارج عن مورد الأخبار المذكورة ؛ ولأنّ العبدين العاصيين باعتقادهما لايعقل في حكم العقل التفرقة بينهما في استحقاق العقوبة بمجرّد اتّفاق مصادفة أحدهما للواقع دون الآخر ، لأنّ مدار العصيان على الأمور الاختيارية دون الاتفاقيّة .

نعم ، لامانع من التفضّل بالعفو عن أحدهما دون الآخر مع اشتراكهما في الاستحقاق ، لكنّه موقوف على الدليل المفقود فى المقام ، وذلك كالتفاوت الحاصل بمجرّد الاتّفاق بين المصيب والمخطي ، والّذين سنّا سنّة حسنةً أو قبيحةً إذا اتّفق دوام العمل بأحدهما دون الآخر ، والعاملين في الأزمنة والأمكنة المشتبهة بالأفضل والأشرف أو على الوجهين المختلفين إذا إتّفق مصادفة أحدهما للواقع دون الآخر ، والإمامين إذا اتّفق كثرة لحوق المأمومين بأحدهما دون الآخر ، إلى غير ذلك ، وهو غير ما قصدناه من الاستحقاق العقلي المترتّب على الاختيار دون الاتّفاق .

ويعضده ظهور الاتّفاق على الحكم بعصيان من أخّر الواجب عند ظنّ فواته فضلاً عن العلم به ، أو سلك الطريق الّذي يظنّ فيه التلف أو يقطع به ، أو ارتكب ما يظنّ فيه الضرر أو يعلم به ، وإن انكشف مخالفة الواقع ؛ وإن توقّف بعضهم في حصول العصيان بالأوّل عند ظهور المخالفة ، لكنّه في غير محلّه ، كما أنّه لا تأمّل في الحكم بكون السفر معصية موجبة للاتمام إذا كان من قبيل الثاني .

وقد يناقش في حكم العقل بقبح التجرّي على المعصية بأنّ الذمّ في المقام يتصوّر على وجهين ؛ أحدهما : أن يستحقّ المتجرّي الذمّ على نفس الفعل الواقع باعتقاد العصيان ، والآخر أن يترتّب الذمّ على ذلك من حيث دلالته على خبث الفاعل في شقاوته وسوء سريرته مع سيّده وكونه في مقام العصيان والطغيان .

والّذي يدلّ على تحريم الفعل هو الأوّل ، والقدر المسلّم من الذمّ في المقام

ص: 139

هو الثاني ، وهو لايجدي في ذلك ، لأنّ استحقاق الذمّ على ما كشف عنه الفعل لايوجب استحقاقه على نفس الفعل ، والحكم باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلّق بالفعل دون الفاعل .

والحكم بتساوي العبدين العاصيين على الوجه المذكور في استحقاق المذمّة إنّما يسلّم من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع سيّده ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية من حيث هو كذلك وإن خالف الواقع .

ما أفاده الشهيد في بعض أقسام التجري ونقده

ويؤيّده أنّا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة العقاب بين من صادف فعله الواقع ومن لم يصادف ، ولعلّه لما ذكر توقف الشهيد قدس سره في القواعد في المقام ، حيث قال : « ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافها ، ففي تأثير النيّة نظر ، من أنّها حيث لم تصادف المعصية صارت كنيّة مجرّدة ، وهو غير مؤاخذ بها ؛ ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرئته على المعصية » .

ومثّل لذلك بمن أصاب إمرأته باعتقاد الأجنبية ، أو الطاهر باعتقاد أنّها حايض ، أو أكل ماله باعتقاد أنّه لغيره ، أو ذبح شاته باعتقاد أنها لغيره ، أو قتل نفس مهدورة باعتقاد أنّها معصومة .

ثمّ حكى عن بعض العامة الحكم بفسق المتعاطي لذلك ، لدلالته على عدم المبالات بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ما لم يتب عقاباً متوسّطاً بين الصغيرة والكبيرة .

ثمّ قال : « وكلاهما تحكّم وتخرّص بالغيب »(1) .

ص: 140


1- القواعد والفوائد 1 / 108 - 107 .

وأنت خبير بضعف الوجه المذكور ، لظهور حكم العقل بقبح نفس الفعل المأتيّ به على الوجه المذكور ، بل بقبح الإقدام على ما لايؤمن كونه قبيحاً عند عدم وجود الطريق الشرعيّ لإباحته - كما في الشبهة المحصورة - وإن اتّفق في الواقع مصادفة المباح ، فضلاً عمّا لو كان هناك طريق شرعي قاضٍ بتحريمه .

ولا شكّ أن العلم القطعي أولى بذلك من الوجهين المذكورين ، ولو كان القبح العقلي متعلّقاً بالأمر القلبي المذكور لزم عدم التفرقة بين ما قبل ارتكاب الفعل وما بعده وبين حال الاشتغال به ، لتساوي الحالات الثلاثة في سوء سريرة العبد المقتضي للجرئة بالإقدام على العصيان ، فلايكون في الفعل الواقع بهذا العنوان قبح أصلاً ، وإنّما يكون كاشفاً عن القبيح من حين عزمه عليه إلى ارتداعه عنه .

والفرق بينه وبين القصد المجرّد أنّ الثاني يعلمه القاصد ، والأوّل قد يظهر على من اطّلع على الكاشف ، وهو لايصلح فارقاً في المنع والجواز ، لوضوح أنّ ذلك على التقدرين ليس ولا يعدّ ذلك من العصيان الفعلي ، بل العصيان لايدور مدار الواقع ، فكما لايتحقّق بمخالفة الواقع عند العلم بخلافه أو قيام الطريق الشرعي عليه كذا يتحقّق عند الإتيان بما يقطع بتحريمه أو يظنّ به أو يشكّ فيه على وجه لايعذر المكلّف معه ، وأمّا التفرقة في استحقاق العقاب بين صورتي المصادفة والمخالفة فلا يقضي بخلاف ما ذكر ، غاية الأمر أنّ صورة المصادفة تشتمل على المفسدة الذاتية والعارضية بعنوان المعصية ، بخلاف الاُخرى .

وبالجملة ، فالوجه المذكور لايخرج عن حدّ النيّة المجرّدة الّتي لاتقارن العمل ، غاية الأمر اختلافها باختلاف المقامات ، كالنيّة المجرّدة ، أو المقارنة للاشتغال بمقدّمات الفعل ، أو بما يحتمل كونه معصية في مثل الشبهة المحصورة

ص: 141

لرجاء أن لا يكون كذلك ، أو لعدم المبالات بها ، أو لرجاء مصادفة الحرام ، أو بما يعتقد كونه كذلك ، ويترتّب قبحها بترتيب المذكورات ، غير أنّه قد ثبت أنّها بنفسها لا تكتب ، فينبغي عدم المنع من ذلك في شي ء من الصّور المذكورة ، وهو كما ترى .

قد يناقش على نفي العقاب على النيّة ببعض الآيات والروايات ونقده

وقد يناقش في نفى العقاب على النيّة بما ورد من أنّه « يحشر الناس على نيّاتهم »(1) .

وما ورد من تعليل الخلود في الجنة والنار بعزم الفريقين على النيّات على الطّاعة والمعصية لو خلّدوا في الدنيا(2) .

وما ورد من أنّه « إذ اقتتل المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار تعليلاً بأنّ المقتول أراد قتل صاحبه »(3) .

وما ورد في العقاب على بعض المقدّمات كغارس الخمر(4) والماشي لسعاية مؤمن(5) أو اغتيابه أو ظلمه أو النميمة أو الفرقة بين الزوجين أو نحو ذلك .

وفحوى ما دلّ على « أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل فيه »(6) وأنّ الراضي بالظلم شريك فيه .

ص: 142


1- الكافي 5 / 20 ح 1 ، وسائل الشيعة 15 / 43 ، ح 2 .
2- المحاسن 2 / 331 - 330 ح 94 - علل الشرائع 2 / 523 ، وسائل الشيعة 1 / 50 ، ح 4 .
3- تهذيب الأحكام 6 / 174 ح 25 ، وسائل الشيعة 15 / 148 ، ح 1 .
4- الكافي 6 / 429 ح 4 واُنظر : وسائل الشيعة 17 / 223 باب 55 من أبواب ما يكتسب به .
5- اُنظر الوسائل 29 / 19 - 18 ، ح 3 و 5 .
6- وسائل الشيعة 16 / 141 ح 12 .

وما ورد في تفسير قوله تعالى : «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ»(1) من أنّ نسبة القتل إليهم لرضاهم بفعلهم(2) .

وقوله سبحانه : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً»(3) .

وقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ...»(4) .

وحينئذٍ فيمكن الجمع بين الأدلّة بحمل ما دلّ على أنّ نيّة السوء لاتكتب على من ارتدع عن قصده بنفسه ، والأخبار المذكورة على من بقي على قصده حتّى خرج عن الاختيار ؛ أو يحمل الأوّل على من اكتفى بمجرّد النيّة ، والأخيرة على من ارتكب بعض المقدّمات ، لأنّه إعانة على الحرام ولو لنفسه .

وأنت خبير بأنّ شيئاً من الوجوه المذكورة لايصلح لمعارضة الأدلّة الدالّة على العفو ، لإجمال الأوّل ؛ وعدم ظهور الثاني في استناد الخلود إلى مجرّد النيّة بل إلى العمل مع النيّة ؛ وصراحة الثالث في النيّة المقارنة للامتثال المحرّم ؛ ودلالة الرابع على تحريم بعض المقدّمات المفضية إلى جملة من المحرّمات ؛ والخامس على تحريم الرضا بالظلم الواقع ، وهو غير ما نحن فيه .

والآية محمولة على الإرادة المقارنة للعمل ، للزوم تقييدها بما مرّ ، أو على تحريم بعض الملكات الرديّة كالكبر والغرور ، أو على اختصاص الثواب الأكمل بغير مريد الفساد ، ومحبّة شيوع الفاحشة في الأخيرة غير الإرادة ، مع إمكان تقييدها وتنزيلها ، فلا تغفل .

ص: 143


1- سورة آل عمران / الآية 183 .
2- الكافي 3 / 409 ح 1 - تفسير العياشي 1 / 208 ح 162 .
3- سورة القصص / 83 .
4- سورة النور / 19 .

ومن المتأخّرين(1) من فصّل في مسألة التجرّي بين صورة القطع بتحريم واجب غير مشروط بالقربة ، أو بتحريم غيره من المكروه الواقعي أو المباح أو المندوب ، أو بتحريم الحرام الواقعي ؛ فرجّح استحقاق العقاب في الثاني بفعله على اختلافه شدّةً وضعفاً بالترتيب المذكور ، بل اختلافه بحسب اختلاف أفرادها في الشدّة والضعف أيضاً ، وتعدّد مقتضي العقاب في الثالث ، إلاّ أنّه حكم بتداخلهما ونفى العقاب في الأوّل ، نظراً إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهرية ، فإنّ قبح التجرّي ليس ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبارات فمن . اعتقد في حقّ المؤمن بل النبيّ والوصيّ أنّه كافر واجب القتل ولم يقتله فإنّه لا يستحقّ الذمّ عقلاً عند من انكشف له الواقع ، وإن كان معذوراً لو فعل ؛ كما لو أمر المولى عبده بقتل عدوّه فصادف إبنه وزعمه عدوّه ولم يقتله ، فلا شكّ أنّه لا يعاقبه على هذا التجرّي .

تفصيل من صاحب الفصول في بحث التجرّي ونقده من المؤلف

وأنت خبير بضعف الكلام المذكور ، لأنّ التجرّي فى حدّ ذاته أمر قبيح لا يمكن اتّصافه بالحسن بوجه من الوجوه ، كما أنّ الانقياد حسن لايمكن أن يعرضه القبح .

غاية الأمر اختلاف الإثم المترتّب عليه باختلاف الإصابة وعدمها ، كاختلاف المصيب والمخطي ء في ساير المقامات ، وليس ذلك مغايراً للإتيان بالحرام حتّى يختلف جهة الاستحقاق ويحكم بالتداخل من غير دليل ، بل هو عين الإقدام على العصيان ، وماذكر في حقّ المولى والعبد لاربط له بالمقام ، لأنّ الغرض الأصليّ هناك غالباً هو الفوائد العائدة إليه ودفع المضارّ الراجعة إليه ، وقد

ص: 144


1- هوالعلّامة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الحائري ، راجع : الفصول الغرويّة / 432-431 .

تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً .

وأمّا الامتحان والاختبار ، فلا يتفاوت الحال فيهما بين إصابة الواقع وعدمها ، والمصالح والمفاسد الواقعية لو كانت مقصودة في تلك الحال لدلّ المكلّف عليها وأزاح المانع عنها ، إنّما هي ملحوظة في التكاليف بشرط العلم والقدرة فتأمل .

الثالث : نفي التفصيل بين أسباب العلم وأقسامه
اشارة

الثالث : إنّ اعتبار العلم من حيث كونه كاشفاً عن الواقع على ما عرفت ثابت على الإطلاق ، لايمكن التفصيل فيه بين أسبابه أو بين أقسام العالم والمعلوم .

وذهب بعض الأخباريين(1) إلى عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقلية في غير الاُمور الضّرورية ، لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها .

ومنهم(2) من فصّل بين العلم الّذي ينتهى إلى مادّة قريبة من الإحساس أو بعيدة عنه ، فحكم باعتبار الأوّل واشتراط الثاني بمعاضدة النقل له .

قال : « أمّا لو تعارض هو والنقلي ، فلا شكّ عندنا في ترجيح النقليّ وعدم الالتفات إلى ما يحكم به العقل . قال : وهذا أصل يبتني عليه مسائل كثيرة » .

وقال آخر(3) : « لا مدخل للعقل في شي ء من الأحكام الفقهيّة . نعم » ، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لايتوقّف على التوقيف ، فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيّاً ظاهر البداهة فلا ريب في صحّة العمل به ، فإن عارضه دليل

ص: 145


1- كالمحدّث الأسترابادي والمحدّث الجزائري والمحدّث البحراني رحمهم اللَّه تعالى .
2- هو المحدّث الجزائري في شرحه على التهذيب - مخطوط - ، نقلناها عن الفرائد 1/54 .
3- هو المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة 1 / 133 - 132 ، واُنظر : الدرر النجفية 148 - 147 .

عقليّ آخر فإن تأيّد أحدهما بنقلي فالترجيح له وإلاّ فإشكال ؛ وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيّد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح له وإلاّ فالترّجيح للنقلي . هذا بالنّسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أمّا لو اُريد المعنى الأخصّ وهو ا لفطري الخالي عن شوائب الأوهام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال » .

نقد مختار أخباريين في عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة قطع القطّاع ليست بحجّة

وهذا كلام متهافت يرغب أهل العلم عن نقله ، إذ ليس وراء القطع شي ء ، فإن عارضه النقل فلابدّ من طرحه أو تأويله ، فكيف يمكن الوقف فيه فضلاً عن تقديم النقليّ المعلوم فساده ؟ وفرض المعارضة بين القطعيّين البديهيين كما ترى .

وفيما ورد من أنّ « العقل حجّة باطنة يعبد به الرحمن »(1) كفاية له في تقييد ما ورد من قوله عليه السلام : « حرام عليكم أن تقولوا بشي ء إن لم تسمعوه منّا »(2) وقوله عليه السلام : « اُسكتوا عمّا سكت اللَّه عنه »(3) وقوله عليه السلام : « من دان اللَّه بغير سماع من صادق فهو كذا »(4) ونحو ذلك .

وحصول الاشتباه في العقليّات ليس بأكثر من النقليّات ، وما ورد : « إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول »(5) ونحو ذلك فمحمول على الوجوه الظنيّة ، على أنّ كلّ ما يحكم به العقل القاطع فهو ممّا يعلم صدوره عن الحجّة ، لما ثبت في محلّه من تطابق الحكمين .

نعم ، يمكن أن يقال في حقّ من خرج عن العادة في قطعه بأن يكون كثير

ص: 146


1- اُنظر : الكافي 1 / 11 ح 3 - وسائل الشيعة 15 / 205 ، ح 3 .
2- الوسائل 27 / 71 ، الباب 7 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 25 وفيه : « شر » بدل « حرام » .
3- عوالي اللئالي 3 / 166 ، ح 61 ، من دون لفظة « عنه » .
4- بصائر الدرجات / 33 ح 1 - وسائل الشيعة 27 / 75 ح 37 .
5- كمال الدين 324 ح 9 - مستدرك الوسائل 17 / 262 ، ح 25 .

القطع في غير محلّه : إنّ حكمه حكم الشكّ والظن ، فلا عبرة به ؛ وكذا في بعض الأمور المعلومة بالإجمال بطرح المعلوم والعمل على ما يقتضيه الأصل أو غيره .

ويشكل بما مرّ من امتناع التفصيل بين أقسام العلم الكاشف ، واستصعبه بعض علماء العصر حتّى التجأ في التفصّي عنه إلى تكلّفات ركيكة ، وظنّي أنّه في غير محلّه ، لإمكان إسقاط حكم الواقع في حقّ العالم على أحد الوجهين المفروضين ، وحينئذٍ فيخرج عن اعتباره كاشفاً ويرجع إلى أخذه موضوعاً ، فتأمّل .

المطلب الرابع في أنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم هو اليقين بالواقع أو اليقين بالوظيفة

اشارة

قال - طاب ثراه - :

رابعها : أنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعية الأوليّة إلاّ أن يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره ، أو أنّ الواجب أوّلاً هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه إرادة الشارع منّا في الظاهر وحكم به قطعاً بتفريع ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها ممّا جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم مطابقته للواقع ، أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل به شي ء من العلم والظنّ أصلاً ؟ وجهان ، والّذي يقتضيه التحقيق هو الثاني فإنّه القدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ودلّت الأدّلة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعاً بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ولم يقض شيئاً من الأدّلة النقليّة بوجوب تحصيل شي ء آخر وراء ذلك ، بل الأدّلة الشرعيّة

ص: 147

قائمة على خلاف ذلك ، إذ لم يبيّن الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع .

وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ والأئمّة عليهم السلام كفاية في المقام ، إذ لم يوجب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه لجميع الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به ، والقول بإفادة قول الثقة القطع بالنسبة إلى السامع منه بطريق المشافهة ، نظراً إلى أنّ العلم بعدالته والوقوف على أحواله يوجب العلم العادي بعدم اجترائه على الكذب كما هو معلوم عندنا بالنسبة إلى كثير من الأخبار العادية سيّما مع انضمام بعض القرائن القائمة مجازفة بينة ، إذ بعد فرض المعرفة بالعدالة بطريق اليقين مع عدم اعتبارها في الشرع المبين كيف يمكن دعوى القطع مع انفتاح أبواب السهو والنسيان وسوء الفهم ، سيّما بالنسبة إلى الأحكام البعيدة عن الأذهان كما نشاهد ذلك في أفهام العلماء فضلاً عن العوام ؟ مضافاً إلى قيام احتمال النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ آن ، ومع ذلك لم يوجب على جميع

ص: 148

أهل بلده التجسّس بما يفيد العلم بعدمه في كلّ زمان ، بل كانوا يبنون على الحكم الوارد إلى أن يصل إليهم نسخه ، هذا كلّه بالنسبته إلى البلدة الّتي فيها الرسول والإمام عليهم السلام فيكف بالنسبة إلى ساير الأماكن والبلدان سيّما الأقطار البعيدة والبلاد النائيه ؟

ومن الواضح أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتفي منهم بالأخذ بالأخبار الواردة عليهم بتوسّط الثقات كما تدلّ عليه آية النفر والطريقة الجارية المستمرّة المقطوعة ، ولم يوجب صلى الله عليه وآله وسلم يوماً على كلّ من يتمكّن من المهاجرة ونحوها ، المهاجرة أو أخذ الأحكام على سبيل التواتر ونحوه . وكذا الحال في الائمّة عليهم السلام وذلك أمر معلوم من ملاحظة أحوال السلف والرجوع إلى كتب الرجال وإنكاره يشبه إنكار الضروريّات ، وليس ذلك إلّا للاكتفاء بالأخذ بطرق ظنيّة .

ودعوى حصول العلم بالواقع من الأمور البعيدة خصوصاً بالنسبة إلى البلاد النائيه ، سيّما بعد ما كثرت الكذّابة على النبيّ والائمّة صلوات اللَّه عليهم حتى قام صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً في ذلك ، ونادى به الائمّة عليهم السلام كما يظهر عن ملاحظة الأخبار .

وما يترائى من دعوى السيّد وغيره إمكان حصول القطع بالأحكام في تلك الأعصار ممّا يقطع بخلافه ، ويشهد

ص: 149

له شهادة الشيخ قدس سره وغيره بامتناعه . والظاهر أنّ تلك الكلمات مؤوّلة بما لا يخالف ما قلناه ، لبعد تلك الدعوى من أضرابه ، وممّا ينادي بعدم بناء الأمر على تحصيل القطع ملاحظة حال العوامّ مع المجتهدين ، فإنّ من البيّن عدم وجوب تحصيل القطع عليهم بفتاوى المجتهد على حسب المكنة ، بل يجوز لهم الأخذ عن الواسطة العادلة مع التمكّن من العلم بلا ريبة ، وعليه جرت طريقة الشّيعة في سائر الأزمنة ، بل الظاهر أنّه ممّا أطبقت عليه سائر الفرق أيضاً وهل كان الحال في الرجوع إلى النبيّ والأئمّة عليهم السلام في ذلك العصر إلّا كحال العوام في هذه الأعصار في الرجوع إلى المجتهدين .

فبملاحظة جميع ما ذكرناه يحصل القطع بتجويز الشارع العمل بغير العلم في الجملة مع انفتاح طريق العلم ، سيّما مع ملاحظة ما في التكليف بالعلم في خصوصيّات الأحكام من الحرج التامّ بالنسبة إلى الخواصّ والعوامّ ، وهو مّما لا يناسب هذه الشريعة السمحة السهلة الّتي رفع عنها الحرج والمشقّة ، ووضعت على كمال اليُسر والسهولة ، ويشهد بذلك أيضاً ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام فإنّه اكتفى الشارع في إثباتها بطرق مخصوصة من غير الترام بتحصيل العلم بها بالخصوص لما فيه من الحرج والمشقّة في كثير من الصور . فإذا كان الحال في الموضوعات على الوجه

ص: 150

المذكور مع أنّ تحصيل العلم بها أسهل فذلك بالنسبة إلى الأحكام أولى ، وأيضاً من الواضح كون المقصود من الفقه هو العمل ، وتحصيل العلم به إنّما هو من جهة العلم بصحّة العمل وأدائه مطابقاً للواقع .

ومن البيّن أنّ صحّة العمل كما يتوقّف على العلم بالحكم كذا يتوقّف على العلم بالموضوع ، فالاقتصار على خصوص العلم بالنسبة إلى الحكم لا يثمر العلم بصحّة العمل بالنظر إلى الواقع مع الاكتفاء بغيره في تحصيل الموضوع ، وليس المتحصّل للمكلّف حينئذٍ بالنسبته إلى العمل إلّا العلم بمطابقة العمل لظاهر الشريعة والقطع بالخروج عن العهدة في حكم الشارع ، فينبغي أن يكون ذلك هو المناط بالنسبة إلى العلمين .

فتحصّل ممّا قرّرناه كون العلم الّذي هو مناط التكليف أوّلاً هو العلم بالأحكام من الوجه المقّرر شرعاً لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أدائه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في حكم الشرع ، سواء حصل العلم بأدائها على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشرع وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها لمتن الواقع .

وبعبارة اُخرى لابدّ من المعرفة بالتكليف وأداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه مُنتهٍ إلى اليقين من

ص: 151

غير فرق بين الوجهين ولا ترتّب بينهما .

نعم لو لم يظهر طريق [مقرّر] من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع مع إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقّف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطّرق المقررة .

وظهر أيضاً ممّا بيّنا تقرير الشارع طريقاً إلى الواقع سوى العلم في معرفة الأحكام ولو مع انفتاح سبيل العلم ، وهي الأدلّة الشرعيّة ممّا لا يفيد العلم بالواقع حسب ما يجى ء تفصيل الكلام فيها في محلّها إن شاء اللَّه [ج 3 ص 328 - 325] .

اُمور ثلاثة لامجال للتأمّل والخلاف فيها

اقول : هيهنا أمور ثلاثة لا مجال للتأمّل والخلاف في شي ء منها ؛

أحدها : أنّ اللاّزم في حكم العقل والشرع هو تحصيل العلم بالواقع حتّى يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره ، وهذا أمرٌ معلوم ممّا ذكر ، بل هو غير ما مرّ في المطلب السابق ، لأنّ الاكتفاء بغير العلم بالواقع من غير دليل هو غير الاكتفاء بالظنّ من دون انتهائه إلى اليقين ، وهو عين ما تقدّم الاحتجاج على بطلانه بالعقل والنقل ، فتكراره والترديد فيه كما يترائى من أوّل شقّي الترديد ممّا ليس له معنى محصّل فضلاً عن القول بخلافه ، فلا شكّ في عدم جواز الاكتفاء بغير العلم بالواقع من غير دليل .

وثانيها : أنّه لو ثبت بالعقل أو الشرع حجّية بعض الطرق الّتي لايفيد العلم بالواقع في حال إمكانه وانفتاح سبيله ، فهل هناك ترتيب بين العلم بالواقع والعلم بالطريق بحيث يتعيّن الأوّل مع الإمكان والثاني مع التعذّر ، أو لاترتيب بين

ص: 152

الأمرين ، فيجوز العمل بكلّ منهما مع انفتاح سبيل الواقع ، وهذا هو الّذي يترائى من ثاني شقّي الترديد ، وهو كلام متهافت ، إذ بعد فرض حجّية الطريق في حال انفتاح سبيل الواقع وإمكان العلم به لا يعقل الترتيب المذكور أصلاً ، بل يناقضه ، فلا يتصوّر الترديد فيه .

وثالثها : أنّه هل يشترط في حجّية الطرق المعتبرة الّتي لاتفيد العلم بالواقع انسداد باب العلم بالواقع أو لا ؟ وبعبارة اُخرى : هل اعتبر الشارع في حال انفتاح باب العلم بالواقع طريقاً آخر غير العلم بالواقع أو لا ؟ وهذا المعنى ممّا لا يناسبه الترديد المذكور .

وبعض الوجوه المذكورة في إثبات الوجه الثاني وإن كان ممّا يترائى من بعض آخر ومرجعه إلى إثبات حجّية بعض الطرق الظنّية في حال انفتاح سبيل العلم بالواقع ، وهو أمر مفروغ عنه في محلّه اللايق به ، وذلك ممّا لا يناسبه المقام ، بل هو أمر مجمع عليه ، لأنّ التمسك بالظواهر والاُصول اللّفظية من أوّل زمان البعثة أمر مقطوع به ، وقد ذكر القوم في جملة من مباحث الألفاظ وغيرها .

وإذا تبيّن لك أنّ شيئاً من الاُمور المذكورة لا يصلح أن يكون محلّاً للترديد في المقام ، فلابدّ أن يكون المقصود أمراً آخر غيرها . وتوضيح المقام أنّ الأحكام الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم من الأوامر والنواهي وغيرها ممّا يتصوّر على وجهين ؛

أحدهما : أن يكون المقصود فيها مجرّد إحراز الواقع وإدراك المصالح الواقعية والاحتراز عن المفاسد النفس الأمرية والوصول إلى المقاصد الباعثة على صدور تلك الأحكام وتشريعه ، من غير أن يكون المقصود فيها أمر وراء ذلك ؛ وهذا هو الغالب في التكاليف الصادرة من المخلوقين بعضهم لبعض ، فإنّ

ص: 153

الغرض فيها ليس إلّا إصابة الواقع ، نظير الأوامر الإرشاديّة ، فإنّ الطبيب إذا أمر المريض باستعمال العقاقير المعيّنة والأدوية المشخّصة - كالمعجون الفلاني - أو نهاه عن بعض الأطعمة ، فليس غرضه من ذلك إلاّ إدراك ما في الأوّل من المصلحة ، والاحتراز عمّا في الثاني من المضرّة .

فالمصلحة والمفسدة الكامنتان في نفس الأفعال علّتان مستقلّتان للأمر والنهي في المقامين ، غير أنّ الثاني خال عن الحكومة دون الأوّل ، وما هذا شأنه فإنّه يجب تحصيل العلم بواقعه مع إمكانه وتيسّره ، وإلّا فالأقرب إليه ، هذا هو الحال في الأحكام العقلية ، كالاجتناب عن السموم وساير الأمور المهلكة والأدوية الضّارة ونحو ذلك .

والثاني : أن يكون المقصود الأصلي هو الإطاعة والانقياد والقيام بلوازم العبودية وامتحان العبيد واختبارهم بتوجيه الأوامر والنواهي ، لتمييز الأخيار بطاعتهم عن الأشرار ، ويظهر المستحقّ للثواب عن المستوجب العقاب ، وإن كانت المصالح والمفاسد أيضاً ملحوظة مقصودة ، مرجّحة لجملة من الأفعال الّتي فيها مصلحة للعبد في إصلاح عقله أو نفسه أو بدنه أو أمر خارجي يرتبط به بالأمر ، ولجملة اُخرى فيها مفسدة له في شي ء من الأمور المذكورة بالنهي ، ولجملة اُخرى فيها مصلحه في بقاء النوع ودوام نظامه وانتظام أحواله بالجعل والوضع على نحو الحكم الباعثة على تشريع جملة من الأحكام ، كتشريع العدّة حفظاً للأنساب ، وغسل الجمعة ونحو ذلك ، إلاَّ أنّ الحكمة الأصليّة تميز مراتب العبيد وظهور أحوالهم وانكشاف درجتهم في الإطاعة والعصيان .

بل ربّما لايكون المصلحة الواقعية والمفسدة الذاتية ملحوظة في الأمر والنهي بالكلّية ، كما في الأوامر والنواهي الاختبارية المحضة ؛ فالمصلحة هناك في

ص: 154

نفس التكليف دون المكلّف به .

وما هذا شأنه فلا فرق فيه بين إصابة الواقع والطريق ، لاشتراكهما فيما هو المقصود من الإطاعة والقيام بوظايف العبوديّة ، وإن كان الواقع أولى بالمراعات بالاحتياط في الموارد المشتبهة ، لإدراك المصالح الواقعية ، فللمصيب أجران وللمخطى ء أجرٌ واحد .

نعم ، قد يكون المصلحة الواقعيّة على الوجه المذكور أيضاً علّة مستقلّة كافية في لزوم التكليف مع قطع النظر عن المصلحة الثابتة في نفس التكليف ، فلابدّ حينئذٍ من مراعات الواقع مهما أمكن .

الأقسام المتصوّره في صدور الأحكام عن الحكيم ستة

والحاصل : إنّ الأقسام المتصوّرة في صدور الأحكام عن الحكيم المنزّة عن اللّغو والعبث ستّة ؛

الأوّل : أن يكون العلّة في ذلك مجرّد المصلحة الذاتية الثابتة في المكلّف به ؛ من غير أن يكون في نفس التكليف مصلحة وراء ذلك .

الثاني : أن يكون في نفس التكليف أيضاً مصلحة اُخرى بحيث يكون كلّ واحدة من المصلحتين علّة باعثة على صدور التكليف مع قطع النظر عن الاُخرى .

الثالث : أن يكون مصلحة الواقع مستقلّة كافية ، والمصلحة الاُخرى غير كافية ، بحيث لو لا المصلحة الاُولى لم تبعث على صدور الحكم .

الرابع : أن يكون مصلحة التكليف مستقلّة ، ومصلحة المكلّف به غير مستقلة ، على عكس الثّالث .

الخامس : أن لا يكون شي ء من المصلحتين علّة مستقلة باعثة على صدور الحكم ، وإنّما الباعث على ذلك انضمام أحدهما بالاُخرى ، فيكون

ص: 155

المجموع من حيث المجموع علّة لذلك .

السادس : أن لا يكون في نفس المكلّف به مصلحة بالكليّة ، وإنّما المصلحة في نفس التكليف .

ففي الثلاثة الاُولى لابدّ للمكلّف من إصابة الواقع وتحصيل الأقرب إليه فالأقرب ، فالاكتفاء بما دون العلم مع تيسّره أو الظنّ مع تعسّره نقض للغرض المستقلّ في جعله ، فلا بدّ من التزام الترتيب المذكور في الوجه الأوّل على كلّ من الوجوه الثلاثة إلاّ أنّ الظاهر عدم وضوح حصولها في شي ء من الأحكام الجعلية الّتي لا يستقلّ بها العقل ؛ وفي الثلاثة الأخيرة لا يتصوّر التفرقة بين إصابة الواقع والطريق ، ولا يعقل الترتيب بينهما على ما ذكر في الوجه الثاني .

هل الغرض من وضع الأحكام الشرعيّة إصابة الواقع بحيث يجب على المكلّف تحصيل الأقرب إليه أو لا ؟

فالمقصود من تمهيد المقدّمة المذكورة أنّ ا لغرض من وضع الأحكام الشرعيّة في مواضعها هل هو إصابة الواقع من حيث هو حتّى يجب على المكلّف تحصيل الأقرب إليه فالأقرب أو لا ؟

استدلّ - طاب ثراه - على الثاني بوجوه ؛

الأوّل : إنّه لو بُنيت الشريعة على ذلك لنصب الشارع من أوّل الأمر على الأحكام الفرعية كالأصلية أدلّة قاطعة موصلة إلى الواقع في كلّ مسألة ، وأمر المكلّفين بتحصيل كلّ من الأحكام الشرعيّة على سبيل القطع واليقين ؛ لوضوح إمكانه ، ولزوم نقض الغرض بالإخلال به ، وامتناع العلم به من غير جهته . وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبي والأئمّة - صلوات اللَّه عليهم - ما يوجب القطع بخلاف ذلك ، كما فصّله رحمه الله .

وفيه وجوه للدلالة على المطلوب ، وفي قيام الضرورة على حجّية الطرق الغير الموصلة دائماً أو غالباً في الجملة في زماني الانفتاح والانسداد كفاية في

ص: 156

الباب .

الثاني : إنّه لو كان الأمر كذلك لأمر الشارع بتحصيل كلّ واحد من موضوعات الأحكام أيضاً على وجه اليقين مهما كان إليه سبيل ، وإلاّ فالأقرب إليه ثمّ الأقرب ، لأنّ تحصيل العلم بالحكم إنّما يجب لأجل العلم بصحّة العمل وأدائه مطابقاً للواقع ، ومن المعلوم أنّ صحّة العمل كما يتوقّف على العلم بالحكم كذا يتوقّف على العلم بالموضوع ، لأنّ إدراك الواقع منوط بالأمرين جميعاً ، مع أنّه اكتفى الشارع في جميع الموضوعات بطرق مخصوصة لاتفيد العلم ، بل ولا الظنّ غالباً ، بل يجتمع مع الظنّ بالخلاف في أكثر المقامات ، فإذا كان الحال في الموضوعات كذلك مع أنّ العلم بها أسهل ففي الأحكام أولى ؛ وتوّهم أنّ للعلم مدخلية في الموضوعيّة وهمٌ فاسد في غير الشرايط العلميّة ، كما لا يخفى .

الثالث : إنّ القدر الّذي يحكم به العقل عند دوران الأمر بين الأمرين إنّما هو تحصيل البرائة والخروج عن العهدة والأمن مِن ترتّب العقوبة الاُخروية ، فمن ادّعى وراء ذلك فعليه البيان .

فإن قلت : لا شكّ أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، وأنّ العلم غير مأخوذ في مداليلها المقصودة ، فالأمر والنهى إنّما يتعلّقان بالواقع من حيث هو ، فيجب الامتثال المتوقّف على تحصيل العلم بالحكم والموضوع معاً إلى أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره .

قلت : ليس الكلام في تعلّق الأحكام بالواقع في كلّ مقامٍ ، فإنّ ذلك لازم القول بالتخطئة ، وإنّما يتصوّر إنكار ذلك على مذهب المصوّبة ، ولا شكّ في فساده عند الإمامية كما تبيّن في محلّه ، إنّما الكلام في أنّ القدر اللازم في مقام الإطاعة والامتثال هل هو تحصيل العلم بإصابة الواقع على كلّ حال أو مطلق

ص: 157

الخروج عن عهدة التكليف بكلّ طريق عقلي أو شرعي ؟

ولا شكّ أنّ الأصل هو الثاني حتّى يقوم دليل على لزوم إدراك الواقع ومراعاته بالطريق الأقرب إليه فالأقرب ، ففرق بيّن بين التكليف بالاحتراز عن النجس والأمر بالاجتناب عن السمّ المهلك ، لظهور أنّ المقصود من الثاني حفظ النفس ودفع الضرر عنها ، فيجب مراعاة الواقع فيه والاحتراز عن مظانّه ومواقع الخوف منه ، لدوران الضرر فيه مدار الواقع ، سواء حصل العلم به أو لا .

وهذا بخلاف الحال في الأوّل ، وإن كان الخطاب فيه أيضاً متعلّقاً بالواقع ، إلاّ أنّ الامتثال فيه يتحقّق بالاجتناب عن النجس المعلوم ، دون المظنون والمشكوك والموهوم ؛ إلاّ أن يقوم دليل على كونه لمفسدة ذاتية في ارتكاب النجس على نحو الضرر الثابت في ذات السمّ ، فلا شبهة في أنّ قضيّة الأصل ما ذكرناه حتّى يثبت خلافه ، فتأمّل .

ومن تأمّل في تفاصيل وجوه الحكمة في خلق الإنسان وتهيئة أسباب الإطاعة والعصيان له والتكاليف الواردة عليه والوعد والوعيد وإرسال الرسل وإنزال الكتب وابتلاؤه بوجوه الحاجة إلى إجتماعه مع أبناء نوعه في المعاملات والمعاشرات وغيرها لم يبق له فيما ذكرناه شكّ وشبهة ، فلا تغفل .

المطلب الخامس هل الحجّة في زمن الغيبة هي الظنّ المطلق أو الظنّ الخاص ؟

اشارة

قال - تغمّده اللَّه تعالى برحمته ، وأسكنه بحبوحة جنّته - :

خامسها : في بيان أنّ الحجّة في معرفة الأحكام الشرعيّة في زمن الغيبة وانقطاع اليد من الرجوع إلى أرباب العصمة وانسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة هل هي ظنّ المجتهد مطلقاً من أيّ طريق حصل إلّا ما قام الدليل على عدم جواز الأخذ به بخصوصه من غير فرق بين الطرق

ص: 158

المفيدة للظنّ أو أنّ هناك طرقاً مخصوصة هى الحجّة دون غيرها فيجب على المجتهد الأخذ بها دون ما عداها من الظنون الحاصلة من الطرق الّتي لم يقم على جواز الأخذ بها بخصوصها حجّة ؟ .

وهذه المسألة وإن لم تكن معنونة في كتب الاُصول ولا تعرّض لبيانها مستقلّة أحد من علماء المعقول والمنقول ، إلّا أنّه لابدّ من بنائهم فيها على أحد الوجهين واختيارهم لأحد المسلكين ويمكن استعلام مذهبهم من الرجوع إلى طريقتهم وكيفيّة استنباطهم وملاحظة احتجاجاتهم كما سنشير إليه إن شاء اللَّه وكان كلّهم أو جلّهم كانوا قاطعين بأحد الوجهين المذكورين حيث لم يعنونوا لذلك بحثاً ولا ذكروا فيه خلافاً ولافصلّوا فيه قولاً مع ما يترتّب عليه من الثمرة العظيمة والفائدة المهمّة في استنباط الأحكام الفرعية ، ولمّا كانت تلك المسألة من أُمّهات المسائل الاُصولية بل كان عليها أساس استنباط الأحكام الشرعيّة لم يكن بدّ من تفصيل الكلام فيها ، وإشباع القول في وجوهها وبيان أدلّتها ، وتميّز صحيح المذهب من المزيف منها .

فنقول : إنّ الّذي يستفاد من كلام المعظم هو البناء على الوجه الثّاني ، بل لايبعد دعوى اتفاقهم عليه حيث إنّه جرت طريقتهم على إثبات حجّية كلّ من الظنون الخاصّة

ص: 159

بأدلّة مخصوصة ذكروها في الباب المعدّ له ولو بنوا على حجّية مطلق الظنّ لأثبتوا ذلك وقرّروه واعتنوا ببيانه .

ثمّ بنوا عليها تلك المسائل من غير أن يحتاجوا في إثبات حجّية كلّ منها إلى تجشّم ذكر الأدلّة ، بل كان المتوقّف على الدليل بعد تأصيل ذلك الأصل الأصيل هو بيان عدم الحجيّة فيما لم يقولوا بحجّيته من الظنون ، مع أنّ الأمر بالعكس فإنّهم في بيان الحجج يفتقرون إلى الاستناد إلى الأدلّة لا في بيان عدم الحجّية ولم يعرف منهم الاستناد في الحكم بحجّية تلك الظنون إلى القاعدة المذكورة ، ولو قالوا بها لكان ذلك رأس الأدلّة المذكورة في كلامهم وأصلها المعوّل عليه عندهم .

نعم ربّما يوجد الاستناد إليه في كلام آحاد منهم في طيّ الأدلّة على سبيل الندرة كما في النهاية في بيان حجّية أخبار الآحاد(1) ، وذلك ممّا لا يثبت به المذهب فإنّ طريقته قدس سره ضمّ المؤيّدات إلى الأدلّة والاستناد في كتبه إلى وجوه موهونة لا يقول بحجيتها أحد من الفرقة ، وإنّما يأتي بها تاييداً للمرام أو من جهة إيراد الحجّة على المخالفين ممّن يقول بحجّيته في مثل ذلك .

ومن هنا توهّم بعض القاصرين ذهابه إلى حجّية مثل

ص: 160


1- نهاية الوصول « مخطوطة » نقل عنه في المعالم / 191 والقوانين / 439 .

تلك الوجوه ففتح باب الطعن عليه وعلى نظائره بأنّهم يعملون بقياسات عاميّة واستحسانات عقليّة وليس الأمر كما توهّم ، بل ما يوجد من أمثال ذلك في كلامهم مبنّي على أحد الوجهين المذكورين كما لا يخفى على من مارس كلماتهم ، فإسناد القول المذكور إلى العلاّمة(1) قدس سره لما ذكر كما يستفاد من بعضهم ليس على ما ينبغي ، وكذا إسناده إلى صاحب المعالم(2) نظراً إلى ذكر ذلك في طىّ الأدلة على حجّية خبر الواحد وعدم تعرّضه للمناقشة فيه ، مع أنّ كلامه في دفع حجيّة الشهرة وغيرها صريح في خلافه ، وكذا الحال في ملاحظة طريقته في العمل بالأخبار وكان مقصوده بالاحتجاج المذكور بيان حجّية الظنّ في الجملة ، وأنّ الظنّ الحاصل من خبر الواحد أولى بالحجّية من غيره فتعيّن كونه حجّة .

وكيف كان ، فالقول بعدم حجّية الظنّ إلّا ما قام الدليل على حجّيته مصرّح به في كلام جماعة من القدماء والمتأخّرين ، فمن القدماء السيّدان والشيخ(3) ذكروا ذلك عند بيان المنع من العمل بالقياس حيث استندوا بعدم ورود

ص: 161


1- اُنظر : تهذيب الوصول / 76 .
2- اُنظر : المعالم / 189 .
3- الذريعة 2 / 528 - غنيّة النزوع 2 / 390 ، عدة الاُصول 1 / 129 .

العمل به في الشريعة فلا يكون حجة ، إذ الظنّ إنّما يكون حجّة مع قيام الدليل عليه ، وقد يعزى القول بذلك إلى الحلّي والمحقّق(1) ، ومن المتأخّرين المحقّق الأردبيلي وتلميذه السيّد وصاحب الذخيرة فيما حكى عنهم ، وبه نصّ صاحب الوافية حيث قال فيه بعد ذكر احتجاج القائل بحجّية الاستصحاب بأنّه مفيد للظنّ للبقاء(2) .

وفيه : أنّه بناءً على حجّية مطلق الظنّ وهو عندنا غير ثابت واختار ذلك جماعة ممّن عاصرناه من مشايخنا منهم الاُستاذان الأفضلان - تغمدّهما اللَّه برحمته - والمختار عند جماعة اُخرى من أفاضل العصر هو حجّية الظنّ المطلق إلّا ما خرج بالدليل منهم المحقّق البهبهاني وتلميذيه السيّدان الأفضلان صاحب الرياض وشارح الوافية وتلميذه الفاضل صاحب القوانين قدس سرهم ، ولا نعرف القول به صريحاً لأحد ممّن تقدّمهم .

نعم ربما يستظهر ذلك من الشهيد في الذكري بل العلاّمة وصاحب المعالم حسب ما أشرنا إليه ، وقد عرفت ما فيه والظاهر أنّ طريقة الأصحاب مستقيمة على الأوّل ، ولذا لا ترى منهم الاتّكال على الشهرات ونحوها ممّا يقول

ص: 162


1- السرائر 1 / 51 - معارج الاُصول 147 - 142 ، واُنظر : الوافية / 158 - مفاتيح الاُصول / 716 .
2- الوافية / 159 .

به القائلون بحجّية مطلق الظنّ ، بل جماعة منهم يصرّحون بخلافه حتّى أنّ الشهيدرحمه الله مع استقرابه حجّية الشهرة لا يعهد منه الاستناد إليها في المسائل مع كثرتها وحصولها في كثير من الخلافيّات . نعم ربّما يوجد نادراً في بعض كلماته الاستناد إليها ولا يعرف منه اتّكاله عليه بل الظاهر أنّه من قبيل ضمّ المؤيّدات إلى الأدلّة [ج 3 ص 331 - 328] .

قول الوحيد البهبهاني في حجيّة الظنّ المطلق ونقده

أقول : العجب في هذه المسألة أنّ كلّ واحد من الفريقين يزعم استقامة طريقة الأصحاب على مقتضي قوله ، فأوّل من أسّس أساس الظنّ المطلق وبنى عليه بنيانه وشيّد أركانه المحقّق الوحيد البهبهاني - طاب ثراه - حتّى زعم أنّه المشهور المتداول بين فقهائنا ، قائلاً :

« إنّا نراهم يعتمدون على ظنونهم في مقامات إثبات الأحكام أيّ ظنّ يكون ، وأيّ رجحان حصل لهم ، من دون أن يكون على حجّية ذلك الرجحان دليل . نعم ، لا يعملون بالقياس وما هو مثله ممّا ورد المنع عنه شرعاً بخصوصه ، واتّفقوا على عدم اعتباره ، مثل إثبات الحكم بالرمل والنجوم وأمثالهما ، مع أنّا نعرف يقيناً أنّ الطريقة المعهودة بين الشيعة عدم أخذ الحكم الشرعي من أمثال هذه الظنون ، وأنّها أجنبيّة بالنسبة إلى الشرع - إلى أن قال - وبالجملة ، رفع اليد عن الظنون بالمرّة يوجب رفع الشرع بالمرّة ، وتحقّق إجماع يقيني على اعتبار خصوص ظنّ يقيني اعتباره في تحقق الشّرع لنا غير معلوم ، ومع ذلك مشاهد محسوس أنّ المدار الآن على الظنون ، والبناء إنّما هو عليها ، حتّى الّذي ينكر حجّية كلّ ظنّ للمجتهد ليس مداره إلاّ عليه وإن كان ينكر باللّسان .

إلى قوله : وبالجملة ، كون المدار في الفقه على الظنّ في أمثال زماننا من

ص: 163

المسلّمات عند الفقهاء ، ولذا عرفوا الإجتهاد المرادف للفقه بما عرفوا ، بل هو من البديهيّات والمحسوسات ... »(1) إلى آخر ما ذكره .

ووآفقه على ذلك قوم آخرون ، لكنّه من مثل هذا المحقّق الوحيد عجيب ، ولا يكاد تعجّبي ينقضي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة الإمامية لا تجوّزوا العمل بمجرّد الظنّ بما هو ظنّ ؟ أم كيف خفى عليه أنّ عمل الطائفة في هذه الأزمنة لا يغاير ولا يخالف عملهم في أزمنة الأئمّة عليهم السلام بل في زمان النبي صلى الله عليه وآله بل وفي أزمنة الأنبياء السابقين في استنباط الأحكام المقرّرة في الشرايع السابقة ؟ وكيف ينكر الإجماع اليقيني على اعتبار ظنّ مخصوص في الشّرع مع أنّه قدس سره قد نقل الإجماع مكرّراً في عدّة من الظنون المخصوصة ؟

بل لا مجال لأحد في إنكار العمل بالظواهر اللفظية والأخبار الموثوق بها ونحوها ، وهي الّتي استقرّت على العمل بها طريقة القوم ، واستمرّت على ذلك سيرتهم من قديم الدهر ، لايتجاوزون عن ذلك ، ولا يستحلّون العمل بغيرها من الظّنون المطلقة ، بل لو ادّعي مدّعٍ أنّ القول بالظنّ المطلق مخالف لضرورة المذهب وإنكار للمعلوم المشهور البديهي من مذهب أهل البيت عليهم السلام - كساير المطالب الضروريّة والمسائل البديهيّة الّتي لا مجال لأحد ممّن خالط هذه الطائفة واطّلع على طريقتهم وسيرتهم في التشكيك والتّأمّل فيه - لم يكن مُغرباً ، بل هو مصيب في دعوته .

وجميع ما جاء في المنع عن القياس والاستحسان ونحو ذلك نصّ في المنع من الظنّ المطلق ، لا يعرف الطائفة فرقاً بينها وبين نوع الظنّ المطلق ، بل لا

ص: 164


1- نقل عن الوحيد البهبهاني حفيده السيّد محمد الطباطبائي قدس سرهم في مفاتيح الاُصول / 462 .

يفهم من ذلك سوى إناطة المنع بمطلق الظنّ ، وأين ذلك من الظنون المخصوصة الّتي يعامل معها معاملة اليقين في جميع الملل والأديان ؟ بل في جميع الأُمور الدائرة بين العقلاء ، حتّى لا يكاد يفرق بينها وبين العلم اليقيني في شي ء من المقامات .

الباعث على عدم التعرّض لعدم حجيّة الظن المطلق في كتب القدماء وأكثر المتأخّرين وضوحه

وظنّي أنّ الباعث على عدم التعرّض لهذه المسألة في كتب القدماء وأكثر المتأخّرين بلوغ الحكم فيها بحسب الوضوح والظهور حدّاً يستغني عن التصريح والبيان ، ونحن نقطع أنّ أحداً من الطائفة قبل ظهور هذا الخلاف لا يستجيز التمسك في الأحكام الشّرعية بمجرّد الظنّ بما هو الظنّ ، إنّما يستدلّون بالظواهر اللّفظية والاُصول العمليّة ونحوها .

وما يوجد في كلامهم في مقام الإفتاء من التعبير بالأظهر والظاهر والأقوى والأشبه والأرجح ونحوها فإنّما هو بحسب تلك الظواهر والاُصول والترجيحات المعمولة في مقام المعارضة ، ولا يكشف ذلك عن إناطة الحكم عندهم بمجرّد المظنّة ، ألا ترى أنّ الكليني قدس سره قد صرّح في أوّل الكافي ب « أنّ الشرط من اللَّه [جلّ ذكره] فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة »(1) .

والصدوق قد نصّ في العلل عند ذكر حديث موسى مع الخضر - على نبيّنا وآله وعليهما السلام - على أنّه إذا لم يصلح للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف يصلح الأمّة لاختيار الإمام ؟ وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعيّة واستخراجها بعقولهم الناقصة ؟(2)

ص: 165


1- الكافي 1 / 6 .
2- علل الشرايع 1 / 63 .

والسّيد في الذريعة صرّح بأنّ « الإجتهاد عندنا باطل ، وأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ، ولا الرأى ، ولا القياس ، ولا الاجتهاد »(1) .

ونصّ في غير موضع من الانتصار(2) وساير كتبه على أنّ ما يفيد الظنّ دون العلم لا يجوز العمل به عندنا(3) .

وقال الشيخ في العدّة : « وأمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين » .

وقال : « وأمّا الظن فعندنا أنّه ليس بأصل في الشريعة »(4) .

ونصّ إبن إدريس أيضاً ببطلان الاجتهاد ونحوه(5) .

وقال الطبرسي في المجمع : « لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات واُروش الجنايات »(6) .

وقال المحقّق في المعتبر : « ثمّ إنّ أئمّتنا يصوّبون رأى الإماميّة في الأخذ عنهم ، ويعيبون على غيرهم ممّن أفتى باجتهاده وقال برأيه ، ويمنعون من يأخذ عنه ويستخفّون رأيه وينسبونه إلى الضّلال ، ويعلم ذلك علماً ضروريّا صادراً عن النقل المتواتر »(7) .

ص: 166


1- الذريعة 2 / 510 .
2- الانتصار - 411 و 58 .
3- رسائل الشريف المرتضى 2 / 60 .
4- عدة الاُصول 1 / 8 ، 17 .
5- السرائر 2 / 170 .
6- مجمع البيان 7 / 103 .
7- المعتبر 1 / 27 .

وقد صنّف جماعة من قدمائنا كتباً في ردّ الاجتهاد وعدم جواز الأخذ به(1) يعرفه من تتبّع كتب الرّجال ، ولم يزل هذه الطريقة مستمرّة معروفة في هذه الطائفة ، لا يعرفون لها تغييراً ولا تبديلاً إلى قريب من هذا العصر ، بل الطريق في الاستنباط عندهم واحد لم يتغيّر ببعد العهد وطول المدّة ، ولولا الشّبهة الّتي

ص: 167


1- منها : « كتاب النقض على عيسى بن أبان في الإجتهاد » لإسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت . اُنظر : رجال النجاشي / 31 الرقم 68 . الفهرست للشيخ الطوسي 31 ، الرقم 36 . ومنها : « نقض اجتهاد الرأي على إبن الراوندي » لإسماعيل المذكور . اُنظر : الفهرست للشيخ الطوسي ص 32 الرقم 36 ، معالم العلماء / 44 ، الرقم 36 وفهرست ابن النديم / 225 . ومنها : « الاستفادة في الطعون على الأوائل على اصحاب الإجتهاد والقياس » لعبد اللَّه بن عبد الرحمن الزبيري . اُنظر : رجال النجاشي / 220 الرقم 575 . ومنها : « الردّ على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول » للشيخ الجليل هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني . اُنظر : رجال النجاشي / 440 ، الرقم 1186 . ومنها : « النقض علي ابن الجنيد في اجتهاد الرأي » للشيخ المفيد . اُنظر : رجال النجاشي / 399 ، الرقم 1067 و ... وفي هذا المجال اُنظر المصادر التالية : الف : الفوائد الرجاليّه ( للعلاّمة السيد مهدي بحر العلوم ) 3 / 224 . ب : هداية المسترشدين 3 / 683 . ج : مقدمة النصّ والاجتهاد ( بقلم العلاّمة السيد محمّد تقي الحكيم » / 17 . د : تاريخ حصر الاجتهاد للعلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني / 12 . ه : الذريعة ج 2 / 29 ، الرقم 113 ، ج 10 / 287 ، الرقم 686 ، ج 24 / 289 - 287 - 285 ، الرقم 1460 ، 1471 ، 1496 . و : دروس في علم الاُصول 1 / 46 . ز : المعالم الجديدة للاُصول / 23 .

حصلت للعامل بمطلق الظنّ لكان في خطر عظيم ، واللَّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم .

ردّ قول الأخباريين بعدم حجيّة الظنّ مطلقاً ودعويهم بأنّ الأخبار المعروفة قطعية الصدور والدلالة

اشارة

قال - طاب ثراه - :

هذا وربّما يوجد في كلام بعضهم ممّن لا تحصيل له مخالفة القولين والبناء على فساد الوجهين بدعوى عدم حجّية الظنّ مطلقاً في استنباط الأحكام وعدم انسداد سبيل العلم بالتّكليف مادام التكليف باقياً وأنّ الأخبار المعروفة الواردة عن أهل العصمة - سلام اللَّه عليهم - مما تداولته الشيعة قطعية الصّدور والدّلالة ، وأنّها كافية في بيان ما يرد علينا من الفروع المتجدّدة مفيدة لللقطع بحكم الواقعة ، وهو من الاُوهام الفاسدة الّتي لا يخفى وهنها على من له أدنى مسكة ولا علينا في المقام الإشارة إلى بيان وهنها وإبداء وجوه فسادها ، إذ ليس ذلك من الأُمور المهمّة ولا ممّا يحتاج إلى إعمال نظر ورويّة ولعلّنا نشير إليه في مباحث الاجتهاد والتقليد إن شاء اللَّه وانّما المعقود عليه البحث في المقام هو الكلام في تميّز الحقّ من القولين الأوّلين وبيان أدلّة الجانبين [ج 3 ص 331] .

إرجاع المؤلف إلى بحث الاجتهاد من الهداية

أقول : ما أشار إليه قدس سره هو الّذي ذهب إليه شر ذمة من متأخّري الأخباريّين ، وأفرط بعضهم في الاحتجاج عليه بوجوه كثيرة من النقل والعقل ، وهو في الحقيقة معارضة للوجدان ، أو مناقشة في الأمر المحسوس بشبهة البرهان ، ومن أراد الإطّلاع على خلاصة احتجاجاتهم في ذلك والجواب عنها فليرجع إلى ما

ص: 168

اشار إليه قدس سره في مبحث الاجتهاد من هذا الكتاب(1) ، فإنّه كافٍ في هذا الباب ، واللَّه الموفّق للصّواب .

ما المراد من حجيّة الظنّ مطلقاً ؟

اشارة

قال - طاب ثراه - :

ثمّ إنّه يقوم في كلّ من القولين وجهان : فيحتمل أن يراد من حجيّة الظنّ مطلقاً كون الحجّة بعد انسداد سبيل العلم بالواقع هو الظنّ بالواقع فيكون حجّية الأدلّة عند القائل به منوطة بالظن بالواقع ، بل لا تكون الحجّة عنده إذن إلّا نفس الظنّ ، فمع عدم حصول الظنّ من الدليل لمانع يمنع منه لا تنهض حجّة وإن لم يكن المانع المفروض حجّة ، إذ منعه من حصول الظنّ إنّما يتبع الوجدان دون الحجّية ، وقضيّة عدم الحجّية عدم الاتّكال على الظنّ الحاصل المانع ولا ربط له بالمنع من حصول الظنّ منه . ويحتمل أن يراد به حجّية ما يفيد الظنّ في نفسه سواء حصل به الظنّ بالحكم فعلاً لانتفاء ما يمنع من حصوله أو لم يحصل لحصول مانع منه ، والأوّل هو الّذي ، يقتضيه ظاهر بعض كلماتهم وتعطيه أدلّتهم .

وأمّا الثاني فلا يفي به ما قرّروه من الأدلّة كما ستعرف إن شاء اللَّه .

ويمكن أن يقال بحجيّة الظنّ مطلقاً سواء تعلّق بالواقع

ص: 169


1- اُنظر : هداية المسترشدين 3 / 683 - 680 .

أو بالطريق الموصل في حكم الشّارع ، فلو قام دليل ظنّى على حجّية أمر خاصّ - كظاهر الكتاب - قام حجّة ولو لم يحصل منه الظنّ بالواقع لمانع منه ، وكان الأظهر بناءً على القول المذكور هو ذلك ، فإنّه إذا قام الظنّ مقام العلم قضى بحجّية الظنّ المتعلّق بالطريق أيضاً فإنّه أيضاً من جملة الأحكام الشرعيّة .

إلاّ أن يقال : إنّ المقصود حجيّة الظنّ في مسائل الفروع بعد انسداد سبيل العلم بها دون ما يتعلّق بالاُصول وبيان الطريق إلى استنباط الأحكام من مسائل الاُصول ، فلا يندرج تحت الأصل المذكور ، وفيه تأمّل .

ويحتمل أيضاً على القول الثاني أن يقال بحجّية الظنون الخاصّة ليكون الحجّة نفس الظنّ الحاصل من الأدلّة ، فيناط حجّية الأدلّة عنده بالوصف المذكور ، إلّا أنّه لا يوافقه بعض كلماتهم ، وأن يقال بحجية طرق خاصّة وظنّيات مخصوصة أفادت الظنّ بالواقع أو لم تفده .

وهذا هو التحقيق في المقام ، إذ ليست حجيّة الأدلّة الشّرعيّة منوطة بحصول الظنّ منها بالواقع وانّما هي طرق مقرّره لإفادة الواقع على نحو الطّرق المقرّرة للموضوعات في إجراء الأحكام المقرّرة لها والنسبة بين القولين على الوجهين الأوليّن عموم مطلقاً كما هو الحال في الوجه الثاني منهما في وجه وكذا الحال في الاحتمال الثالث من الأوّل مع

ص: 170

الثاني وكذا من الثاني لو قيل بأحد الأخيرين من الأوّل والأوّل من الثاني ، وفي عكسه يكون بينهما عموماً من وجه [ج 3 ص 332 - 331] .

نقد كلام الماتن

أقول : وجه كون النسبة بين القولين على الوجه الثاني منهما عموماً مطلقاً أنّ الأوّل يقول بحجّية كلّما يفيد الظنّ في نفسه و إن لم يحصل فعلاً لمانع ، والثاني يخصّ الحكم بطرق خاصّة من شأنها إفادة الظنّ كذلك .

وفيه : أنّ الأوّل لا يقول بحجيّة الثاني عند معارضته بالأقوى من الظنون المطلقة أو المساوي ، بخلاف الثاني ، لسقوط الظنون المطلقة عنده عن الاعتبار ، فلا يصلح لمعارضة الحجّة ، فيكون النسبة بينهما عموماً من وجه .

وقد يجاب بأنّ الأوّل لا ينكر حجّية الثاني عند المعارضة المذكورة من حيث ذاته ، إنّما يقول بتقديم الأقوى من الحجّتين ، للفرق بين عدم حجّية الطريق من أصله وتقديم الحجة الأقوى عليه بعد تسليم أصل حجّيته ، فالقول الأوّل يستلزم القول بحجّية الثاني في حدّ ذاته ، بخلاف العكس ؛ وكان ذلك هو الوجه الّذي أشار إليه المحقّق المصنّف - طاب ثراه - .

وأمّا الاحتملان الأخيران من الأوّل مع أحد وجهي الثاني فقد يقال بكون النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه ، نظراً إلى إمكان الاختلاف في الموضوع ؛ إذ قد يقول الثاني بحجّية بعض الطرق التعبّديّة لاعتقاده حجّيتها ، ولا يقول الأوّل به لعدم ظنّه بذلك ، أو عدم اندراجه فيما يفيد الظنّ في نفسه ، إلاّ أن يكون الثاني قائلاً باختصاص الحجّية بما من شأنه إفادة الظن ، لكنّه غريب ، لأنّ العامل بالظنون المخصوصة لا ينكر وجود الطرق التعبّدية ، فلا تغفل .

ولو كان الملحوظ في النسبة نفس العنوان دون المصداق فلا شكّ في كون

ص: 171

النسبة بين القولين على جميع التقادير عموماً مطلقاً ، إذ الثاني يقول بحجّية ما يقطع به من الظنون المخصوصة والظنيّات المعيّنة الّتي قام الدليل على حجيّتها بالخصوص ، وهذا العنوان ممّا لا يمكن التّأمّل في اعتباره على الأوّل أيضاً ، إنّما يقول مع ذلك بحجّية ساير الظنون أو الظنيّات ممّا لا دليل على اعتبارها بالخصوص ، فيرجع الخلاف فيها بعد الاتّفاق على الأوّل إلى الإثبات والنّفى .

غاية الأمر أنّ هناك خلافاً آخر في بعض الظنون أو الظنيّات أو الطرق المخصوصة في قيام القاطع على حجيّتها وعدمه ، وهو كلام في المصداق ، وإن كانت المسألة مبنيّة عليه أو على حصول الاكتفاء بها في إثبات الأحكام الشرعيّة وعدمه .

الإشكالات الواردة على معنيي حجيّة الظنّ مطلقاً وجوابها

اشارة

قال - طاب ثراه - :

هذا و قد يستشكل في القول الأوّل بأنّه إذا كانت قضيّة حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم حجّية مطلق الظنّ وقيامه مقام العلم لزم القول به على الإطلاق ، فلا وجه لتخصيص بعض الظنون وإخراجه عن العموم المذكور لقيام الدليل عليه لما تقرّر من عدم ورود التخصيص على القواعد العقليّة وإنّما وروده على العمومات اللفظيّة والقواعد الشرعيّة ونحوها ، فكما أن لا تخصيص في الحكم بحجّية العلم فكذا ينبغي أن يكون الحال في ا الظنّ القائم مقامه بعد انسداد سبيله .

وأنت خبير بأنّ الإشكال المذكور مشترك الورود بين القولين فإنّ القائل بحجّية الظنون الخاصّة يقول بأصالة عدم

ص: 172

حجّية الظنّ وأنّه لا يقوم شي ء من الظنون حجّة في حكم العقل إلّا ما قام الدليل على حجيّته ، ففي ذلك أيضاً التزام للتخصيص في القاعدة العقليّة .

وقد عرفت الجواب عنه فيما مرّ ، وأنّه ليس ذلك من التّخصيص في شي ء وانّما هو اختصاص في حكم العقل ، فإنّ مفاد حكم العقل هو عدم حجّية كلّ ظنّ لم يقم دليل على حجّيته ، فالمحكوم عليه بحكم العقل هو الظنّ الخالي عن الدليل لا مطلقاً ، وكذا الحال في القول الثاني ، فإنّ المحكوم عليه بالحجّية هو الظنّ الّذي لم يقم دليل على عدم حجّيته ، والظنّ الّذي قام الدليل على عدم حجيّته خارج عن الموضوع لا أنّه يخرج عنه بعد حكم العقل بحجيّة الظنّ مطلقاً حتّى يكون تخصيصاً في حكم العقل .

نعم هو تخصيص بالنسبة إلى ظاهر التّعبير حيث يعبّر بلفظ عامّ ثمّ يخرج عنه ذلك كما هو الحال في التخصيصات الواردة على العمومات النقليّة ، إذ ليس ذلك إلّا بحسب ظاهر التّعبير دون الواقع إلّا ما كان من التّخصيص البدائي فإنّه تخصيص بحسب الواقع ، ولا يجري في حكم العقل ولا في شي ء من التخصيصات الواردة في الشرع .

فظهر بما ذكرنا أنّ ما ذكر من امتناع التخصيص في أحكام العقليّة إنّما يراد به التخصيص الواقعي ، وهو أيضاً مستحيل في العمومات الشرعيّة ، والتخصيص في التعبير

ص: 173

جائز في الصورتين ، إذ لا مانع من إبداء الحكم على الوجه العموم ثمّ ايراد التخصيص عليه حتّى يكون الباقي هو المحكوم عليه بحكم العقل ، كما في المقام .

فظهر بذلك أنّه لا فرق بحسب الحقيقة بين ورود التخصيص على الحكم العقلي والشرعي غير أنّه لما كان المدار في الحكم الشرعي على ظواهر الألفاظ كان علينا الأخذ بالظاهر حتّى يتبيّن المخصصّ بخلاف حكم العقل ، فإنّه إن قضى بالعموم لم يرد عليه التخصيص ، وإن لم يقض(1) فلا تخصيص ، وإنّما يلحظ التخصيص بحسب تعبيرنا عن حكم العقل فهذا هو الفرق بينهما حيث حكموا بعدم جواز التخصيص في حكم العقل دون غيره [ج 3 ص 334 - 332] .

جواب المؤلف على بعض الإشكالات

أقول : هذه مناقشة معروفة في المقام ، قد استصعب على بعض الأعلام ، وأجاب عنها المحقّق المصنّف - طاب ثراه - تارة بالنقض بحكم العقل عند انفتاح باب العلم بحرمة العمل بالظنّ ، فإذا جاز قيام الدليل من الشارع على اعتبار بعض الظنون - كما هو ظاهر عند الفريقين - كذا يجوز قيام الدليل عند حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ عند الانسداد على تحريم العمل ببعض الظنون ، فما يجاب به عن الأوّل يجاب به عن الثاني أيضاً .

وتارة بالحلّ ، وهو أنّ العقل إنّما يحكم عند الانسداد بقيام البرائة الظنية

ص: 174


1- في المطبوعة الحديثة : لم يورد .

مقام العلميّة ، فإذا حصل بواسطة منع الشارع عن بعض الظنون القطع بعدم البرائة خرج بذلك عن موضوع حكم العقل ، إذ لا يبقى هناك برائة ظنيّة حتّى يحكم العقل بقيامها مقام العلمية ، وكذا حرمة العمل بالظن على القول الآخر إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التّمكن منه ، فإذا فرض الدليل على الاكتفاء ببعض الظنون صار الامتثال به علميّاً ، فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بمادونه ، فالحال في كلّ من المقامين على عكس الآخر .

وتارة بأنّه إن اُريد التخصيص بحسب ظاهر التعبير جاز ذلك في كلّ من الأدلّة العقلية والنّقلية ، وإن اُريد ذلك بحسب الواقع ونفس الأمر لم يجز في المقامين ، فإنّ العمومات اللفظية والقواعد الشرعيّة أيضاً يمتنع شمولها بحسب الحقيقة للأفراد الخارجية بالدّليل ، لامتناع إرادة شمول الحكم الأوّل لها حقيقة ، للزوم المناقضة بين المرادين ، وهو محال بالنّسبة إلى ما نحن فيه من الأُمور الدّينية ، إنّما يتصوّر ذلك في التخصيص البدائي ، ولا سبيل إليه حقيقة في الأحكام الشرعيّة ، فليس التّخصيص هناك إلاّ بحسب ظاهر التعبير ، فكذا الحال في الدليل العقلي .

إنّما الفرق بين المقامين أنّ المدار في الألفاظ على ظواهرها وهي الحجّة حتّى يرد المخصّص ، بخلاف الحكم العقلي ، فإنّه لا يحكم إلاّ بعد الإحاطة بجميع جهات المسألة ، فلا معنى للتخصيص فيه .

وهذه الجهة لا توجب التفرقة بين المقامين فيما نحن فيه ، لأنّ التخصيص الوارد في المقامين كاشف عن عدم إرادة ذلك الفرد المخصوص من الحكم العام في كلّ منهما ، واُخرى بأنّ دليل الانسداد إنّما يقتضي بحجّية الظنّ في الجملة ، وإنّما تصير كليّة بملاحظة انتفاء المرحجّ بين الظنون ، وأيّ مرجّح أقوى من قيام

ص: 175

الدليل القاطع على تحريم العمل ببعض الظنون ، فإنّما يدلّ ذلك على حجّية الظنّ الّذي لم يقم على عدم حجيته دليل ، وإنّما يرد الإشكال في غير ذلك من بعض أدلة القوم ، وفيه دلالة على فساده وتوقّفه على ضمّ مقدمات دليل الإنسداد إليه ، فارتفع الإشكال بحذا فيره .

اعتراض بعض المشايخ على الماتن وجوابه

وأعترض بعض مشايخنا المعاصرين(1) على المصنّف قدس سره بما حاصله إنّ العقل إن قضي بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي - حال الانفتاح - والظنيّ - حال الانسداد - فكيف جاز التخصيص فيه ؟ وليس الغرض الإشكال في حصول البرائة حال الانفتاح بالعمل ببعض الظنون عند ثبوت الأمر به وعدمها حال الانسداد عند ثبوت النهي عنه ، إنّما الإشكال في جواز الأمر والنهي المفروضين عند تقبيح العقل لهما ، نظراً إلى منافاتهما لما هو الغرض في جعل الواقع ، إذ ليس حال الظنّ عند انسداد سبيل العلم إلاّ ما هو الحال في العلم عند انفتاح سبيله ، فاذا امتنع المنع من العمل بالعلم في بعض المقامات امتنع مثله في الظنّ ، ومن المعلوم أنّ دليل الانسداد إنّما يقضي بحكم العقل بقيام الظنّ مقام العلم وقبح الاكتفاء بمادونه عند انسداد العلم ، و حينئذٍ فينحصر الوجه في صحّة الأمر والنهي المفروضين في أحد وجهين ؛

أحدهما : أن يكون الظنّ المفروض حال الانفتاح في علم الشارع غالب الموافقة للواقع ، كموافقة علم المكلّف له ؛ واتّفاق المخالفة في الظنّ المفروض على حسب اتّفاق المخالفة في علم المكلّف ، فلا يكون الحال فيه بأدون من العلم

ص: 176


1- وهو الشيخ الانصاري في فرائد الأصول 1 / 528 - 526 . واُنظر : فوائد الاُصول 4 / 603 ، عناية الاُصول 3 / 368 - 367 .

بإصابة الواقع ، ويكون ذلك هو الوجه في حكم الشارع بحجّيته وعدم لزوم تحصيل القطع معه .

ويكون الحال في الظنّ الممنوع حال الانسداد بعكس ما ذكر ، بأن يكون في علم الشارع غالب المخالفة للواقع ، ويكون غيره من الطّرق أقرب إلى الواقع منه .

وذلك هو المستفاد من أكثر النواهي الواردة في المنع من القياس وشبهه ، كما ورد : « إن دين اللَّه لا يصاب بالعقول(1) ، وإنّ السنة إذا قيست محق الدّين »(2) ، ونحو ذلك .

والآخر : أن يشتمل الظنّ المفروض عند الانفتاح على مصلحة يتدارك بها مفسدة المخالفة للواقع ، والظنّ الممنوع حال الانسداد على مفسدة تغلب على مصلحة إدراك الواقع عند العمل به ، وهذه المصلحة والمفسدة وإن أمكن حصولهما في كلّ ظن يفرض إلاّ أنّ العقل لا يجوّز الاكتفاء بمجرّد الاحتمال في العدول عن العلم حال الانفتاح والظنّ حال الإنسداد .

فحكم العقل في المقامين ظاهريّ مبنيّ على ثبوت أحد الأمرين المذكورين ، أمّا بعد قيام الدليل فلا محيص عن العمل به .

وأنت خبير بأنّ اشتراك الواقع والطريق المفروض في المصلحة الواقعية الباعثة على تشريع الحكم يأبى عن تعيين الواقع في الجعل الأوّل ، وإنّما يقتضي الحكم بالتخيير في أوّل الأمر ، فيرجع إلى القول بالتصويب ، وهو باطل .

ص: 177


1- كمال الدين 324 ح 9 - مستدرك الوسائل 17 / 262 ح 25 .
2- المحاسن 1 / 214 ح 97 - الكافي 1 / 57 ح 15 ، وسائل الشيعة 27 / 41 ، ح 10 .

وإنّما المصالح والمفاسد الباعثة على تشريع الأحكام ثابتة في نفس الأفعال مع قطع النظر عن علم المكلّف وجهله ، وليست بعلل تامّة يمتنع تخلّفها(1) ، والبيان المذكور إنّما يستقيم لو كانت كذلك كما ، في الأوامر الإرشادية المحضة ، فإنّها الّتي يمكن القول بأنّ الاكتفاء فيها بمادون العلم مع إمكانه أو بما دون الظنّ مع تعذّره نقض للغرض المقصود منها إلاّ على أحد الوجهين المذكورين .

وقد تقدّم في المقدّمة الرابعة أنّ الأحكام الشرعيّة ليست من هذا الباب ، وإنّما المصالح والمفاسد الملحوظة فيها مقتضيات وحكم باعثة على ترجيح جملة من الأفعال بالأمر واُخرى بالنهي في الواقع ونفس الأمر ، وهي الأحكام الواقعية الثابتة مع علم المكلّف وجهله .

ثمّ إنّ هناك مصالح ومفاسد اُخرى في الطرق الّتي يتوصّل المكلّف بها إلى معرفتها من حيث هي طرق إليها ، تبعث على الأمر ببعضها والنهي عن آخر ، وليست منحصرة في غلبة الإيصال وضدّها في علم الشارع ، ومنها ملاحظة تسهيل الأمر على المكلّف في جعل الطرق الّتي لا تفيد العلم مع إمكانه اكتفاءً في إدراك مصلحة الواقع على البعض المصادف له ، ويكون الغرض في غيره امتحان المكلّف واختباره في إقدامه على الطاعة وعدمها . وكذا الوجه في المنع عن بعض الظنون مع الانسداد ، ولا ينحصر في غلبة المخالفة للواقع ، لإمكان ملاحظة حكمة الابتلاء والاختبار في الطرق أيضاً ، أو لأدائه إلى اختلال النظام المقصود ، أو غير ذلك .

ص: 178


1- فرائد الاُصول 1 / 528 - 526 .

فإنّما الواجب على المكلّف في حكم العقل تحصيل البرائة اليقينيّة بإصابة الواقع أو الطريق من غير ترتّب بينهما مع إمكانها ، والظنيّة مع تعذّرها ؛ ولا شكّ أنّ الظنّ الممنوع عنه يقيناً أو ظنّياً أو احتمالاً متساوياً لا يوجب الظنّ بالبرائة ، فلا يندرج في موضوع حكم العقل من الاكتفاء بالبرائة الظنيّة ، كما سيجي ء تفصيل القول فيه إن شاء اللَّه ، فأندفع الإشكال بحذافيره على حسب ما قرّره المحقّق المصنف - طاب ثراه - .

الرجوع إلى مطلق الظنّ يتصوّر على وجوه

والحاصل : إنّ الرجوع إلى مطلق الظن يتصوّر على وجوه ؛

الأوّل : إنّ المرجع في زمان الانسداد هو الظنّ الحاصل بالواقع في كلّ مسألة يتعذّر العلم بحكمها ، نظراً إلى قبح الاكتفاء بما دونه مع إمكانه على نحو الاكتفاء بالظنّ مع إمكان العلم ، ومن المعلوم أنّ الحاصل في كلّ مسألة ظنيّة مع بُعد ملاحظة جميع الأمارات الممكنة ليس إلاّ ظنّ واحد يقابله الوهم ، فإن استقلّ العقل بقبح العدول عن الظنّ إلى الوهم فلا وجه لإخراج القياس وشبهه ، وإلّا فلا وجه للجزم بحجيّة الظنّ .

والإشكال المذكور إنّما يرد على هذا القول ، ولا مخلص عنه حينئذٍ إلّا بالتزام أحد الوجهين المذكورين ، وفيهما من التكلّف ما لا يخفى . وفيه شهادة على منشأ أصل القول ، فضلاً عمّا هو معلوم بالضرورة من حجّية الطرق الغير العلمية ، بل ولا الظنيّة في حالتي الانفتاح والانسداد لكلّ من الأحكام والموضوعات في الجملة ، ولا مجال للخصم في إنكاره ، إنّما يقول بعدم حصول الاكتفاء به ؛ ولو تمّ ما ذكر من قبح الاكتفاء بغير العلم بالواقع مع إمكانه أو الظنّ مع عدمه لكان مناقضاً لمقتضى الضرورة المذكورة ، إلاّ أن يلتزم أحد الوجهين السابقين ، وهو كما ترى .

ص: 179

وبالجملة ، فكلّما يجاب به عن الإشكال في حجّية الطرق المذكورة فهو جوابنا في المنع من القياس وشبهه .

الثاني : إنّ المرجع هو الظنّ بأحد الأمرين من الواقع أو الطريق ، وهذا لا يلائم القطع بقبح الاكتفاء بما دون الواقع ولزوم تحرّي الأقرب إليه ، والإشكال المذكور إنّما يتفرّع عليه ، فتأمّل .

الثالث : أن يقال بكون العقل دليلاً وكاشفاً عن نصب الشارع في زمان الانسداد للظنّ طريقاً إلى الواقع في الجملة ، على سبيل القضيّة المهملة ، ويكون التعميم مبنياً على بطلان الترجيح من غير مرجّح ، وحينئذٍ فلا إشكال ، وأيّ مرجّح أقوى من منع الشارع عن بعضها بالدليل القاطع .

الرابع : أن يقال بحجّية مطلق الظنّ بالطريق ، على طريقة صاحب الفصول قدس سره ويتصوّر ذلك على أحد الوجهين المذكورين بالنسبة إلى الطريق ؛ والإشكال الإشكال ، والجواب الجواب .

الخامس : أن يقال بحجّية الظنّ بالطريق ، على طريقة المصنّف - طاب ثراه - . وعليه لا يتصوّر فيه إشكال بوجه من الوجوه ، لامتناع حصول الظنّ بالطريق بهذا المعنى من الطرق الممنوعة ، بل ومن الطرق الموهومة والمشكوكة أيضاً ، بل ومن الطريق المقطوع به أيضاً ، كما يأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى ، فلا تغفل .

ذقل بيان المحقّق القمّي

اشارة

قال قدس سره :

ويستفاد من كلام بعض الأفاضل في الجواب عن الإيراد المذكور وجوه اُخر موهونة :

أحدها : أنّا لانلتزم بالتخصيص ، بل نقول بعد انسداد

ص: 180

باب العلم بحجّية جميع الظنون ، وما دلّ على عدم حجّية القياس ونحوه فإنّما هو قبل انسداد باب العلم ، وأمّا بعده فلا فرق بين الظنّ الحاصل منه ومن غيره .

وأنت خبير بما فيه ، إذ المنع من العمل بالقياس في عصرنا وما شابهه من الإجماعيّات عند الشيعة بل لا يبعد دعوى الضرورة عليه فالتزام العمل به حينئذٍ ممّا لا يقول به أحد ، والظاهر أنّ المجيب لا يعمل به أيضاً .

ثانيها : المنع من حصول الظنّ من القياس ونحوه وذلك علّة منع الشارع من الأخذ به ، وهو كما ترى ، إذ حصول الظنّ من القياس ونحوه من الأُمور الوجدانيّة الّتي لا مجال لإنكارها .

ثالثها : أنّ مورد القياس ونحوه لم يثبت انسداد باب العلم بالنسبة إلى مقتضاه ، فإنا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل بمؤدّى القياس ، فيعلم أنّ حكم اللَّه غيره وإن لم نعلمه أيّ شي ء هو ، ففي تعيينه نرجع إلى ساير الأدلّة وإن كان مؤدّاها عين مؤدّاه .

وملّحض هذا الجواب خروج مورد القياس ونحوه عن محل الكلام ، فإنّ البحث فيما انسدّ فيه باب العلم والمفروض عدم انسداد باب العلم بالنسبة إليه فلا تخصيص . ويمكن أن يرجع ذلك أيضاً إلى عدم إفادته الظنّ نظراً إلى قيام الدليل القاطع على عدم حجّيته فكيف يفيد

ص: 181

الظنّ بمقتضاه مع قيام القاطع على خلاف ما يقتضيه ؟ وفيه : أنّ الّذي لم ينسدّ فيه باب العلم هو حرمة العمل بالقياس لا عدم موافقة مؤدّاه للواقع ، فالأخذ به أخذ بغير العلم لا أخذ بخلاف الواقع ، فتفريعه العلم بكون حكم اللَّه غير مؤدّى القياس على العلم الحاصل من الضرورة على حرمة العمل به إن أراد به حصول العلم من حرمة العمل بالقياس أنّ حكم اللَّه بالنسبة إلينا عدم الاعتماد على القياس والاتّكال عليه في استنباط الحكم فلا يجوز لنا الأخذ بمؤدّاه من حيث إنّه مؤدّاه وإن جاز الأخذ به من حيث كونه مؤدّى دليل آخر ، فهو كذلك ، إلّا أنّه لاربط له بالجواب عن الإيراد المذكور ، فإنّ ذلك عين مفاد عدم حجّية القياس .

وحاصل الإيراد أنّه إذا قضى العقل بعد انسداد سبيل العلم بالواقع بقيام الظنّ مقامه لم يتّجه عدم الاعتماد على الظنّ الحاصل من القياس ونحوه . ولا وجه لقيام الدليل على عدم الاعتداد به بعد قطع العقل بما ذكر ، وهو على حاله لا ربط له بما ذكر من الجواب عنه وإن أراد أنّ العلم بحرمة العمل بالقياس قاضية بكون الحكم في الواقع غير ما دلّ عليه القياس فهو واضح الفساد . واعتبار كون الحكم مستفاداً من القياس لا يقضي بتعدّد الحكم حتى يقال : إنّ الحكم الواقعي من حيث كونه مستفاداً من القياس غيره من حيث كونه مستفاداً من دليل شرعي حتّى يعلم انتفاء الأوّل

ص: 182

بعد العلم بحرمة العمل بالقياس ، وهو ظاهر [ج 3 ص 335 - 334] .

نقد المؤلف على المحقّق القمّي

أقول : الوجوه المذكورة للفاضل القمّي قدس سره في القوانين(1) .

وقد يوجّه الأوّل بأنّ ما دلّ على حرمة العمل بالقياس إن كان هو الأخبار المتواترة معنىً في الحرمة ، فلا ريب أنّ اكثرها إنّما ورد في مقام الطعن على فقهاء الجمهور التاركين للثقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر الّذي عنده علم الثقل الأكبر ، ورجعوا إلى آرائهم ، فقاسوا واستحسنوا ، وضلّوا وأضلّوا . وبعضها إنّما دلّ على المنع منه من حيث استلزامه لإبطال الدين والسنّة ؛ وبعضها إنّما ورد في وجوب التوقّف والردّ إلى أئمة الهدى .

وأمثال هذه المضامين إنّما تدلّ على المنع مع إمكان التثبّت بالرجوع إلى الطرق الشرعيّة المعتبرة ، أو الرجوع إلى الإمام عليه السلام ، لا عند دوران الأمر بين الأخذ بالمظنون أو الموهوم ، وإن كان هو الإجماع أو الضرورة ؛ فشموله لجميع الأزمنة والأحوال محلّ منع .

ألا ترى أنّه لو اتّفق انسداد باب الطرق السمعيّة لعامّة المكلّفين في بعض الأزمنة أو لمكلّف واحد باعتبار البُعد عن بلاد الإسلام والابتلاء بسجن الأعداء ، ثمّ دار الأمر بين العمل بما يظنّ أنّه الحكم الشرعي المتداول بين المتشرّعة ، أو بما يقابله من الاحتمال الموهوم ، كيف يمكن دعوى الضرورة على تحريم الأخذ بالأوّل ووجوب الأخذ بالثّاني ؟ والمفروض أنّ زمان الانسداد عند القائلين بالظنّ المطلق - لو سلّم - فهو من هذا القبيل ، إذ لا خصوصية عندهم في الظنون

ص: 183


1- اُنظر : قوانين الاُصول / 18 .

المطلقة تقضي باعتبارها من حيث الخصوصيّة ، ودعوى الضرورة في ذلك ليست بأوضح من دعوى السيّد ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد(1) .

والثاني : بأنّ من تتبعّ الأحكام الشرعيّة وتأمّل في طريقة الشارع وجد بناء الشارع الأقدس على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المجتمعات ، ولذا ورد : « إنّ دين اللَّه لايصاب بالعقول »(2) و « إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين »(3) و« إنّه ليس شي ء أبعد عن عقول الرّجال من دين اللَّه »(4) وغير ذلك من الأخبار الكاشفة عن غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس وشبهه ؛ وكفاك احتجاج مولانا الصادق عليه السلام على أبي حنيفة وأحزابه من العامة العمياء(5) بما ورد في الشّرع من أمثال ما ذكر وإنكاره عليه السلام على أبان بن تغلب في ردّ ما جاء في دية أصابع المرأة ممّا يستبعده العقل(6) ومع ملاحظة أمثال ما ذكر كيف يحصل الظنّ الغالب من القياس وشبهه ؟

والثالث : بأنّ الغرض من الانسداد تعذّر تحصيل القطع بمداليل الطرق الشرعيّة الّتي تعلّق التكليف بسلوكها في تحصيل الأحكام الشرعيّة في مثل هذه الأزمنة ، وهي الأحكام الظاهرية الّتي يجب العمل بها بالفعل ، دون الأحكام الواقعية ، فإنّها اُمور شأنية مشروطة بأمر غير حاصل في هذه الأزمنة ،

ص: 184


1- رسائل الشريف المرتضى 1 / 24 .
2- كمال الدين / 324 ، الحديث 9 ، وفيه « بالعقول الناقصة » .
3- الكافي 2 / 288 ح 1 ، وسائل الشيعة 27 / 41 ، ح 4 .
4- اُنظر : الوسائل وفيه ما يقرب منه ، الوسائل 27 / 203 ، ح 69 و 73 .
5- الكافي 5 / 450 ح 8 .
6- الكافي 7 / 299 ح 6 ، وسائل الشيعة 29 / 352 ، ح 1 .

والمفروض أنّ مداليل الطرق الممنوعة والمجوّزة يقيناً خارجة عن مورد الانسداد ، وغير وافية بالقدر اللازم من امتثال الأحكام ، فمورد دليل القوم هو ما عدا ذلك من موارد الطرق المشتبهة ، فلا يشمل ما عدا الظنّ المتعلّق بها .

ولا يذهب عليك وهن الوجوه المذكورة ؛

أمّا الاوّل مخالف للإجماع المنعقد على تحريم العمل بالقياس وشبهه من لدن زمان الائمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا ، المعلوم بالرجوع إلى كافّة الفقهاء في الكتب الاستدلالية ، فإنّ من امعن النظر فيها لا يجد أحداً منهم يستند في فتواه إلى مثل ذلك ، بل يراهم مجمعين على تحريم الاستناد إليه والتعويل في اُمور الدين عليه ، قاطعين بذلك على نحو قطعهم في ساير الأُمور الضّرورية ، وفرض انسداد باب الطرق السمعيّة بالكلّية خروج عن مفروض المسألة ، لأنّ الكلام في هذه الحالة الّتي عليها أغلب المكلّفين . وبالجملة ، فالعلم بذلك لا يقصر عن العلم بغيره من ضروريّات المذهب .

وأمّا الثاني : فمعارضة للوجدان ، ألا ترى أنّ القياس وشبهه قد يفضي إلى القطع ، وهو الّذي يحكم بحجيّته ، كما في تنقيح المناط والأولوّية القطعيّة ونحو ذلك ، ولو لا ذلك لأنسدّ باب التعدّي عن موارد النصوص ، ومن صار إلى ذلك كان فقهه من العجايب ، وقد أكثر أصحابنا من الاستناد إلى مثل ذلك فيما لا يحصى من المقامات ، وإذا جاز إفضائه إلى اليقين جاز إفضائه إلى الظنّ بطريق أولى .

وغاية ما يفيده البيان المذكور عدم استلزامه لحصول الظنّ وضعف الظنّ الحاصل منه ، حيث يحصل بالنسبة إلى ساير الأمارات ، وهو أمر آخر .

وما اُشير إليه من تخلّف جملة من موارد القياس وشبهه عن إصابة الواقع

ص: 185

لاينافي حصول الظنّ منه في الجملة ، لأنّ مثل التخلّف المذكور متحقّق في أخبار الآحاد والظواهر اللفظية بحكم الوجدان وحصول المعارضة الكاشف عن خطأ أحد المتعارضين . وقد ورد التنبيه على ذلك أيضاً في أخبار كثيرة ، وذلك ممّا لا يمنع من حصول الظنّ بها ، فكذا في المقام .

وبناء الشرع على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المجتمعات لاينافي حصول الظنّ بالمناط في بعض المقامات ، كحصول القطع في بعضها ؛ وخفاء الحكم الملحوظة في أكثر الأحكام لا ينافي ظهور بعضها في بعض المقامات ، وهو ظاهر .

وأمّا الثالث : فهو خروج عن القول بالظنّ المطلق ، ورجوع إلى القول بحجّية الظنّ بالطريق ، وهو قول آخر يقابل القول بالظنّ المطلق ، يأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء اللَّه تعالى .

والإشكال المذكور إنّما ورد على القول الأوّل دون الثاني ، فغاية ما يفيده التوجية المذكور عدم وروده على القول الثاني ، وهو على طريقة المصنّف قدس سره أمر ظاهر لا مجال لتوهّم الإشكال فيه ، ولا يعقل الإيراد عليه بذلك ، فلا يرتبط بالجواب عن الأوّل ، وإن توجّه الإيراد على طريقة صاحب الفصول ، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وقد أغرب المجيب مع غاية إصراره على الأوّل ، فلا تغفل .

نقد الماتن على المحقّق القمّي

قال - طاب ثراه - :

« ثمَّ إنّه قد يورد على القول المذكور أيضاً بأنّه إذا دلّ الدليل على حجّية الظنّ من حيث هو وقيامه مقام العلم فلا وجه لورود التخصيص عليه ، إذ المفروض كون المناط في الحجّية بعد انسداد سبيل العلم هو الرجحان الحاصل فيه ،

ص: 186

فلا وجه لإخراج بعض الظنون عنه والحكم بعدم حجّيته مع حصول المناط المذكور في الجميع . وقد تخلّص الفاضل المذكور بالوجوه المتقدّمة ، وقد عرفت ضعفها .

وأجاب أيضاً بأنّه مستثنى من الأدلّة المفيدة للظنّ لا أنّ الظنّ الحاصل منه مستثنى من مطلق الظنّ وقال : إنّ تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم من جهة الأدلّة المقتضية للعلم أو الظنّ المعلوم الحجّية مع بقاء التكليف يوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ في نفسه ، يعنى مع قطع النظر عمّا يفيد ظنّاً أقوى .

وبالجملة : ما يدلّ على مراد الشارع ولو ظنّاً ولكن لا من حيث إنّه يفيد الظنّ وهذا المعنى قابل للاستثناء فيقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه إلّا القياس ، وبعد استثناء القياس إذا تعارض باقى الأدلّة المفيدة للظنّ فحينئذٍ يعتبر الظنّ النفس الأمري ويلاحظ القوّة والضعف .

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ ما ذكروه من الأدلّة إنّما يفيد حجّية نفس الظنّ دون الأُمور الّتي من شأنها إفادة الظنّ وإن لم يحصل منها ظنّ ، ولو سلّم إفادة تلك الأدلّة حجّية تلك الأُمور فلا ريب أنّ حجّيتها إذن منوطة بالظنّ ، فلا تكون حجّة إلّا مع المناط المذكور ، ومتى وجد ذلك حصلت الحجّية ، ولا ترتبط الحجّية على مقتضى تلك الأدلّة

ص: 187

بشى ء من خصوصيات(1) تلك الموارد ، فلا وجه للتخلّف ، وحينئذٍ فأىّ فرق بين إيراد التخصيص على الظنّ أو الشّى ء المفيد له ؟

نعم إن دلّ الدليل على حجيّة ما من شأنه إفادة الظنّ وإن لم يحصل منه الظنّ كما قد يستفاد من ملاحظة طرق الاستدلال اتّجه الفرق ، إلّا أنّه لا يساعده الأدلّة الّتي قرّرها لحجّية مطلق الظنّ .

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا حاجة في دفع الإيراد المذكور إلى شي ء من الوجوه المذكورة ، بل هو بيّن الاندفاع بعد ملاحظة ما سنقرّره إن شاء اللَّه تعالى في تقرير دليلهم ، فإنّ قضيّة انسداد باب العلم وبقاء التكليف هو حجّية الظنّ في الجملة على سبيل القضيّة المهملة ، وإنّما تصير كلّية بملاحظة انتفاء المرجّح بين الظنون ، وقيام الدليل القاطع على عدم جواز الرجوع إلى بعض الظنون يكفى مرجّحا في المقام ، ومعه لا اقتضاء في الدليل المذكور لحجّيته أصلاً ، فإنّه إنّما يقضي بحجيّة الظنّ الّذي لم يقم دليل على عدم حجّيته حسب ما أشرنا إليه .

نعم يرد ذلك على غير الدليل المذكور من بعض أدلّتهم ، وفيه دلالة على فساد ذلك الدليل حسب ما يأتي

ص: 188


1- في المطبوعة الحديثة : « من خصوص » .

الكلام فيه إن شاء اللَّه تعالى » [ج 3 ص 336 - 335] .

توضيح المؤلف لكلام الماتن ونقده

أقول : حاصل الإيراد المذكور أنّ مناط الحجّية في حكم العقل - على ما زعموه - هو الظنّ من حيث هو ظنّ ، وهي جهة تعليلية إن تمّت وجب عدم التخلّف عن مقتضاها في مواردها ، وذلك أنّ حكم العقل بالشى ء يتوقّف على الإحاطة بجميع جهاته ، وليس من الظاهر الّذي لا يأبى عن قيام الدليل على خلافه ، على ما هو الحال في الأدلّة اللفظية ؛ وإذا جاز قيام الدليل القاطع على المنع من بعض الظنون تطرّق الاحتمال إلى ساير الظنون أيضاً ، ومع قيام الاحتمال في الدليل العقلي يبطل الاستدلال .

وأنت خبير بأنّ هذا الإيراد راجع إلى الإيراد السابق ، والجواب الجواب ، إلاّ أنّ الفاضل المذكور ذكر ههنا جواباً آخر يجري في الأوّل أيضاً ومحصّله المنع من إناطة الحكم العقلي بالظنّ بما هو ظنّ ، بل بما من شأنه إفادة الظنّ وإن لم يحصل لمانع .

والفرق بين الوجهين أنّ الحاصل في كلّ واحدة من المسائل بعد ملاحظة مجموع الأمارات المتعلّقة بها ليس إلاّ ظن واحد يقابله الوهم ، فلو كان المناط هو الظنّ امتنع ترجيح الوهم عليه من أيّ طريق حصل ، لأنّ حجّية الظنّ الواحد لا تقبل الإهمال ولا التخصيص .

أمّا الأمارات المفيدة للظنّ فيمكن تعدّدها في مسألة واحدة ، ويكون الحجّة إذن امارة مّا على سبيل القضيّة المهملة ، ويتوقّف التعميم على نفي الترجيح بينها ، فيرجع المنع عن القياس وشبهه إلى ترجيح ساير الأمارات عليه فلا ، ينافي حكم العقل .

هذا غاية توجيه الكلام ، وهو بعد لا يسمن ولا يغني من جوع .

ص: 189

أمّا أوّلاً : فلأنّ الدّليل المذكور إن تمّ فإنّما يقضى بحجّية الظنّ الفعلي أو ما يفيده من حيث كونه مفيداً له ، لا ما له شأنية إفادة الظنّ ، لعدم الفرق في نظر العقل بين الشأنيّ الذّي لا يفيده فعلاً وبين الشّكّ ، إذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في ذلك ، فكما أنّ الواجب حال الانفتاح العمل بما يفيد العلم الفعلي دون ما له شأنيّة إفادة العلم ، كذا الواجب في زمان الانسداد العمل بما يفيد الظنّ الفعلي .

وأمّا ثانياً : فلأنّ الدليل العقلي إذا قضى بحجّية ما له شأنية إفادة الظنّ ، كان هذا الوصف هو المناط و العلّة في الحكم العقلي ، وهي جهة واحدة ، فيلزم أن لا يختلف حكمها باختلاف مواردها ، فعاد الإشكال على حاله .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الظنّ الفعلي وإن اتّحد في كلّ مسألة ، إلاّ أنّ الظنون بالنسبة إلى جميع المسائل متكثّرة ، والحكم بحجّيتها قابل للتخصيص والإهمال ، فيعمل ببعضها ويرجع في الباقي إلى مقتضى الاُصول ، فتعدّد الأمارات في مسألة واحدة لا يجدي شيئاً ، وإنّما يبنى الأمر على أنّ القضيّة في أوّل الأمر كلّية أو مهملة ، وإنّما يستقيم المنع من القياس على الثاني دون الأوّل ، سواء كانت الحجّية منوطة بالظنّ الفعلي أو الشأني .

والحقّ أنّ التّعميم مبنيّ على عدم ظهور الترجيح بين الظنون ، فيمتنع تقديم بعضها على بعض ، والعمل ببعض دون بعض ، فالحكم بذلك وإن كان عقليّاً إلاّ أنّه مبنيّ على عدم جواز الترجيح مع عدم العلم بالمرجّحٍ ، ومتى حصل الترجيح بوجه من الوجوه لم يحكم العقل بحجّية غير الأرجح ، فإحتمال المرجّح في المقام لا يصلح مانعاً للحكم العقلي ، لحصوله في كلّ واحد من الظنون ، فلا يعقل الترجيح به .

نعم ، إن اختصّ بعض الظنون باحتمال المرجّح دون غيره أمكن الترجيح

ص: 190

بذلك ، على حسب ما سيأتي في بيان الطّرق الّتي أفادها المحقّق المصنّف - طاب ثراه - .

وما ذكر من بناء المسألة على قبح ترجيح المرجوح على الراجح فاسد ، إذ لا يلزم من عدم ترجيح المرجوح من حيث هو مرجوح على الراجح العمل على الراجح ، لإمكان الرجوع إلى الاُصول العمليّة وإن وافق مقتضاها المرجوح ، إذ لم يعمل به من حيث هو مرجوح ، بل من حيث هو مقتضى الأصل .

نعم ، قد يقرّر الدليل على وجه يؤدّى إلى قبح الاكتفاء في التكاليف المعلومة بالإجمال بما دون الامتثال الظنيّ ، كقبحه مع انفتاح سبيل العلم بما دون الامتثال العلمي ، وهذا الحكم أيضاً ظاهريّ مخصوص بما قبل ورود الشرع بتجويز بعض الطّرق والمنع عن بعض ، إذ بعد ورود الشرع لا مجال لحكم العقل في ذلك .

وبالجملة ، فالإشكال المذكور مبنيّ على توهّم كون الظنّ مناطاً عقليّاً واقعيّاً للحجيّة ، وعلّة تامّة في نفس الأمر يمتنع انفكاكها عن المعلول ، ليكون القضية كلّية ثابتة بحسب الواقع غير مبنيّة على الظّاهرٍ ، فلا يمكن إذن إخراج القياس وشبهه .

لكنّه ممّا لا سبيل للعقل إليه ، ولا دلالة في شي ء من الأدلّة عليه ، بل هو مقطوع الفساد ، وحينئذٍ فيرتفع الإشكال بحذافيره .

ولا يكاد تعجّبي ينقضي من القائلين بالظنّ المطلق كيف اشتبه عليهم الأمر حتّى توهّموا ثبوت الملازمة الواقعيّة بين مطلق الظنّ والحجيّة في زمان الانسداد ؟ فجعلوا خروج القياس وشبهه محلاًّ للإشكال المذكور ،واحتاجوا في التفصّي عن ذلك إلى وجوه من التّكلف ، فإنّ ذلك من غرايب الاُوهام ، ومن

ص: 191

أفحش زلل الأفهام .

نعم ، قد يقال : « إنّ أكثر ما دلّ على المنع من القياس والاستحسان ونحوهما يدلّ على المنع من العمل بمجرّد الظنّ والاعتماد عليه من حيث هو في الأُمور الدينية من باب تنقيح المناط ، بل الضرورة القائمة على ذلك مانعة عن مطلق الظنّ بما هو ظنّ ، فلا يجتمع ذلك مع القول بالظنّ المطلق » ، وذلك أمر آخر قريب إلى الصواب لا ربط له بالكلام المذكور .

أدلّه المانعين عن العمل بالظنّ المطلق وأجوبتها

قال - طاب ثراه - :

« هذا ولنقدم أوّلاً حجج المختار حسب ما قرّرت في المقام ونذكر ما فيه من النقض والإبرام ، ثمّ نبيّن ما تيسّر لنا من وجوه الاحتجاج على ذلك المرام ، فنقول : قد إحتجّوا على ذلك بوجوه :

الأوّل : الآيات والأخبار المأثورة الدالّة على النهي عن العمل بالظنون ، أو المشتملة على ذمّ الأخذ بها ، الدالّة على قبح ذلك ، خرج منها ما خرج بالدليل ، وبقى غيره تحت الأصل المذكور .

امّا الآيات فمنها : قوله تعالى «وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»(1) ففي الفقرة الاُولى منها دلالة على ذمّ الأخذ بالظنّ ، وفي الثانية حكم بعدم إيصاله إلى الواقع وعدم الاكتفاء به فتفيد المنع من الأخذ به وقبح

ص: 192


1- سورة يونس / 36 .

الاتكّال عليه ، بل فيها إشارة إلى أنّ ذلك من الأُمور الواضحة المقرّرة في العقول حيث ذكره سبحانه في مقام الاحتجاج على الكفّار المنكرين للشريعة .

ومنها : قوله تعالى «وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ»(1) وفيها دلالة على ذمّ اتّباع الظنّ وقبحه عند الشرع ، بل العقل .

ونحوه قوله تعالى «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ»(2) .

ومنها : قوله تعالى في عداد ما حرّم اللَّه سبحانه «وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(3) فقد دلّ على المنع من القول في الشريعة بغير العلم سواء كان ظنّاً أو شكّاً(4) أو غيرهما . .

ومنها : قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(5) وهو كسابقه دالّ على المنع من الأخذ بغير العلم سواء بناءً على وجوب التأسّي أو لأصالة الاشتراك في التكاليف ، لانحصار الخواصّ في اُمور مخصوصة لم يذكر ذلك في جملتها ، أو لكون الخطاب له خطاباً لاُمتّه حسب

ص: 193


1- سورة النجم / 28 .
2- سورة النجم / 23 .
3- سورة الأعراف / 33 .
4- في المطبوعة الحديثة : « ظانّاً أو شاكّاً أو غيرهما » .
5- سورة الإسراء / 36 .

ما ذكر في محلّه ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ذلك .

وأمّا الأخبار فهى مستفيضة في ذلك جدّاً ، بل ربّما يدّعى تواترها كالأخبار الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام فإنّها تفيد تعيّن تحصيل العلم بها ، وما دلّ من الروايات(1) على عدم جواز الأخذ بغير العلم والعمل بدون العلم والإفتاء بدون العلم ، وخصوص ما رواه المفضّل قال : سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة اللَّه هى الحجة الواضحة »(2) وخبر تحف العقول عن النّبي صلى الله عليه وآله : « قال إذا علمت فاقض وإذا ظننت فلا تقض »(3) ورواية مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السلام عن ابائه عليهم السلام قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : « إيّاكم والظنّ فان الظنّ أكذب الكذب »(4) وخبر سليم بن قيس عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال : « ومن عمي نسي الذكر واتبع الظنّ وبارز خالقه - إلى أن قال - ومن نجى من ذلك فمن فضل اليقين »(5) إلى غير ذلك من الأخبار ممّا يقف عليه المتتبّع في الآثار .

وقد اُورد على الآيات المذكورة بوجوه :

ص: 194


1- وسائل الشيعة 27:35 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي .
2- الكافي 2 / 400 ح 8 ، وسائل الشيعة 27 / 40 ، ح 8 .
3- تحف العقول / 5 ، ولكن فيه : « إذا تطيّرت فامض » ، وسائل الشيعة 11 / 362 ، ح 5 .
4- قرب الإسناد / 29 ح 94 ، وسائل الشيعة 27 / 59 ، ح 42 .
5- الكافي 2 / 291 ح 1 ، وسائل الشيعة 27 / 41 ، ح 9 .

منها : أنّ معظّم تلك الآيات واردة في اُصول الدين ، والمنع من العمل بالظن فيها من الأُمور المسلّمة عند المعظم ، ولا دلالة فيها على المنع من العمل بالظنّ في الفروع كما هو المدّعى .

وفيه : أنّ إطلاقها يعم الاُصول والفروع فلا وجه للتخصيص ، وكون المقصود هنا خصوص الاُصول غير ظاهر ، ورودها في شأن الكفّار الآخذين بظنونهم في اُصول الدين لا يقضي باختصاصها بالاُصول بناءً على ما تقرّر عندنا من كونهم مكلّفين بالفروع ، بل قد ورد عدّة من الآيات في خصوص الفروع ممّا يحكم به الكفّار من الأحكام الباطلة ، ومع تسليمه فالعبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، والقول باختصاص القاعدة المذكورة بالعمومات اللغويّة ، دون الاطلاقات - ومنها : المفرد المحلّى فإنّ الدعوى المذكورة محل منع بالنسبة إليها لضعف دلالتها على العموم فتنصرف إلى المورد - ضعيف على إطلاقه .

نعم إن كان المورد بحيث يصرف اللام إلى العهد صحّ ما ذكرو إلّا فلا وجه لتقييد الإطلاق بمجرّد كون المورد خاصّاً . والظاهر أنّ القاعدة المذكورة في كلمات الاُصوليين يعمّ العموم الوضعي وغيره ، ولذا مثلّوا له في المشهور بقوله صلى الله عليه وآله « خلق اللَّه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء »(1) بعد

ص: 195


1- السرائر 1 / 64 ، وسائل الشيعة 1 / 135 ح 9 ، واُنظر : المعتبر 1 / 40 .

وقوع السؤال عن بئر بضاعة . ولم نجد هناك من ناقش في ذلك بما ذكر ، مضافاً إلى أنّ عدّة من تلك الآيات قد وردت في مقام الاحتجاج الظاهر في عموم الحكم .

واستظهار كون اللام في الآية الاُولى للعهد نظراً إلى تقدم ذكر الظنّ ، أولا على وجه التنكير مراداً به الظنّ المتعلّق بالاُصول وقد تقرّر عندهم كون النكرة المعادة معرفة عين الأوّل فتعيّن اللام فيها للعهد موهون جدّاً ، وسياق الآية كالصريح في خلافه . وورودها في مقام الاحتجاج ظاهر جدّاً في إرادة العموم كما يعرف ذلك من ملاحظة نظائرها كما إذا قلت : فلان قتل مؤمناً متعمّداً ، وإنّ من قتل المؤمن معتمّداً كان مخلّدا في العذاب ، وفلان أعان ظالماً ، ومن أعان الظالم سلّطه اللَّه عليه ، إلى غير ذلك ، وهو ظاهر .

والحاصل : أنّ الظاهر عرفاً من الآية الشريفة هو إرادة الاستغراق أو الجنس الراجع إليه دون العهد ، والاحتجاج المذكور مبنيّ على الظاهر ، وقيام الاحتمال المرجوح لا يهدم الاستدلال بالظواهر .

ومنها : أنّ مفاد هذه الآيات لا يزيد على الظنّ ، فلا يجوز الاستناد إليها في المقام :

أمّا اوّلاً : فلأنّ هذه المسألة من عمدة المسائل الاُصوليّة فلا يصحّ الاتّكال فيها على مجرّد الظنّ .

ص: 196

وأمّا ثانياً : فلأنّ قضيّة ظاهرها عدم حجّية ظواهرها ، فلو صحّ العمل بتلك الظواهر لم يصحّ العمل بها ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل .

ويدفعهما : أنّ الظنّ الحاصل من ظاهر الكتاب من الظنون الّتي دلّ القاطع على حجيّتها ، فلا مانع من الاتّكال عليها . والقول بعدم جواز الاستناد إلى الظنّ في المسائل الاُصوليّة ولو من الظنون المفروضة من الأغلاط كما مرّ الكلام فيه مراراً وقضاء ظاهرها بعدم حجيّة ظاهرها إنّما يمنع من الاتّكال عليها لو لو يقم دليل على استثناء ظواهرها من الظاهر المذكور . وأمّا بعد قيام الدليل عليه كما هو مبنى الاحتجاج المذكور فلا مانع منه أصلاً .

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ مفاد الظنون المذكورة عدم حجّية الظنّ ، فلو كان الظنّ حجّة لم يكن حجّة فليس المقصود من الاحتجاج بتك الظواهر الاتّكال على الظنّ الحاصل منها في عدم حجّية الظنّ حتّى يرد أنّه إذا لم يصحّ الاتّكال على الظنّ لم يصح الاتّكال على الظنّ في ذلك أيضاً ، بل المقصود أنّه لمّا قضى الدليل الظنّى بعدم حجّية الظنّ قضى ثبوت الحجّية بعدمها ، وما قضى وجوده بعدمه فهو باطل .

وقد يقال حينئذٍ : إنّ المدعى حجّية الظنّ في الفروع وما دلّ على عدم حجّية الظنّ فإنّما هو في مسألة اُصولى فلا

ص: 197

يقتضي القول بحجّيتها عدمها(1) .

وفيه : أنّه يرجع الأمر في ذلك إلى الفروع ، اذ مآله إلى الظنّ بعدم ثبوت الحكم الفرعي في شأننا من جهة الظنّ ، فلو كان الظنّ المتعلّق بالفروع حجّة لم يكن الظنّ بها حجّة فتأمّل .

ومنها : أنّ الظنّ المذكور في الآيات الشريفة لايراد به العلم الراجح ، بل هو مُرادف للتردّد والشكّ والتخمين ، وضعفه ظاهر ، إذ لا داعي لحمل الظنّ على ذلك مع بعده عن ظاهر اللفظ في العرف واللغة ، والتزام التخصيص فيه لو حمل على معناه الظاهر نظراً إلى حجيّة ظنون خاصّة قطعاً بخلاف ما لو حمل على ذلك لا يقضي بالحمل عليه ، لوضوح ترجيح التخصيص على المجاز(2) ، مضافاً إلى لزوم التخصيص مع الحمل عليه أيضاً ، لجواز العمل في بعض صور الشكّ في الواقع كما إذا لم يفد البيّنة ظنّاً بالواقع ، أو لم يحصل من الاستصحاب ظنّ به .

ومنها : أنّ مفاد هذه الآيات عدم حجّية الظنّ من حيث هو ، وأمّا إذا قام الدليل القاطع على حجّيته فليس الاتّكال على الظنّ ، بل على القاطع الّذي دلّ على الأخذ بمقتضاه ،

ص: 198


1- اُنظر : بحر الفوائد 2 / 32 - 31 .
2- كلمتي « على المجاز » لم تجدا في المطبوعة الحديثة .

فمفاد هذه الآيات هو ما دلّ عليه العقل من عدم جواز الاتّكال على مجرّد الظنّ على حسب ما بيّناه سابقاً ، وحينئذٍ فلا يرتبط بالمدعى فإنّ من يقول بحجيّة مطلق الظنّ إنّما يقول به من جهة قيام الدليل عليه كذلك ، فمفاد هذه الآيات ممّا إتّفق عليه القائلون بالظنون الخاصّة والقائل بحجيّة مطلق الظنّ ، إلّا أنّ القائل بحجّية مطلق الظنّ إنّما يقول به بعد إقامة الدليل عليه كذلك كالقائل بحجّية الظنون الخاصّة ، فلا دلالة في هذه الآيات على إبطال شي ء من الأمرين .

ومنها : أنّ هذه الآيات عمومات وما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد ظنّ خاصّ قد قام الدّليل القاطع على حجّيته ، فلابدّ من تخصيص تلك العمومات .

وفي هذين الوجهين ما سيأتى الإشارة إليه إن شاء اللَّه تعالى .

وهناك إيرادات اُخر على خصوص بعض تلك الآيات .

منها : ما اُورد على الاية الاُولى من أنّ المراد بالحقّ الثابت المعلوم ، فالمقصود أنّ المعلوم الثابت لا يترك بالمظنون ، إذ الظنّ لا يغني عنه حتّى يترك لأجله ، وهو حينئذٍ ممّا لا كلام فيه ولا يفيد عدم جواز التمسّك بالظنّ مطلقاً .

وفيه : أنّه خلاف ما يستفاد من ظاهر الآية فإنّ الظاهر

ص: 199

أنّ المراد بالحقّ هو الأمر الثابت في الواقع والمراد بعدم إغناء الظنّ عنه عدم كونه طريقاً موصلاً إليه كافياً في الحكم به .

وقد فسرّه بذلك الرّازي في تفسيره(1) ، أو أنّه يراد به العلم أى أنّ الظنّ لا يغني من العلم شيئاً ولا يقوم مقامه ، وقد فسرّه الطبرسي به في المجمع(2) ، وعلى كلّ من الوجهين يفيد المقصود .

ومنها : ما قد يورد على الآية الثانية من أنّ الذمّ هناك بمقتضى ظاهر الآية على حصرهم الأمر في إتباع الظنّ . فغاية الأمر أن تدلّ الآية على لزوم تحصيل العلم في بعض المسائل ، وعدم جواز الاقتصار على الظنّ في الجميع ، ولا كلام لأحدٍ فيه .

وفيه : أنّ ظاهر سياق الآية هو الذمّ على اتّباع الظنّ مطلقاً ، وحملها على إرادة الحصر الحقيقي لا يخلو عن بعد ، بل قد يقطع بفساده . وعلى فرض حملها عليه فليس الذمّ وارداً على خصوص الانحصار فيه ، بل ظاهر سياق الآية كون أصل الذمّ على اتّباع الظنّ ، وإن كان حصر الأمر فيه أشنع كما تقول في مقام الذمّ لا يشتغل فلان إلّا بالعصيان ،

ص: 200


1- التفسير الكبير 28 / 311-310 .
2- مجمع البيان 9 / 296 .

فإنه يفيد شناعة أصل العصيان ، كما لا يخفى .

ومنها : ما قد يورد على الآية الثالثة من أنّه لا عموم فيها حتّى يشمل جميع الظّنون ، غاية الأمر دلالتها على عدم حجّية بعض الظنون أو عدم حجّية الظنّ مطلقاً في بعض الأشياء ، ولا كلام فيه ، وأيضاً أقصى ما يستفاد من الآية عدم جواز إسناد الحكم إليه تعالى على سبيل الجزم مع حصول الظنّ به ، وأمّا إذا أبرز الحكم على سبيل الظنّ كما هو الواقع فلا دلالة فيها على المنع ، وكذا لا دلالة فيها على المنع من العمل به .

ويدفع الأوّل أنّ في الاطلاق كفاية في المقام سيّما مع إشعاره بالعلّية ، بل ودلالته عليها .

والثاني أنّه لو جاز الإفتاء على سبيل الظنّ جاز الحكم على وجه البتَّ أيضاً من غير تأمّل لأحدٍ فيه ، فاذا دلّت الآية على المنع منه دلّت على المنع من الإفتاء راساً ، ومع المنع من الإفتاء مطلقاً لا يجوز العمل به ، إذ لا قائل بالفرق .

ومنها : ما يورد على الآية الأخيرة وهو من وجوه :

احدها : أنّها خطاب للنّبي صلى الله عليه وآله فلا يعمّ غيره . ومن البيّن أنّه مكلّف بالعمل بالوحي ولا يجوز له الأخذ بالظنّ ، نعم فيها دلالة على بطلان قول من يجوز عليه الاجتهاد .

وقد يجاب عنه تارةً : بأنّ ما دلّ على وجوب التأسى قاضٍ بجريان الحكم بالنسبة إلى اُمّته أيضاً كيف ؟ والأصل

ص: 201

الاشتراك في التكاليف إلّا أن يعلم اختصاصه به ، ولذا حصرت خواصّه في اُمور معينة . واُخرى : بأنّه لا تأمّل لأحد في شمول الحكم المذكور للاُمة إمّا لأنّ الخطاب إليه خطاب لاُمّته في الحقيقة حسب ما هو المتداول في اختصاص الخطاب بالرئيس مع كون المطلوب حقيقة فعل الأتباع أو للإتّفاق عليه نظراً إلى انحصار خواصّه صلى الله عليه وآله وسلم في اُمور لم يذكر ذلك في جملتها .

ويمكن دفع الوجهين بأنّا نسلّم الاشتراك ، لكن مع الاتّفاق فيما يحتمل إناطة الحكم به ، وليس الحال كذلك في المقام ، لوضوح الاختلاف حيث إنّه متمكّن من العلم ، وليس ذلك حاصلاً لنا ، إذ المفروض انسداد سبيل العلم بالنسبة إلينا ، فأقصى الأمر أن يجري ذلك بالنسبة إلى المتمكّنين من العلم من اُمّته ، ولا كلام فيه .

ثانيها : أنّه لا عموم في الآية لتفيد المنع من حجّية(1) جميع الظنون والنهي عن بعضها ممّا لا كلام فيه ، وقد فسرّها جماعة من المفسّرين باُمور مخصوصة فقيل : « معناه لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت و لم تر ولا علمت ولم تعلم ، وقيل : معناه لا تقل في قفا غيرك شيئاً ،

ص: 202


1- كلمة « حجّية » لم ترد في المطبوعة الحديثة .

وقيل : هو شهادة الزور »(1) وقيل : معناه « لا ترم أحداً بما ليس لك به علم »(2) . وعلى كلّ من هذه التفاسير لا ترتبط بالمدّعي .

ثالثها : أنّه على فرض كونه للعموم إنّما يفيد رفع الإيجاب الكلّي دون السلب الكلّي ، فهى إنّما تدلّ على النهي عن العموم لا عموم النهي كما هو المدّعى .

والجواب عنه : انّ الإطلاق هنا كافٍ في إفادة العموم لرجوع المطلق في المقام إلى العامّ ، نظراً إلى دليل الحكمة ، مضافاً إلى وقوعه في سياق النّهي الّذي هو بمنزلة النفي في اقتضائه عموم ما يقع في سياقه كما تقول : لا تهن العالم ، وعلى كلّ من الوجهين فهو يفيد عموم النهي لا النهي عن العموم كما ظنّ .

وما ذكر من كلام المفسّرين مبنّي على إرادة المثال ومع الغضّ عنه فلا حجّة فيه مع مخالفته لظاهر الإطلاق .

وممّا قررّناه يظهر الإيراد على الأخبار المذكورة أيضاً ، فإنّه قد يناقش في إسنادها ودلالتها بأنّ أقصى ما يفيده الظنّ وحجيّته أوّل الكلام ، بل نقول : إنّ مفادها عدم جواز الاتّكال على الظنّون ، فلو صحّ مفادها لما جاز

ص: 203


1- مجمع البيان 6 / 251 وفيه « كلاماً » بدل « شيئاً » .
2- تفسير القمّي 2 / 19 - تفسير الصافي 3 / 192 .

الاعتماد عليها .

ويمكن الجواب عنها بنحو ما مرّ . ويرد عليها أيضاً أنّ ما تفيده تلك الروايات عدم الاتّكال على الظنّ من حيث هو حسب ما ذكر في مفاد الآيات ، وهو خارج عن محلّ الكلام .

وقد توافقت عن المنع منه الأفهام فلا تدلّ على المدّعى ، وأيضاً أقصى ما تفيده عموم المنع عن الأخذ بالظنّ ، وقد خرج ظنّ المجتهد للأدلّة القاطعة الدالة على حجّيته ، فأقصى ذلك تخصيص العامّ أو تقييد المطلق ، لقيام الدليل عليه .

ويمكن دفع الوجهين بأنّ ذلك لا ينافي ما هو المقصود من الاحتجاج بتلك الظّواهر ، حيث أنّ المقصود من ذلك بيان أنّ مقتضى الأدلّة القائمة من الكتاب والسنّة عدم حجّية شي ء من الظنون إلى أن يقوم دليل على حجّيته ، فإن تمّ الدليل على حجّية خصوص ظنّ المجتهد مطلقاً فلا كلام ولم يزاحمه شي ء من تلك الظواهر ، وإلّا كان مقتضى الدليل المذكور المنع من الأخذ به كذلك ، وهو ظاهر وسيأتي إن شاء اللَّه توضيح القول فيه .

الثاني : الإجماع ، ويقرّر بوجوه :

أحدها : الإجماع على عدم حجّية الظنّ وأنّ الحجّة إنّما هي العلم وأنّ على كلّ من الأحكام الشرعيّة دليلاً قطعيّاً

ص: 204

يصل إليه الطالب ، فلا فرق بينهما في ذلك ، ولا وجه للرجوع إلى الظنّ في الفروع كما هو الحال في الاُصول . يظهر ذلك من السيّد فيما حكى عنه قائلاً : « إنّ الخلاف في فروع الدين يجري مجرى الخلاف في اُصوله . وهذا المخالف في الأمرين على حكم واحد ، لأنّ فروع الدين عندنا كاُصوله في أنّ على كلّ واحد منهما أدلّة قاطعة واضحة لا محالة ، وأنّ التّوصّل إلى العلم بكلّ من الأمرين يعنى الاُصول والفروع ممكن صحيح لأنّ الظنّ لا مجال له في شي ء من ذلك ولا الاجتهاد المفضي إلى الظنّ دون العلم ، والشيعة الإماميّة مطبقة على أنّ مخالفها في الفروع كمخالفها في الاُصول في الأحكام » إنتهى(1) .

والإجماع المذكورو إن قضى ببطلان القول بحجّية مطلق الظنّ إلّا أنّه مخالف للقول بحجّية الظنون الخاصّة أيضاً ، نظراً إلى قضائه بعدم حجّية الظنّ مطلقاً - كما ذهب إليه الأخباريّة - فلا يصحّ التمسّك به في المقام ، بل لابدّ من القطع بفساده ، لقيام الضرورة على حجّية الظنّ في الفروع في الجملة .

وقد يقال : إنّ ما ذكره السيّد قدس سره إنّما كان بالنظر إلى زمانه الّذي لم ينسدّ فيه باب العلم وكان أخذ الأحكام من

ص: 205


1- رسائل الشريف المرتضى 1 / 154 .

الأدلّة القطعيّة ممكناً حسب ما ذكره السيّد قدس سره في مقام آخر أيضاً .

ومن البيّن أنّه مع عدم انسداد باب العلم لا داعي إلى القول بحجّية الظنّ بخلاف هذه الأزمنة وماضاهاها فلا يرتبط الإجماع المدّعى بالمقام ، لكنّا نقول : إنّ الظاهر أن انفتاح السبيل كذلك لم يكن حاصلاً في عصره ، بل وما تقدّم على عصره أيضاً ، كيف ! ولو كانت الأدلّة القطعيّة قائمة واضحة لما وقع هذه الاختلافات بين القدماء لبعدِ تفرّع الخلاف كذلك على الأدلّة القطعيّة النقليّة ، وعلى فرض حصوله فإنّما يقع على سبيل النّدرة ، مع أنّ الخلاف الواقع بين القدماء لا يقصر عن الخلاف الحاصل بين المتأخّرين ، ويشهد له أيضاً ملاحظة طرق استدلالهم ووجوه احتجاجهم على المسائل ، فإنّهم يتمسّكون غالباً بوجوه لا تفيد العلم بالواقع قطعاً فالدعوى المذكورة من السيّد قدس سره بعيدةً جدّاً ، بل يكاد يقطع بخلافه . ويومى ء إليه ما ذكره من قطع الإماميّة أنّ مخالفها في الفروع كمخالفها في الاُصول ، فإنّه لا يعنى منه أنّ كلّاً منهم يقطع بأنّ مخالفه في المسألة الفرعيّة ولو كان من الإماميّة كمخالفه في الاُصول ، للقطع بخلافه كيف ! والاختلافات الواقعة بينهم معروفة واضحة ، ولم يقطع أحد منهم بضلالة مخالفه ولا قطع موادّته ، بل ولم يتحقّق منه جزمه احتماله لذلك ولا الظنّ فيه كما هو الحال في مخالفة

ص: 206

الاُصول ، وهو من الأمور الواضحة ، بل الضروريّة بعد ملاحظة طريقتهم ، والظاهر أنّ مقصوده بذلك قطعهم بكون مخالفهم في الفروع من سائر المذاهب الآخذين فروعهم من غير الطرق المقرّرة في الشريعة عند الشيعة كمخالفهم في الاُصول وإن كان المخالف في الفروع على الوجه المذكور هو المخالف في الاُصول ، إلاّ أنّ الحيثيّة مختلفة والجهة متعدّدة ، والظاهر أنّه قدس سره عنى بقيام الدليل القاطع على كلّ مسألة من الفروع ما يعمّ القطع بالواقع والقطع بوجوب العمل ، لاشتراكهما في القطع بالتكليف . فلابدّ أن يكون الدّليل مفيداً للقطع بالواقع أو القطع بالتكليف بقيام القاطع على حجّيته حسب ما نصّ عليه في مقام آخر فلا يكتفي بمجرّد ما يفيد الظنّ بالواقع كما هو الحال في الاجتهاد المتداول بين العامّة ، ولذا حكم بالمنع من الإجتهاد المفضي إلى الظنّ دون العلم .

والحاصل : أنّ القطع بالطريق الموصل كالقطع بالواقع في قطع عذر المكلّف ووضوح التكليف عنده وبلوغ الحجّة بالنسبة إليه .

فإن قلت : إنّ مطلق الظنّ عند من يعمل به ويقول بحجّيته بتلك المثابة أيضاً ، فليس بناء العامّة على العمل بالظنّ إلّا مع القطع بحجّيته ، ولذا قالوا : « إنّ ظنّية الطريق لا

ص: 207

ينافي قطعيّة الحكم »(1) .

قلت : مقصود السيّد قدس سره من الإجماع المذكور هو دفع ذلك والردّ عليه ، وأنّ الظنّ مطلقاً ممّا لا دليل على حجّيته بل لابدّ من الأخذ بالعلم أو طريقٍ قام الدليل العلمي على حجّيته ، فما ادّعاه من الإجماع إنّما هو على أصالة عدم حجّية الظنّ وأنّ الحجّة إنّما هى الطرق الخاصّة الّتي دلّت عليه الأدلّة القاطعة ، فمن أخذ الفروع من غير تلك الطرق العلميّة يحكمون بضلالته كالمخالف في اُصول الدين والمذهب ، وعلى هذا فيرجع ما ذكره من الإجماع إلى الوجه الثاني في تقرير الإجماع ، وهو أن يدعى الإجماع على أن الأصل الثابت بعد انسداد سبيل العلم هو عدم حجّية الظنّ مطلقاً وإنّما الحجّة كلّ واحد من الطرق الخاصّة الّتي قامت عليها الأدلّة القاطعة في الشريعة .

وسيظهر دعوى الإجماع عليه كذلك من الشريف الاستاذ(2) قدس سره حيث ذكر في بعض تحقيقاته في دفع حجّية الشهرة « أنّ اعتبارها مبنيّ على حجّية الظنّ مطلقاً ، وليس ذلك من مذهبناوإن أوهمه بعض العبارات ، والحجّة عندنا

ص: 208


1- حاشية سلطان العلماء على معالم الاُصول / 263 - ذخيرة المعاد 2 / 259 وانظر :بحر الفوائد 1 / 71 - 70 .
2- وهوالعلّامة السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي في فوائده ونقل عنه تلميذه صاحب المفاتيح / 458 .

ليس إلّا واليقين أو الظنّ المعتبر شرعاً وهو المنتهي إلى اليقين كظواهر الكتاب » وهو المطابق لما إدّعاه السيّد رحمه الله حسب ما عرفت فيتايّد به الدعوي المذكورة ، مضافاً إلى ملاحظة طريقة العلماء خلفاً عن سلف فإنه لازال علماؤنا يستدلّون على حجّية الأدلّة الظنيّة والطرق الخاصّة بالأدلّة القائمة عليها من الكتاب والسنّة وغيرهما ، ولم نجدهم يستندون إلى مجرّد كونه مفيداً للظنّ ، وأيضاً لا زالوا يتمسّكون في غير القطعيّات بالظنون الحاصلة من الكتاب والسنّة أو القواعد المأخوذة عنها دون غيرهما ، وعلى ذلك جرت طريقتهم من لدن أعصار الائمّة عليهم السلام إلى يومنا هذا ، كما يظهر ذلك من ملاحظة الكتب الاستدلالية ومناظراتهم المحكيّة كيف ! ولو كان مطلق الظنّ حجّة عندهم لأقاموا الدليل على ذلك واستراحوا عن مؤنة الأدلّة آلخاصّة على الظنون المخصوصة ، بل الّذي يظهر أنّ ذلك من طريقة العامّة حيث إنّهم يركنون إلى سائر ما يفيد الظنّ كما يشعر به كلام الشريف الاستاذ قدس سره ، وربّما يشير إليه عبارة السيّد قدس سره ، وعليه مبنى الاجتهاد عندهم حيث إنّهم يطلبون به الظنّ بالحكم الشرعي ، ولذا ورد ذمّ الاجتهاد في الأخبار ، وأنكره علماؤنا يعنون به ذلك دون مطلق الاجتهاد ، فإنّه مطلوب عندنا أيضاً وإنّما يراد به بذل الوسع في تحصيل مفاد الأدلّة الّتي يقطع بحجّيتها والعمل بمؤدّاها وتحصيل ما

ص: 209

هو الأقوى منها عند تعارضها وأين ذلك من الإجتهاد المطلوب عند العامّة فمطلق الظنّ عندنا إنّما يعتبر في التراجيح الحاصلة بين ما يقطع بحجيّتها دون نفس الأدلّة .

والحاصل : أنّ الحكم بانعقاد الإجماع على ما ذكرنا غير بعيد من ملاحظة طريقتهم والتأمّل في مطاوي كلماتهم حسب ما قرّرناه ، وقد ادّعاه السيّدان الأفضلان(1) حسب ما عرفت . وربّما يدّعى الإجماع على عكس ذلك لبعض ما قد يوهم ذلك من كلماتهم ، وهو توهّم فاسد كما سيجى ء الإشارة إليه إن شاء اللَّه تعالى .

ثالثها : أن يدّعى الإجماع على أنّ الظنّ ليس بحجّة إلّا ما قام الدليل القطعي أو المنتهي إلى القطع على اعتباره ، فإن قام ذلك فلا كلام وإلّا بني على عدم حجّيته . والظاهر أنّه لا مجال لأحد في إنكاره حسب ما عرفت ، بل هو ممّا اجتمعت عليه العقلاء كافّة ، وإن فرض خلاف شاذّ فيه فهو من قبيل الخلاف في الضروريات على نحو ما يقع من السوفسطائية ، وحكاية إجماع المسلمين عليه مذكورة في كلام غير واحد من الافاضل .

واُورد عليه : أنّ غاية ما يستفاد ممّا ذكر أن الظنّ ليس

ص: 210


1- وهما السيّد الطباطبائي صاحب الرياض والسيّد الصدر شارح الوافية (قدس سرهما) كما صرّح به صاحب هداية المسترشدين 3 / 330 .

بحجّة من أوّل الأمر ، والأصل الأوّلى فيه عدم الحجّية على عكس العلم فلا يجوز التمسّك بشى ء من الظنون إلّا ما قام الدليل على حجّته من مطلق الظنّ أو الظنون الخاصّة ، وهذا كما عرفت خارج عن محلّ الكلام إنّما البحث في أنّ الأصل المذكور هل انقلب بعد انسداد باب العلم فصار الأصل الثانوي حجّية الظنّ حينئذٍ إلّا ما قام الدليل على خلافه ، أو الأصل فيه أيضاً عدم الحجّية وإنّما قام الدليل على حجّية ظنونٍ مخصوصة ؟ ولا ربط للإجماع المذكور بإثبات ذلك ونفيه ، وانقلاب الاُصول إلى اُصول اُخر بخلافها شايع في الفقه كحجّية شهادة العدلين وإخبار ذي اليد ودلالة يد المسلم على الطهارة بعد العلم بنجاسته ، مع أنّ الأصل الأوّلي في الجميع على خلاف ذلك ، والكلام هنا في إثبات هذا الأصل ، ولا يثبت بالإجماع المدّعى على ثبوت الأصل في التقدير الآخر .

قلت : المقصود من التمسّك بالإجماع المذكور بيان هذا الأصل المسلّم وأنّ قضيّة الأصل عدم حجّية شي ء من الظنون إلّا ما قام الدليل عليه ، فالقائل القاضي(1) بحجّية مطلق الظنّ حينئذٍ لابدّ له من إقامة دليل علمي عليه ، فان تمّ له ذلك فلا كلام وإلّا لم يكن له بدّ من القول بنفي حجّية

ص: 211


1- كلمة « القاضي » لم ترد في المطبوعة الحديثة .

الظنّ بمقتضى الإجماع المذكور إلّا ما قام الدليل القاطع على حجّيته بالخصوص من الظنون ، والإجماع القائم على الأصل الأوّلي كان حجّة على ثبوت الأصل في المقام الثاني بعد المناقشة في الدليل القائم على خلافه ، فإذا لم ينهض دليل القائل بأصالة حجّية مطلق الظنّ بالأصل الثانوي حجّة في المقام انحصر الدليل بمقتضى الإجماع المذكور في الظنون الخاصّة من غير حاجة في إثبات هذا الأصل إلى إقامة دليل آخر ، وهذا هو المقصود من الاحتجاج المذكور ، فمرجع هذا الدليل إلى الوجه السابق إلّا أنّ التفاوت بينهما أنّ ذلك الأصل قد يستدلّ عليه بعمومات الكتاب والسنّة ، وقد يستدلّ عليه بالعقل حسب ما مرّت الإشارة إليه ، فآلادلّة الأربعة متطابقة على إثبات الأصل المذكور ، وهو قاضٍ بعدم حجّية مطلق الظنّ وعدم جواز الاتّكال عليه إلّا ما قام دليل على حجّيته . فإذا نوقش فيما يستنهض دليلاً على ذلك ولم نجد دليلاً آخر سواه تمّ الاحتجاج المذكور ، فيمكن أن يقرّر ذلك بالملاحظة المذكورة دليلاً واحداً على المقصود ، ويمكن أن يقرّر أدلّة أربعة نظراً إلى تعدّد الأدلّة القاضية به ولا مشاحّة فيه .

الثّالث : أنّه لو كان مطلق الظنّ حجّة في الشريعة وكانت العبرة في استنباط الأحكام بعد انسداد باب العلم بالواقع بمطلق المظنّة لورد ذلك في الأخبار المأثورة ونصّ

ص: 212

عليه صاحب الشريعة ، بل تواترت فيه الروايات الواردة ، إذ هو من المطالب المهمّة وينوط به بقاء الشريعة وبه ينتسق تكاليف الاُمّة فكيف يقع من صاحب الشريعة إهمال البيان ؟! مع أنّا لا نجد في الكتاب والسنّة دلالة على ذلك ولا بياناً من صاحب الشريعة ، بل ولا إشارة إليه في الروايات المأثورة ، بل نجد الأمر بعكس ذلك حيث ورد في الأخبار ذمّ الأخذ بالظنّ والمنع من التعويل عليه ، فعدم قيام الدليل من الشرع على حجّيته مع كون المسألة ممّا يعمّ به البليّة أقوى دليل على عدم ثبوت الحكم ، بل قد ورد عنه طريق آخر لاستنباط الأحكام غير مطلق الظنّ قد ورد(1) التنصيص عليه في أخبار كثيرة وهو الأخذ بالكتاب والسنّة والأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام .

وقد ورد الحثّ الأكيد على الرجوع إلى ذلك ، ففيه أقوى دلالة على عدم الرّجوع إلى مطلق الظنّ مع التمكّن من الرجوع إلى ذلك . نعم الرجوع إلى ما ذكر إنّما يكون غالباً على سبيل الظنّ ؛ إلّا أنّه ظنّ خاصّ لا مدخل له بمطلق الظنّ ، ومن الغريب ما اُورد في المقام أنّه قد ورد الأمر بالعمل بالظنّ في الأخبار ، فلا وجه لما يدّعى من عدم وروده في الأخبار مشيراً بذلك إلى الأخبار الدالّة على الأمر

ص: 213


1- في المطبوعة الحديثة : « قد وقع » .

بالأخذ بالكتاب والسنّة ، نظراً إلى أنّ الأخذ بهما غالباً إنّما يكون على سبيل الظنّ ، إذ من الواضح أنّ ذلك أمر بالأخذ بالظنّ الخاصّ دون المطلق ، فهو يؤيّد مقصود المستدلّ ويعاضد ما ادّعاه حسب ما ذكرنا لا أنّه ينافيه .

وقد يورد على الاحتجاج المذكور : بأنّه لم يكن سبيل العلم منسدّاً في أزمنة المعصومين عليهم السلام وإنّما حصل الانسداد بعد ذلك ؛ ولو كان ذلك حاصلاً في أزمنتهم صحّ ما ذكر في الاحتجاج ، وأمّا إذا حصل بعد تلك الأزمنة فلا دلالة في خلوّ الأخبار عنه على عدم كونه طريقاً ، وعموم البلوى بها بعد ذلك لا يقضي بذكرها في الأخبار حال عدم الاحتياج إليها ، وهذا هو الوجه في خلوّ الأخبار عن بيانه .

ويدفعه أنّه لو سلّم جواز إهمال الشارع لحال التكليف في زمن الغيبة مع اشتداد الحاجة إليه نقول : إنّ انسداد باب العلم كان حاصلاً بالنسبة إلى كثير ممّن كان في أعصارهم عليهم السلام سيّما من كان منهم في البلدان البعيدة والأقطار النّائية مع شدّة التقيّة ، وفي ملاحظة أحوال الرجال وما يرى من اختلافهم في الفتاوى أقوى دلالة عليه ، فمنع حصول الانسداد في تلك الأزمنة وإنكار شدّة الحاجة إلى حكمه ضعيف ، فكيف يصحّ القول حينئذٍ بإهمالهم في بيان حكم المسألة وركونهم إلى مجرّد حكم العقل مع ما يشاهد من إختلاف العقول في الإدراكات ؟

ص: 214

الرابع : أنّ الظنون ممّا يختلف الحال فيها بحسب اختلاف السلائق والأفهام فكيف يصلح أن يجعل مطلق الظنّ مناطاً لاستنباط الأحكام ؟ وإلّا لزم الهرج والمرج في الشريعة وعدم انضباط الأحكام الشرعيّة نعم ما كان من الطرق الظنيّة مضبوطة بعيدة عن الإضطراب - كظنون الكتاب والسنّة - لم يكن مانع من حجيّتها والاتكال عليها .

وفيه : أنّ ذلك إن تمّ فإنّما يتمّ بالنسبة إلى الظنون الّتي لا معيارلها كالأهواء والآراء والاستحسانات العقليّة والوجوه التخريجيّة ، ولا كلام عندنا في عدم صحّة الاستناد إليها وقضاء الإجماع ، بل الضرورة بعدم الاعتماد عليها ، وأمّا ما سوى ذلك من الظنون فلا يجري فيها الوجه المذكور .

ويمكن دفعه : بأنّ ذلك خلاف ما اختاروه ، فإنّهم إنّما يقولون بقضاء العقل بحجّية الظنّ مطلقاً ، وإنّما قالوا بعدم جواز الاستناد إلى الظنون المذكورة لوجود المانع عنه ، وإلّا فالمقتضي لجواز الاتّكال عليها موجود عندهم حسب ما قرّروه ، والوجه المذكور يدفعه .

نعم يمكن أن يقال : إنّه ليس الكلام في بناء الشريعة على الظنون إلّا حين انسداد سبيل العلم وحصول الضرورة الملجئة إليها ، واختلافها في الانضباط وعدمه إنّما يقضي بقوّة المنضبط وضعف غيره ، وذلك إنّما يقضي بعدم جواز

ص: 215

الأخذ بالضعيف مع التمكّن من الأقوى ، ولا كلام فيه لتعيّن الرجوع إلى الأقوى حينئذٍ .

وأمّا مع عدم حصول الأقوى فلا ريب أنّ الأخذ بالضعيف أولى من الأخذ بخلافه وأقرب إلى إصابة الواقع ، فهو في حال الضرورة بالترجيح أحرى ، والمفسدة اللازمة في الأخذ بخلافه أقوى .

الأدلّة الثمانية المانعة عن العمل بالظنّ المطلق عند الماتن

اشارة

هذا وربّما استدلّ بعضهم في المقام بأنّه لا دليل في الشرع على حجّية مطلق الظنّ حين انسداد باب العلم ، وإنّما الدليل عليه عند القائل به هو العقل وهو لا يفيد وجوب الأخذ به شرعاً كما هو المقصود ، إذ الوجوب الشرعي لا يثبت إلّا بحكم الشرع دون العقل ، وهذا الوجه موهون جدّاً ، لأنّه مبنيّ على أصل فاسد مقطوع بفساده ، أعني نفي الملازمة بين العقل والشرع وإنكار كون العقل القاطع من أدلّة الشرع ، وقد قرّر وهنه في محلّه مستقصى [ج 3 ص 351 - 336] .

اقول : قد تقدّم عن المحقّق المصنّف قدس سره التّنبيه على الوجوه المذكورة على وجه الإجمال والإشارة ، ثمّ فصلّها في المقام ولا حاجة لنا ألان إلى شرح القول في ذلك ، فالأولى التعرّض لشرح الوجوه الّتي أبداها المصنّف - طاب ثراه - .

قال - طاب ثراه - :

ثمّ إنّ لنا طرقاً اُخرى في المقام ووجوهاً شتّى في تصحيح هذا المرام نوضح القول في بيانها ، ونشير إلى ما يرد عليها

ص: 216

وما به يمكن دفعه عنها .

أحدها : أنّه لا ريب في كوننا مكلّفين بأحكام الشريعة وأنّه لم يسقط عنّا التّكاليف والأحكام الشرعيّة في الجملة وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط التكليف عنّا سواء حصل منه العلم باداء الواقع أولا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه .

وحينئذٍ نقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البرائة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبرائة في حكمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ ، وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة لقيام دليل ظنّى على حجّيته سواء حصل منه الظنّ بالواقع أولا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبرائة في حكم المكلّف ، إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع ظنّاً باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد ما ورد من النهي عن العمل بالظنّ والأخذ به ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما عرفت لزم اعتبار أمر آخر

ص: 217

يظنّ معه برضاء المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلّا الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته ، فكلّ طريق قام دليل ظنّى على حجّيته واعتباره في نظر الشرع يكون حجّة دون ما لم يقم عليه ذلك [ج 3 ص 352 - 351] .

توضيح المؤلف للأدلّة الثمانية

أقول : ما أفاده المحقّق المصنّف قدس سره في هذا المقام من الوجوه الثمانية قد بلغ في التّحقيق غايته ، وهو من خواصّ هذا الكتاب ، كساير التحقيقات الّتي تفرّد بها ، وما عدا الوجه الأخير وإن كان مقتضياً للعمل بالظنّ المطلق في الجملة ، إلّا أنّه مبنيّ على التنزّل عن الوجه الثامن ، وغرضه من ذلك حسم مادّة الشبهة الّتي حصلت للقائلين بالظنّ المطلق ، وإلّا فمختاره - طاب ثراه - هو الوجه الثامن ، وإنّما اُورد الوجوه السبعة على سبيل التنزّل .

فيقال : إنّ غاية ما ادخل الشّبهة على القائلين بالظنّ المطلق إبداء الاحتمالات الوهميّة في أدلّة الظّنون المخصوصة حتّى تخرج بذلك عن الطرق المعلومة ، وهو إن تمّ فلا يقدح في حصول الظنّ منها بحجّيتها ، فلا أقلّ من إفادتها للظنّ ، وهو كافٍ في هذا الباب .

وكلّ واحد من الوجوه السبعة برهان قاطع على كفاية الظنّ بذلك ، فيثبت بها حجّية الظنون المخصوصة ، ويمتنع الرجوع إذن إلى الظنّ المطلق باتّفاق الفريقين ، وذلك أنّ القائلين بالظنّ المطلق بين قائل بحجّية الظنّ في خصوص الأحكام الشرعيّة الفرعية ، وقائل باعتباره في مطلق الأحكام الشرعيّة ، أصليّة كانت أو فرعيّة .

أمّا القول بالظنّ المطلق في إثبات الطرق المخصوصة ، فهو قول بالظنّ المخصوص ، إلاّ انّه يتصوّر على وجهين ؛

ص: 218

أحدهما : أن يقال بحجّية مطلق الظنّ بالطريق الواقعي من أيّ طريق حصل إلاّ من الطريق الّذي ثبت المنع عنه .

والآخر : أن يقال بحجّية الظنّ بالطريق الفعلي الّذي يكتفي المكلّف به على ما هو عليه في حكم الشّارع ، وهو الّذي يستفاد من عبارات الفقهاء ، حيث جرت عادتهم على التعبير عن الفتوى بالأظهر والأقوى والظاهر والأشبه ونحوها ، فإنّ نظرهم في ذلك إلى الحكم الظاهري دون الواقعي .

وهذا هو الذي اختاره المصنّف وتفرّد به ، إلاّ أنّ عمّي العلّامة قدس سره جنح إلى ذلك لكنّه اختار الوجه الأوّل(1) ، وبه فارق الوالد المحقّق - طاب ثراه - واقتصر في الاستدلال على نحو ما يأتي في الوجه الثاني ، وليته اقتفى أثره ، فإنّه لم يصنع لذلك شيئاً .

الفرق بين قولى صاحبى الهداية والفصول

ويظهر الفرق بين الوجهين المذكورين من وجوه ؛

الأوّل : إنّ الظنّ بالطريق على الوجه الأوّل يجتمع مع القطع بالبرائة والظنّ بها والشّكّ فيها والظنّ والقطع بعدمها ، لأنّ الطرق المفيدة له ينقسم إلى الأقسام الخمسة ، ولذا استثنى صاحب الفصول القسم الأخير ؛ بخلاف الثّاني ، فإنّه لا يتصوّر إلاّ على وجه واحد .

الثاني : إنّ الطريق المظنون على الوجه الأوّل من قبيل الأدلّة الاجتهاديّة ، ففي كلّ مسألة يوجد فيها بعض الطّرق المظنونة يؤخذ به على نحو الأخذ بالأدلّة الاجتهادية ، ويرجع فيما عدا ذلك إلى الاُصول العمليّة من البرائة أو الاشتغال أو التخيير أو غيرها .

ص: 219


1- راجع : الفصول / 278 .

وأمّا الوجه الثاني ، فلا يعقل التفرقة فيه بين المقامين ، فإنّه إنّما يقتضي لزوم البناء على ما يظنّ بلزوم البناء عليه في تلك الحال ، من دليل أو أصل أو قاعدة .

الثالث : إنّ القول بالظنّ بالطريق على الوجه الأوّل يتوقّف على مقدّمات الدليل المعروف بالانسداد الملحوظة بالنسبة إلى نوع الأحكام الشرعيّة ؛ بخلاف الوجه الثاني ، فإنّه يأتي في مسألة واحدة إذا لزم الفتوى فيها وانسدّ باب العلم بطريق الإفتاء وحصل الظنّ به ، وإن انفتح باب العلم بمعظم الأحكام أو بالطرق المقررّة ، أو وجد القدر المتيقّن من الأحكام أو الطرق ، أو لم يحكم ببقاء التكليف بها ، أو لم يحصل العلم الإجمالي بالتكاليف المانع من البرائة ، أو لم يتعسّر الاحتياط ، كما يأتي تفصيل القول فيه ، إن شاء اللَّه تعالى .

الرابع : إنّ الحكم بحجية الظنّ بالطريق على الأوّل ليس مطلقاً ، لخروج الظنّ الحاصل من القياس وشبهه ، ولزوم الرجوع إلى أقوى الظنيّن عند الظنّ بعدم حجّية بعض الطرق عند القائل به ، بخلاف الثاني ؛ فالإشكال المعروف إنّما يأتي على الأوّل .

الخامس : إنّ الظنّ بالطريق على الأوّل إنّما يتعلّق بالطريق المنصوب المجعول ، كما صرّح به - طاب ثراه - في الفصول ، وعلى الثاني يتعلّق بمطلق الطريق ، شرعيّاً كان أو عقليّاً أو عاديّاً ، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى ؛ وهناك وجوه للفرق ، ويظهر ممّا يأتي إن شاء اللَّه تعالى .

إذا عرفت ذلك فنقول وباللَّه التوفيق : قد بنى الوالد العلّامة - تغمّده اللَّه برحمته ، وأسكنه بحبوحة جنّته - هذا الوجه على مقدّمة شريفة قد أسلف التنبيه عليها في المقدّمة الرابعة ، والحقّ أنّ ما أفاده - طاب ثراه - في بيان هذا المرام وإن

ص: 220

استصعب على عدّة من الأفهام حتّى جعلوه غرضاً لسهام النّقض والإبرام ، لكنّه فوق ما يتصوّر من التحقيق في المقام ، وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، غير أنّي لم أجد أحداً تعرّض لتوضيح هذا الكلام ، حتّى اشتبه الأمر على عامّة أهل العصر فلم ينظروا إليه نظر التحقيق والاعتبار ، بل أنكروه غاية الإنكار .

قال بعض مشايخنا المحقّقين(1) في رسالته المعمولة في هذه المسألة :

« [ أقول : ] ما ذكره في مقدّمات مطلبه من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء الواقع على ما هو عليه ، وبين العلم بأدائه من الطّريق المقرّر ممّا لاشكال فيه ؛ نعم ، ما جزم به من أنّ المناط في تحصيل العلم أوّلاً هو العلم بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه فيه : أنّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ، وإمّا بفعل ما حكم حكماً جعليّاً بأنّه نفس المراد وهو مضمون الطّرق المجعولة ، فتفريغ الذمّة بهذا - على مذهب المخطّئة - من حيث ، أنّه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع ، لا من حيث إنّه شي ء مستقلّ في مقابل المراد الواقعي ، فضلاً عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين حينئذ .

فنقول : إنّ مضمون الأوامر الواقعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين مراد واقعي حقيقىّ ، ومضمون الأوامر الظاهرية المتعلّقة بالعمل بالطّرق المقرّره ذلك المراد الواقعي ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة - وقد اعترف المحقّق المذكور(2) حيث عبرّ عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول - فأداء كلّ من الواقع الحقيقي

ص: 221


1- هو الشيخ الأعظم الأنصاري ، الفرائد 1 / 460-457 .
2- وهو صاحب هداية المسترشدين .

والواقع الجعلي لا يكون بنفسه امتثالاً وإطاعة للأمر المتعلّق به ما لم يحصل العلم به .

نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأدائين ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الإطاعة والامتثال ، كان مجرّد كلّ منهما مسقطاً للأمر من دون امتثال ، وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلاّ مع العلم .

ثمّ إنّ هذين الأمرين مع التمكّن من إمتثالهما يكون المكلّف مخيّراً في امتثال أيّهما شاء ، بمعني أنّ المكلّف مخيّربين تحصيل العلم بالواقع ، فيتعيّن عليه وينتفي موضوع الأمر الآخر ، إذ المفروض كونه ظاهرياً قد اُخذ في موضوعه عدم العلم بالواقع ، وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر الظّاهريّ .

هذا مع التمكّن من امتثالهما ، وأمّا لو تعذّر عليه امتثال أحدهما تعيّن امتثال الآخر ، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع وتمكّن من سلوك الطريق المقرّر ، لكونه معلوماً له ، أو انعكس الأمر بأن تمكّن من العلم وانسدّ عليه باب سلوك الطريق المقرّر ، لعدم العلم به .

ولو عجز عنهما معاً قام الظنّ بهما مقام العلم بهما بحكم العقل . فترجيح الظنّ بسلوك الطريق المقرّر على الظنّ بسلوك الواقع لم يعلم وجهه . بل الظنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ؛ لما أشرنا إليه سابقاً(1) من حكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع .

هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التّمكن من العلم ، وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم فهو أيضاً كذلك ، ضرورة أنّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة الواقعية عند تعذّره هي الإطاعة

ص: 222


1- اُنظر : الفرائد 1 / 451 .

الظاهرية المتوقّفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه .

والحاصل : إنّ سلوك الطريق المجعول - مطلقاً أو عند تعذّر العلم - في مقابل العمل بالواقع ، فكما أنّ العمل بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجب امتثالاً وإنّما يوجب فراغ الذمّة واقعاً لو لم يؤخذ فيه تحقّقه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول ، فكلّ منهما موجب لبرائة الذمّة واقعاً وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو اعتقد عدم حصوله .

وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقّق في شي ء منهما إلاّ بعد العلم والظنّ القائم مقامه .

فالحكم بأنّ الظنّ بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ بفراغ الذمّة بخلاف الظن بأداء الواقع فإنّه لايوجب الظنّ بفراغ الذمّة إلاّ إذا ثبت حجيّة ذلك الظنّ ، وإلاّ فربّما يظنّ بأداء الواقع من طريقٍ يُعلم بعدم حجّيته ، تحكّم صرف .

ومنشأ ما ذكره قدس سره تخيّل أنّ نفس سلوك الطريق الشرعي المجعول في مقابل سلوك الطّريق العقلي الغير المجعول ، وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ لبرائة الذمّة ، فيكون هو أيضاً كذلك ، فيكون الظنّ بالسلوك ظنّاً بالبرائة ، بخلاف الظنّ بالواقع ، لأنّ نفس أداء الواقع ليس سبباً تامّاً للبرائة حتّى يحصل من الظنّ به الظن بالبرائة ، فقد قاس الطريق الشرعي بالطريق العقلي .

وأنت خبير بأنّ الطريق الشرعي لا يتّصف بالطريقية فعلاً إلاّ بعدالعلم به تفصيلاً ، وإلاّ فسلوكه - أعنى مجرّد تطبيق الأعمال عليه - مع قطع النظر عن حكم الشارع لغو صرف ، ولذلك أطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع لا في مقابل العلم بالواقع ، ويلزم من ذلك كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر ، فدعوي أنّ الظنّ بسلوك الطريق

ص: 223

يستلزم الظنّ بالفراغ بخلاف الظنّ بإتيان الواقع فاسدة .

هذا كلّه مع ما علمت سابقاً من إمكان منع جعل الشارع طريقاً إلى الأحكام الشّرعية ، وإنّما اقتصر على الطرق المنجعلة عند العقلاء وهو العلم ، ثمّ الظنّ الاطمئنانيّ » ، انتهى كلامه بألفاظه .

ولعمري إنّه حمل الكلام المذكور المبني على غاية المتانة على معنى لا يرتضيه عاقل فضلاً عن فاضل ، وليت شعري ما الّذي عدل به عن المعنى المقصود الّذي حقّقه مرّة بعد اُولى ، وأوضحه كرّة بعد اُخرى كما هو دأبه - طاب ثراه - في جميع التحقيقات الّتي تفرّد بها في الفنّ .

وتوضيح المقام أنّ ههنا اُموراً ينبغي التنبيه عليها حتّى يعلم ما هو المقصود منها ؛

الأوّل : إنّ جعل الطريق المخصوص ونصبه حجّة في استنباط الأحكام حكم واقعي كساير الأحكام ، وإن كان مدلوله حكماً ظاهريّاً في كلّ مقام ، فالظنّ به كساير الظنون المتعلّقة بالأحكام الواقعية ، فكما أنّ الظنّ بالأحكام الواقعية على ما فصّله الوالد - طاب ثراه - لايستلزم الظنّ بالبرائة ، لاجتماعه مع الشّك في حجّيته والظنّ بعدمها بل القطع بالعدم ، كذلك الظنّ بالحكم المذكور بعين ما ذكر ؛ وجميع الاعتراضات المذكورة مبنيّة على توهّم التفرقة بين الأمرين من كلام الوالد المحقّق ، وعبارته - طاب ثراه - وإن كانت موهمة لذلك إلاّ أنّ التّأمل في كلامه يفيد القطع بعدم إرادة المعنى المذكور ، كيف وفساد التّوهم المذكور ممّا لايكاد يخفى على من له أدنى مسكة !

الثّاني : إنّه قد تحقّق في محلّه أنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، بمعني أنّ الاتيان بالمأمور به يسلتزم سقوط التكليف المتعلّق به ، ومتى تحقّقت الملازمة بين

ص: 224

الأمرين المذكورين فالظنّ بأحدهما يستلزم الظنّ بالآخر ، ولا يتفاوت الحال في الملازمة المذكورة بين الظنّ والشكّ والوهم ، بل ومع اعتقاد العدم أيضاً ، فلو أتى المكلّف بالمأمور به واقعاً لكنّه اعتقد عدم الإتيان به سقطا التكليف به واقعاً .

ولا فرق في ذلك بين العبادة الّتي يعتبر فيها قصد الطاعة وغيرها ، إنّما الفرق بينهما في تحقّق الموضوع ، فإنّ الإتيان بالمطلوب في الأوّل لا يجتمع مع العلم بعدمه حال العمل ، لامتناع قصد الطّاعة معه ؛ وإنتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط ، وإنّما يتصوّر ذلك لو تأخّر العلم المذكور عن العمل ، كما لو نسي المصلّي صلاته حتّى قطع بعدمها .

نعم ، يجتمع مع الظنّ والشكّ والوهم حين العمل كما في العبادات الواقعة من باب الاحتياط ، إذ لا يتوقّف قصد القربة على القطع بالمطلوبيّة ، بل يجتمع مع احتمالها ، بل الاتيان بالمحتمل أدخل في صدق الطاعة من الإتيان بالمقطوع به ، وهذا هو السبب المجوّز للاحتياط في العبادات المتوقّفة على القربة ، على ما فصّل في محلّه .

وأمّا غير العبادات ممّا لم يعتبر فيه النيّة فإنّما يتبع الواقع ، من غير فرق فيه بين الاعتقادات الخمسة .

والحاصل : إنّ كلّ فعل تعلّق الأمر به متى صدر عن المكلّف على الوجه المطلوب للأمر لزمه الإجزاء وسقوط التكليف بحسب الواقع ونفس الأمر ، عبادة كانت أو غيرها . ولا يتفاوت الحال في ذلك بين الاعتقادات الخمسة ، لأنّ الملازمة في ذلك عقليّة ، والقول باقتضاء الأمر للتكرار لا ينافي لرجوعه إلى عدم الإتيان بالمطلوب بتمامه .

وكذلك القول بإعادة المأتيّ به على حسب الحكم الظاهرىّ إذا خالف

ص: 225

الواقع إنّما يرجع إلى عدم الإتيان بحقيقة المطلوب وعدم إغناء الظاهر عنه ، فإذا تحقّقت الملازمة المذكورة فلا شكّ أنّ العلم بأحد المتلازمين يستلزم العلم بالاخر ، والظنّ به يلازم الظنّ بالآخر ، والشّكّ فيه شكّ في الآخر ؛ وكذلك العلم أو الظنّ بعدمه يلازم العلم أو الظنّ بعدم الآخر .

وإنّما يمنع من فعليّة ذلك عدم الالتفات إلى التلازم والغفلة عن ذلك ، أو الجهل به ، وهو أمر آخر ، وحينئذ فالظنّ بأداء الواقع يستلزم الظنّ بالبرائة بالمعنى المذكور ، كاستلزام الظنّ بحجيّة الطريق لذلك ، ولا يعقل اجتماع ذلك مع الشّك في البرائة فضلاً عن الظن أو القطع بعدمها ، ولا يتصوّر الفرق بين الأمرين المذكورين في ذلك بوجه من الوجوه ، فتوّهم التفرقة بينهما في ذلك من كلام الوالد المحقّق - طاب ثراه - وهم فاحش ، وإن كانت العبارة موهمة .

وما ذكره المعترض في دعوى التسوية بينهما إنّما يتمّ في الحكم في البرائة بالمعنى المذكور ، وهو من الضروريات الّتي لا يتطرق إليها شائبة الإشكال ، وكيف ساغ للمنصف حمل كلام المصنّف على إنكار ذلك ، بل لا شكّ أنّ الظنّ بإصابة الواقع أولى بذلك من الظنّ بإصابة الطريق ، سواء كانت الطريق مجعولاً في عرض الواقع - كما يراه المصوّبة - أو من حيث الحكم بكون مؤدّاه عين الواقع في جعل الشارع - كما هو معنى الطريق - وسواء كان حجّة في زمان انسداد باب العلم بالواقع ، أو حجّة على وجه الإطلاق ، كما في الظنون المخصوصة .

ومن العجب توهّم بناء الوهم المذكور على قياس الطريق الشرعي بالطريق العقلي ، وتوهم أنّ سلوك الطريق المجعول مع قطع النظر عن العلم به يستلزم البرائة كالطّريق العقلي ، بل هو توجيه غير معقول لا يرضى به صاحبه .

الثالث : إنّ البرائة الواقعية لا تلازم البرائة الظاهريّة ، سواء اعتبر في

ص: 226

المطلوب قصد القربة أو لم يعتبر ، وسواء حصلت بواسطة العمل بالواقع أو بواسطة العمل بالطريق المقرّر ؛ إنّما يستلزم ذلك العلم بأحدهما ، أمّا الظنّ بأحدهما فلا يستلزم الظنّ بالبرائة الظّاهريّة ، والشّك فيها لا يستلزم الشّك في ذلك ، لوضوح اجتماع الظنّ بذلك مع القطع بعدم البرائة والظنّ به والشّك فيه ، ومع القطع بالبرائة . واجتماع الشّكّ في ذلك مع القطع بالبرائة وبعدمها والظنّ بأحدهما ، كما في استصحابي البرائة والاشتغال في المواضع الّتي يقطع بحجيّة الاستصحاب فيها ، أو يظنّ حيث يشكّ في الواقع أو يظنّ به ، من غير فرق بين الشبهة الحكمية في ذلك والشّبهة الموضوعيّة .

ألا ترى أنّ المصلّي لو نسي صلاته فشكّ فيها لم يحكم عليه بالبرائة وإن صادف الواقع ، بل حكم عليه بالاشتغال ؛ والشّاك بعد العمل ومع الكثرة ونحو ذلك يحكم عليه بالبرائة وإن خالف الواقع .

فإن قلت : فما معنى الشّك والظنّ بالبرائة الظّاهريّة أو عدمها ؟ لأنّ الظنّ لا يخلو عن الحكم فيه بالاشتغال أو البرائة ، كما هو الحال في صورتي سبق العلم بأحدهما في الأغلب ، فإنّ حكم العقل بأحدهما ممّا لابدّ منه في كلّ مقام ، ألا ترى أنّ جميع الأقوال لابدّ أن ينتهي إلى العلم عند القائل بها ، فالظنّ المطلق عند القائل باعتباره علم بالبرائة ، كما أنّ المنكر له قاطع بعدم البرائة ، والقائل بوجوب الاحتياط في كلّ مقامٍ يقول فيه بذلك قاطع بعدم البرائة ، وبأصالة البرائة في كلّ مقام يجري فيه قاطع بالبرائة ، فكيف يتصوّر الشك أو الظنّ بالبرائة .

لأنّ الشّاك أو الظانّ بذلك لا يخلو إمّا أن يقول باكتفائه بذلك ورفع العقاب عنه معه ؛ أو يقول مع ذلك بلزوم تحصيل العلم ورفع الشكّ أو بلزوم الاحتياط فيه فيقطع بعدم البرائة ، ولو فرض الجهل بالحكم الظاهري أيضاً ؛ فلابدّ أن يكون

ص: 227

للمكلّف في تلك الحال حكم يدلّ عليه عقله من لزوم التحرّز عن الضرر المخوف ، أو البرائة عن التكليف المجهول .

وبالجملة ، فلا محيص في مرحلة الظاهر عن الانتهاء إلى اليقين ، فلا يتصوّر الجهل بالبرائة والاشتغال بالمعنى المذكور .

قلت : إن اُريد أنّ الظنّ والشّك في البرائة الظاهريّة والاشتغال الظاهري لابدّ من رجوعهما وانتهائهما إلى اليقين الرافع لهما فمسلّم ، وإن اُريد عدم إمكان حصولهما في أوّل الأمر فممنوع ؛ إذ كثيراً ما يحصل للمكلّف - مجتهداً كان أو عامياً - شكّ في ذلك أو ظنّ به ، باعتبار الشكّ في اكتفاء العقل والشرع بذلك ، أو الظنّ فيه ؛ فيلزم المكلّف حينئذٍ النظر في جواز الاكتفاء بهذا الظنّ أو الشّك بحسب حكم العقل أو الشرع بالاجتهاد ، أو التقليد ، حتّى يرجع إلى العلم على نحو الظنّ بالواقع الّذي منه حجّية الطريق والشّكّ فيه .

فإن قلت : فما الفرق بين الظنّ بالبرائة الواقعية والظاهرية حينئذٍ ؟

قلت : الظنّ بالبرائة الواقعيّة يمكن حصوله من الطرق الّتي يقطع بتحريمها أو يظنّ بذلك أو يشكّ فيه ، بخلاف الظنّ بالبرائة الظاهريّة ، فإنّه يمتنع حصوله من أحد الطّرق الثلاثة . فانظر كيف اشتبه الأمر على المعترض حتّى زعم أنّ المراد بالظن بالطريق مجرّد الظنّ بالحجيّة الواقعية الّتي هي من جملة الأحكام الواقعية ، مع أنّ الظنّ بذلك يمكن حصوله من الطرق الّتي يقطع بتحريم العمل عليها ، أو يظنّ بذلك ، فيكف يلزم من ذلك الظنّ بالبرائة مع القطع بعدم جواز اكتفاء المكلّف بمثله أو الظنّ ، بل ومع الشّك أيضاً ؟ إذ الظنّ بذلك لا يخرج عن الظنّ بالواقع الّذي صرّح بعدم استلزامه للبرائة ، إنّما الظنّ بالطريق الملازم للظنّ بالبرائة هو الظنّ الذي لايبتني على الأسباب الموهومة والمشكوكة ، لوضوح أنّ

ص: 228

الشكّ في بعض المقدّمات يستلزم الشكّ في النتيجة ، وإنّما يكون النتيجة مظنونة مع الظنّ بجميع مقدّماتها ، أو الظنّ ببعضها مع العلم بالباقي ، وإلاّ فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات .

وهذا هو المراد بالظنّ بالطريق في مقابل الظنّ بالواقع ، دون الظنّ بالحجيّة الواقعية الّتي هي من الأحكام الواقعية .

نعم ، تفسير المصنف قدس سره له بالطريق الّذي قام الدليل الظنّي على حجيّته يوهم الثاني ، لإمكان حصول الظنّ بذلك من القياس وشبهه ، لكنّه ليس بمقصود قطعاً ، ولذا عبّر عنه بقيام الدليل الظنىّ ، فإنّ الأمارات الممنوعة يقيناً أو ظنّاً أو المشكوكة لا تعدّ أدلّة ظنّية ، فلا تغفل .

الرابع : إنّ التكليف لا يستلزم جعل الطريق إليه ، إنّما يلزمه وجود الطّريق ، وفرق بيّن بين الأمرين ، كيف ولو استلزم التكليف للجعل لزم التسلسل ، فإنّ الطريق المجعول ممّا يجب العمل به ، فجعله طريقاً يستلزم التكليف بالعمل به ، فلو لزمه نصب الطريق إلى معرفته لزم نقل الكلام إلى ذلك الطّريق ، وهلمّ جرّاً إلى أن يتسلسل .

والقول بأنّ الطريق المنصوب طريق إلى معرفة نفسه أيضاً فلا يلزم التسلسل فاسد ، إذ الشي ء لا يتصوّر طريقاً إلى معرفة نفسه وإلاّ لزم الدور ، مثلاً خبر الواحد الثقة طريق إلى معرفة الأحكام ، ولا يعقل أن يكون طريقاً إلى معرفة نفسه وإلاّ لزم توقّف الشّي ء على نفسه ، فلا بدّ في معرفته من طريق آخر لا يبتني على حجّية خبر الواحد ولا ينتهي إليه ، بل الأصل في الطريق هو الطريق العقلي الّذي لا مجال للجعل فيه ، وإنّما الطريق المجعول كسائر التكاليف والأحكام التكليفية والوضعية ينتهي إلى الطريق العقلي ، ولا يلزم حصوله في باب

ص: 229

التكليف .

ألا ترى أنّ المولى قد يكلّف عبده بتكاليف كثيرة من غير أن يجعل له إلى معرفتها طريقاً بخصوصه ؟ وكذلك الحال في الموكّل والموصي والواقف وأمثالهم بالنّسبة إلى الوكيل والوصيّ والناظر ، وبالنسبة إلى كلّ مطيع ومطاع ، كالسلطان ورعيّته والمجتهد ومقلّده ، إلى غير ذلك .

وإنّما اللازم في باب التكاليف وجود الطريق العقلي ، وهو الذّي يحكم العقل بالاكتفاء به وقبح المؤاخذة عليه وعدم جواز العدول عنه ، أو استقرّت طريقة العقلاء على العمل به والجري على مقتضاه بحيث يلزم على الآمر عند عدم رضائه بذلك تنبيه المكلّف عليه .

فالفرق بين الأمرين أنّ الأوّل لا يقبل المنع عنه ، والثاني يمكن المنع عنه بشرط إبلاغه إلى المكلّف وإعلامه بذلك ، فيجوز للمكلّف سلوكه ما لم يصل إليه منع الآمر عنه ، بل يجب عليه ذلك .

فظهر أنّ الطرق المعتبرة على قسمين ؛ أحدهما : الطريق المعتبر في نفسه ممّا حكم به العقل ، أو جرت عليه طريقة العقلاء .

والآخر : الطريق المجعول الّذي نصبه الآمر للمكلّف ممّا لا مجال للعقل إلى معرفته ، فيكون على حسب جعله ، من حيث الشرايط والموانع ، ومن حيث الإطلاق والتقييد .

الأحكام الشرعيّة يتصوّر على وجوهٍ

وحينئذٍ فنقول : إنّ الحال في الأحكام الشّرعية يتصوّر على وجوه ؛

أحدها : أن يعلم بأنّ الشّارع قد نصب للمكلّفين إلى معرفتها طرقاً مخصوصة مجعولة مشروطة بشرايط عديدة ، قد أمر بسلوكها ونهى عن التخلّف عنها .

ص: 230

وأقلّ ما يتحقّق به النّصب المذكور أن يتصرّف في الطريق المعتبر بين العقلاء بالتخصيص أو اعتبار بعض الشرايط والموانع ، ثمّ يشتبه الطريق المعتبر بين الطرق ، بحيث لا يكون هناك قدر متيقّن بقدر الكفاية ولو بالنسبة ، ويتعذّر الاحتياط في المسألة الأصليّة أو الفرعية أو يتعسّر ؛ وحينئذٍ فيتعيّن العمل بالظنّ في الطريق المعتبر بالفعل ، على ما سيجي ء بيانه في الوجه الثاني ، إن شاء اللَّه تعالى .

ثانيها : أن يعلم أنّ الشارع لم يتصرّف فى الطريق بوجه من الوجوه ، وإنّما أحالنا على الطرق المعتادة الّتي يرجع إليها عند عدم نصب الطريق ؛ وحينئذٍ فلا محيص عن العمل بالظنّ بالواقع ، حيث لا يكون هناك سبيل إلى الامتثال العلمي في الأحكام المعلومة على الإجمال ، لاستلزامة الظنّ بالبرائة في حكم الآمر أيضاً ، وهذا الفرض خارج عن محل كلام .

وثالثها : أن يظنّ بذلك ، ويلزمه الظنّ باكتفاء الآمر بالظنّ بالواقع هناك ، فالظنّ بذلك يقتضي الظنّ بالبرائة في حكم الآمر أيضاً ، ولا كلام فيه أيضاً .

ورابعها : أن يشكّ في ذلك أو يظنّ بخلافه ، وحينئذٍ فالظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بالبرائة في حكم المكلّف حيث يشكّ في اعتباره أو يظنّ بعدمه ، واللازم في حكم العقل هو الرجوع إلى الظنّ الفعلي بالبرائة ، وإنّما يرجع إلى الظنّ المجرّد بالواقع مع تعذّره أو عدم حصول الاكتفاء به ، ولا يكفي في ذلك أصالة عدم نصب الطريق وعدم التصرف من الشارع فيه ، لوضوح أنّ الأصل لا يرفع الشّك ، إلاّ على قول من يعتبره من باب الظنّ ، فيرجع إلى الوجه الثالث .

وبالجملة ، فاللازم أوّلاً على جميع التقادير المفروضة هو تحصيل العلم بالبرائة وتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، من غير فرق بين أصابة الواقع أو الطريق

ص: 231

المقرّر ، ومع انسداد سبيل العلم بذلك عند بقاء التكليف وسقوط الاحتياط يتعيّن الرجوع إلى ما يفيد الظنّ بالبرائة لا مع الشّك فيها ، فضلاً عن الظنّ بعدمها وإن كان ظنّاً بالواقع ، للقطع بتقديم البرائة المظنونة على المشكوكة .

فما أعترض به المحقّق المذكور أخيراً من منع جعل الشارع طريقاً إلى الأحكام ، مع ما فيه ممّا يأتي في الوجه الثاني إن شاء اللَّه لا يجدي شيئاً ، لأنّ الاحتمال المتساوي في ذلك مانع من حصول الظنّ بالبرائة في حكم المكلّف .

نعم ، لو حصل الظنّ بعدمه ثمّ ذلك على ما ذكرو ، أنّى له بإثباته ؟ فلا تغفل .

الخامس : إنّ ما ذكر من الفرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبرائة إنّما يتمّ حيث لا يعلم كون المصالح والمفاسد الواقعية عللاً تامّة في تشريع الأحكام ، إذ مع العلم بذلك لاينفكّ الظنّ بالواقع عن الظنّ بالبرائة ، لاستلزامه الظنّ بإدراك تلك المصالح الواقعية ، بل لا يتمّ ذلك مع الظنّ بما ذكر أيضاً ، لاستلزام الظنّين الظنّ بالبرائة أيضاً ؛ ففي الفرض المذكور إنّما يلزم أوّلاً تحصيل العلم بأداء الواقع على ما هو عليه حتّى يؤدّي إلى المصالح المقصودة ، ومع تعذّره إنّما يقوم الظنّ به مقامه .

وظنّي أنّ الذّي أوقع المعترض في التوهّم المذكور تخيّل أنّ الأحكام الشرعيّة من هذا القبيل ، مع أنّ المصنّف قدس سره قد بنى هذا الوجه على ما قرّره في المقدّمة الرابعة وأثبته بالوجوه المذكورة هناك ، لكنّ المعترض إنّما تخيّل من تلك المقدّمة نفي الترتيب بين تحصيل العلم بأداء الواقع على ما هو عليه والعلم بأدائه من الطريق المقرّر ، وهو من الضروريّات الّتي ليس بيانها من دأب المحصّلين ، وقد مرّ تفصيل القول في ذلك .

فإن قلت : غاية ما ثبت في تلك المقدّمة حصول التوسعة حال الانفتاح في

ص: 232

العمل بالطريق ، وعدم التضييق عليه بتحصيل الواقع ، فكيف يترتّب على ذلك التضييق عليه عند الانسداد بلزوم تحصيل الظنّ بالبرائة ؟ بل الّذي يترتّب عليه التّوسعة عليه بتجويز العمل بكلّ من الظنّ بالواقع والطّريق .

قلت : المقصود أنّ المكلّف إنّما يجب عليه أوّلاً تحصيل القطع بالبرائة ، فإنّما يقوم الظنّ بالبرائة مقامه حال الانسداد دون الظنّ بالواقع ، لكن يبقى فيه أنّ الانتقال عن العلم بالبرائة عند تعذّره إلى الظنّ بها أمر معلوم لا يتوقّف على إثبات تلك المقدمّة .

غاية الأمر أنّ الظنّ بالواقع يستلزم الظنّ بالبرائة في بعض المقامات ، إلّا أن يكون الفرض من تلك المقدمّة مجرّد بيان أنّ الحال في الأحكام الشرعيّة ليس من هذا القبيل .

فليس المقصود أنّه لو ثبت الترتيب بين الواقع والطريق ووجب أوّلاً تحصيل العلم بالواقع لم يجب عند الانسداد تحصيل الظن بالبرائة ؛ بل المقصود أنّ الفرض المذكور كاشف عن تعلّق الغرض بنفس الواقع على ما هو عليه ، فالظنّ به يقتضي الظنّ بالبرائة .

لكن فيه أنّ هذه الملازمة غير مسلّمة ، لإمكان فرض الترتيب المذكور مع الشكّ في حصول البرائة بالظنّ بالواقع باحتمال المنع عن العمل به حال الانسداد ، فالأولى حمل تلك المقدّمات على ما عرفت ، من بيان أنّ الواقع على ما هو عليه ليس هو المقصود بالذّات حتّى يجب تحصيل العلم به أوّلاً والظنّ به ثانياً ، إنّما الواجب تحصيل العلم بالبرائة ثمّ الظنّ بها حسب ما مرّ توضيح القول فيه ، فلا تغفل .

السادس : إنّ ما ذكر من أنّ اللازم في امتثال أحكام الشرعيّة هو تحصيل

ص: 233

العلم بالبرائة مع إمكانه والظنّ بها مع تعذّره ؛ كما يجري حال انسداد باب العلم بمعظم الأحكام كما بنى عليه دليل الانسداد ، كذا يجري في كلّ مسألة مسألة على حدها ، من غير ارتباط لذلك بضمّ ساير المسائل إليها ، وفي حقّ كلّ واحد من المكلّفين على حده ، من غير تعلّق لذلك بحكم النوع ، ولا يتوقّف ذلك على ضمّ مقدّمات دليل الإنسداد .

فنقول : إنّ اللازم على كلّ مكلّف في امتثال الحكم التكليفي المتعلّق بكلّ مسألة أو الحكم الوضعي الراجع إليه أوّلاً هو تحصيل العلم بالبرائة و فراغ الذمّة ولو في حكم المكلّف من أيّ طريق حصل ، مدلولاً عليه بأي دليل من جنس الأدلّة الأربعة ، فإذا تعذّر ذلك - ولو في زمان مخصوص بالنسبة إلى حكم مخصوص ومكلّف مخصوص في حالة مخصوصة - لزم الرّجوع إلى ما يوجب الظنّ بالبرائة وفراغ الذمّة أوّلاً ، فيكتفي المكلّف بذلك ، ويحكم معه بالبرائة القطعيّة أيضاً بعد ملاحظة ذلك ، نظراً إلى امتناع التّكليف بالمحال ؛ فإذا تعذّر الظنّ بالبرائة قام الظنّ بالواقع مقامه مع احتمال البرائة ، لا من مثل القياس وشبهه ممّا يقطع معه بعدمها ، بل ولا من الطريق الّذي يظنّ بمنع الشارع عنه إلاّ حيث ينحصر الأمر فيه ، بل ومع فرض انسداد جميع الطرق وانحصار الأمر في القياس وشبهه فلا شبهة في عدم جواز ترجيح الموهوم من حيث هو موهوم على المظنون من حيث هو مظنون .

والحاصل : إنّ المكلّف - مقلّداً كان أو مجتهداً ، في الشبهة الموضوعية أو الحكمية - لابدّ له عند العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً من تحصيل العلم بالبرائة في حكم المكلّف ولو بسلوك سبيل الاحتياط ، فإذا تعذّر عليه ذلك ولو لبعض العوارض المانعة عادة أو شرعاً أو لضيق الوقت عن الفحص ، أو لفقد أسباب

ص: 234

العلم أو سقط التكليف به بنصّ الأمر أو غيره لزمه الظنّ بالبرائة في حكم المكلّف ، ظنّ معه بأداء الواقع أو لا .

ولا يكفيه مع إمكانه مجرّد الظنّ بالواقع عند عدم حصول الظنّ له بجواز الاكتفاء به عقلاً أو شرعاً ، بل اللازم له حينئذٍ في مقام العمل تحصيل الظنّ بما يكتفي به المكلّف في حقّه ولا يعاقبه عليه ، لحكم العقل بلزوم تحصيل الأمن من عقوبة السّيّد علماً مع إمكانه وظنّاً مع تعذّره من أيّ طريق حصل .

وقد عرفت أنّ مثل هذا الظنّ يمتنع حصوله من الطرق الممنوعة ، للقطع بعدم اكتفاء الشارع من العبد بسلوكها ؛ وكذا من الطرق الّتي يظنّ فيها بذلك أو يشكّ فيها ، لامتناع حصول الظنّ باكتفاء الأمر معها .

فهذه مسألة عامّة تجري في جميع المقامات ، للزوم الاجتهاد في كلّ مسألة ، بمعنى لزوم بناء العمل فيها على وجه معيّن يعلم بجوازه إن أمكن وإلاّ فبالظنّ ، لامتناع التوقّف في مقام العمل .

وكذا الحال في المقلّد ، فإذا اتّفق للمقلّد العجز عن تحصيل فتوى مجتهده في مسألة واحدة لا يتأتّي له الاحتياط فيها لزمه العمل بما يظنّ معه باكتفاء الشارع منه على ما هو عليه في تلك الحال بذلك ، لا بمجرّد الظنّ بالواقع ؛ وكذا المجتهد عند ضيق وقته عن النظر في الأدلّة وتعذّر الاحتياط عليه ؛ وكذا القاضي والمفتي إذا تعيّن عليهما القضاء والإفتاء على الحال الّتي هما عليه مع تعذّر العلم والاحتياط إنّما يعملان بما يحصل الظنّ بجواز العمل عليه في تلك الحال ، لا بمجرّد الظنّ بالواقع .

وكذا الحال في المسائل الّتي يدور الأمر فيها بين المحذورين ويتعذّر على المكلّف تحصيل العلم بحكمها ، فإنّما يرجع إلى الظنّ بما يجوز عليه العمل في

ص: 235

تلك الحال ويسوغ البناء عليه في حكم المكلّف ، بحيث يكتفي منه بذلك ، دون مجرّد الظنّ بالواقع ، إلّا إذا حصل فيه الوصف المذكور .

وظنّي أنّ من تأمّل في طريقة الفقهاء الكرام ، وأمعن النظر إلى سيرتهم في استنباط الأحكام لا يختلجه فيما ذكرناه شكّ ولا شبهة ، لوضوح أنّ نظر القوم ليس إلاّ إلى الطرق والوجوه الّتي يكتفى بها في حكم المكلّف ، ويحكم معها بتفريغ الذمّة علماً أو ظنّاً ، حصل الظنّ منها بالواقع أو لم يحصل ، دون مجرّد الظنّ بالحكم الواقعي النفس الأمري إلّا مع تعذّر الأوّل .

ومن تأمّل في نظاير المسألة من الموضوعات المشتبهة ، وفي أحكامها المخصوصة بالنّسبة إلى المقلّدين والمعذورين حصل له القطع بأنّه ليس المدار عند تعذّر العلم على مجرّد الظنّ بإصابة نفس الواقع في الموضوعات والأحكام ، بل الطرق المسلوكة المفيدة للظنّ بالبرائة ، فلا تغفل .

الإشكال الوارد على الوجه الأوّل من تصحيح القول بحجيّة الظنون الخاصّة وجوابه

اشارة

قال - طاب ثراه - :

فإن قلت : إن قام أوّلاً طريق مقرّر من الشارع في الوصول إلى الحكم والحكم معه بتفريغ الذمّة عن التكليف فلا كلام ، وإن لم يقم فالواجب أوّلاً تحصيل العلم بالواقع ، فمع تعذّره ينوب منابه الظنّ بالواقع ، أو يقال : إنّه إن لم يقم طريق مقرّر من الشارع للوصول إلى الواقع كان العلم هو الطريق إلى(1) الواقع ، وإن قام اكتفى بما جعله طريقاً ، فإن لم يثبت عندنا ذلك أو ثبت وانسدّ سبيل العلم به كان المرجع

ص: 236


1- كلمة « إلى » ليست في المطبوعة الحديثة .

هو العلم بالواقع ، إذ القدر المسلّم من التّكليف بالرجوع إلى الطريق إنّما هو مع العلم به ، وبعد انسداد سبيل العلم به يرجع إلى الظنّ بالواقع حسب ما قرّروه .

قلت : لا ترتيب بين تحصيل العلم بالواقع وبالطريق المقرّر من الشرع ، وليس تعيّن الرجوع إلى العلم مع عدم الطريق المقرّر أو عدم العلم به قاضياً بترتّب العلم بالواقع عليه ولا تعيّن الرجوع إلى العلم بالواقع إلى أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره من الطريق الّذي قرّره دليلاً على ترتّب الآخر عليه ، بل الجميع في مرتبة واحدة ، وإنّما يتعيّن الرجوع إلى العلم مع انتفاء الطريق المقرّر أو عدم العلم به ، لانحصار العلم بالخروج عن عهدة التكليف في ذلك ، ولذا يجوز الرجوع إلى العلم مع وجود الطريق المقرّر أيضاً ويتخيّر المكلّف في الرجوع إلى أيّهما شاء .

والحاصل : أنّ القدر اللازم أداء الفعل وحصول البرائة بحسب حكم الشارع ، وهو حاصل بكلّ من الوجهين . وتعيّن تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطريق المقرّر أو انتفائه واقعاً ليس لكونه متعيّنا في نفسه ، بل لحصول البرائة به على النحو الّذي ذكرناه ، وفرق بيّن بين كون الشي ء مطلوباً بذاته وكون المطلوب حاصلاً به ، فهو إذن أحد الوجهين في تحصيل تفريغ الذمّة ، فإذا انسدّ باب العلم بتفريغ الذمّة على الوجه المفروض بكلّ من الوجهين

ص: 237

المذكورين بأن لم يحصل هناك طريق قطعي من الشارع يحكم معه بتفريغ الذمّة وانسدّ سبيل العلم بالواقع القاضي بالقطع بتفريغ الذمّة كذلك رجع الأمر بعد القطع ببقاء التكليف إلى الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشارع حسب ما عرفت ، وهو يحصل بقيام الأدلّة الظنيّة على حجيّة الطرق المخصوصة حسب ما اُقيم الدليل عليها في محالّها من غير أن يكتفى في إفادة حجّيتها بمجرّد كونها مفيدة للظنّ بالواقع كما هو قضيّة الوجه الآخر [ج 3 ، ص 353 - 352] .

بيان المؤلف في ذلك

أقول : هذا الكلام صريح في عدم توقّف إتمام الدليل المذكور على إثبات الطرق الظنية في حال انفتاح باب العلم بالواقع ، كما قد يتوّهم من بناء الأمر على ما قرّر في المقدّمة الرابعة ، بل لو فرضنا القطع بعدم نصب الطريق في حال الانفتاح لم يحكم بالانتقال عند الانسداد إلى الظنّ بالواقع ، وإنّما ينتقل إلى الظنّ بالبرائة .

فمحصّل الكلام التفصيل على التقدير المذكور بين تعيّن تحصيل العلم عند انفتاح سبيله ، لتوقّف العلم بالبرائة عليه ، وبين تعيّنه لكون الواقع مطلوباً بالذات ، نظير الأوامر الارشاديّة المحضة .

فعلى الأوّل ينتقل عند انسداد سبيله إلى الظنّ بالبرائة ؛ وعلى الثاني إلى الظنّ بإدراك ذلك الواقع .

فالمقصود من تلك المقدمّة إثبات أنّ الأحكام الشرعيّة من قبيل الأوّل ، وهذا معنى قوله بالفرق بين كون الشي ء مطلوباً بذاته وكون المطلوب حاصلاً به .

نعم ، لو فرض القطع بعدم نصب الطريق في حال الانسداد أيضاً كحال

ص: 238

الانفتاح لم يتصوّر الفرق بين المقامين ، ولم يكن هناك بدّ من الرجوع إلى الظنّ بالواقع ، ولا ينفكّ إذن عن الظنّ بالبرائة .

وإنّما تظهر الثمرة عند عدم القطع بذلك ، بل وعدم الظنّ به أيضاً ، وحينئذٍ فلا يعمل بالظنّ المشكوك فيه على الوجه الأوّل ، إنّما يعمل بما يظنّ بلزوم سلوكه والعمل عليه حينئذٍ ، حصل منه الظن بالواقع أو لا ، دون ما يظنّ معه بالواقع مع الشّك في رضاء الشّارع به .

بخلاف الوجه الثّاني ، فإنّ الظنّ بالواقع هناك أيضاً لا ينفكّ عن الظنّ بالبرائة ، لأنّه ظنّ بحصول ما هو المطلوب بالذّات ، فإنّ ما بالذات لا يتخلّف ، ولا يختلف باختلاف العوارض ، فتأمّل .

الإشكال الآخر من الماتن

اشارة

قال قدس سره :

فإن قلت : إنّ الظنّ بأداء الواقع يستلزم الظنّ بتفريغ الذمّة على الوجه المذكور لو لا قيام الدليل على خلافه كما في القياس ونحوه ، إذ أداء المكلّف به واقعاً يستلزم تفريغ الذمّة بحسب الواقع قطعاً لقضاء الأمر بالإجزاء على الوجه المذكور ، والظنّ بالملزوم قاضٍ بالظنّ باللازم ، فكلما يفيد الظنّ بالواقع يفيد الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشّرع لو لا قيام الدليل على خلافه ، إذ ليس مقصود الشارع حقيقة إلّا الواقع ، وإذا قام الدّليل على خلافه فإن كان قطعيّاً فلا إشكال في عدم جواز الرجوع إليه ، لعدم مقاومة الظنّ المفروض للقطع ، وإن كان ظنيّاً وقعت المعارضة بين الظنّين المفروضين ، حيث إنّ الظنّ بالواقع يستلزم الظنّ بتفريغ

ص: 239

الذمّة على الوجه المذكور حسب ما عرفت ، والدليل القاضي بعدم حجّية ذلك الظنّ قاضٍ بالظنّ بعدم تفريغ الذمّة كذلك ، فيراعى حينئذٍ أقوى الظنّين كما هو الشأن في سائر المتعارضين ، بل الأقوى(1) حينئذٍ هو الظنّ والآخر وهم في مقابله ، ولا يتحاشى عنه القائلون بأصالة حجّية الظنّ ، بل ذلك مصرّح به في كلام جماعة منهم .

نعم غاية ما يلزم من التقرير المذكور أن يقال بحجّية ما لا يفيد الظنّ بالواقع كالاستصحاب في بعض الموارد إذا قام دليل ظنّي على كونه طريقاً شرعيّاً إلى الواقع ، لحصول الظنّ منه حينئذٍ بتفريغ الذمّة في حكم الشرع وإن لم يحصل منه الظنّ بأداء الواقع ، والظاهر أنّه لا يأبى عنه القائل بحجّية مطلق الظنّ ، فغاية الأمر أن يقول حينئذٍ بحجّية كلّ ظنّ بالواقع ويضيف إليه حجّية ما يظنّ كونه طريقاً إلى الواقع شرعاً وإن لم يفد ظنّاً بالواقع .

والحاصل : أنّ القول بحجيّة ذلك لاينافي مقصود القائل بحجّية مطلق الظنّ ، سواء التزم به في المقام أو لم يلتزم به لبعض الشبهات .

قلت : قد عرفت ممّا مرّ أن الظنّ بما هو ظنّ ليس هو طريقاً إلى الحكم بتفريغ الذمّة ، فمجرّد الظنّ بالواقع ليس

ص: 240


1- في المطبوعة الحديثة : « القوى » .

قاضياً بالظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشرع مع قطع النظر عن قيام دليل على حجّية ذلك الظنّ ، لوضوح عدم حصول التفريغ به كذلك ، وإنّما يحتمل حصوله به من جهة احتمال(1) قيام الدليل على حجّيته .

ومن البيّن تساوى احتمالي قيام الدليل المذكور وعدمه في نظر العقل ، فيتساوي(2) نسبة الحجية وعدمها إليه . فدعوى الاستلزام المذكورة فاسدة جدّاً ، كيف ؟ ومن الواضح عدم استلزام الظنّ بالواقع الظنّ بحجّية ذلك الظنّ ، ولا اقتضائه له ، فكيف يعقل حصول الظنّ به من جهته ؟!

نعم إنّما يستلزم الظنّ بالواقع الظنّ بتفريغ الذمّة بالنظر إلى الواقع لا في حكم المكلّف الّذي هو مناط الحجية ، والمقصود في المقام هو حصول الظنّ به في حكمه ، إذ قضيّة الدليل المذكور حجّية ما يظنّ من جهته بتفريغ الذمّة في حكم الشارع بعد انسداد سبيل العلم به ، وهو إنّما يتبع الدليل الظنّي القائم على حجّية الطرق الخاصّة ، ولا يحصل من مجرّد تحصيل موضوع الظنّ بالواقع ، لما عرفت من وضوح كون الظنّ بالواقع شيئاً والظنّ بحجّية ذلك الظنّ شيئاً آخر ، ولا ربط له بنفس ذلك الظنّ .

ص: 241


1- كلمة « احتمال » لم يرد في المطبوعة الحديثة .
2- في المطبوعة الحديثة : « ويتساوي » .

وقدعرفت أنّ ما يترائى من استلزام الظنّ بالواقع الظنّ بتفريغ الذمّة ، نظراً إلى أن المكلّف به هو الواقع إنّما يصحّ بالنسبة إلى الواقع ، حيث إنّه يساوق الظنّ بالواقع الظنّ بتفريغ الذمّة بالنسبة إليه عند أدائه كذلك ، وذلك غير الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف كيف ؟ والظنّ المفروض حاصل في القياس أيضاً بعد قيام الدليل على عدم حجّية ، فإنّه إذا حصل منه الظنّ بالواقع فقد حصل منه الظنّ بفراغ الذمّة بالنظر إلى الواقع عند أداء الفعل كذلك ، إلّا أنّ الظنّ المفروض كالظنّ المتعلّق بنفس الحكم ممّا لا اعتبار له بنفسه ، وقد قام الدليل الشرعي هناك أيضاً على عدم اعتباره فقضى بالقطع بعدم حصول التفريغ به في حكم الشرع .

فظهر ممّا قرّرناه أنّ الإيراد المذكور إنّما جاء من جهة الخلط بين الوجهين وعدم التميّز بين الاعتبارين . وممّا يوضح ما قلناه أنّ الظنّ بالملزوم لا يمكن أن يفارق الظنّ باللازم ، فبعد دعوى الملازمة بين الأمرين كيف يعقل استثناء ما لو قام الدليل على خلافه ، والقول بأنّه بعد قيام الدليل القطعي يعلم الانفكاك ومع قيام الدّليل الظنّي يظنّ ذلك ؟ وهل ذلك إلّا تفكيك بين اللازم والملزوم ؟

فظهر بما قررّناه أنّ اللازم أوّلاً في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع وبعد انسداد سبيله يتنزّل إلى الظنّ بالتفريغ في حكمه لا مجرّد الظنّ بالواقع ،

ص: 242

وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين .

نعم لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التفريغ في حكمه اُمور مفيدة للظنّ بالواقع من غير أن يكون هناك دليل قطعي أو ظنّي على حجّية شي ء منها وتساوت تلك الظنون في ذلك كان الجميع حينئذٍ حجّة في حكم العقل وإن لم يحصل من شي ء منها ظنّ بالتفريغ أوّلاً ، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظنّ بالتفريغ من شي ء منها على ما هو المفروض ، فينتقل الحال إلى مجرّد تحصيل الظنّ بالواقع ، ويحكم العقل - من جهة الجهل المذكور وتساوي الظنون في نظره بالنسبة إلى الحجّية وعدمها حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض - بحجّية الجميع والأخذ بأقواها عند التعارض من غير فرق بينهما ، فصار المحصّل أنّ اللاّزم أوّلاً(1) تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع كما مرّ القول فيه .

وبعد انسداد سبيله يتعيّن بتحصيل الظنّ بالتفريغ في حكمه تنزّلاً من العلم به إلى الظنّ ، فينزّل الظنّ به منزلة العلم . وإذا انسدّ سبيله أيضاً تعيّن الأخذ بمطلق ما يظنّ معه بأداء الواقع حسب ما ذكر في المقام ، فهناك مراتب

ص: 243


1- كلمة « أوّلاً » لم ترد في المطبوعة الحديثة .

متدرّجة ودرجات مترتّبة ، ولا يتدرّج إلى الوجه الثالث إلّا بعد انسداد سبيل الاوّلين ، والمختار عندنا حصول الدرجة الاولى وعدم انسداد سبيل العلم بالتفريغ من أوّل الأمر كما سيأتي الاشارة إليه في الوجه الأخير .

شرح من المؤلف

لكنّا نقول : إنّه بعد تسليم انسداد سبيله إنّما يتنزّل إلى الوجه الثاني دون الثالث ، وإنّما يتنزل إليه بعد انسداد سبيل الثاني أيضاً وتساوي الظنون من كلّ وجه ، وأنّى لهم بإثبات ذلك ؟ بل من البيّن خلافه ، إذ لا أقلّ من قيام الأدلّة الظنّية على حجّية ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشرعيّة ، وهى كافية في وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتّكال على غيرها ، نظراً إلى قيام الدليل القطعي المذكور ، فليس ذلك من الاتّكال على الظنّ في إثبات الظنّ ليدور كما ظنّ .

فإن قلت : إنّ معرفة الطريق المقرّر من الشرع للوصول إلى الأحكام - أعني ظنّ المجتهد مطلقاً سوى ما استثني ؛ أو خصوص الظنون المخصوصة والطرق الخاصّة - ليس من مسائل الفروع وإنّما هو من مسائل الكلام ، فيتعيّن الأخذ فيها بالعلم ، ولا يمكن القول بانسداد سبيل العلم بالنسبة إليها ، وعلى فرض عدم اندراجها في مسائل الكلام فليس سبيل العلم مسندّاً بالنسبة إليها ، كيف ! والقائل بحجّية مطلق الظنّ يتمسّك فيها بالبرهان القاطع العقلي ، فلا وجه

ص: 244

للقول بانسداد سبيل العلم فيها ليرجع بعده إلى الظنّ بها .

قلت : كون هذه المسألة من مسائل الكلام من أوهن الكلام ، إذ لا ربط لها به كما هو ظاهر من ملاحظة حدّه ، بل هى من مسائل اُصول الفقه لكونها بحثاً عن الدليل وبياناً لما يناط به حجّية الدليل ، وبملاحظة حدّ الاُصول يتّضح كونها من أوضح المسائل المندرجة فيه .

نعم لو صحّ اعتبار القطع في اُصول الفقه صحّ القول باعتبار القطع فيها ، إلّا أنّ ذلك فاسد جدّاً إن اُريد به اعتبار تحصيل القطع بها أوّلاً ، وإن اُريد به ما يعمّ الانتهاء إلى القطع فهو ممّا لا اختصاص له بالاُصول ولا ربط له في المقام ، لوضوح حصول الانتهاء إليه هنا أيضاً ، وما ذكر من قيام البرهان القاطع على حجّية الظنّ عند القائل به ، فكيف يسلّم انسداد باب العلم فيها أوهن شي ء ! فإنّ الدليل العقلي المذكور على فرض صحّته إنّما يقرّر على فرض انسداد باب العلم بالواقع وبالطريق المقرّر من الشرع ، كيف ! ولو كان عنده طريق خاصّ قطعي مقرّر من الشارع لاستفادة الأحكام لما تَمّ دليله المذكور قطعاً لابتنائه على انتفائه حيث اُخذ ذلك من جملة مقدّماته كما سيجى ء بيانه إن شاء اللَّه تعالى .

ولا يدّعى أيضاً قيام الدليل القطعي أوّلاً على حجّية كل ظنّ ، وإلّا لما احتاج إلى الدليل المذكور ، بل إنّما يقول بانسداد سبيل العلم بالواقع وبالطريق المقرّر من الشرع أوّلاً

ص: 245

للوصول إلى الواقع ، ويريد بيان أنّ قضيّة العقل بعد الانسداد المذكور هو الرجوع إلى مطلق الظنّ ، فالبرهان الّذي يدّعيه إنّما هو بعد فرض الجهل فيستكشف به حال الجاهل ، وأنّ قضيّة جهله مع علمه ببقاء التكليف ماذا ، ونحن نقول : إنّ قضيّة ذلك هو الانتقال إلى الظنّ على الوجه الّذي قرّرناه دون ما ادّعوه ، فالكلام المذكور ساقط جدّاً » [ج 3 ، ص 357 - 353] .

أقول : شرح هذا الكلام على طوله ظاهر لمن تدبّره ، وقد مرّ توضيح ذلك فيما أسلفناه ، ومن القائلين بالظنّ المطلق من أنكر جريانه في مسائل اُصول الفقه أيضاً ، كتعيين الطرق الشرعيّة لاستنباط الأحكام ، وإن لم يندرج في مسائل الكلام .

وغاية ما يوجّه به ذلك أمران ؛

أحدهما : الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة على عدم حجّية الظنّ في تلك المسائل ، فلو كان الظنّ فيها حجّة لزم العمل بالشهرة والإجماع المذكورين .

والثاني : إنّ إجراء الدليل في مسائل الاُصول يتصوّر على وجوه ؛

أحدها : أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الفرعية كما يقتضي الانتقال إلى الظنّ فيها ، كذا انسداد باب العلم بالمسائل الاُصوليّة يقتضي الانتقال إلى الظنّ فيها ، فذلك الدليل بعينه يجري هناك من غير فرق .

الثاني : إنّ مورد الدليل المذكور هو مطلق الأحكام الشرعيّة ، ولا شكّ أنّ حجّية الدليل أيضاً من جملتها ، فإذا قضى بحجّية الظنّ في مطلق الأحكام كان شاملاً للأحكام الأصليّة أيضاً ، لعدم تعقّل الترجيح بين الأحكام .

ص: 246

الثالث : إنّ مورده وإن كان خصوص الأحكام الفرعيّة ، إلاّ أنّ الظنّ المتعلّق بمسائل اُصول الفقه يستلزم الظنّ بالمسألة الفرعية الّتي يتفرّع عليها ويستند إليها ، فالظنّ بها يستلزم الظنّ بالحكم الفرعي ، وإن كان ظاهريّاً - فيكون حجّة .

وحينئذٍ فنقول : إن أراد القائل بحجّية الظنّ في مسائل الاُصول إجراء الدليل المذكور فيها مستقلّاً ، فلا يخفى أنّه موقوف على جريان مقدّمات ذلك الدّليل فيها على الإستقلال وليس كذلك ، فإنّ ما يتعلّق منها بمباحث الألفاظ ، كمسائل الأمر والنهي والعام والخاصّ وغيرها - أو بالملازمات العقليّة - كوجوب المقدمّة وحرمة الضدّ ونحوهما - إن كان قطعيّاً فلا كلام ، وإن كان ظنيّاً استلزم الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي واندرج في مورد الدليل الجاري في الفروع وما يبحث فيها عن حجّية الطرق والترجيحات في باب التعارض ، فيمنع انسداد باب العلم فيها ، لإمكان تميز الحجّة منها عن غير الحجّة والمرجّح عن غيره بالوجوه العلميّة ولو من باب الانسداد أو الرجوع إلى الوجدان ، لاستنادهم في ذلك إلى القاطع ، ومع ذلك فما يفيد الظنّ الشّخصي من تلك الطرق والترجيحات يفيد الظنّ في الفروع ، وليس من الظنّ في المسألة الاُصولية ، وما سوى ذلك الظنّ من الأمارات والمرّجحات التعبديّة وغيرها لم يبلغ في الكثرة حدّاً يلزم من الرجوع إلى الاُصول في غير المعلوم منها ما يلزم من مثله في الفروع من المحذور ، فلا يتعيّن الرجوع فيها إلى مطلق الظنّ .

وإن أراد الوجه الثاني ، فلا يخفى أنّ القول بشمول الحجيّة لجميع الظنون يتوقّف على ظهور الإجماع على عدم الفرق أو على امتناع الترجيح من غير مرجّح ، وهما منتفيان في الاُصول ، لنقل الشهرة بل الإجماع على عدم إجراء الظنّ فيها ، فكيف يدّعى الإجماع على عدم الفرق ، وظهور المرجّح هنا ، لزيادة

ص: 247

الاهتمام في المسائل الاُصوليّة الّتي تبنى عليها الفروع المتكثّرة ، وكلّما كان الاهتمام فيه أكثر كان التحفّظ عن الخطأ فيه ألزم .

وإن أراد الثالث ، فإنّما القدر المسلّم منه ما اعترفنا به من الظنّ الحاصل من المسائل المتعلّقة بالموضوعات الاستنباطيّة والملازمات العقليّة ونحوها ، دون الظنّ بالحكم الظاهري ، فإنّ مقتضى انسداد باب العلم بالأحكام الواقعية حجيّة الظنّ فيها دون الأحكام الظاهريّة .

وأنت خبير بوهن الوجهين المذكورين :

أمّا الأوّل ، فللمنع من الشهرة والإجماع المذكورين ، لحدوث هذه المسألة بين متأخّري المتأخّرين وعدم التعرّض لها في كلام المعظم ، وإنّما المشهور الرجوع إلى الظنون المخصوصة وعدم الحاجة إلى التمسّك بالظّنون المطلقة ، على أنّ الإجماع والشهرة إنّما يؤثران في إثبات المسائل التوقيفيّة دون الأحكام العقلية ، على أنّ في التمسّك بالظنّ المتعلّق بالمسألة الاُصولية في عدم حجّية الظنّ بها كلاماً يأتي في نظائره .

وأمّا الثّاني ، فلإمكان القول باعتبار الظنّ في المقام على كلّ من الوجوه الثلاثة .

أمّا الأوّل ، فلأنّ بقاء التكليف بالعمل بالطرق الشرعيّة ، ودوران الأمر فيها بين اُمور محصورة ، وعدم الاكتفاء بالقدر المتيقّن منها ، وتعذّر الاحتياط بالجمع بينها يقتضي الرجوع إلى مطلق الظنّ في تعيين ما هو الحجّة منها .

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحجّية حكم من الأحكام الشرعيّة ، فيكون الحال فيها هو الحال في ساير الأحكام ، وكثرة الاهتمام بها يجري في القواعد الكلّية الفرعيّة والمسائل الّتي تعمّ البلوى بها ، والمسائل المهمّة المتعلّقة بالدّماء

ص: 248

والفروج ونحوها ، ولا قطع بالترجيح بها ، وإحتمال المرجّح لا يجدي شيئاً .

وأمّا الثالث ، فلأنّ الدليل إنّما يقتضي اعتبار الظنّ في سقوط الأحكام الواقعية وفراغ الذّمّة منها .

ومن البيّن أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الإتيان به أو ببدله ، فالظنّ بالإتيان بالبدل يجري مجرى الظنّ بالواقع ، لحصول البرائة بهما على حدّ سواء .

ردّ المؤلف على ناقد الماتن

إذا عرفت ذلك فمن العجيب ما قد يحكى عن بعض من لا تحصيل له من رمي ما اختاره المحقّق الوالد - طاب ثراه - من حجّية الظنّ بالطريق على سبيل التنزّل إلى مخالفة الإجماع المركّب ، حيث زعم أنّهم بين من يقول بشمول الحجّية للظنون المتعلّقة بالمسائل الفرعيّة والأصليّة جميعاً ، وبين من يخصّها بالاُولى ، فالقول بالعكس ؛ وتخصيص الحجّية بما يتعلّق بإثبات الطرق الشرعيّة خرق لإجماعهم ، وهو وهم فاحش ، إذ المسألة إنّما حدثت بين قوم من متأخّري الأصحاب ، على أنّها عقليّة ، فإذا فرض استقلال العقل بحجّية الظنّ في تعيين الطرق فلا سبيل إلى ردّه بالإجماع ، إنّما يجري ذلك في الأُمور التوقيفيّة ، فلا تغفل .

نقل كلام صاحب الفصول في المقام

اشارة

قال - طاب ثراه - :

الثاني : إنّه كما قرّر الشارع أحكاماً واقعيّة كذا قرّر طرقاً(1) للوصول إليها إمّا العلم بالواقع أو مطلق الظنّ أو غيرهما قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذٍ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحاً فالواجب الأخذ به

ص: 249


1- ولكن في المطبوعة الحديثة : « طريقاً » .

والجري على مقتضاه ، ولايجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف(1) بين الفريقين ، وإذا انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشرع(2) طريقاً قطعيّاً حينئذٍ إلى الواقع نظراً إلى القطع ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطّريق وقطع العقل بقيام الظنّ حينئذٍ مقام العلم حسب ما عرفت ويأتي .

فالحجّة إذن ما ظنّ(3) كونه حجة وطريقاً إلى الوصول إلى الأحكام وذلك إنّما يكون بقيام الأدلّة الظنيّة على كونه كذلك ، وليس ذلك إثباتاً للظنّ بالظنّ حسب ما قد يتوهّم ، بل تنزّلاً من العلم بما جعله الشارع طريقاً إلى ما يظنّ كونه كذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما مرّت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدّم[ج 3 ، ص 358] .

بيان المؤلف في توضيح كلام عمّه

أقول : هذا الوجه هو الّذي اختاره عمّي العلّامة طاب ثراه - في فصوله ، وبنى عليه إثبات أكثر الطرق الشرعيّة ، وأسّس عليه أساس استنباط الأحكام الفرعية ، وزعم أنّه لم يسبقه إليه أحد(4) .

وظاهره دعوى القطع بوجود الطرق المجعولة ونصب الطرق المخصوصة

ص: 250


1- ولكن في المطبوعة الحديثة : زيادة « فيه » بعد الخلاف .
2- ولكن في المطبوعة الحديثة : « الشارع » .
3- ولكن في المطبوعة الحديثة : « يظنّ » .
4- الفصول / 277 .

في زماننا هذا كساير أزمنة التكليف ، إذ تسليم وجود الطرق العقليّة ونحوها من الطرق المتعارفة المعتبرة في نفسها الّتي جرت طريقة العقلاء على الأخذ بها مع قطع النظر عن جعل الأمر لها - كتسليم وجود الطرق المجعولة في غير هذا الزّمان كزمان انفتاح باب العلم مثلاً - لا يجدي في مقامنا هذا شيئاً ، إذ بعد فرض عدم تصرّف الشارع في الطرق المعتبرة واقتصاره على جعل الأحكام الواقعية لا يلزم من انسداد باب العلم بالمجعولات الشرعيّة إلاّ الرجوع إلى الظنّ بها .

ويظهر من المحقّق الوالد - تغمّده اللَّه برحمته - عدم التفرقة بين الطرق المجعولة وغيرها ، ولذا عدّ العلم بالواقع من الطرق المقرّرة ؛ ويرشد إلى ذلك ما أجاب به - طاب ثراه - عن الإيراد الثالث والرابع ، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى .

وعلى هذا فهذه المقدمّة - أعني وجود الطرق المعتبرة في نظر الشرع للوصول إلى الأحكام - عقليّة بل ، ضروريّة ، إذ لا يعقل بقاء الأحكام بدون وجود الطريق المعتبر .

وحينئذٍ فتقرير هذا الدليل أنّ بقاء الأحكام يستلزم وجود الطرق المعتبرة في نظر الآمر - مجعولة كانت أو غير مجعولة - فإذا تعذّر العلم بها قام الظنّ بها مقام العلم ، لإمكان حصول الشّكّ فيما هو المعتبر عند الشارع من غير الطرق المجعولة ، نظراً إلى الشكّ فيما يحكم به العقل والعقلاء والعرف والعادة على نحو الشكّ في المجعول الشرعي ، فإذا كان اعتبار بعض الظنون في نظر الآمر مظنوناً دون غيره تعيّن الأخذ به ، دون الظنّ المطلق ، لعدم حصول الظنّ بالبرائة بالعمل عليه ... إلى آخر ما ذكره .

وأمّا على الأوّل ، فلابدّ من إثبات الطرق المجعولة .

قال عمّي قدس سره : « وممّا يكشف عمّا ذكرناه أنّا كما نجد على الأحكام أمارات

ص: 251

نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقاً إلى معرفة الأحكام مطلقاً وإن أفادت الظنّ الفعلي بها - كالقياس والاستحسان والسيرة الظنّية والرؤيا والقرعة ، وظنّ وجود الدليل والقرعة وما اشبه ذلك ممّا لا حصرله - كذا نجد عليها أمارات آخر نعلم بأنّ الشارع قد اعتبرها - كلاًّ أو بعضاً - طريقاً إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعلي بها ولو لمعارضة الأمارات السابقة ، وهذه أمارات محصورة ، منها الكتاب والسنّة الغير القطعيّان والاستصحاب والإجماع المنقول والاتّفاق الغير الكاشف والشهرة وما أشبه ذلك .

فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعيّة في حقّنا أمارة اُخرى خارجة عن هذه الأمارات ، ومستند قطعنا في المقامين الإجماع ، مضافاً في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار ، حتّى أنّ القائلين بحجّية مطلق الظنّ كبعض متأخّري المتأخّرين لاتراهم يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها .

وحيث إنّه قد وقع النزاع في تعيين ما هو المعتبر من هذه الأمارات في نفسه وفي صورة التعارض ، ولا علم لنا بالتعيين ، ولا طريق علميّاً إليه ، مع علمنا ببقاء التكليف بالعمل بها ، كان اللازم الرجوع في ذلك إلى ما يستفاد اعتباره من هذه المدارك الاحتمالية ، لتقدّمها في نظر العقل حينئذٍ على المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعاً ، مقدّماً للأقرب منها في النظر على غيره مع تحقّقه .

فثبت ممّا قرّرنا جواز التعويل في تعيين ما يعتبر من تلك الطرق الّتي هى أدلّة الأحكام على الظنّ ، ثمّ على ما هو أقرب إليه كذلك »(1) ، انتهى .

ص: 252


1- الفصول / 277 .

وأعترض عليه المحقّق المتقدّم ذكره(1) بإمكان منع نصب الشارع طرقاً خاصّة للأحكام الواقعية ، واحتمال إرجاع الأمر فيها إلى ما جرت عليه طريقة العقلاء في امتثال أحكام الملوك والموالى وكلّ مطاع ومتّبع عندالعلم بعدم نصب الطريق الخاصّ ، من العمل بالعلم الحاصل من التواتر والإجماع أو السّيرة أو نحوها أو الظنّ البالغ حدّاً تسكن النفس إليه ، والتمسك بالأمر الثابت حتّى يعلم ، المزيل وساير الاُصول المعتبرة ، والرجوع إلى أهل الخبرة والاطّلاع المركوز في أذهان العقلاء ، كما في رجوع المقلّد إلى مجتهده ، وإلى أخبار الثقات من الرواة ، وعدم الاعتناء بما يتطرّق إليها من الاحتمالات كاحتمال الكذب والخطاء والسّهو والنّسيان والتقيّة والنّسخ وغيرها .

فيكون ما ورد من الشارع واُمنائه في هذا الباب تقريراً لهم على ذلك ، لا تأسيساً للحكم الجديد المتوقّف على الجعل ، ولذا يثبت ذلك مع القطع بعدم جعل الطريق .

مناقشة الشيخ الأنصاري في ما أفاده صاحب الفصول

أيضاً وممّا يرشد إلى ذلك أنّه لوثبت هناك جعل من الشارع لتواترت به الأخبار ، وجرى اشتهاره خلفاً عن سلف إلى هذه الأعصار ، لتوفّر الدواعي على ضبطها ، ومسيس الحاجة إلى حفظها ، واحتياج عامّة المسلمين إلى معرفتها ، بل الحاجة إلى ذلك أشدّ من الحاجة إلى الفروع الدائرة بين الناس .

وقياس الأمر في ذلك على معرفة الإمام المنصوب بعد النبي صلى الله عليه وآله وهمٌ ، إذ لايجري هنا ما جرى هناك من الأسباب الباعثة على الاختفاء الراجعة إلى حبّ الرياسة والحرص على الدنيا ، مع ثبوت أضعاف التواتر هناك وإن خفي على

ص: 253


1- وهو الشيخ الأنصاري ، الفرائد 1 / 439 .

البعض . وبالجملة ، فلا أقلّ من الاحتمال الكافي في هدم الاستدلال .

وما ذكر من دعوى الإجماع على ذلك - حيث إنّ المعلوم من سيرة العلماء في استنباط الأحكام هو اتّفاقهم على بعض الطرق المخصوصة ، وإن اختلفوا في تعيينها وشرايطها وساير ما يتعلّق بها - مدفوع ؛

أوّلاً : بأنّ السيّد وجماعة ممّن سبقه ولحقه أنكروا ذلك رأساً ، بل نقلوا الإجماع عليه ، والأولى أن يقال : إنّ العلماء بين قائل بنصب الطرق المخصوصة ومقتصر على الطرق العقليّة والعاديّة ، فلا يؤدّي اتّفاقهم إلى العلم بنصب الطريق ، لوضوح أنّ الاتّفاق على القدر المشترك لا يفيد تعيين أحد قسميه .

وثانياً : بأنّ مصير كلّ طائفة من العلماء إلى حجّية بعض تلك الطرق حسب ما أدّى إليه نظره لايوجب القطع بنصب بعضها ، لجواز خطأ كلّ واحد فيما أدّى إليه نظره .

ألا ترى أنّ الأخبار المختلفة بالوقايع المختلفة لا توجب تواتر القدر المشترك بينها ، إلّا إذا كان الاختلاف راجعاً إلى تعيين ذلك الأمر المشترك بعد الاتّفاق عليه ، حسب ما فصّل في باب التواتر الاجمالي والإجماع المركّب .

ودعوى أنّ قيام الإجماع على المنع من القياس وشبهه ولو بعد الانسداد

كاشف عن وجود الطريق المجعول ممنوعة ، وإلّا لدلّ على نصب الطريق المخصوص في تعيين الطريق أيضاً ، للمنع من العمل بالقياس وشبهه فيه أيضاً ، ومرجع ذلك إلى ما مرّ من الإشكال في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدفع بما مرّ .

والقول بأنّ الاتّفاق على حجّية أحد الأمرين من الظنّ المطلق أو المخصوص كافٍ في إثبات المطلوب فاسد ، لأنّ دوران ذلك بين الأمرين راجع

ص: 254

إلى دوران الأمر بين الطريق العقلي والجعلي ، فكيف يثبت به الطريق الجعلي ؟

والحاصل : إنّ الطريق العقلي بالنسبة إلى الجعلي بمنزلة الأصل بالنسبة إلى الدليل ، فإن ثبت الطريق المجعول امتنع العمل بالظنّ ، وإلاّ فالطّريق المحتمل لا يلتفت إليه مع الظنّ بالواقع .

جواب المؤلف عن مناقشة الشيخ الأعظم

والجواب عن ذلك من وجوه :

الأوّل : إنّ المستدلّ قد تمسّك في إثبات الطرق المجعولة والممنوعة بالإجماع ، وأوضحه بأنّ القائلين بالظنّ المطلق أيضاً لا يتعدّون في مقام الاستدلال عن الطرق المخصوصة ؛ وبالكتاب والسنّة الدالّين على كلا الأمرين ، وإن وقع الخلاف والتامّل في شرايطهما وتعيين ما هو الحجّة عند التعارض منهما .

وما ذكر من لزوم اشتهارها وتواتر الأخبار بها ممنوع إن اُريد تفصيلها بشرايطها وجزئياتها .

وإن اُريد ما يعمّ الإجمال فهو حاصل في هذا المجال(1) ، وذلك أمر بيّن من الرجوع إلى الأخبار والآثار ، والتأمّل في طريقة القوم والنظر إلى سيرتهم في مقام الاحتجاج .

ومخالفة السيّد وأضرابه ومؤوّلة ، وإلّا فغير قادحة في المقام ، لوضوح استنادها إلى شبهة حاصلة لهم ، وإلّا فرجوعهم في كتب الاستدلال إلى الاُصول اللفظية والعقلية والطرق الظنيّة المخصوصة أكثر من أن يحصى .

والمنع من حصول العلم من الأقوال المختلفة بالقدر الجامع بينها لادخل له

ص: 255


1- المقام ، نسخة بدل .

بالمقام ، لحصول الاتّفاق منّا على القدر الجامع من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، كما يأتي تفصيل القول فيه في بعض الوجوه الآتية ، إن شاء اللَّه تعالى .

الثّاني : إنّ الطّريق العقلي في مقام الاجتهاد منحصر في العلم مع إمكانه ، والظنّ بشرايطه مع تعذّره ؛ وفي مقام العمل عند فقد الأوّل هو بعض الاُصول العمليّة كالبرائة الأصليّة ، وأمّا الطرق العاديّة الراجعة إلى طريقة العقلاء كالظنّ الاطمئناني والعمل بإخبار الثقات والرجوع إلى المجتهد وأرباب الخبرة والأصول اللّفظية وبعض الاُصول العملية فإنّما يستفاد اعتبارها من تقرير الشارع الكاشف عن الرضاء بها ، أو من دوران صدق الإطاعة والعصيان عند عدم وجود الطريق المنصوب مدارها ، وأيّ فرق بين ثبوتها بالتقرير أو النصّ ؟ وكثيراً ما يقع الاشتباه في مواردها وشرايطها وعلاج تعارضها على حسب الاختلافات الواقعة فيها ، فإذا انسدّ باب العلم بتعيين الحجّة منها لزم الرجوع إلى الظنّ في ذلك ، على نحو ما لو وقع ذلك في الطرق المجعولة المدلول عليها بالنصوص المخصوصة ، من غير فرق بين المقامين بوجه من الوجوه .

الثالث : إنّك قد عرفت في بعض المطالب السّابقة أنّه يكفي في إثبات الجعل الشرعي إثبات المنع عن بعض الطرق الّتي لا سبيل للعقل ادراك التفرقة بينها ، كالظنّ الحاصل من القياس والاستحسان وغيرهما ممّا أشار إليه المستدلّ ، فإذا ثبت ذلك من الشّرع علمنا أنّ للشّارع تصرّفاً في هذا الباب يرضى بالعمل ببعض الطّرق دون بعض ، فإذا انسدّ باب العلم بذلك قام الظنّ به مقامه ، وما مرّ من الأجوبة عن إخراج مثل القياس وشبهه لا يجدي نفعاً في المقام .

ودعوي أنّ المنع المذكور حاصل في باب إثبات الطريق أيضاً فلو دلّ ذلك على الجعل الشرعي دلّ على مثله في إثبات الطرق وهكذا مدفوعة بأنّ الظنّ

ص: 256

بالطريق الحاصل من نحو القياس ليس من الظنّ بالطريق المقصود في المقام ، للقطع بعدم كونه إذن طريقاً فعليّاً للوصول إلى الأحكام ، إذ تطرّق المنع إلى بعض مقدّماته مانع من الظنّ بطريقته فعلاً ، إنّما هو من قبيل الظنّ بالواقع ، ففيه خلط بين الأمرين كما مرّ توضيح القول فيه .

الرابع : إنّ الطريق المرضيّ للشارع مشترك بين الطريق المجعول وغيره ، فإذا تعيّن العمل به وانسدّ باب العلم بذلك قام الظنّ به مقامه ، من غير توقّف على إثبات الطريق المجعول بخصوصه .

الخامس : إنّ احتمال منع الشارع عن بعض الطرق كافٍ في هذا الباب ، لأنّ الظنّ الّذي يشكّ في رضا الشارع بالعمل به ومنعه عنه لا عبرة به مع وجود الظنّ الّذي يظنّ باعتباره وحجّيته بأخذه ، فلا يتوقف الاستدلال على إثبات تلك المقدمّة على حسب ما مرّ في الوجه السابق .

فما ذكر من أنّ الطريق المحتمل لا يلتفت إليه مع الظنّ بالواقع كما لا يلتفت إلى الدليل المحتمل مع الأصل ممنوع ، للزوم الانتقال عن العلم بما يوجب رضاء الشارع إلى الظنّ به عند تعذّره ، وذلك غير مطلق الظنّ بالواقع .

نقل بعض الإشكالات الواردة على الفصول ونقدها

اشارة

وههنا إيرادات آخر يأتي الكلام فيها إن شاء اللَّه تعالى .

قال قدس سره :

« وقد يورد عليه بوجوه سخيفة نشير إلى جملة منها :

أحدها : ما أشرنا إلى نظيره سابقاً من أنّ هذه المسألة من المسائل الكلاميّة ، وانسداد سبيل العلم فيها معلوم البطلان ، وقد عرفت وهنه .

ص: 257

ثانيها : أنّ سبيل العلم بهذه المسألة مفتوح فإنّ كلّ من سلك مسلكاً في المقام يدّعي العلم به من البناء على مطلق الظنّ أو الظنّ الخاصّ ، وقد أشرنا سابقاً إلى وضوح فساده .

ثالثها : أنّ الانتقال إلى الظنّ بما جعله طريقاً إنّما يكون مع العلم ببقاء التكليف بالأخذ بالطريق المقرّر بعد انسداد باب العلم به ، وهو ممنوع ، إذ لا ضرورة قاضية ببقاء التكليف في تلك الخصوصيّة لو سلّم انسداد باب العلم بها ، بخلاف الأحكام الواقعيّة فإنّ بعد انسداد باب العلم بها قد قامت الضرورة ببقاء التكليف ، وإلّا لزم الخروج عن الدين . وهو أيضاً في الوهن نظير سابقيه ، إذ من الواضح أنّ للشارع حكماً في شأن من انسدّ عليه سبيل العلم من وجوب عمله بمطلق الظنّ أو الظنّ الخاصّ ، ولا نعني نحن بالطريق المقرّر إلّا ذلك . وحينئذٍ كيف يمكن منعه ؟ مع أنّ الضرورة القاضية به بعد القطع ببقاء التّكليف أوضح من الضرورة القاضية ببقاء التكاليف ، إذ مع البناء عليه لا مجال لأن يستريب ذو مسكة فيه مع قطع النظر عن ضرورة الدين القاضية ببقاء الأحكام ، فإذا علم ثبوت طريق للشّارع في شأنه حينئذٍ من الأخذ بمطلق الظنّ أو غيره تعيّن تحصيل العلم به أوّلاً فإن قام عليه دليل قطعي من قبله - كما يدّعيه القائل بالظنّون الخاصّة - فلا كلام ، وإلّا تعين الأخذ بما يظن كونه طريقاً . ولا يصح القول بالرّجوع إلى مطلق الظن بالواقع

ص: 258

من جهة الجهل المفروض ، بل قضيّة علمه بتعيّن طريق عند الشارع في شأنه وجهله من جهة انسداد سبيل العلم به ، هو الرّجوع إلى الظنّ به أعنى الأخذ بمقتضى الدليل الظنّى الدالّ عليه حتّى يحصل له القطع من ذلك بكونه الحجّة عليه بضميمة الدليل المذكور وذلك حاصل في جهة الظنون الخاصّة دون مطلق الظنّ .

نعم لو لم يكن هناك طريق خاصّ يظنّ حجّيته ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللازم من الأحكام وتساوت الظنون بالنسبة إلى ذلك مع القطع بوجوب الرجوع إلى الظنّ في الجملة كان الجميع حجّة حسب ما مرّ ، ونحن نسلّمه إلّا أنّه ليس الحال كذلك في المقام .

رابعها : أنّه إن اُريد بذلك حصول العلم الإجمالي بأنّ الشارع قد قرّر طريقاً لإدراك الأحكام الواقعيّة والوصول إليها فكلّفنا في كلّ واقعة بالبناء على شي ء كما هو مقتضى الإجماع والضرورة فمسلّم ، ولكن نقول : هو ظنّ المجتهد مطلقاً من أيّ سبب كان من الأسباب الّتي لم يعلم عدم الاعتداد بها .

وإن كان المراد بها القطع بأنّ الشارع قد وضع طريقاً تعبّديّاً كالبيّنه للوصول إلى الأحكام فممنوع ، وأين القطع به ؟ بل خلافه من المسلّمات ، لقيام الإجماع والضرورة على توقّف التكليف على الإدراك والفهم ، وأقلّه الظنّ بالواقع ،

ص: 259

وهذا أوضح فساداً من الوجوه المتقدّمة .

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما سلّمه من تعيين طريق من الشارع للوصول إلى الأحكام مدعيّاً قضاء الضرورة به هو عين ما أنكره أوّلاً . وحينئذٍ فقوله : إنّا نقول : « إنّ ذلك الطريق هو مطلق الظنّ » بيّن الفساد ، فإنّه إن كان ذلك من جهة اقتضاء انسداد سبيل العلم وبقاء التكليف له فهو خلاف الواقع ، فإنّ مقتضاه بعد التأمّل فيما قررّناه دون ما توهّموه ، وإن كان لقيام دليل آخر عليه فلا كلام ، لكن أنّى له بذلك ؟

وأمّا ثانياً : فبأنّه لا مانع من تقرير الشارع طرقاً تعبديّة للوصول إلى الأحكام كما قرّر طرقاً بالنسبة إلى الموضوعات ، بل نقول : إنّ أدلّة الفقاهة كلّها من هذا القبيل ، بل وكذا كثير من أدلة الاجتهاد حسب ما فصلّنا القول فيها في محلّ آخر .

وأمّا ثالثاً : فبأنّ ما ذكره من الترديد ممّا لا وجه له أصلاً ، فإنّ المقصود من المقدّمة المذكورة تعيّن طريق إلى ذلك عند الشارع في الجملة من غير حاجة إلى بيان الخصوصيّة ، فما ذكره من الترديد خارج عن قانون المناظرة [ج 3 ص 360 - 358] .

توضيح الاشكال الثالث من المؤلف وجوابه

أقول : حاصل الإيراد الثالث بعد تسليم وجود الطرق المخصوصة المنع من بقاء التكليف بها عند انسداد باب العلم إليها ، وهذا المنع إنّما يتصوّر باحتمال اختصاصها بزمان انفتاح باب العلم بها ، وهو بعيد إذ اشتراط ذلك في نصب الطرق

ص: 260

المجعولة بحيث لا يكون تلك الطرق معتبرة حال الانسداد غريب ، بل الحاجة إليه في تلك الحال أمسّ والأوُلويّة قطعيّة .

ويمكن توجيه المنع من ذلك بإمكان أن يكون تلك الطرق اُمور مخصوصة لا وجود لها في زمان الانسداد إلاّ قدراً لا يكتفى به في استنباط الأحكام ، كخبر العدل الّذي ثبت عدالته بالقطع أو بالمعاشرة التّامّة أو بالبيّنة الشرعيّة أو الشياع المفيد للوثوق الفعلي بالحكم ،

ولا ريب في ندرة هذا القسم في زمان الانسداد ، إذ غاية الأمر أنّ الراوي في كتب الرجال محكي التعديل بوسايط كثيرة من مثل الكشّي والنجاشي فضلاً عمّن تأخّر عنهما ، ومثل ذلك لا يعد بيّنة شرعيّة ، ولذا لا نعمل بمثله في الحقوق .

ودعوي الإجماع على اعتبار مثل ذلك ممنوعة ، لتركّبه من القائلين بالظنّ المطلق ، فإنّهم إنّما يعملون بمثل ذلك من جهة حكم العقل بالرجوع إلى الظنّ ، لا من حيث أنّه طريق مجعول من الشرع .

ويمكن الجواب عنه بالوجوه الّتي مرّت الإشارة إليها ، واستراح المحقّق المصنّف - طاب ثراه - عن ذلك بما بنى عليه الدليل المذكور من عدم التفرقة بين الطريق المجعول وغيره ، ولذا أجاب بأنّ للشّارع حكماً في شأن من انسدّ عليه باب العلم من وجوب عمله بمطلق الظنّ أو الظنّ الخاصّ قال : « ولا نعني نحن بالطريق المقرّر إلّا ذلك » وحينئذٍ فلا يمكن تطرّق المنع إلى ذلك كما ذكره ، إنّما الشأن حينئذٍ في إتمام الدليل على هذا الوجه ، ولا بأس به ، إذ بعد القطع بأنّ الشارع لا يرضى من المكلّفين إلاّ بالعمل بطرق معيّنة بحيث لو سئل عن ذلك لعيّن لهم الطريق المرضيّ عنده يلزمهم بعد تعذّر العلم به العمل بالظنّ فيه ، ولا يلزم التسلسل في طريق معرفة الطرق المرضيّة . إنّما يلزم ذلك لو قلنا بلزوم

ص: 261

نصب الطريق لكلّ حكم .

ولا يقال : إنّه لا ينفع الظنّ بالطريق مع حصول هذا الظنّ من الطريق المشكوك فيه ، إذ ليس ذلك إذن ظنّاً بالطريق ، إنّما الطّريق المظنون هو الّذي يظنّ بجواز البناء عليه والإفتاء على حسبه بالفعل ، وهو الّذي يريده الشارع من المكلّفين بطريق التنجيز والفعليّة ، بخلاف الأحكام الواقعية ، فإنّها اُمور شأنية لا تنجّز لها إلاّ بالقدر الّذي دلّت عليه الطرق الفعليّة ، فإنّ اللاّزم أوّلاً تحصيل العلم به ثمّ الظنّ ، ومع تعذّرهما فالظنّ بالواقع .

وأجاب عمّي العلّامة في فصوله عن نحو الإيراد المذكور ب « أنّ الأدلّة المخصوصة بعد نصب الشارع لها دليلاً من جملة أحكام الوضع ، فيندرج في الأحكام الشرعيّة ، فلا يسقط اعتبارها بعد انسداد باب العلم إليها كساير الأحكام ، فإنّ الإجماع منعقد على بقاء التكليف بالأحكام الشّرعية بقول مطلق . غاية الأمر أنّ بقائه مشروط عقلاً ونقلاً بمساعدة دليل معتبر عليه ولو في الظاهر ، وقد ثبت قيام الدليل العقلي الصالح للتعيين عليه ، كقيامه على الأحكام على الفرض الآخر ، فلا سبيل إلى الحكم بالسقوط »(1) .

وهذا الجواب مبنيّ على أنّ المراد بالظنّ بالطريق الظنّ بحكمه الواقعي ، وهو كالظنّ بساير الأحكام يجتمع مع القطع بعدم كونه طريقاً فعليّاً ، كالحاصل من القياس ؛ والظنّ به ، كالحاصل من الشّهرة ؛ والشّك فيه ، كالحاصل من الإجماع المنقول . ولا يكاد يتمّ الفرق بين هذا الظنّ والظنّ بالحكم الفرعي ، كما سيظهر ممّا يأتي إن شاء اللَّه تعالى .

ص: 262


1- الفصول / 279 - 278 .

فالصواب ما ذكره المصنّف - طاب ثراه - من لزوم الرجوع إلى الظنّ بالطريق الفعلي ، فيرجع إلى العلم به بعد ملاحظة الدليل ، وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فتأمل .

توضيح الإشكال الرابع من المؤلف وجوابه

وحاصل الإيراد الرابع المنع من نصب الطريق على وجه التعبّد بقدر الكفاية ، وتسليم وجود مطلق الطريق ، فيرجع إلى الإيراد الّذي نقلناه عن المحقّق المتقدّم ذكره .

وجوابه ما قدّمناه ، دون ما أجاب به المصنّف أوّلاً ، لعدم كون الثاني عين الأوّل ؛ ولا ثانياً ، لعدم الاكتفاء بالقدر الثابت من الطرق التعبديّة ؛ بل ولا ثالثاً ، لعدم خروجه عن قانون المناظرة إلاّ على الوجه الّذي قرّره المصنّف .

أمّا على ما قرّره غيره من العلم بالطريق المنصوب فلا ، لإمكان المنع منه .

بعض الإيرادات الآخر على الفصول وجوابها

وفي المقام إيرادات اخر ؛

أحدها : إنّا لو سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الأمارات ، فاللازم أوّلاً هو الأخذ بالقدر المتيقنّ منها إن وفى بغالب الأحكام ، وإلّا فالمتيقّن منها بالإضافة إلى بعضها ، فإنّ الخبر الحسّي متيقّن بالنسبة إلى الحدسي كالإجماع المنقول ، والصّحيح متيقّن بالنسبة إلى الموثّق والحسن ، والخبر متيقّن بالإضافة إلى الشهرة المجرّدة ، والشهرة متيقّن بالنسبة إلى الأولويّة الظنيّة والعلّة المستنبطة وهكذا .

وحينئذٍ فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقن ولو بالإضافة ، ووجوب الرجوع في غيره إلى أصالة الحرمة إنّما يرجع إلى الظنّ على تقديره عند دوران الحجّة بين طريقين متباينين .

والجواب : إنّ مبنى الدليل المذكور إنّما هو على عدم حصول الاكتفاء

ص: 263

بالقدر المتيقّن بمعنى عدم وجوده بقدر الكفاية ، وأمّا المتيقّن الإضافي فإن رجع إلى الحقيقي فذلك ، وإلّا فالصواب عدم التخطّي عنه أيضاً مع الاكتفاء به ، وإنّما لم يصرّح به لعدم تعلّق الغرض ببيانه ، إنّما المقصود المنع من الرجوع إلى مطلق الظنّ ، وليس ما ذكر بقادح فيه أصلاً .

على أنّا نقول على طريقة المصنف قدس سره : إنّا إن عثرنا في المسألة الفرعيّة على القدر المتيقّن من الطرق ولو بالإضافة اقتصرنا عليه ، وإلّا رجعنا إلى مطلق الطريق المظنون بالمعنى الّذي عرفت ، وإن لم يلزم من الاقتصار على المتيقّن والرجوع في غيره إلى الاُصول خروج عن الدين ، وذلك لأنّه إذا ظنّ المكلّف في المسألة المخصوصة بلزوم بنائه فيها على الطريق الفلاني وعدم جواز عمله فيها على الأصل العملي ، أو ظنّ بلزوم بنائه فيها على الأصل الفلاني دون الأصل الآخر - كالبرائة دون الاشتغال أو العكس ، أو التخيير دونهما - لم يجز له العدول عن المظنون إلى الموهوم ، وإن فرضنا انفتاح باب العلم في غيرها من عامّة المسائل الشرعيّة ؛ فلا يبتنى هذا الدليل على مقدّمة عدم الاكتفاء بالطرق المعلومة واستلزام الاقتصار على الأحكام المقطوع بها ، للخروج عن الدين .

غاية الأمر أنّ المتّجه عند إمكان الاكتفاء والاقتصار عليها هو الرجوع إلى أصلي البرائة والاشتغال في مواردهما أو غيرهما من الاُصول ،كلّ في مورده ، إلاّ أنّه لو فرض التباس الأمر على المكلّف فيما يجب بيانه عليه في تلك الحال من الطرق والاُصول ، وتعذّر عليه العلم بذلك ، لزمه العمل بالظنّ في ذلك ولو في مسألة مخصوصة من المسائل ، لامتناع عدوله فيها إلى الأمر الموهوم .

فلو وجد هناك أمارات عديدة أو أُصول متعدّدة ثمّ ظنّ بحجّية أحدها في تلك الحال فلا محالة يكون ما عداه موهوماً ، ولا يمكن فرضه مشكوكاً إلّا مع

ص: 264

توافق مدلوليهما ، وإن كان ترجيح المظنون على المشكوك أيضاً ظاهراً ، ولا ريب أنّ العمل بالموهوم والإفتاء بمقتضاه قبيح ، وإن أفاد الظنّ بالواقع ، فيتعيّن الأخذ بالمظنون ، إذ ليس للمكلّف إلى ما فوق ذلك سبيل ، وإن لم يحصل منه ظنّ بالواقع أصلاً ، بل وإن كان المظنون بالنظر إلى الواقع موهوماً ، كما لو ظنّ بلزوم بنائه في مظنون الوجوب أو التحريم على البرائة ، أو في مظنون الإباحة على الاحتياط ، أو في بعض موارد الاستصحاب على مقتضاه أو على خلاف مقتضاه ، مع الظنّ ببقاء الحالة السّابقة وعدمه وهكذا ،

هذا إذا استفرغ المجتهد وسعه وبذل في ذلك جهده فلم يقدر على أكثر من الظنّ في المسألة ، مع لزوم بنائه فيها على أحد الوجهين ، وامتناع توقّفه في البين ، ولذا نقول بكون القائلين بالظنّ المطلق مكلّفين بالعمل به ، يجوز تقليدهم فيما يفتون به من ذلك ، حتّى لو لم يقطع أحدهم بحجّيته ، وإنّما ظنّ بعد استفراغ وسعه بلزوم بنائه عليه وفتواه بمقتضاه جاز ذلك أيضاً ؛ وهذا معنى قول الفقهاء : الأظهر كذا ، والأقوى كذا ، والأشبه كذا فإنّهم ، لا يعنون بذلك الظنّ بالحكم الواقعي ، وهو الّذي اشتبه على القائلين بالظنّ المطلق .

ونحوه الحال في المتجزّي ، بل المقلّد إذا تعذّر عليه العلم بما يجب بنائه عليه من الظنّ بالحكم ، أو تقليد المفضول من الأحياء ، أو الأفضل من الأموات ، أو غيرها من الطرق ؛ فإنّه يبني فيها على الظنّ الّذي هو غاية ما يمكن في حقّه ، إلاّ إذا أمكنه الاحتياط بالجمع بينها ، فإنّه طريق علمي للبرائة يقدّم على الظنّي ، فتأمّل .

ثانيها : إنّا لو سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن فاللازم حينئذٍ الحكم بوجوب الاحتياط بالجمع بين الطرق المشتبهة ، للزوم تقديمه على العمل بالظنّ ،

ص: 265

لحصول الامتثال القطعي به دونه .

ودعوي دوران الأمر فيه بين الوجوب والتحريم ، لحرمة العمل بغير الطريق مدفوعة بأنّ تحريمه إمّا من جهة كونه تشريعاً محرّماً ، والعمل به لرجاء أن يكون هو الطريق ليس تشريعاً ؛ أو من جهة أنّ فيه طرحاً للاُصول المعتبرة من دون حجّة شرعية ، وهو غير لازم ، فقد يكون مقتضاه موافقاً لها ، ومع المخالفة نمنع اعتبار تلك الاُصول بعد العلم الإجمالي بحجّية بعض الطرق المفضية إلى خلافها .

نعم ، إن كان العمل بذلك الطريق مخالفاً للاحتياط في المسألة الفرعيّة قدّم الاحتياط فيها . فحاصل الأمر يرجع إلى الاحتياط في المسألة الاُصولية ، أعني مسألة نصب الطريق ، ما لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فيبنى على الاحتياط مطلقا ،

كذا أفاده المحقّق المتقدّم ذكره ، وهو من الغرابة بمكانٍ ، فإنّ القائل بالظنّ المطلق لا يقول به إلاّ بعد سدّ باب الاحتياط في المسألة الفرعية ، فكيف لو أضيف إليه الاحتياط في المسألة الاُصولية أيضاً بالعمل بجميع الطرق المشتبهة ؟ على أنّ الاحتياط في المسألة الاُصولية إنّما يتحقّق بالاحتياط في المسألة الفرعية ، لعدم تعلّقها بالعمل إلاّ بتوسّطها ، فلا يكون أمراً آخر وراء ذلك .

ثمّ الاحتياط في أكثر مباحث العقود والإيقاعات والحدود والديات ونحوها متعذّر ، لدوران الأمر فيها بين المحذورين ، مضافاً إلى أنّ المكلّف إذا ترجّح لديه البناء على الطريق المظنون على الوجه الّذي مرّ بيانه كان الالتزام بالاحتياط عنده في تلك الحال مرجوحاً ، فكيف يجوز البناء عليه والفتوى به ؟ لأنّه إذن بناء على الأمر الموهوم ، لظنّه في تلك الحال بعدم لزوم البناء عليه في

ص: 266

حكم الشارع ، وهو مضارّ لدعوى حكم العقل به ، لامتناع الظنّ بالطريق بالمعنى الّذي ذكرناه على فرضه ، بل يكون الاحتياط إذن هو الطريق الفعلي لعمل المكلّف ، فيكون مع الإمكان طريقاً علميّاً خارجاً عن المفروض من انسداد باب العلم بالطّريق ، بل لو كان الالتزام بالاحتياط حينئذٍ مظنوناً كان ذلك من الظنّ بالطريق المعتبر عندنا أيضاً ،

فأكثر ما اُورد في هذا الباب مبنيّ على الخلط بين الظنّ بالطريق الواقعي الّذي هو في عرض الأحكام الواقعيّة ، والظنّ بالطريق الفعلي بالنظر إلى حال المكلّف على حسب ما هو عليه ، بالمعنى الّذي ذكرناه .

ثالثها : إنّ انسداد باب العلم إلى تعيين الطّرق المعتبرة إنّما يقتضي حجيّة الظنّ في الجملة ، ولا يوجب عموم الحجيّة ، لإمكان الترجيح بين الظنون المتعلّقة بذلك تارةً بقوّة الظنّ وضعفه ، وتارةً بكون بعضها مظنون الاعتبار وبعضها مشكوك الاعتبار ، لرجحان الأوّل على الثاني والثاني على الموهوم ؛ وتارةً بالقدر المتيقّن ، بأن يكون بعضها على تقدير حجّية الظنّ متيقّناً بالنسبة إلى بعض ، واُخرى بأن يكون بعضها متعلّقاً بمعلوم الحجيّة على الاجمال ، أي بحجّيته ما علم حجّية نوعه مجملاً ، كالمتعلّق منها بالكتاب والسنّة ، للقطع بحجيّتها ، وبقاء التكليف بالعمل بها في الجملة مع الجهل بالتفصيل ، فيلزم الرجوع فيه إلى الظنّ دون ساير الطّرق .

كلّ ذلك على حسب ما سيجي ء تفصيل القول فيه في الوجوه الآتية في كلام المصنّف - طاب ثراه - فإنّها بعينها جارية في المقام ، فكيف يقال بحجّية مطلق الظنّ في ذلك ، وهذا الإيراد أيضاً مبني على الخلط بين الطريق الواقعي والفعلي ، فإنّ الظنّ بالطريق الواقعي كالظنّ بساير الأحكام الواقعية يتصوّر فيه

ص: 267

الترجيحات المذكورة ، كما نبّه عليها المصنّف قدس سره في الوجوه الآتية ، بخلاف الظنّ بالطريق الفعلي ، فإنّ العدول عنه عدول إلى الطريق الموهوم لا محالة ، ولا يتصوّر فيه مشكوك الاعتبار ؛ فضلاً عن موهوم الاعتبار ولا الترجيح بالقوّة والضّعف ، إذ لا يعقل اجتماع المتعدّد من ذلك في مسألة واحدة ، فإذا تعلّق أضعف الظنون هناك ببعض الطرق كان ما عداه موهوماً ، وتعلّق الظنّ الأقوى بالطرق الحاصلة في ساير المسائل لاربط له بتلك المسألة ، بل لو فرضنا القطع بطرق ساير المسائل لم يمنع ذلك من حجيّة الظنّ الحاصل في تلك المسألة الواحدة ، كما مرت الإشارة إليه .

فظهر أنّ القدر المتيقّن لا يتصوّر حينئذٍ إلاّ في ساير المسائل ، وقد ظهر أنّه لا يمنع من حجّية الظنّ في تلك المسألة ، وكذا الظنّ بحجّية ما علم حجّية نوعه لا يمنع من حجّية غيره .

وبالجملة ، فالترجيحات المذكورة وغيرها ممّا يأتي في كلام المصنّف رحمه الله إنّما يتصوّر على القول بمطلق الظنّ ، لا على ما ذهب إليه المصنّف رحمه الله بل لا يتصوّر عليه الاعتراض بخروج القياس وشبهه أيضاً .

فإن قلت : الرجوع إلى الظنّ يتوقّف على إبطال الأصلين البرائة والاحتياط بوجود العلم الاجمالي المانع من الأوّل ، ولزوم الحرج المانع من الثاني ، وقلّ ما يتّفق أحد الأمرين في المسألة الواحدة ، بل وفي المسائل المحصورة .

قلت : هذا كلام آخر في تحقّق الموضوع ، إذ المفروض في المقام تعذّر الطريق العملي ووجود الطريق الظنّى ، فغاية الأمر أن يكون أحد الأصلين المذكورين طريقاً علميّاً في ذلك ، وهو خروج عن الفرض المذكور .

ص: 268

أمّا إذا فرض مثلاً دوران الطريق في المسألة الواحدة بين الأصلين المذكورين ، وتعذّر تعيينه بطريق اليقين ، وثبت لزوم البناء على أحدهما ، وحصل الظنّ بتعيين أحدهما ولزوم الفتوى به وترتّب العقاب على خلافه ، بل وعلى السكوت عنه ، لم يجز العدول عنه إلى الطريق الموهوم .

نعم ، إن أمكن السكوت وجب ، وكان السكوت إذن هو الطريق المعلوم لعمل المفتي ، فخرج أيضاً عن الفرض ، فتأمّل .

وحيث إنّ عمّى العلّامة طاب ثراه - إنّما ذهب في هذه المسألة إلى حجّية مطلق الظنّ بالطريق الواقعي احتاج في إخراج القياس وشبهه إلى بعض الوجوه السابقة ، وتوجّهت عليه عدّة من الاعتراضات الواردة الّتي منها الترجيح بالوجوه المذكورة ، فاحتاج في التفصّي عنها إلى وجوه من التكلّف .

ولعمري إنّه جنح إلى الصواب ، لكنّه أخطا الطريق حتّى وقع في المضيق ، وسلك مسلك القائلين بالظنّ المطلق ، وخصّه بمباحث الاُصول من غير مخصّص ، ورجّحه على الظنّ بالفروع من غير مرجّح ، وفتح على نفسه باب الاعتراض ، وجعل نفسه غرضاً لسهام النقض والإبرام ، حتّى طعن عليه من تأخّر عنه بأكثر ممّا أورده على القول بالظنّ المطلق ، وإن أخطأوا في بعض ما أوردوا عليه فقد أصابوا في غيره ، فلم ينفعه التخصيص بالطريق بوجه من الوجوه .

وإنّما تكلّف في الجواب عن بعضها تكلّفاً شديداً وتعسّف تعسّفاً بارداً ، مثل ما أجاب به عن الترجيح بالوجه الثاني حيث قال : « إنّ كون الظنّ المظنون حجّيته أقوى مع كونه على إطلاقه ممنوع لاختلاف مراتب الظنّ ، لا يقتضي منع حجّية الأضعف ، وإلّا لوجب الاقتصار على أقوى مراتب الظنون ، وهو واضح الفساد ؛ بل العبرة في الحجّية بمجرّد الظنّ بها ، إذ لا يحصل به في نظر العقل

ص: 269

رجحان ظاهري يصحّ معه الترجيح في الظاهر ، فلا أثر لقوّة الظنّ في إثبات أصل الحجّية ، وإنّما يظهر أثرها في مقام التعارض ، وهو أمر آخر وعلى ما قرّرنا فلو ظنّ بطريق يظنّ عدم حجّيته حجّية طريق وجب الأخذ بأقوى الظنّين لتساوي نسبة حجّية الظنّ إليها فيرجّح الأقوى ، ولو كان الظنّ بعدم الحجّية معارضاً بما في مرتبته سقط اعتباره وجب الأخذ بالظنّ بالطريق ، لسلامته عن المعارض السالم .

ومن هذا الباب كلّ شهرة تنعقد على حجّية طريق ، فإنّه يجب الأخذ بها عند خلوّها عن المعارض لحصول الظنّ بها ، ولا يعارضها انعقاد الشهرة على عدم جواز الأخذ بالشهرة ، لمعارضة تلك الشهرة لنفسها ، فلا يصلح المعارضة غيرها »(1) .

وعن الترجيح بالوجه الأخير ب « أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا علم بوجوب العمل بالأدلّة المذكورة وببقائه بعد انسداد باب العلم على الإطلاق حتّى في صورة معارضتها لساير الأدلّة الّتي لا دليل على عدم حجّيتها ، وليس كذلك ، لتحقّق الخلاف في حجّية خبر الواحد مثلاً عند معارضته لنقل الإجماع والشهرة ونحوهما .

وبالجملة ، ففرض العلم بحجّيتها على الإطلاق ينافي عدم العلم بحجّية غيرها ولو في صورة التعارض كما هو المفروض ، فاذا لم يكن هناك قاطع على حجّية تلك الأدلّة مع علمنا بوجوب العمل بها أو بمعارضها وجب الرجوع في

ص: 270


1- الفصول / 280 .

التعيين إلى الظنّ و ماقام مقامه كما مرّ » ، إنتهى(1) .

ويظهر من كلّ واحد من الوجهين الجواب عن الترجيح بالوجه السابق عليه ، وأنت خبير بما فيه ، فإنّه موافق لما قرّره القائل بالظنّ المطلق في الجواب عن الترجيحات المذكورة .

إذ عرفت أنّ الكلام المذكور رجوع إلى القول بمطلق الظنّ لكن في بعض الأحكام فالكلام فيه هو الكلام في ذلك ، وسيأتي عند تعرّض المصنّف قدس سره لذلك توضيح الجواب عمّا ذكر .

نقل إيراد آخر على الفصول وجوابه

اشارة

قال قدس سره :

ويمكن الإيراد في المقام بأنّه كما انسدّ سبيل العلم بالطريق المقرّر كذا انسد سبيل العلم بالأحكام المقرّرة في الشريعة ، وكما ننتقل من العلم بالطريق المقرّر بعد انسداد سبيله إلى الظنّ به فكذا انتقل(2) من العلم بالأحكام الشرعيّة إلى ظنّها تنزّلاً من العلم إلى الظنّ في المقامين ، لكون العلم طريقا قطعيّا إلى الأمرين ، فبعد ، انسداد طريقه يؤخذ بالظنّ بهما(3) . فغاية ما يستفاد إذن من الوجه المذكور كون الظنّ بالطريق أيضاً حجّة كالظنّ بالواقع ، ولا يستفاد منه حجّية خصوص الظنون الخاصّة دون مطلق

ص: 271


1- الفصول / 280 .
2- وفي المطبوعة الحديثة : « ننتقل » .
3- وفي المطبوعة الحديثة : « بها » .

الظنّ ، بل قضيّة ما ذكر حجّية الأمرين ، ولا يأبى عنه القائل بحجّية مطلق الظنّ فيثبت بذلك(1) مقصوده من حجّية مطلق الظنّ وإن اُضيف إليه شي ء آخر أيضاً .

ويدفعه : أنّه لمّا كان المطلوب أداء ما هو الواقع لكن من الطريق الّذي قرّره الشارع فإن حصل العلم بذلك الطريق وأدّاه كذلك فلا كلام ، وكذا إنّ أدّاه على وجه يقطع معه بأداء الواقع ، فإنّ العلم طريق إليه قطعاً ، سواء اعتبره الشارع بخصوصه في المقام أولا ، وسواء حصل له العلم بالطريق الّذي قرّره الشارع أولا ، للاكتفاء بالعلم بأداء الواقع قطعاً ، بل يتعيّن الأخذ به على تقدير انسداد سبيل العلم بالطريق المقرّر وانفتاح سبيل العلم بالواقع ، وأمّا إذا انسدّ سبيل العلم بالأمرين تعيّن الأخذ بالظنّ بالطريق دون الظنّ بالواقع لأداء التكليف المتعلّق بالطريق بذلك وأداء الواقع به على حسب الطريق . وأمّا الأخذ بمطلق الظنّ بالواقع فليس فيه أداء التكليف المتعلّق بالطريق لا علماً ولا ظنّاً . وكون أداء الواقع على سبيل القطع أداءً لما هو الواقع من طريقه قطعاً لا يستلزم أن يكون الظنّ بأداءً الواقع أداء للواقع على سبيل الظنّ مع الظنّ بكونه من طريقه ، لوضوح أنّ كون العلم طريقاً قطعيّاً لا يستلزم أن يكون الظنّ طريقاً ظنيّاً ، إذ قد لا يكون

ص: 272


1- وفي المطبوعة الحديثة : « ذلك » .

طريقاً أصلاً فليس في أدائه كذلك علم بأداء ما هو الواقع ولا بأدائه على الوجه المقرّر ، ولا ظنّ بأدائه على الوجه المقرّر ، وإنّما هناك ظنّ بأداء الواقع لا غير ، فلا يؤدّي به التّكليف المتعلّق بالطريق مطلقاً ، ويبقى الخروج عن عهدة التكليف المتعلّق بالطريق في محلّ الشكّ ، إذ لا يعلم ولا يظنّ أداء التكليف المتعلّق بالطريق فلا علم ولا ظنّ بأداء الفعل على الوجه الّذي قرّره الشّرع ، ولا يمكن معه الحكم بالبرائة .

فإن قلت : إنّه كما قام الظنّ بالطريق مقام العلم به من جهة الانسداد فأيّ مانع من قيام الظنّ بالواقع مقام العلم به حينئذٍ ، وإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع كما أنّ الظنّ بالطريق بمنزلة العلم به ، فكما يحصل البرائة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل أيضاً بالظنّ مع انسداد سبيله .

قلت : لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقّلاً صحّ ذلك ، لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر ، وأمّا إذا كان أحد التكليفين منوطاً بالآخر مقيّداً له فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما من دون حصول الظنّ بالآخر الّذي قيّد به لايقتضي الحكم بالبرائة . وحصول البرائة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به نظراً إلى أداء الواقع ، وكونه من الوجه المقرّر لكون العلم طريقاً إلى الواقع في حكم العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّاً بالطريق

ص: 273

أيضاً جرى الكلام المذكور في صورة الظنّ أيضاً ، لكنّه ليس كذلك ، فلذا لا يحكم بالبرائة حسب ما قلنا [ج 3 ص 362 - 360] .

تقرير الجواب المذكور بوجهين

أقول : يمكن تقرير الجواب المذكور بوجهين ؛

أحدهما : إنّ نصب الطريق ولو حال عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، فالأحكام الواقعيّة حينئذٍ ليست مكلّفاً بها تكليفاً فعلياً إلاّ بشرط قيام الطريق المنصوب عليها ، فالمكلّف به على الحقيقة هو العمل بمؤدّى الطريق المنصوب دون الواقع من حيث هو ، فيرجع نصب الطريق في تلك الحال إلى قول الشارع ، لا اُريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق فينحصر التكليف الفعلي حينئذٍ في مؤدّيات الطرق ، ويلزمه إهمال ما لم يؤدّ إليه الطريق المفروض من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أو انسدّ ، فليس التكليف بكلّ من الواقع والطريق مستقّلا ، بل الأوّل منوط بالثاني ، مقيّد به .

الثاني : إنّ الظنّ بالطريق راجح ومقدّم على الظن بالواقع ، إذ الأوّل ظنّ بالامتثال الظاهريّ والواقعيّ معاً ، بخلاف الثاني فإنّه لا يستلزم الظنّ بتحقّق الامتثال في الظاهر ، بل هو مشكوك وموهوم بحسب احتمال اعتبار ذلك الظنّ .

مناقشة الشيخ الأعظم في الجواب

واعترض المحقّق المقدّم(1) ذكره على الأوّل ب « أنّ نصب تلك الطرق على فرض تسليمه ليس إلّا لغلبة كشفها عن الواقع ومطابقتها له ، فإذا دار الأمر بين إعمال ظنّ غيرها في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأوّل .

ص: 274


1- وهو الشيخ الأعظم الانصاري .

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف عن الواقع ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها جعلها عين الواقع لا قيداً له ، فالتكليف الفعلي بالواقع باقٍ على حاله ، إلّا أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع ، فمؤدّى هذه الطرق واقع(1) جعلي ، فإذا انسدّ طريق العلم إليه ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الجعلي(2) وبين الظنّ بما جعله الشارع واقعاً ، فلا ترجيح ، إذ الترجيح مبنيّ على إغماض الشارع عن الواقع »(3) .

وعلى الثاني ، تارة ب « أنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظنّ بالطريق وإن لم يكن الطريق مفيداً للظنّ أصلاً ، لا خصوص الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع حتّى يعتضد أحدهما بالآخر ويترجّح على غيره .

واُخرى بأنّه يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنيّة على بعض ، للظنّ باعتبار بعضها شرعاً دون الآخر ، فيرجع إلى الوجه الثالث ، ويأتي عند ذكره ما يتوجّه عليه .

وفيه اعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظنّ بالواقع لا بالطريق ، والاستدلال المذكور مبنيّ على إنكار ذلك ، وأنّ دليل الانسداد إنّما يجري في مسألة تعيين الطريق ، وهي المسألة الاُصوليّة ، لا في نفس الأحكام الواقعيّة الفرعية »(4) .

ص: 275


1- واقعي » ، نسخة بدل .
2- في المصدر : « الحقيقي » .
3- الفرائد 1 / 453 - 452 .
4- الفرائد 1 / 452 - 451 .

والجواب عن الاوّل أنّه ليس المقصود تقييد الواقع بشرط مساعدة الطريق حتّى يلزم انتفاء الواقع حقيقة بانتفاء شرطه ، فيستلزم القول بالتصويب الّذي أجمعت الإمامية على بطلانه ؛ بل المقصود أنّ الأحكام الواقعية أمور شأنية لا تنجّز لها إلّا بشرط مساعدة الطرق المعتبرة عليها وأدائها إليها ، ومع انتفاء الشرط فهي اُمور ثابتة في حدّ ذاتها ، إلاّ أنّه لا يعاقب المكلّف عليها ، ويعذّر في مخالفتها . ألا ترى أنّ الطرق العقليّة إذا أدّت إلى مخالفة الواقع كان اللاّزم فعلاً العمل بمقتضاها ، وكان الواقع على حاله ، من غير أن ينقلب إلى واقع آخر ، على ما يقوله القائل بالتصويب ، غير أنّه لا يترتّب عليه آثار التكليف من المؤاخذة على تركه واستحقاق العقاب عليه والتفسيق به ونحو ذلك ، فكذلك الحال في الطرق الشرعيّة ، فالتكليف الفعلي المنجّز الّذي يستتبع الثواب والعقاب إنّما يتعلّق بالعمل بالطرق المعتبرة ، عقليّة كانت أو شرعية ، فهو الّذي يحكم العقل بوجوبه والتحرّز عن العقوبة المترتّبة على الإخلال به ، فإن أمكن العلم به فذاك وإلّا قام الظنّ به مقامه .

نعم ، لو كان المصالح والمفاسد الواقعيّة عللاً تامّة للأوامر والنواهي تعيّن في حكم العقل تحصيلها بطريق اليقين مع إمكانه ، والظنّ مع تعذّره ، لكن قد عرفت في المقدّمة الرابعة خلاف ذلك .

جواب المؤلف عن مناقشة الشيخ

وعن الثاني : أنّ الطريق المنصوب وإن لم يكن مفيداً للظنّ بالواقع ، إلّا أنّ الظنّ به يستلزم الظنّ بسقوط الواقع قطعاً ، فيترجّح على مجرّد الظنّ بالواقع أيضاً ، لاستلزامه الظنّ بأداء التكليف المتعلّق بالطريق ، والظنّ بسقوط الواقع ، بخلاف الثاني فإنّه لا يستلزم الظنّ بسقوط التكليف المتعلّق بالطّريق أصلاً .

فلا فرق بين تعاضد الظنّ بالطريق مع الظنّ بالواقع ، وبين تأيّده بالظنّ

ص: 276

بسقوط الواقع ، فيترجّح في المقامين على الظنّ المجرّد بالواقع ؛ ففي عبارة المصنّف قدس سره نوع مسامحة ، حيث عبّر بأداء التكليف المتعلّق بأداء الواقع والطريق ، وإنّما المقصود الظنّ بسقوط الواقع وأداء التكليف بالطريق ، وهو كافٍ في الترجيح .

وعن الثالث : بأنّه فرق بين ترجيح الظنّ بالطريق على الظنّ بالواقع وترجيح بعض الظّنون المتعلّقة بالواقع على بعض ، نظراً إلى كون القضيّة مهملة يكتفى فيها بأدنى مرجّح ، ويسقط معه القول بامتناع الترجيح بين الظنون ، وهذا هو الّذي يأتي في الوجه الثالث بخلاف الاوّل ، إذ ليس الغرض فيه الترجيح بين الظنون المتعلّقة بالواقع ، بل المقصود ترجيح الظنّ بالطريق مطلقاً ؛ فالقول بأنّ العقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظنّ على إحراز الواقع بمطلق الظنّ محلّ نظر ظاهر .

إشكال الشيخ على نفسه وجوابه

ثمّ إنّ المحقّق المذكور(1) أورد على نفسه ب « أنّا نرى أنّه إذا عيّن الشارع طريقاً إلى الواقع كان البناء عند انسداد العلم به على العمل بالظنّ فيه دون نفس الواقع ، ألا ترى أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعي ، والقاضي إنّما يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ، لا في تحصيل الحقّ الواقعي بين المتخاصمين .

ثمّ أجاب بأنّ الظنون الحاصلة للمقلّد والقاضي بالنسبة إلى الواقع اُمور غير مضبوطة كثيرة المخالفة للواقع ، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس ، بخلاف الظنون المعمولة في تعيين الطرق ، فإنّها حاصلة من أماراتٍ

ص: 277


1- وهو الشيخ الاعظم الأنصاري قدس سره .

منضبطةٍ غالبة المطابقة ، لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل بها .

فالمثال المطابق لما نحن فيه أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطرق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع ، لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الإجمالي بكثرة مخالفة أحدهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن أخذها بالخصوص ؛ كما لو فرضنا أنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس من المثالين كان المتعيّن العمل بالظنّ في نفس الواقع دون الطريق .

فما ذكرنا من العمل على الظنّ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع فإنّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ، فإنّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال الظنون الّتي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعيّة مع قدرته على الفحص عما يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظنّ ، لم يجب عليه العمل بالظنّ في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعي .

وكذا القاضي إذا شهد عنده عدل واحد بالحقّ لا يعمل به ، وإذا أخبره هذا العدل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به ، فإنّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظّنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ، بخلاف الظنّ بحقيقة أحد المتخاصمين ، فإنّه ممّا يصعب الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحق من المتخاصمين ، لعدم انضباط الأمارات في الوقايع الشخصيّته ، وعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بها حتّى يأخذ بالاخرى . وكما أنّ المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقايع الشخصيّته » ، إنتهى(1) .

ص: 278


1- الفرائد 1 / 449 - 448 .

ولعمري إنّه تكلّف في الجواب شططاً ، ولو اقتصر في الجواب عن المثالين على ما ذكره من الإجماع على عدم اعتبار ظنّ المقلّد بالحكم والقاضي بالموضوع لاستراح عن ذلك ؛ بل الحقّ أنّ مثال القاضي خارج عمّا نحن فيه بالكليّة ، إذ الواقع إنّما يكلّف به المتخاصمان ، أمّا القاضي فلا يكلّف إلاّ بالحكم بطرق مخصوصة ووجوه معيّنة لا يبتني أكثرها على ملاحظة الواقع بالكلّية ، كاليمين والنكول والقرعة واليد والإقرار وشبهها ، لعدم حصول الظن منها نوعاً ، وإجتماعها مع الظنّ القوىّ بخلافها قطعاً ، ولو كان الواقع هناك ملحوظاً لكان الظنّ الحاصل من الاجتهاد في الواقعة الشخصيّة أقرب إلى الواقع من تلك الطرق قطعاً .

مناقشة المؤلف في جواب الشيخ

وعدم انضباط الأمارات المتعلّقة بتشخيص الواقع هناك لا يقصر عن حال الظنون الرجاليّة والترجيحات الاجتهاديّة ، ولا يمنع عقلاً ولا شرعاً من إناطة الحكم بوصف الظنّ المنضبط في حدّ ذاته لو لا الإجماع على عدم اعتباره والقطع على عدم إناطة القضاء به ؛ فمتى انسدّ باب العلم إلى طريق فصل الخصومة وعلمنا بعدم جواز إهمال الحكم فيها مع ذلك لزمنا الرجوع إلى الظنّ في ذلك ، من غير أن يكون للظنّ بالواقع أثر في ذلك بالمرّة ؛ بخلاف الحال في المقلّد ، فإنّ التّكليف بالواقع ثابت في حقّه ، غير أنّ طريقه منحصر في التقليد ، فمتى شكّ في الطريق موضوعاً أو حكماً لزمه تحرّى الأقرب إليه فالأقرب ، تنزّلاً من العلم بالطريق إلى الأقرب إليه به دون الظنّ بالواقع ، على حسب ما قرّره المحقّق المصنّف قدس سره في المقام .

ولو لا ذلك لما كان فيما ذكره المحقّق المذكور غنية ، للمنع من الإجماع على عدم اعتبار الظنّ بالواقع الأقرب إليه في حقّه على سبيل الإطلاق ، وعدم

ص: 279

دلالة ما ذكره من عدم انضباط الأمارات الموجبة له على المنع منه ، كيف ولم يفصّل أحد في مسألة الظنّ المطلق بين حصوله من الأمارات المنضبطة وغيرها ؟

ولو قلنا بالتفصيل لأمكن القول بمثله في حقّ المقلّد أيضاً ، إذ الانضباط لا يرجع إلى ضابط معيّن ، ولو اُعتبر المسمّى فقد يتحقّق في بعض الأمارات الحاصلة للمقلّد ، وقد لا يتحقّق في بعض الأمارات الحاصلة للمجتهد ، بل وفي تعيين الطّريق للمقلّد أيضاً .

فالوجه المذكور بنفسه لا يصلح فارقاً بين المقامين ، وإنّما الوجه في ذلك ما ذكرناه من أنّ الشّارع متى حصر طريق العاميّ في التقليد في حالتي علمه بالمجتهد وجهله لم يكن له بُدّ من إعمال الظنّ في ذلك الطريق متى لم يكن هناك قدر متيقّن للامتثال حكماً أو موضوعاً ؛ كما لو دار الأمر بين الأفضل والمفضول ، فإنّ الأوّل هو المتيقّن ؛ أو بين شخصين يعلم باجتهاد أحدهما دون الآخر .

أمّا لو دار الأمر حكماً بين الأفضل والأعدل(1) ، أو بين بقائه على تقليد الأفضل الميّت وعدوله إلى المفضول الحيّ وإن كان الأقرب إلى إصابة الواقع ؛ أو موضوعاً بين شخصين لا قطع له بأفضليّة أحدهما بعينه لزمه العمل بالظنّ في ذلك ، وكذا الحال في المتجرّي .

ولو دار الأمر بين الاجتهاد والتقليد وانسدّ طريق العلم بذلك لزمه العمل بالظنّ بما هو طريقه في ذلك دون الظنّ بالواقع ، لأنّه ترجيح لأحد طريقين من غير مرجّح ؛ وهكذا المقلّد متى انسدّ عليه سبيل العلم بمعرفة المجتهد لو دار أمره

ص: 280


1- بين الأعلم والأتقى . نسخة بدل .

بين العمل بالظنّ بالحكم أو في تعيين المجتهد ، أو دار أمره بين تقليد المجتهد الميّت أو الحيّ المظنون اجتهاده لزمه العمل بالظنّ في ذلك ، وكذا الحال في نظاير ذلك .

نقل كلام الشيخ الأعظم

وكلّ ذلك مبنيّ على ما ذكرنا دون ما ذكره المحقّق المذكور ، ومن نظاير ذلك أنّه لو اشتبه الجلد واللحم المأخوذان من يد المسلم وسوقه مع الظنّ بعدم تذكيتهما بالمطروح في الطريق مع الظنّ بتذكيته ، أو الماء المستصحب الطهارة مع الظنّ بنجاسته بالمستصحب النجاسة مع الظنّ بطهارته ؛ أو المال المأخوذ من يد المسلم مع الظنّ بتحريمه بالمغصوب ظاهراً مع الظنّ بملكيته إلى غير ذلك من الأمثلة ثمّ اضطر المكلّف إلى تناول أحد الأمرين لزمه ترجيح المظنون إباحته ظاهراً على المظنون إباحته واقعاً ، لو قلنا هناك بلزوم الترجيح وعدم الحكم بالتخيير .

ومن الغريب ما ذكر في مثال القاضي لو أخبره العدل الواحد بالطريق وبالحقّ الواقعي من إناطة اعتبار الأوّل بانضباطه ، والمنع من الثاني بعدم انضباطه ، مع اتّحاد الطريق ، فإنّه تحكّم صرف ، وإنّما المدار في ذلك على عدم ملاحظة الواقع هناك بالكلّيّة . وقد تنبّه المحقّق المذكور لذلك ثانياً ، لكنّه ذكر في التفرقة بين المقامين « أنّ الشارع جعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة ، [مثل الإقرار والبيّنة واليمين والنكول والقرعة وشبهها(1)] بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد ، فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالب عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين ساير الأمارات كونها أغلب مطابقة وكون غيرها غير غالب

ص: 281


1- أضفناها من المصدر .

المطابقة ، بل غالب المخالفة ، كما ينبى ء عنه : ما ورد في ذمّ الاعتماد على العقول في دين اللَّه أنّه ليس شي ء أبعد عن دين اللَّه من عقول الرّجال(1) وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه(2) وأنّ الدين يمحق بالقياس(3) ونحو ذلك .

مناقشة المؤلف في ما أفاد الشيخ

قال : ولا ريب أنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين ساير الأمارات ، ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، والتجأ إلى إعمال ساير الأمارات الّتي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي .

بل الظاهر أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوليّة الّتي هي أحقّ بالمراعات من مصلحة نصب الطريق ؛ فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ، ولهذا اتّفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه اتّفاقاً ، بل الحقّ ذلك فيها أيضاً »(4) ، انتهى كلامه سلّمه اللَّه تعالى .

وأنت خبير بأنّ دعوى أنّ الطرق المنصوبة للمجتهد مبنيّة على غلبة كشفها عن الواقع ، وأنّ ترجيحها على ساير الأمارات مستند إلى أغلبيّتها في ذلك

ص: 282


1- لم نعثر على هذا المضمون في المجامع الحديثية ، نعم ورد في الوسائل « ليس شي ء أبعد من عقول الرجال عن القرآن » أو « من تفسير القرآن » اُنظر : الوسائل 27 / 203 ح 69 و 73 .
2- وسائل الشيعة 8 / 318 ح 14 - مستدرك الوسائل 17 / 248 ح 14 .
3- اُنظر : الكافي 1 / 57 ح 15 .
4- الفرائد 1 / 451 - 448 .

ممنوعةٌ جدّاً ، إذ ليست بيّنة ولا مبنيّة ، كيف وقد ثبت اعتبارها مع الشّك في مصادفة الواقع ؟ بل ومع الظنّ بعدمها في بعض المقامات أيضاً ، ومن جملتها الاُصول التعبديّة الّتي لانظر لها إلى الواقع بالكلّيّة ، ألا ترى أنّ الطرق المقرّرة لمعرفة الموضوعات والاُصول الجارية فيها ليست مبنيّة على ما ذكر ؟ مع أنّ إدراك مصلحة الواقع كما يتوقّف على إصابة الحكم كذا يتوقّف على إصابة الموضوع ، فكيف يفرق بذلك بين الطرق المذكورة والطرق المقرّرة لقطع الخصومة ؟ إنّما الفرق بينهما ما ذكرناه من أنّ القاضي هناك غير مكلّف بقضائه بحسب الواقع بما كلّف به الخصمان ، وإنّما وجب عليه في الواقع فصل الخصومة بالطرق المقرّرة ؛ بخلاف المقام ، لثبوت الأحكام الواقعيّة في حقّ عامّة المكلّفين على الوجه الّذي قدّمناه .

ودعوى أنّ القاضي أوّلاً وبالذات مأمور بايصال الحقّ الواقعي إلى مستحقّه على نحو تعلّق الحكم الواقعي بالمكلّفين ممنوعة ، وانّما تعدّ ذلك حكمة في نصب القاضي ، ولذا يعدّ المجتهد عند عدم الإصابة مخطأ ، ولا يعدّ القاضي باليمين أو الإقرار أو نحو ذلك مع المخالفة للواقع مخطأ ، بل هو مصيب ، لتكليفه الواقعي ، إذ لم يكلّف في الواقع إلّا بالحكم على حسب ذلك .

نعم ، يصلح ذلك نظيراً لما نحن فيه لمشابهته له في الجملة فتأمل(1) .

ص: 283


1- قال حفيد المؤلِّف ،العلّامة ابو المجد الشيخ محمّد الرضا النجفي في كتابه وقاية الأذهان / 554 . « ومن رام إحداث ثلمة في هذا البنيان الرفيع فلا سبيل له إلّا المناقشة فيهما ، فشأنه وذلك إن شاء ولكن بعد أن يعلم أنّه يصادم حسَّه ويكابر نفسَه ، فقد علم كلّ من له أدنى إلمام بالعلم أنّ الشيعة - أعلى اللَّه كلمتهم - ما زالوا من زمن أئمتهم عليهم السلام إلى اليوم يعملون بالروايات الواردة عن المعصومين في الجملة ، ولا تجد أحداً يتمسّك في شي ء من أحكام الدين بمجرّد الظنّ والتخمين . أتظنّ منتمياً إلى هذا المذهب يصبح مفتياً بهدر دم مسلم أو إباحة . . . محصنة ، فإذا سئل عن مستنده في فتياه أسنده الى ظنٍّ حصل له من الرؤيا ؟ وذمام العلم وحرمة الفضل لا يصدر هذا من متمسِّك بحبل أهل البيت أبداً ، حتى من لاك لسانه بمطلق الظنّ . هذا أحد أعلام الفقه ، وحامل عرش الظنّ المطلق ، الفاضل القمّي ، إذا تصفّحت كتابه « جامع الشتات » من أول الطهارة الى آخر الديات لا تجد فيه استناداً الى غير الكتاب والسنّة وما يؤول اليهما قط ، ولا ترى أقلّ اختلاف بينه وبين سائر أئمة المذهب في طريق الاستنباط . ولقد أصاب صاحب الفصول حيث قال في أثناء كلامه : حتى أنّ القائلين بحجّية الظنّ المطلق كبعض متأخري المتأخّرين ، لا تراهم يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات الى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها . صدق - واللَّه - وبرّ ، لا تجد غير مطعون في طريقته يترك آثار أهل البيت بغير طعن في أسانيدها ، وإجمال في متونها ، أو معارض لمؤدّياتها . ومن ذلك كلّه يظهر لك وجه النظر فيما كرّره الشيخ الأعظم من المناقشة في الإجماع والسيرة المتقدّمين وأنهما لا يكشفان عن جهة العمل » .

نقل إيراد آخر على صاحب الفصول وجوابه

بقي في المقام إيراد آخر يمكن الاعتراض به على ما قرّره عمّي العلّامة طاب ثراه - في المقام ، وقد نبّه عليه بنفسه في جملة الإيرادات الّتي تعرض لجوابها هناك بعض التنبيه ، وهو أنّ كلّ ما دلّ على نصب الطرق المخصوصة لاستنباط الأحكام الفرعية من الإجماع والكتاب والسنّة تدلّ بعينها على نصبها لاستنباط الطرق المجعولة وساير ما اشتبه من الأحكام الأصليّة أيضاً ، لجريان طريقة الأصحاب على استفادة مطلق الأحكام الشرعيّة - أصلية كانت أو فرعية - من طرق ومدارك مخصوصة ، مطبقين على نفي حجّية ما عداها ، كما نصّ عليه قدس سره في قوله : « إنّا نعلم أنّ الشارع قد قرّر في حقّنا إلى معرفة الأحكام اُصولاً وفروعاً ولو بعد انسداد باب العلم وما في مرتبته طرق مخصوصة » .

ص: 284

وفي قوله « إنّا كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقاً إلى معرفتها ، كذا نجد عليها أمارات آخر نعلم بأنّ الشّارع قد اعتبرها كلّاً أو بعضاً ، ونقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعيّة في حقّنا أمارة اُخرى خارجة عنها ، ومستند قطعنا في المقامين الإجماع ، مضافاً في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار » .

وحينئذٍ فنقول : ان كان ما ذكر كافياً في إثبات نصب الطريق المخصوص لمعرفة الفروع دلّ على نصب مثله لمعرفة الطريق المنصوب أيضاً ، لجريان الدليل المذكور فيه بعينه ؛

فإن كان من جنسه ، لزم نصبه طريقاً إلى معرفة نفسه ، ورجع إلى توقّف الشي ء على نفسه ؛

فلابدّ أن يكون أمراً آخر ننقل الكلام إليه ، فإنّه أيضاً من الطريق المنصوب ، فلابدّ له من طريق آخر ؛

فإن كان الأوّل ، لزم الدور ، وإن كان أمراً ثالثاً لزم نقل الكلام إليه أيضاً إلى أن يدور أو يتسلسل .

فدلّ ذلك على أنّ ما ذكر ليس كافياً في إثبات الطريق المخصوص ، وحينئذٍ فأنّى له بإثبات الطرق المجعولة حتّى يتفرّع عليه ما فرّعه عليه ، وجعل أساس استنباط الأحكام راجعاً إليه .

وبالجملة ، فلا يعقل القول بنصب الطريق إلى كلّ حكم شرعي ، فإنّه لاينفكّ عن الدور أو التسلسل ، فلابدّ من التزام التفصيل بين الأحكام الشّرعية بدعوى أنّ النصّ والإجماع المذكورين إنّما يدلاّن على نصب الطرق المخصوصة لمعرفة الفروع ، والقدر الممكن من مباحث الاُصول وما ذكر داخل في الممتنع ،

ص: 285

فلابدّ من الرجوع فيه إلى الطرق العقلية من العلم حال إمكانه ، والظنّ عند تعذّره ، أو العاديّة الّتي لا توقّف لها على جعل الجاعل .

وبهذا يضعف دعوى القطع بأنّ الشارع قد قرّر إلى مطلق الأحكام طرق مخصوصة ، فإن أسنده إلى الإجماع على حصر الحجّة في أمارات معيّنة ، والمنع من غيرها مع أنّه جارٍ في كلّ حكم شرعي ، مع امتناع جعل الطريق إليه كذلك ، كما عرفت ، على أنّ الإجماع إنّما انعقد على القدر المشترك بين الطرق المجعولة والعقليّة والعاديّة ، فكيف يدلّ على خصوص المجعولة ؟

وقد استراح المحقّق المصنّف - طاب ثراه - في تعميمه الطرق المعلومة على الإجمال للأقسام الثلاثة لاشتراكها في كونها شرعية معتبرة في الشريعة ، ولا يمنع التعميم المذكور في لزوم الانتقال في تعيينها عن العلم عند تعذّره إلى الظنّ به ، كما مرّ توضيح القول فيه .

فإن قلت : إنّ الواقع لا يتقيّد بالطرق العقلية والعاديّة ، فإذا دار الأمر بالطريق المعلوم على الإجمال بين الوجوه الثلاثة لم يكن فيه دلالة على تقييد الواقع بمؤدّى الطريق في حكم المكلّف ، كما هو المقصود من الدليل .

قلت : إنّ الواقع من حيث ثبوته في نفس الأمر وإن لم يتوقّف على مساعدة الدليل عليه إلّا أنّ تنجّزه وفعليّته موقوف على ذلك ، فليس المكلّف به بالفعل إلاّ العمل بمؤدّى الطرق الشرعيّة كائنة ما كانت ، وهو الّذي يحكم العقل بلزوم التعرّض لامتثاله دون الحكم الشّأني ، فيلزم الانتقال من العلم به إلى الظنّ به ، وقد تقدّم الكلام في ذلك .

فإن قلت : إنّه أيضاً لا تنجّز له إلّا مع مساعدة الدليل عليه .

قلت : نعم ، ولكنّ الطريق إلى ذلك منحصر في الطريق العقلي والعادي ، إذ

ص: 286

لو كان شرعيّاً أيضاً دخل في العنوان الأوّل ، وهو الأحكام والطرق المجعولة ، فطريقها خارج عنها ، فينبغي الرجوع في ذلك إلى مقتضى العقل والعادة ، وهو ما ذكر ، بخلاف الاوّل .

نعم ، لو فرضنا القطع بعدم تصرّف الشارع في طرق المعرفة بالأحكام تمّ الرجوع إلى الظنّ بالواقع على حسب ما ذكر ، كما يدّعيه القائل بالظنّ المطلق ، لكن أنّى له بإثبات ذلك ؟ بل تصرّفه فيها معلوم من منعه عن أمارات مخصوصة ، وأمره بآخرى لا يفرق العقل بينهما ، بل الإنصاف أنّ نصب الطريق في الجملة معلوم من الأدلّة ، كما مرّ التنبيه عليه ، على أنّ ما اختاره المصنّف - طاب ثراه - من لزوم العمل بكلّ ما يترجّح في نظر المجتهد بعد استفراغ وسعه وبذل جهده في تعيين بنائه على أحد الوجوه الممكنة على حسب ما هو عليه من الخصوصيّات والأحوال طريق واضح لا يتطرّق إليه الشبهات المتصوّرة في المقام .

نقل جواب صاحب الفصول على الإيراد المذكور

وأمّا عمّى قدس سره فقد قال في فصوله في الجواب عن نحو الإيراد المتقدّم بالفرق بين مباحث الفروع ومباحث الاُصول ، وذلك أنّه ذكر أنّ للطريق ثلاث مراتب ، لا يعوّل على اللاحقة منها إلاّ بعد تعذّر السابقة : العلم بالواقع وبالطريق المنصوب على الإطلاق ، ثمّ العلم بالطريق المنصوب عند تعذّر الأوّلين ، ثمّ الظنّ الّذي لا دليل على عدم حجيّته ، ثمّ الأقرب إليه فالأقرب .

ثمّ قال : « إنّ طريق الغير القطعي من الفروع إمّا في المرتبة الأُولى ، كالكتاب والسنّة القطعيّة الصدور في وجه ؛ أو في المرتبة الثانية ، كالاُصول الظاهريّة والسنّة الغير القطعيّة ، إذ لا يقوم من الأخبار مقام العلم إلّا خبر من علم عدالته شرعاً ، وأكثر رجال أخبارنا ليسوا كذلك ، فيكون في المرتبة الثانية ، لعلمنا بنصب الشارع لها طريقاً بعد تعذّر العلم وما في مرتبته ، أو بعلمنا بنصبه

ص: 287

حينئذٍ لما يحتمل أن يكون تلك الأخبار من جملتها .

بل التحقيق أنّ حجّية الكتاب والسنّة القطعيّة الصدور أيضاً بالنسبة إلى أمثال زماننا في المرتبة الثانية ، لعلمنا إجمالاً بأنّ كثيراً من ظواهر الخطابات الشرعيّة قد اُريد بها خلافها ، إمّا بطريق التجوزّ أو التخصيص أو التقييد ، ولا سبيل لنا غالباً إلى تحصيل العلم بسلامة ما نعمل به منها عن ذلك إلّا بالطرق الظنيّة ، ولو لا ذلك لما جاز لنا تقييد شي ء منها ولا تخصيصه ولا تأويله بشي ء من أخبار الآحاد الّتي حجّيتها عندنا في المرتبة الثانية ، إذ مع إمكان العلم وما في مرتبته لا سبيل إلى التمسّك بما يبتني حجّيته على انتفاء الأمرين .

وأمّا المباحث الغير القطعيّة وما في حكمها من الاُصول ، فهي في حقّنا في المرتبة الثالثة ، إذ ليس لنا إلى معرفتها طريق تفصيلي يعلم من السمع جواز الرجوع إليه ولو بعد انسداد باب العلم ، وأمّا علمنا بنصب الطريق إليها إجمالاً فلا يصيّرها في المرتبة الاُولى والثانية ، لأنّاننقل الكلام إلى ذلك الطريق ، فيكون حجّيته أيضاً في مرتبة مدلوله ، وهكذا ، لامتناع الترجيح من غير مرجّح ، فيمتنع إثبات حجّية شي ء من تلك الطرق ، بل طريق الفروع وطريق طريقها وإن تعدّدت الإضافات في مرتبة واحدة هي المرتبة الثالثة كما عرفت ، لعدم طريق سمعي يساعد على معرفة تفاصيلها ، فيصحّ إثبات حجّية بعضها بما يصحّ حجّية الآخر به من غير فرق ؛ وهو الظنّ الذي لادليل على عدم جواز التّمسك به ، ثمّ ما يقرب إليه ، كما هو قضيّة حكم العقل في هذه المرتبة .

فإذا ظننّا أنّ خبر الواحد حجّة في الفروع مثلاً بما لا دليل على عدم حجّيته وإن كان ظنّاً خبرياً ثبت به حجّية خبر الواحد ، كما أنّه لو دلّ على حجّية ما يظنّ حجّيته الأمارة لا دليل على عدم حجّيتها ثبت به حجّية الطّريق ، فثبت به حجّية

ص: 288

خبر الواحد .

وبالجملة ، فالعمل بالطريق سواء كان طريقاً إلى حكم فرعي أو اُصولي مع عدم قيام قاطع سمعي على تعيينه لا يتمّ إلاّ بإرجاعه إلى المرتبة الثالثة ، إذ بدونه يلزم إمّا الحكم من غير دليل أو الدور أو التسلسل أو توقّف الشّي ء على نفسه ، وفساد اللاّزم بأقسامه بيّن جلّي ، ولو ارجع بعض الطرق إليها خاصّة لزم الترجيح من غير مرجّحٍ ، وهو أيضاً بيّن الفساد .

نقد جواب صاحب الفصول

فاتّضح الفرق بين من يتمكّن من تحصيل العلم بتفاصيل الأدلّة من غير أن يستند إلى قاعدة الانسداد - كما يظهر من جماعة من أصحابنا - وبين من لا يتمكّن منه إلاّ بالاستناد إليه ، كما هو الثابت في حقّنا ، وأنّ التكليف في مطلق الأحكام الغير القطعيّة حتّى الاُصوليّة منها بالعمل بالمدارك المنصوبة من حيث التعبّد إنّما يتمّ في حقّ الأوّل دون الأخير »(1) ، انتهي .

وأنت خبير بأنّه - قدّس اللَّه نفسه - وإن دقّق في هذا المقال إلاّ أنّه لم يأت بما يقطع به مادّة الإشكال ، ولم يثبت به ما قصده من التفرقة بين الظنّ المتعلّق بمباحث الفروع والاُصول ، وذلك أنّ الدليل الّذي أقامه لحصر الحجّة من الظنون المطلقة فيما يتعلّق بالمباحث الغير القطعيّة من الاُصول يجري بعينه في طرق إثباتها أيضاً .

فنقول : كما نقطع بأنّ الشارع قد قرّر لنا إلى معرفة الأحكام الشرعيّة طرق مخصوصة ، وكلّفنا بالعمل بمقتضاها ، كذا نقطع بأنّ الشارع قد جعل إلى معرفة تلك الطرق طرق مخصوصة اُخرى ، أمرنا بسلوكها ، ونهانا عن غيرها ؛ فإنّا كما

ص: 289


1- الفصول / 280 - 279 .

نجد على الطرق الشرعيّة أمارات نقطع باعتبارها في الشرع كلاًّ أو بعضاً ، كذا نجد عليها أمارات نقطع بعدم اعتبارها ؛ والمستند الإجماع مع مساعدة الكتاب والسنّة على بعضها .

فحاصل القطعين القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة في استنباط طرق الأحكام الشرعيّة ، فكما يتقيّد الواقع بالطرق كذا يتقيّد تلك الطرق بطرقها المقرّرة ، وذلك أنّا كما نشاهد اقتصار الفقهاء في استنباط الأحكام على الطرق المخصوصة ، كذا نشاهد اقتصار الاُصوليّين من أصحابنا في إثبات الطرق الشرعيّة على اُمور مخصوصة ، فإذا دلّ ذلك على تقييد الواقع هناك كذا هنا ، وذلك أنّ نصب الطريق أيضاً من الأحكام الشرعيّة كساير الأحكام ، وطريق استنباطها عند الأصحاب واحد ، فكيف يفرّق بما ذكر بينها ؟

فمحصّل ذلك على ما ذكره حجّية الظنّ بطريق إثبات الطّرق المنصوبة للأحكام الشرعيّة ، فكيف يعوّل على الطريق المشكوك فيه أو الموهوم هناك ، وإن أفاد ظنّاً بالطريق أقوى من الظنّ بعدم اعتباره ، ولا يعوّل على مثله في إثبات ساير الأحكام ؟ مع أنّه أولى بذلك ، وهل هو إلاّ تفصيل في طريق إثبات الأحكام بلا فارق ، بل ترجيح للمرجوح على الراجح ، فإن صار إلى ذلك نقلنا الكلام إلى طريق ذلك ، فربّما أدّى ذلك إلى التسلسل .

وهذا الإشكال بعد بحاله بل ما ذكره في وجه التفرقة من غرايب الاُوهام ، كما يظهر على المتأمّل في هذا الكلام ، وهو من الوجوه الموهنة للطريق المذكور .

وإنّما الصّواب في هذا الباب ما أفاده الوالد - طاب ثراه - ، فإنّه سالم عن الإيراد المذكور وغيره ممّا اُورد في هذا الباب ، على أنّ ما ذكره قدس سره في أمثلة

ص: 290

المترتبة الثانية ، وفي باب تعذّر العلم بتفاصيل الأدلّة خروج عن الصواب ، وإنّما التحقيق فيه أيضاً ما أفاده الوالد العلاّمه - أعلى اللَّه مقامه - في الوجه الثامن ، كما سيجي ء تفصيل القول فيه وفي الجواب عن الشبهات الّتي أشار إليها هنا ، إن شاء اللَّه تعالى .

ثمّ إنّ تعميم المسألة لمطلق المباحث الغير القطعيّة وما في حكمها من الاُصول ليس أيضاً على ما ينبغي ، كما لا يخفى . ثمّ إنّ التجاوز عن الظنّ إلى الأقرب إليه فالأقرب لا يخلو من نظر ، إذ التنزّل عن الظنّ إنّما يكون إلى الشك والوهم ، أو إلى ما له شأنيّة الإفادة مع حصول المانع عنها ، والعمل بها مبنّي على لزوم الامتثال الاحتمالي بعد تعذّر الظنّي ، وفيه تأمّل .

الوجه الثالث من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّه

اشارة

وقال - طاب ثراه - :

الثّالث : إنّ قضيّة بقاء التكليف وانسداد سبيل العلم به مع كون قضيّة العقل أوّلاً تحصيل العلم به هو الرجوع إلى الظنّ قطعاً على سبيل القضيّة المهملة ، وحينئذٍ فإن قام دليل قاطع على حجّية بعض الظنون ممّا فيه الكفاية في استعلام الأحكام انصرف إليه تلك القضيّة المهملة من غير إشكال ، فلا يفيد حجّية ما زاد عليه ولو تساوت الظنون من كلّ وجه قضى ذلك بحجّية الجميع نظراً إلى انتفاء الترجيح في نظر العقل وعدم إمكان رفع اليد عن الجميع ولا العمل بالبعض دون البعض لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، فيجب الأخذ بالكلّ حسب ما يدّعيه القائل بحجّية مطلق الظنّ .

وأمّا إذا قام الدليل الظنّي على حجّية بعض الظنون ممّا

ص: 291

فيه الكفاية دون البعض فاللازم البناء على ترجيح ذلك البعض ، إذ لا يصحّ القول بانتفاء المرجّح بين الظنون بالحجّية في بعض تلك الظنون دون البعض .

وتوضيح المقام : أنّ الدليل الظنّى القائم على بعض الظنون إمّا أن يكون مثبتاً لحجّية عدّة منها كافية في استنباط الأحكام من غير أن يقوم هناك دليل ظنّي على نفي الحجّية عن غيرها ولا إثباتها ، وإمّا أن يكون نافياً لحجّية عدّة منها من غير أن يكون مثبتاً لحجّية ما عداها ولا نافياً لحجّيتها ، وإمّا أن يكون مثبتاً لحجّية عدّة منها كذلك نافياً لحجّية الباقي ، وإمّا أن يكون مثبتاً لحجّية البعض على الوجه المذكور نافياً لحجّية عدّة اُخرى مع خلوّ الباقي عن الأمرين ، ويجب في حكم العقل الأخذ بمقتضى الظنّ في الجميع في مقام الترجيح وإن اختلف الحال فيها بالقوّة والضعف ، غير أنّه في القسم الثاني لابدّ من الحكم بحجّية غير ما قضى الظنّ بعدم حجّيته ، نظراً إلى انتفاء المرجّح بينها [ج 3 ص 362] .

تقرير المؤلف في ما أفاد والده

أقول : حاصل الوجه المذكور أنّ الظنون الّتي لاعلم بحجّيتها ولا بالمنع عنها تنقسم إلى : مظنون الاعتبار ، ومشكوك الاعتبار ، وموهوم الاعتبار . ولا شك في رجحان الأوّل على الثاني والثانى على الثالث ، فلا ينتقل إلى المرتبة اللاحقة إلاّ بعد تعذّر السابقة .

بل قد يقال : إنّ الظنّ بالنظر إلى الواقع يدور بين النصب والمنع والإهمال ،

ص: 292

لما عرفت من انّ الحكم لا يستلزم جعل الطريق ، إنّما يستلزم وجود الطريق المرضيّ ، فيمكن إهمال الأمر في أمر الطريق ، والاكتفاء بحكم العقل والعادة ، وإن استلزم التقرير بحيث لو سئل عن ذلك لنصّ عليه ، إلاّ أنّه غير الطريق المجعول .

وحينئذٍ فالاحتمالات المتصورّة في المقام المترتّبة بعضها على بعض كثيرة أقوآها الظنّ بالنصب مع القطع بعدم المنع ، ثمّ الظنّ بالنصب مع احتمال المنع أيضاً ، ثمّ الشك في النصب مع القطع بعدم المنع ، ثمّ الشكّ فيه مع احتمال المنع بالاحتمال المرجوح ، ثمّ بالاحتمال المتساوي ، ثمّ احتمال النصب مرجوحاً مع القطع بعدم المنع ، ثمّ احتماله كذلك مع احتمال المنع كذلك ، ثمّ مع احتمال المنع متساوياً ، ثمّ مع الظنّ بالمنع ، ثمّ القطع بعدم النصب والمنع معاً ، ثمّ القطع بعدم النصب مع احتمال المنع مرجوحاً ، ثمّ متساوياً ، ثم راجحاً وهو أضعفها .

فهذه وجوه يترتّب بعضها على بعض ، ولا ينتقل في حكم العقل إلى اللاحقة إلاّ بعد تعذّر السابقة أو عدم الاكتفاء بها ، على تأمّل في الترتيب بالنسبة إلى بعض تلك الوجوه ، ومع ذلك فكيف يقال بحجّية الجميع مع إمكان الترجيح بين الوجوه المتصوّرة واندفاع الضرورة بالأخذ بالراجح منها ؟

ثمّ إنّ الراجح قد يتعيّن على وجه التفصيل ، وقد يتردّد بين طريقين أو طرق معيّنة ، وعلى هذا فإنّما يحكم بحجّية الطرق الّتي يتردّد الراجح بينها دون ما عداها .

نقل بعض الإيرادات على بيان صاحب الهداية والجواب عنها

وقد يورد على ذلك بوجوه ؛

الأوّل : إنّ الّذي يظهر من بعضهم القول بحجّية الظنّ المطلق في كلّ مسألة

ص: 293

بانفرادها مع قطع النظر عن غيرها من المسائل ، حيث أبطل الأصلين البرائة والاحتياط فيها مع قطع النظر عن لزوم الخروج من الدين والوقوع فى الحرج معهما ، وحينئذٍ فبقاء التكليف بالحكم الثابت فيها مع تعذّر العلم به يقتضي العمل بالظنّ مطلقاً ، وحينئذٍ فلا شكّ أنّ الظنّ الحاصل في تلك المسألة واحد لا يتعدّد حتّى يتصوّر الرجوع إلى المرجّحات المذكورة .

نعم ، يتصوّر المعارضة بين مقتضى الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، فلابدّ من الترجيح ، وذلك أمر آخر لا محيص عنه على القول المذكور .

والجواب : أنّ الوجه المذكور إنّما يتمّ على طريقة المحقّق المصنّف - طاب ثراه - حيث يقطع في المسألة الواحدة بلزوم البناء على وجه معيّن والإفتاء على حسبه ؛ فإذا تعذّر الطريق العلمي في ذلك تعيّن الرجوع إلى الطريق المظنون ، على حسب ما مرّبيانه .

وأمّا القول بالظنّ المطلق فلا يكاد يتمّ على الوجه المذكور ، لامتناع خروج المسألة عن مجرى أحد الاُصول العمليّة أو القواعد المعتبرة ، لوضوح أنّ مجرّد العلم بأنّ لها حكماً في نفس الأمر لا يمنع من إجراء الأصل العملي المدلول عليه بالعقل أو النقل وإلاّ لامتنع جريانه في عامّة المسائل ، وهو واضح الفساد .

والحاصل : أنّ شيئاً من الوجوه الّتي ذكروها في إبطال الرجوع إلى الاُصول العمليّة لا يجري على التقرير المذكور ، فلا وجه للرجوع إلى الظنّ بعد وجود الأصل العملي في تلك المسألة ، وإنّما يرجع إليه عند انسداد باب العلم بمعظم الأحكام ، وإستلزام الاقتصار على القدر المعلوم للخروج من الدين ، والاحتياط للحرج الشديد ، فينتقل حينئذٍ إلى الأقرب والأرجح من الظنون فالأرجح ، دون مطلق الظنّ كما زعموه .

ص: 294

نعم ، يمكن تصوير المسألة في صورة دوران الأمر بين المحذورين ، فيمكن القول بالرجوع إلى الظنّ هناك إن لم نقل بالتخيير حينئذٍ ، لكنّه نادر في المسائل ، وينبغي إرجاع الأمر فيه أيضاً إلى طريقة المصنّف قدس سره من الأخذ بأرجح الوجهين المذكورين في نظر المجتهد .

الثاني : أنّ الترجيح بالوجوه المذكورة يتوقّف على القول بكون العقل بعد ملاحظة دليل الانسداد كاشفاً عن نصب الشارع للظنّ طريقاً إلى الأحكام ، فيكون الحكم المذكور ثابتاً على وجه الإهمال والإجمال ، إذ لا سبيل للعقل حينئذٍ إلى تعيين المنصوب من الظنون إلاّ بعد ضمّ مقدّمة اُخرى من بطلان الترجيح بلا مرجّح أو غيره .

لكنّ الوجه المذكور فاسد من وجوه ؛

منها : أنّه لا سبيل للعقل إلى القطع بنصب الشارع للطريق في شي ء من الأحوال من رأس ، لما عرفت غير مرّة من أنّ جعل الحكم لا يستلزم نصب الطريق وإلاّ لزم التسلسل ، وإنّما يستلزم وجود الطريق والرضا به وقبح العقاب على العمل به وجواز العقاب على التخلّف عنه ، وهو أعمّ من الطريق المجعول ، لما عرفت من أنّ الطرق المعتبرة تعمّ الشرعيّة والعقليّة والعاديّة ألا ترى أنّ الموالي في أحكامهم المجعولة لهم بالنسبة إلى عبيدهم قد لا يلتفتون إلى جعل الطريق لهم من رأس ، ولا غضاضة عليهم في ذلك ، فكذا الحال في كلّ مطاع ومطيع .

ومنها : أنّه لو فرضنا العلم بنصب الطريق فلا سبيل للعقل إلى إدراك كون ذلك الطريق ظنّاً مطلقاً ، لإمكان كون الحجّة إذن طريقاً آخر غير الظنّ ، من غير اعتبار إفادته للظنّ أصلاً ، كما وقع مثله في الموضوعات كثيراً ، فمن يعلم حينئذٍ

ص: 295

اعتبار الظنّ ولو في الجملة ؟

ومنها : أنّه لو فرضنا العلم بنصب الظنّ طريقاً في الجملة فمن أين يعلم كون المنصوب أرجح الظنون المفروضة ؟ لإمكان وجود المصلحة الواقعية في المرجوح منها دون الراجح ، أو وجود المفسدة في الراجح دون المرجوح ، أو غلبة الإصابة في المرجوح دون الرّاجح عند علّام الغيوب ، فيكون أحد الوجوه المذكورة إذن باعثاً على ترجيح المرجوح في نظرنا ، كما وقع مثله في موارد كثيرة سيّما في طرق الموضوعات .

فالمقصود من بطلان الترجيح بلا مرجّح عدم جواز الترجيح مع عدم العلم بالمرجّح ، لا عدم وجود المرجّح في الواقع . ومن المعلوم أنّ ذلك لا بتعيين المنصوب في الواقع ، إنّما يقتضي حكم العقل به في الظاهر ، فكيف يثبت بذلك المجعول الشرعى ؟ اللهم إلاّ أنّ يدّعى الإجماع في ذلك ، فيخرج بذلك عن الدليل العقلي ،

وإذا بطل الوجه المذكور تعيّن القول بأنّ الحاصل من المقدّمات المذكورة حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال الظنّي وقبح المؤاخذة على العمل بالظنّ والمطالبة بأكثر منه ، فيجري الظنّ في حال الانسداد مجرى العلم في حال الانفتاح في عدم كونه من مجعولات الشارع ، وكما أنّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصية من الأحكام العقليّة بعد صدور الأوامر والنواهي من الشارع ، وليس بتكليف مستقلّ يستتبع ثواباً وعقاباً آخر ، مع كونهما أخصّ من الموافقة أو المخالفة الواقعية من وجه ، فكذا الحال في كيفية الإطاعة والمعصية ،

والملازمة بين حكمي العقل والشرع بمعنى الرّضا والتقرير مسلّمة ، وبمعنى الجعل موقوفة على قابلية المورد للجعل ، وحينئذٍ فحكم العقل باعتبار

ص: 296

الظنّ حينئذٍ حال الانسداد مبنيّ على الاكتفاء بالانكشاف الظني ، ونسبته إلى جميع الظنون بإعتبار ، أسبابها نسبة واحدة في حصول الإطاعة الظنيّة ، فلا يعقل التفرقة بينها في ذلك بالنظر إلى حكم العقل .

نعم ، يمكن الترجيح حينئذٍ باعتبار قوةّ الظنّ وضعفه ، فإنّ نسبة الظنّ الأقوى إلى الأضعف كنسبة العلم إلى الظنّ ، إلاّ أنّ التّرجيح بذلك يتوقّف على تعيين القوّة المعتبرة ، وهي ممّا لاتدخل تحت ضابط معيّن يناط به الحجّية دون غيره .

نعم ، يتصوّر ذلك على وجهين ،

أحدهما : بلوغ الظنّ حدّ الاطمينان و سكون النفس الّذي قد يعبّر عنه في العرف بالعلم العادي ، فإنّ له ضابطاً يمكن إناطة الحجيّة به ؛ وذلك موقوف على حصول الاكتفاء به في الخروج عن عهدة التكاليف الشرعيّة ، فإن تمّ ذلك كانت الحجيّة منوطة بالوصف المذكور وإلّا عمّ الحكم لجميع الظنون .

والآخر : تقوّي الظنّ بالواقع بالظنّ بالحجيّة ، كما هو المقصود من الترجيح في المقام ؛ وذلك إنّما يصلح مرجّحاً للظنون المتساوية في القوّة والضعف ؛ وذلك مجرّد فرض لا تحقّق له ، لوضوح اختلاف الظنون بحسب القوّة ، فربّما يكون مشكوك الاعتبار ظنّاً قويّاً يعادل في القوّة مجموع الظّنين المفروضين بإدراك الواقع وبدله أو يزيد عليه ، فيرجع الترجيح بذلك أيضاً إلى تعيين القوّة المعتبرة الّتي لا يرجع إلى ضابط معلوم .

والجواب : أنّ الحاصل من المقدّمات المذكورة وإن كان حكم العقل بالاكتفاء بالظنّ دون كشفه عن الطريق المنصوب ، إلاّ أنّ الحكم بذلك ليس منوطاً بمجرّد الانكشاف الظنيّ حتّى يستوي نسبة الظنون بحسب أسبابها إليه ، وإنّما

ص: 297

المناط في ذلك دفع الضرورة الملجئة إلى العمل بالمظنّة مع ما تحقّق فيه من أصالة الحرمة ، ومن المعلوم أنّ الحكم المستند إلى الضرورة يتقدّر بقدرها ، فإذا اندفعت بالاقتصار على مظنون الاعتبار لم يجز في حكم العقل العمل بغيرها قطعاً ، فكلّ مرتبة سابقة من المراتب المذكورة قدر متيقن بالنسبة إلى ما بعدها ، وإن أمكن التأمّل في بعضها ، وذلك أنّ العمل بما بعدها يستلزم في حكم العقل العمل على ما قبلها من المراتب ولا عكس ، فاللازم حينئذٍ في حكم العقل الاقتصار على القدر المتيقنّ في دفع الضرورة ، فلا يجوز التعدّي عنه إلى غيرها .

ودعوى أنّ ما عدا مظنون الاعتبار قد يعادل في القوّة مجموع الظنّين المتعلّقين بالواقع وبدله ، فلا يكون أحدهما متيقّناً بالنسبة إلى الآخر ، فيلزم اشتراكهما في الحجّية ، نظراً إلى عدم الترجيح بينهما في نظر العقل ، ويتعدّى إذن إلى ساير الظنون ، لما ذكر من أنّ القوّة لا ترجع إلى ضابط معيّن مدفوعة بما يأتي - إن شاء اللَّه تعالى - من ثبوت الترجيح بذلك مع قطع النظر عن تقويّ أحد الظنّين بالآخر ، وبمنع لزوم التعدّي عنهما إلى ساير الظّنون ، لإمكان جعله معياراً للقوّة المقصودة ، وإن اختلف الظنّان أيضاً في القوّة والضعف ؛ ولإمكان إناطة الحكم إذن بوصف الاطمينان ، فتأمّل .

الثالث : إنّ الطريق المظنون حينئذٍ إنّما يعتبر حيث يكون ظنّاً بالواقع ، والمدّعى حجيّة الظنّ بالطريق ، سواء كان من جنس الظنّ بالواقع أو من غيره ، فلا يدلّ على المدّعى .

والجواب : أنّ المقصود من ذلك دفع القول بالظنّ المطلق ، لا إثبات حجّية مطلق الظنّ بالطريق ، على أنّ الظنّ بالطريق وإن لم يستلزم الظنّ بإدراك الواقع على ما هو عليه لكنّه يستلزم الظنّ بإدراك الواقع أو بدله المقرّر في حكم

ص: 298

الشارع ، ولا فرق بينهما في نظر العقل ؛ فما لا يفيد الظنّ بالواقع ممّا يظنّ حجيّته أرجح ممّا يفيد الظنّ بالواقع ممّا لا يظنّ حجّيته ، إذ لا يناط الترجيح بتقوّي أحد الظنّين بالآخر ، بل بملاحظة أنّ الأوّل يستلزم الظنّ بإدراك بدل الواقع أو سقوطه ، والثاني لا يقتضي ظنّاً بإدراك بدل الطريق أو سقوط التكليف به ، فلا تغفل .

على أنّ الواجب في حكم العقل امتثال الأحكام الفعليّة دون الواقعيّة الشأنيّة ، فينتقل من العلم بها إلى الظنّ ، وهو إنّما يحصل من الظنّ بالطريق دون الواقع ، فتأمّل .

على أنّه يمكن التمسّك في القول بحجيّة مطلق الطريق المظنون اعتباره - ظنّاً كان أو غيره - بعدم القول بالتفصيل ، فتأمل .

الرابع : « أنّه لا أمارة تفيد الظنّ بحجّية أمارةٍ خاصّة على الإطلاق ، فإنّ أكثر ما اُقيم على حجّية الأدلّة - من الأمارات الظنيّة المبحوث عنها - الخبر الصحيح ، ومعلوم عند المنصف أنّ شيئاً ممّا ذكروه لحجّيتها لا يوجب الظنّ بها على الإطلاق » ؛ كذا قيل(1) ، وهو كماترى .

الخامس : أنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ المجمل ، وسيأتي في كلام المصنّف رحمه الله .

كلام صاحب الهداية في لزوم الأخذ بمظنون الحجيّة

اشارة

قال قدس سره :

فإن قلت : إن اُقيم الدليل على حجّية الظنّ مطلقاً فقد ثبت ما يدّعيه الخصم ، وإن لم يقم عليه دليل فلا وجه للحكم بمقتضى الدليل الظنّي من البناء على الحجّية أو

ص: 299


1- القائل هو الشيخ الأعظم الانصاري ، اُنظر : فرائد الاُصول 1 / 477 .

نفيها ، فإنّه رجوع إلى الظنّ واتكال عليه ، وإن كان في مقام الترجيح والاتّكال عليه ممّا لا وجه له قبل قيام القاطع عليه ، بل نقول : إن لم يكن الدليل الظنّي القائم في المقام من الظنون المخصوصة لم يعقل الاتّكال عليه من المستدلّ ، إذ المختار عنده عدم حجّيته وأنّ وجوده كعدمه وإن كان من الظنون المخصوصة كان الاتّكال عليه في المقام دوريّاً .

قلت : ليس المقصود في المقام إثبات حجّية تلك الظنون بالأدلّة الظنيّة القائمة عليها ليكون الاتّكال في الحكم بحجّيتها على مجرّد الظنّ ، بل المثبت لحجّيتها هو الدليل العقلي المذكور .

والحاصل من تلك الأدلّة الظنيّة هو ترجيح بعض تلك الظنون على البعض فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكليّة ، بل يقتصر في مفاد المهملة المذكورة على تلك الجهة ، فالظنّ المفروض إنّما يبعث على صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون ، نظراً إلى حصول القوّة بالنسبة إليها لانضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ الحاصل منها بالواقع بخلاف غيرها حيث لا ظنّ بحجّيتها في نفسها ، فإذا قطع العقل بحجّية الظنّ بالقضيّة المهملة ثمّ وجد الحجّية متساوية النسبة بالنظر إلى الجميع فلا محالة يحكم بحجّية الكلّ حسبما مرّ ، وأمّا إن وجدها مختلفة وكان جملة منها أقرب إلى الحجّية من الباقي نظراً إلى الظنّ

ص: 300

بحجّيتها مثلاً دون الباقي فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك أو الموهوم ، والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الدليل الظنّي المفروض مثبتاً لحجّية تلك الظنون حتّى يكون ذلك اتّكالاً على الظنّ في ثبوت مظنونه ، وإنّما هو قاضٍ بقوّة جانب الحجّية في تلك الظنون فينصرف إليه ما قضى به الدليل المذكور من حجّية الظنّ في الجملة .

فإن قلت : إنّ صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك إن كان على سبيل اليقين تمّ ما ذكر ، وان كان ذلك أيضاً على سبيل الظنّ ، كان ذلك أيضاً اتّكالاً على الظنّ ، فإنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات ، والظاهر أنّه من القبيل الثاني لتقوّم الظنّ بقيام احتمال الخلاف ، فإذا فرض تحقّق ذلك الاحتمال كان الظنّ المذكور كعدمه فيتساوى الظنون المفروضة بحسب الواقع ، ولا يتحقّق ترجيح بينها حتّى ينصرف الدليل المذكور إلى الراجح منها .

والحاصل : أنّه لا قطع حينئذٍ بصرف الدليل المذكور إلى خصوص تلك الظنون من جهة ترجيحها على غيرها ، لاحتمال مخالفة الظنّ المفروض للواقع ومساواتها لغيرها من الظنون بحسب الواقع ، بل احتمال عدم حجّيتها بخصوصها فلا قطع بحجّيتها بالخصوص بوجهٍ من الوجوه حتّى يكون الاتّكال هنا على اليقين ، وغاية الأمر حصول

ص: 301

الظنّ بذلك ، فالمحذور على حاله .

قلت : الاتّكال في حجّية تلك الظنون ليس على الظنّ الدالّ على حجّيتها بحسب الواقع ولا على الظنّ بترجيح تلك الظنون على غيرها بعد إثبات حجّية الظنّ في الجملة ، بل التعويل فيها على القطع بترجيح تلك الظنون على غيرها عند دوران الحجّية بينها وبين غيرها .

وتوضيح ذلك : أن قضيّة الدليل القاطع المذكور هو حجّية الظنّ على سبيل الاهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجّية الجميع والبعض ، ثمّ الأمر في البعض يدور بين البعض المظنون وغيره ، والتفصيل وقضيّة حكم العقل في الدوران هنا بين حجّية الكلّ والبعض هو الاقتصار على البعض أخذاً بالمتيقّن ، ولذا قال علماء الميزان : « إنّ القضيّة المهملة في قوّة الجزئيّة »(1) .

وأعترف الجماعة : بأنّه لو قام الدليل القاطع على حجّية ظنون خاصّة كافيّة للاستنباط لم يصح التعدّي عنها في الحجّية إلى غيرها من الظنون ، وأنّه لايثبت بالقضيّة المهملة المذكورة ما يزيد عليها ، ولو لم يتعيّن البعض

ص: 302


1- شرح الشمسية / 74 ، الحاشية على التهذيب / 40 - 39، الإشارات والتبيهات [مع شرح الخواجه نصير الدين الطوسي والمحاكمات لقطب الدين الرازي] 1 / 203 ، المنطق / 136 ولمزيد البيان اُنظر : نهاية الدراية 1 / 667 ، مقالات الاُصول 1 / 139 ، إفاضة العوائد 324 ، زبدة الاصول [للسيد محمّد صادق الروحاني] 2 / 202 .

الخاصّ حجّة في المقام ودارت الحجّة بين سائر الأبعاض من غير تفاوت بينها في نظر العقل لزم الحكم بحجّية الكلّ ، لبطلان ترجيح البعض من غير مرجّح ، إلى آخر ما مرّ .

وأمّا لو كانت حجّية البعض ممّا فيه الكفاية مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي كان ذلك أقرب إلى الحجّية من غيره ممّا لم يقم على حجّيته كذلك دليل ، فتعيّن(1) عند العقل الأخذ به دون غيره ، فإنّ الرجحان حينئذٍ قطعيّ وجدانيّ ، والترجيح من جهته ليس ترجيحاً بمرجّح ظنّي بل قطعيّ وإن كان ظنّاً بحجّية تلك الظنون ، فإنّ كون المرجّح ظنّاً لا يقتضي كون الترجيح ظنيّاً ، وهو ظاهر .

والحاصل : أنّ العقل بعد حكمه بحجية الظنّ في الجملة ودوران الأمر عنده بين القول بحجّية خصوص ما قام الدليل الظنّي على حجّيته من الظنون والبناء على حجّية ذلك وغيره ممّا لم يقم دليل على حجّيته من سائر الظنون لا يحكم إلّا بحجّية الأوّل ، لترجيحه على غيره في نظر العقل قطعاً ، فلا يحكم بحجّية الجميع من غير قيام دليل على العموم [ج 3 : ص 365 - 363] .

مناقشة الشيخ الأعظم في ما أفاده صاحب الهداية

أقول : قيل عليه(2) : إنّ مقدّمات [دليل] الانسداد ، إمّا أن تجعل كاشفةً عن

ص: 303


1- ولكن في المطبوعة الحديثة « فيتعيّن » .
2- القائل الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره .

كون الظنّ في الجملة حجّةً علينا بحكم الشّارع ، كما يشعر به قوله : كان بعض الظنون اقرب إلى الحجيّة من الباقي . وإمّا أن تجعل منشأ الحكم العقل بتعيين إطاعة اللَّه سبحانه حين الإنسداد على وجه الظنّ ، كما يشعر به قوله : نظراً إلى حصول القوّة لتلك الجملة لانضمام الظنّ بحجيّتها إلى الظنّ بالواقع .

فعلى الأوّل ، إذا كان الظنّ المذكور مردّداً بين الكلّ والبعض اقتصر على البعض ، كما ذكره ؛ لأنّه المتيقّن . وأمّا إذا تردّد ذلك البعض بين الأبعاض ، فالمعيّن لأحد المحتملين أو المحتملات لا يكون إلاّ بما يقطع بحجيّته ، كما أنّه إذا احتمل في الواقعة الوجوب والحرمة لا يمكن ترجيح أحدهما بمجرّد الظنّ به إلاّ بعد إثبات حجّية ذلك الظنّ .

بل التحقيق أنّ المرجّح لأحد الدليلين عند التعارض - كالمعيّن لأحد الاحتمالين - يتوقّف على القطع باعتباره عقلاً أو نقلاً ، وإلّا فأصالة عدم اعتبار الظنّ لا فرق في مجراها بين جعله دليلاً أو جعله مرجّحاً هذا ، مع أنّ الظنّ المفروض إنّما قام على حجيّة بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على التعيين الثابت حجّيته بدليل الإنسداد ، فتأمل .

وأمّا على الثاني ، فالعقل إنّما يحكم بوجوب الإطاعة على الوجه الأقرب إلى الواقع ، فإذا فرضنا أنّ مشكوك الاعتبار يحصل منه ظنّ بالواقع أقوى ممّا يحصل من الظنّ المظنون الاعتبار ، كان الأوّل أولى بالحجيّة في نظر العقل ؛ ولذا قال صاحب المعالم قدس سره : انّ العقل قاض بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعددّة يتفاوت بالقوة والضّعف فالعدول عن القوّى منها إلى الضّعيف قبيح(1) ، انتهى .

ص: 304


1- اي انتهى كلام صاحب المعالم قدس سره ، راجع المعالم / 193 - 192 .

نعم ، لو كان قيام الظنّ على حجّية بعضها دون بعض ممّا يوجب قوّتها في نظر العقل - لأنّها جامعة لإدراك الواقع أو بدله على سبيل الظنّ بخلافه - رجع الترجيح به إلى ما ذكرنا سابقاً ، وذكرنا ما فيه .

ردّ مناقشة الشيخ الأعظم

وحاصل الكلام يرجع إلى أنّ الظنّ بالاعتبار إنّما يكون صارفاً للقضيّة إلى ما قام عليه من الظنون إذا حصل القطع بحجيّته في تعيين الاحتملات ، أو صار موجباً لكون الإطاعة بمقتضاها أتمّ ؛ لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل . والأوّل موقوف على حجّية مطلق الظن . والثّاني لا إطرّاد له ، لأنّه قد تعارضها قوّة المشكوك الاعتبار » ، انتهى(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ الاحتمال الأوّل وهو كشف العقل عن المجعول الشرعي ممّا لا إشارة إليه في كلام المصنّف - طاب ثراه - وليس في قوله : « كان بعض الظّنون أقرب إلى الحجّية من الباقي » إشعار بذلك ، وإنّما غرضه قدس سره كون العقل كاشفاً عن الطريق المرضيّ عند الشارع بالنسبة إلى حال المكلّف على حسب ما هو عليه ، من غير فرق في نظر العقل بين الطريق الشرعي والعقلي والعادي ، لاشتراكها فيما هو المقصود من تحصيل البرائة .

وثانياً : أنّ الحال في ذلك على تقدير الحكومة - بل وعلى تقدير تسليم الطريق المجعول أيضاً - يرجع إلى دوران الحجّة بين الكلّ والبعض ، لأنّ نصب الظنّ المشكوك اعتباره من حيث هو كذلك يستلزم نصب الظنون ولا عكس ، وإنّما اعتبرنا في ذلك قيد الحيثيّة لإمكان نصب المشكوك من حيث نفسه دون المظنون ، لكن ذلك لا يجدي في مقام عمل المكلّف في تلك الحال ، إذ ليس

ص: 305


1- الفرائد 1 / 481 - 479 .

الحاصل عنده حينئذٍ إلاّ المشكوك والمظنون من حيث هما كذلك ، فلا يمكن نصب الأوّل للمكلّف على الحال الّتي هو عليها دون الثّاني مع إمكان العكس ، فتأمّل .

وثالثاً : أنّه لو سلّم دوران الحجّة بين المتباينين فيمكن إجراء الدليل في تعيين الحجّة منها نظراً إلى بقاء التكليف به وانسداد باب العلم إليه ، فبعد إبطال الأصلين البرائة والاحتياط يتعيّن الرجوع في ذلك إلى الظنّ ، فيكون المرجّح إذن من المعلوم دون المظنون ، وقد تقدّم نظير ذلك بما فيه من الإيراد والجواب .

ورابعاً : أنّ ما ذكر من أنّ المرجّح لأحد الدليلين على الآخر يتوقّف على القطع باعتباره إن اُريد توقّفه على العلم بحجّيته في نفسه فممنوع ، وإن اُريد العلم باعتباره في مقام الترجيح فهو حاصل بالظنّ ، لحصول الرجحان الّذي هو المناط في تقديم أحد الديلين بذلك ، على ما تقرّر في محلّه ، لكنّ المقام ليس من باب تعارض الديلين ، بل من باب دوران الحجّة بين الاحتمالين ، بل ليس من باب التعارض أصلاً ، إنّما هو من باب الاقتصار في مقام الضرورة على أقلّ ما تندفع به ، بل من باب دوران الحجّة بين الكلّ والبعض المعيّن بما يخصّه من المرجّح الظنّي أو الاحتمالي .

وخامساً : أنّ ما ذكر من توقّف الترجيح على القطع باعتبار المرجّح يمكن تسليمه في المقام بدعوى كون الظنّ القائم على جحّية بعض الظنون من المتيقّن اعتباره بعد الانسداد ، كما إذا قام فرد متيقّن اعتباره حينئذٍ من الأخبار الصحيحة على حجّية بعض ما دونه ، فيكون متيقن الاعتبار دون غيره ، ويلحق به حينئذٍ ما كان متيقّناً بالإضافة إليه .

وسادساً : أنّ ما ذكر من حكم العقل بوجوب الإطاعة على الوجه الأقرب

ص: 306

إلى الواقع ممنوع ، كما مرّ بيانه في المقدمّة الرابعة ، إنّما يحكم العقل بذلك على الوجه الأقرب إلى البرائة ، وذلك أنّ العلم بالاشتغال يقتضي تحصيل اليقين بالبرائة مع إمكانه ، ثمّ الظنّ بها مع تعذّره ، وإن رجع إلى اليقين أيضاً بعد ملاحظة حكم العقل به ؛ ولا شك أنّ مشكوك الاعتبار وإن أفاد الظنّ الأقوى بالواقع لكنّ البرائة معه مشكوكة ، فلا يحكم العقل به في مقابلة مظنون الاعتبار إلاّ مع تعذّره أو عدم حصول الاكتفاء به .

وكلام صاحب المعالم يشعر بتقديم الأقوى عند المعارضة ، ويدلّ على قبح ترك الأقوى واختيار الأضعف من حيث هما كذلك ؛ وهما خارجان عن محلّ الكلام .

وسابعاً : أنّ قوّة الظنّ المشكوك ممّا لايناط به الحجيّة ، لما عرفت من عدم رجوعه إلى ضابط معيّن ، بخلاف انضمام الظنّ بالاعتبار إلى الظنّ بالواقع ، فإنّ له معياراً معلوماً لامانع من إناطة الحجيّة به ، فقوّة المشكوك لا تصلح لمعارضة ذلك .

مناقشة اُخرى في ما أفاده صاحب الهداية وردّه

والحاصل : أنّ ما ذكر من توقّف صرف القضيّة إلى المظنون على حجّية الظنّ في ذلك أو قوّته وإن كان ممّا يمكن التزامه في المقام بكلا وجهيه ، لكنّ المختار في هذا الباب ما مرّ غير مرّة من لزوم الانتقال عن القطع بالبرائة إلى الظنّ بها الحاصل من أحد الأسباب الّتي يظنّ باعتبارها شرعاً في حقّ المكلّف على حسب ما هو عليه ، إلّا أنّ ذلك أمر آخر غير ما بنى عليه الاحتجاج المذكور .

وقد يجاب أيضاً تارة : بأنّ ما ذكر من أنّ المرجّح يتوقّف على القطع باعتباره يمكن الالتزام به في المقام إلزاماً على الخصم بأن يقال : لو كان مطلق الظنّ حجّة لكان تعيين الحجّة من الظنون به تعييناً بالحجّة المعلومة ، فلا يرجع

ص: 307

إلى غيره .

وهو وهم ٌ لمناقضة الفرض المذكور لمّا فرّع عليه ، وإنّما المعتبر القطع باعتبار المرجّح في مقام الترجيح ، سواء كان حجّة في حدّ ذاته أو لم يكن ، بل فرض كونه حجّة في نفسه لا يستلزم حجّيته في مقام الترجيح ، فلا يستفاد من فرض حجّية الظنّ صحّة الترجيح به ، لشمول دليل الحجيّة له ولغيره على حدّ سواء ، فيقال : إن كان مطلق الظنّ حجّة لم يتصوّر الترجيح بين أفراده وإلاّ لم يمكن الترجيح بغير الحجّة .

نعم ، يمكن التمسّك بالظنّ على فرض حجيّته في المنع عن بعض الظنون ، كما يأتي تفصيل القول فيه إن شاء اللَّه تعالى في كلام المصنّف - طاب ثراه - .

واُخرى : بالفرق بين المرجّح والدليل ، إذ الأوّل إنّما يراد به في مقام الميل إلى أحد الطرفين وسكون النّفس إليه لئلّا يكون بغير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوباً .

مناقشة ثالثة في ما أفاده صاحب الهداية وردّه

والثّاني إنّما يجب حصوله في مقام التصديق بمقتضاه والحكم على حسبه ، وهو أمر آخر وراء ما هو المقصود من مجرّد الترجيح ، فليس المراد أنّه يجب العمل بالظنّ المظنون حجيّته بعد الانسداد ، بل المراد أنّه بعد ما وجب على المكلّف العمل بالظنّ ولم يعلم أيّ ظنّ هو إن عمل بالظنّ المظنون حجّيته لم يكن ترجيحاً بلا مرجّح ، فأيّ مانع من القول به ؟

وفيه : أنّه ليس الكلام في المرجّح للفعل ، بل المطلوب المرجّح للحكم بأنّ الشّارع أوجب بعد الانسداد العمل بهذا الظنّ دون غيره ، فلا يكون ذلك إلّا الدليل الملزم في حكم العقل المعيّن لذلك ، ونحن قد بينّا الوجه في إثبات الترجيح به .

وقد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ الوجه الثّابت في الترجيح بما ذكر أحد اُمور

ص: 308

ستّة ؛

الأوّل : أنّ مظنون الاعتبار هو القدر المتيقّن ، للقطع بأنّ الشّارع إذا جاز العمل بمشكوك الاعتبار من حيث هو كذلك لزمه جواز العمل بمظنون الاعتبار كذلك ، بخلاف العكس ، فيجب الاقتصار في دفع الضّرورة على أقلّ ما تندفع به ، وهذا يرجع إلى الوجه الخامس من الاقتصار على القدر المتيقّن ، وكذا الحال في ساير المراتب السّابقة ، إلّا أن يقال : انّ الوجه الآتي لا يبتني على ملاحظة الخصوصيّة المفروضة وهى طريق مخصوص في معرفة القدر المتيقّن .

الثّاني : أنّ مظنون الاعتبار يقتضي الظنّ بالبرائة ، بخلاف المشكوك والموهوم ، واللازم في حكم العقل بعد العلم بالاشتغال وتعذّر العلم بالبرائة الظنّ بها ، فيرجع الترجيح بذلك إلى الوجه الأوّل .

الثالث : أنّه بعد إثبات حجّية الظنّ في الجملة وتعذّر العلم بتعيينه وبقاء التكليف بالعمل به يتعيّن الرجوع في تعيين الحجّة منه إلى الظنّ في المسألة الاُصوليّة ، وهذا رجوع إلى الوجه الثاني .

الرابع : أنّ مظنون الاعتبار من حيث تعاضد أحد الظنّين بالآخر أقوى من غيره ، فيقدّم عليه للعلم برجحانه حينئذٍ .

الخامس : أنّ العقل قاضٍ بالترجيح بذلك على الإجمال وإن لم يتعيّن وجهه ، أو يقال : إنّ الوجه فيه حصول الظنّ بالبرائة في مظنون الاعتبار دون غيره ، وهذه جهة اُخرى غير ما مرّ في الوجه الأوّل ، فإنّ المقصود في المقام مجرد الترجيح ، وهو حاصل بما ذكر ، والمقصود في الوجه الأوّل تعيّن العمل بما يفيد الظنّ بالبرائة أوّلاً وبالذات ، لا من حيث الترجيح بذلك بين الظنون ، وإذا اختلفت الحيثية والجهة لم يرجع ذلك إلى الوجه الأوّل .

ص: 309

السادس : أن يكون الظنّ بالحجيّة حاصلاً من الطريق المعلوم اعتباره ولو في حال الانسداد بخصوصه ، فإذا حصل الاكتفاء بمورده امتنع التعّدي إلى الظنّ المطلق وهو ظاهر .

بقي في المقام إيراد آخر بل هناك وجهان آخران

بقى في المقام إيراد آخر ، وهو أنّ طريق التعميم عند القوم لا ينحصر في إبطال الترجيح من غير مرجّح حتّى يرد عليه ما ذكر ، بل هناك وجهان آخران ؛

أحدهما : أنّ ما يظنّ باعتباره من الظنون المطلقة لا يكفى في استنباط الأحكام الشرعيّة ، إمّا لانحصارها في الأخبار المصحّحة بتزكية العدلين ، وإمّا للعلم الإجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني المقصودة منها ، نظراً إلى كثرة معارضتها بالظنون الّتي يشكّ في اعتبارها ، فيكون الحال فيها على حسب ما هو الحال في ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة في عدم جوازالعمل بها مع العلم الإجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للواقع ، وعدم وفاء القدر المتيقّن منها بمعظم الأحكام ، فيمتنع الرجوع إلى الاُصول فيما عدا ذلك ، ويتعيّن العمل بمشكوك الاعتبار فيما يكون مخصّصاً لعمومات مظنون الاعتبار ومقيّداً لمطلقاته وقرينة لمجازاته ، فيلزم العمل بسائره ممّا لا يعارض مظنون الاعتبار ، لعدم القول بالفصل بل الأولويّة القطعيّة .

ثمّ إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالاً بعدم إرادة المعاني الظاهرة منها أيضاً ، لكثرة ما يعارضها من الظنون الموهومة الاعتبار ، فيتعيّن العمل بما يعارضها من ذلك ثمّ يسري الحكم إلى ما يسلم عن معارضتها بالوجهين المذكورين .

الثّاني : أنّه بعد ما ثبت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، فإن كان هناك قدر متيقنّ كافٍ في استنباط الفروع لم يجز التّعدي عنه ؛ أمّا إذا دار

ص: 310

الأمر فيه بين اُمور متباينة فمقتضى قاعدة الاشتغال بعد القطع بالمحمل المذكور الجمع بينها بالعمل بكلّ ظنّ حتّى يحصل العلم بالبرائة عن التكليف به ، والحال في المقام كذلك ، لعدم وفاء القدر المتيقّن بمعظم الأحكام .

نقد المؤلف على الوجهين

ولا يذهب عليك وهن كلّ من الوجهين المذكورين .

أمّا الأوّل : فلأنّا ندّعي قيام الأدلّة القاطعة على اعتبار الظنون المخصوصة ممّا يقوم به الكفاية ، وما أبعد هذه الدعوى عن دعوى عدم قيام الأدلّة الظنيّة أيضاً ، فنقول : إذا فرضنا عدم حصول القطع من تلك الأدلّة بذلك فلا أقلّ من حصول الظنّ ، ولو فرضنا عدم الاكتفاء بذلك أيضاً فلا وجه للعدول عن مشكوك الاعتبار على الترتيب المتقدّم في حدّ تقريب الدليل ، فإنّها مراتب متكثّرة لا ينتقل إلى اللاحقة منها إلّا بعد تعذّر السابقة .

ودعوى العلم الإجمالي بمخالفة جملة من ظواهر ما في المرتبة السابقة للواقع بمعارضة المرتبة اللاحقة ممنوعة ، وعلى فرض تسليمها فكونها من قبيل المشتبه بالمحصور ممنوع ، ولو سلّم فلا يجري في جميع تلك المراتب المترتّبة .

وأمّا الثّاني : فلأنّ الاحتياط بالعمل بكلّ ظنّ إن وافق الاحتياط في المسألة الفرعيّة رجع إليه ، وإلّا قدّم الثاني عليه ، وقد قرّر فساد الالتزام به في دليل الانسداد .

بيان الوجه الثالث للمؤلف

نعم ، في المقام وجه ثالث لتعميم الحكم المذكور ، وحاصله : أنّ الثابت أوّلاً وبالذات بعد إثبات بقاء التكليف بمعظم الأحكام وانسداد باب العلم إليها هو لزوم الاحتياط المفيد للعلم الإجمالي بامتثالها في جميع المشتبهات ، وإنّما يسقط ذلك بتعذّره أو لزوم العسر والحرج بالالتزام به ؛ فإن تعيّن مورد التعذّر أو الحرج اختّص السقوط به وجرى الاحتياط في ساير المقامات ؛ وإن ترّدد بين

ص: 311

جميع المقامات فإن تساوت النسبة إليها لزم الحكم بسقوط التّكليف به في جميعها ، لامتناع التعيين بغير مرجّح وبطلان التّخيير ، وإلّا فاللازم هو الحكم بسقوط الاحتياط في الاحتمالات الموهومة بالنظر إلى الواقع والطريق معاً ، ثمّ الموهومة بالنظر إلى أحدهما خاصّة ، فإن بقي الحرج أيضاً لزم الحكم بسقوطه في المشكوكة بالنظر إلى الأمرين جميعاً ،

فإذا ظنّ بالواقع أو الطريق لزم الاحتياط بالعمل به ، ثمّ يلاحظ الظنّ بحسب مراتبه المتقدّمة ، فالحكم في ذلك على عكس الوجه السّابق ، إذ على الوجه السابق إنّما يلاحظ في العمل بالظنّ القدر المتيقّن من الأقوى فالأقوى .

وعلى هذا الوجه إنّما يلاحظ في ترك العمل بالظنّ القدر المتيقنّ من الأضعف فالأضعف ، لبناء الأوّل على الحجيّة والأصل عدمها ، فيقتصر على الأقلّ ، والثّاني على مراعات الاحتياط الموافق للأصل ، فيقتصر في الحكم بسقوطه على المتيقّن ، وذلك أنّ ما دلّ على عدم وجوب الاحتياط إنّما يدلّ على سلب الموجبة الكلّيّة ، فلا يقتضي السالبة الكلّية ، فيكون العمل بالظنّ مبنيّاً على مراعات الاحتياط بالقدر الميسور ، للقطع بعدم لزوم الحرج بالاحتياط فيه ، فلا يحتاج في تعميم الحكم فيه إلى دليل آخر ، لموافقته إذن للأصل والقاعدة .

فيجب تعميم الحكم لمشكوك الاعتبار وموهومه ، وللقدر المتيقنّ وغيره ، وللظنّ القوّى والضعيف ، إلى غير ذلك من أقسام الظّنون ، لتيسّر مراعات الاحتياط في جميع مواردها ، سواء تعلّق الظنّ بالواقع أو بالطريق أو بهما معاً ، إلاّ أنّ ذلك خلاف مقصود القائل بحجّية مطلق الظنّ ، وإن كان ذلك غاية ما يفيده الدليل الّذي أقامه عليه ، فهو أيضاً وجه من وجوه فساده ، واعتراض يتوجّه عليه ، كما سيجي ء تفصيل القول فيه إن شاء اللَّه تعالى .

ص: 312

وذلك أنّ العامل بالظنّ يجعله حجّة شرعيّة في مقام القضاء والإفتاء والتصرف في الأموال والنفوس والفروج والدماء ، ونقض ما لا يجوز نقضه إلاّ بحجّة ، ورفع ما يحرم رفعه من غير دليل ، وإثبات ما لا يمكن إثباته إلاّ ببرهان ؛ وأين ذلك من الاحتياط الّذي لا تأثير له في شي ء من المذكورات ؟ فتوهّم رجوع ذلك إلى القول بحجّية الظنّ وهم فاحش ، فلا تغفل .

الوجوه المتصوّره في تعميم الحكم بالحجيّة لجميع الظنون ستّة

وقد تلّخص من جميع ما مرّ أنّ الوجوه المتصوّرة في تعميم الحكم بالحجّية لجميع الظنون اُمور ستة ؛

منها : إجراء الدليل في كلّ مسألة بانفرادها ؛ ومن المعلوم أنّ الحاصل في كلّ مسألة بانفرادها ليس إلاّ ظنّ واحد لا تكثّر فيه حتّى يحتاج إلى التعميم .

ومنها : عدم حصول الكفاية بالعمل ببعض الظنون دون بعض .

ومنها : توقّف العمل بالحجّة المردّدة بين الظنون على العمل بجميعها .

ومنها : توقّف البرائة الظنيّة عن التكاليف المعلومة على الإجمال اللازمة بعد تعذّر القطعيّة على العمل بمطلق المظنّة .

ومنها : أنّ العقل في ذلك حاكم باعتبار الظنّ ، فلا يقبل الإهمال ، لا كاشفٌ عن المجعول الشرعي على سبيل الإجمال .

ومنها : بطلان الترجيح بلا مرجّح .

وإذا بطل التعميم بالخمسة الأُولى توقّف على نفي المرجّح ، فمتى حصل المرجّح بأحد الوجوه الستّة السابقة امتنع التعميم ، وذلك ما أردناه .

قال قدس سره :

الوجه الرابع من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة

اشارة

الرابع : إنّه بعد قضاء المقدمّات الثلاث بحجّية الظن على سبيل الإهمال وإن اكتفينا بالمرجّح الظنّي كما مرّ في

ص: 313

الوجه السابق كان ما دلّ على حجّية الدليل الظنّي هو المتتبّع دون غيره حسب ما قرّر في الوجه المتقدّم .

وإن سلّمنا عدم العبرة به وتساوت الظنون حينئذٍ بالملاحظة المذكورة بالنسبة إلى الحجّية وعدمها فاللازم حينئذٍ حجّية الجميع إلّا ما قام الدليل المعتبر على عدمه ، ومن الدليل المعتبر حينئذٍ هو الدليل الظنّي ، لقيامه مقام العلم ، فإذا قضى الدليل الظنّي بكون الحجّة هي الظنون الخاصّة دون غيرها تعيّن الأخذ بها دون ما سواها ، فإنّه بمنزلة الدّليل القاطع الدالّ عليه كذلك [ج 3 ص 365] .

الإيرادات الواردة عليه

أقول : قد يورد على الاحتجاج المذكور بوجوه ؛

الأوّل : أنّ غاية ما يفيده الدليل الظنّي القائم على حجيّة الظنون الخاصّة دون غيرها نصب الشارع للظنون الخاصّة حجّةً في معرفة الأحكام ، دون غيرها من الظنون المطلقه ؛ فمقتضي ذلك عدم كون الظنّ المطلق طريقاً منصوباً في ذلك ؛ وهو ممّا لا ينكره القائلون بالظنّ المطلق ، فإنّهم لم يزعموا أنّ ذلك حكم مجعول من الشارع في زمان الانسداد ، وإنّما زعموا أنّ عدم حصول الكفاية بالطرق المنصوبة يقتضي في حكم العقل العمل بمطلق المظنة ، وهذا تسليم منهم لعدم كونه من الطرق المنصوبة ،

وكذلك الشهرة المنعقدة على عدم حجّية الشهرة وغيرها إنّما دلّت على عدم قيام الدليل على اعتبارها ، وبقائها تحت الأصل .

والاحتجاج المذكور مبنّي على الظنّ بتحريم العمل به ونهي الشارع عنه بخصوصه حتّى يجري ذلك مجرى القياس والاستحسان في خروجه عن

ص: 314

موضوع الحكم المذكور المسطور .

والجواب عنه من وجهين ؛

أحدهما : أنّ الدليل الظنّي المذكور إذا دلّ على أنّ حكم المكلّف في زمان الانسداد هو العمل بالظنون الخاصّة دون غيرها فقد دلّ على نهي الشارع عن التجاوز عنها والعمل بغيرها .

والآخر : أنّ الدليل الظنّي قائم على تحريم العمل بمطلق الظنّ من حيث هو ، على نحو القياس وغيره ، فإنّه المستفاد من الأخبار الكثيرة ، بل أكثر الأدلّة الناهية عن القياس وشبهه مبنيّة على عدم جواز الاكتفاء بمطلق الظنّ في الشريعة ، وشاملة لزمانى الانفتاح والانسداد ، بل قد عرفت دعوى إفادتها للقطع بذلك ، فلا أقلّ من حصول الظنّ به .

الثّاني : أنّ ذلك لو تمّ فإنّما يتمّ لو كان الظنّ المانع من غير جنس الظنّ الممنوع ، كأن يحصل الظنّ من الأخبار بالمنع من الظنّ الحاصل من الأولوية وشبهها .

أمّا لو كانا معاً من جنس أمارة واحدة ، كأن يقوم الشهرة مثلاً على المنع من العمل بالشهرة ، أو كانا معاً من جنس الظنّ المطلق ، فلا معنى للعمل ببعض أفراده دون بعض ، فكيف يعمل به في المسألة الاُصوليّة دون الفرعية ؟ وهل هو إلاّ تفكيك بين المتساويين في الحكم ؟ وهو باطل .

الثالث : أنّه على التقدير المذكور يلزم من حجّية الظنّ المانع عدم حجّيته ، ومن عدم حجّيته حجّيته ، لتعلّق الظنّ المانع بالمنع عن نوع الظنّ الممنوع ، والمفروض أنّه من أفراده ، وهو محال ؛ فإذا امتنع شمول الحجيّة للظنّ المانع لمعارضته للدليل القاطع عاد الظنّ الممنوع سليماً عن المانع .

ص: 315

والجواب عن الوجهين أيضاً من وجهين ؛

أحدهما : أنّ الظنّ المانع من مطلق الظنّ من جنس الظنون الخاصّة ، لحصوله من الكتاب والسنّة وعمل الطائفة ، فإذا تعلّق بلزوم قصر العمل على الظنون المخصوصة والمنع من التعدّي عنها إلى الظنون المطلقة لزم العمل عليه ، ولم يلزم من ذلك شي ء من المحذورين .

والآخر : أنّ الممتنع حينئذٍ شمول الحجّية للظنّ الممنوع ، لأنّه الّذي يلزم من حجّيته عدمها ، وما يلزم من وجوده عدمه باطل ، فيختصّ الحجيّة بالظنون المخصوصة الّتي لا يترتّب عليها المحذور المذكور ، وذلك أنّ الحجّة إذن هو الظنّ بالبرائة ، ولا ظنّ بالبرائة من الظنّ المدفوع بنفسه .

لكنّ الوجه المذكور خارج عن مقصود المصنّف - طاب ثراه - لأنّه عدّ الظنّ المانع دليلاً معتبراً على تحريم العمل بالممنوع .

ومحصّل الوجه المذكور خروج المانع والممنوع جميعاً عن الحجّية نظراً إلى لزوم المحذور المذكور لإشتماله على التناقض ، ولزوم التفكيك بين المتساويين ، والترجيح من غير مرجّح من الإقتصار على أحدهما ، ومقصود المصنّف - طاب ثراه - لا يبتني على ذلك ، فالصواب بنائه على الوجه الأوّل .

وأمّا الوجه الثاني ، فهو المقصود من قولنا : « لو كان الظنّ المطلق حجّة لاقتضى عدم كونه حجّة » ونظيره قولهم : « لو كانت الشهرة حجّة لدلّت على أنّها ليست بحجّة ، ولو كان ظاهر الكتاب حجّة لدلّ على عدم كونه حجّة ، ولو كان خبر الواحد حجّة لدلّ على أنّه ليس بحجّة » إذ ليس المقصود من تلك العبارات الاستدلال بها على نفي حجّيتها ، فإنّه غير معقول ، بل المقصود التنبيه على امتناع هذا الحكم الكلّي ، وبطلان التفرقة بين أفراده المتساوية وترجيح بعضها على

ص: 316

بعض من غير مرجّح ؛ وإلّا فلو فرضنا قيام الدليل على حجّية الممنوع امتنع بقاء الظنّ بخلافها .

نقل إيراد الشيخ الأعظم وهو رابع الإيرادات

الرابع : « إنّ الظنّ بعدم حجيّة الأمارة الممنوعة لا يجوز أن يكون من باب الطريقته ، بل لابدّ أن يكون من جهة اشتمال الظنّ الممنوع على مفسدةٍ غالبةٍ على مصلحة إدراك الواقع ؛ وحينئذٍ ، فاذا ظنّ بعدم اعتبار ظنٍّ فقد ظنّ بإدراك الواقع ، لكن مع الظنّ بترتّب مفسدةٍ غالبة ، فيدور الأمر بين المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة ، فلابدّ من الرجوع إلى الأقوى .

فإذا ظنّ بالشهرة نهي الشارع على العمل بالأولويّة ، فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلّ أولويّةً في المسألة أفادت ظنّاً أقوى من الظنّ الحاصل بالشهرة المفروضة يؤخذ بها ، وإن كان الظنّ الحاصل منها أضعف وجب طرحه ، ومع تساويهما في القوّة يحكم بتساقطهما ، لعدم استقلال العقل بشي ء منهما حينئذٍ » .

كذا قيل(1) ، وحينئذٍ فيكون ذلك معنى الرجوع إلى أقوى الظنّين المفروضين .

والجواب عنه أيضاً من وجهين ؛

أحدهما : أنّه لا مانع أن يكون المنع المظنون عن الظنّ المفروض ملحوظاً من باب الطريق ، كما هو الظاهر من الطريق ، كيف والمنع عن ذلك من الجهة المذكورة يقتضي كونه في عرض الواقع ؟ لأنّه يستلزم تقييد الواقع به ، ولا يخفي ما فيه .

غاية الأمر أن يقال في توجيه ذلك بعدم حصول الاصابة الغالبة الّتي هي

ص: 317


1- القائل هو الشيخ الاعظم الأنصاري ، اُنظر : الفرائد 1 : 536 .

المناط في حكم العقل بحجيّة الظنّ في الظنّ المفروض في علم اللَّه سبحانه ، فيبقى ساير الظنون على ظاهرها من غلبة الإصابة ، راجحة على الظنّ المفروض في حكم العقل .

والآخر : أنّا لو سلّمنا إناطة المنع من ذلك بترتّب المفسدة على العمل به ، فلا شكّ أنّ مصلحة إدراك الواقع حينئذٍ غير مطلوبة للأمر ، فحاصل الظنّين الظنّ بوجود مصلحة غير مطلوبة للأمر ، متضمّنة لمفسدة غالبة عليه ، ولا شكّ أنّ العقل لا يحكم بحجيّة مثل ذلك ، سيّما في مقابلة ساير الظنون الّتي لا تكون بتلك المثابة ، بل لا شبهة في رجحانها على ذلك في نظر العقل ، وإن كان الظنّ الممنوع في غاية القوّة والمانع في غاية الضعف فلامعنى ، لترجيح أحدهما على الآخر بالقوّة والضعف .

نقل إيراد آخر للشيخ الأعظم وهو خامس الإيرادات ونقده

الخامس : « أنّ الظنّ المانع إنّما يكون - على فرض اعتباره - دليلاً على عدم إعتبار الممنوع ، لأنّ الإمتثال الممنوع حينئذٍ مقطوع العدم ، وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع .

مثلاً إذا فرض صيرورة الأولويّة مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد لم يعقل بقاء الشهرة المانعة عنها على إفادة الظنّ بالمنع .

ودعوى أنّ بقاء الظنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليل على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجيّة الأولويّة وإلّا لارتفع الظنّ بعدم حجّيتها ، فيكشف ذلك عن دخول الظنّ المانع تحت دليل الانسداد معارضة بأنّا لا نجد من أنفسنا القطع بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطريق الممنوع ، فلو كان الظنّ المانع داخلاً لحصل القطع بذلك .

وحلّ ذلك أنّ الظنّ بعدم اعتبار الممنوع إنّما هو مع قطع النظر عن ملاحظة

ص: 318

دليل الإنسداد ، ولا نسلّم بقاء الظنّ بعد ملاحظته .

ثمّ إنّ الدليل العقليّ يفيد القطع بثبوت الحكم بالنّسبة إلى جميع أفراد موضوعه ، فإذا تنافى دخول فردين فإمّا أن يكشف عن فساد الدليل ، وإمّا أن يجب طرحهما - لعدم حصول القطع من ذلك الدليل العقليّ بشى ء منهما - ، وإمّا أن يحصل القطع [أو الظنّ(1)] بدخول أحدهما فيقطع [أو يظن(2)] بخروج الآخر ، فلا معنى للتردّد بينهما وحكومة أحدهما على الآخر ، فلا يكون ذلك من قبيل تعارض الاستصحاب الوارد - كاستصحاب طهارة الماء - على المورود - كاستصحاب نجاسة الثوب المغسول به - لأنّ مرجع تقديم الاستصحاب الأوّل على الثاني إلى تقديم التخصّص على التخصيص ، لكون أحدهما دليلاً رافعاً لليقين السابق بخلاف الآخر ، فالعمل بالأوّل تخصّص وبالثاني تخصيص ، ومرجعه إلى وجوب العمل بالعام تعبّداً إلى أن يحصل الدليل على التخصيص .

إلاّ أن يقال : إنّ القطع بحجّية المانع عين القطع بعدم حجّية الممنوع ، لأنّ معنى حجّية ، كلّ شي ء وجوب الأخذ بمؤدّاه ، لكنّ القطع بحجّية الممنوع - الّتي هي نقيض مؤدّى المانع - مستلزم للقطع بعدم حجيّة المانع ، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع ، وإنّما هو عين خروجه ، فلا ترجيح ولا تخصيص ، بخلاف دخول الممنوع ، فإنّه يستلزم خروج المانع فيصير ترجيحاً من غير مرجّح » .

كذا أفاده بعض مشايخنا المحقّقين(3) وهو إن بالغ في التدقيق والتنقير إلّا

ص: 319


1- ما بين المعقوفتين ليست في المصدر المطبوع .
2- ما بين المعقوفتين ليست في المصدر المطبوع .
3- هو الشيخ الأعظم الأنصارى في الفرائد 1 / 536 - 534 .

أنه بالإعراض عنه جدير .

أمّا أوّلاً ، فلأنّ بقاء الظنّ بمنع الشارع عن بعض الظنون لا ينافي القطع بحجّيته في زمان الانسداد على حسب ما ذكروه ، كما لاينافي القطع بعدم حجيّته على حسب ما ذكرناه ؛ وكما أنّ اندراج الظنّ المانع تحت دليل الانسداد حتّى حصل القطع بحجّيّته لا يوجب خروجه عن موضوع الظنّ وتبدّله بالقطع ، لوضوح أنّ الظنّ بالحكم الشرعي لا يستلزم الظنّ ، بحجيّة ذلك الظنّ لإمكان اجتماعه مع الوجوه الخمسة المتصوّرة .

نعم ، الظنّ بالمنع الفعلي الملحوظ على حسب حال المكلّف ينافي ذلك ، إلّا أنّ الكلام في تشخيص ما يجب البناء عليه من الظنّين المفروضين إنّما هو كلامٌ في هذا المعنى ، فهو عين محلّ الكلام في المقام ، فمن قدّم المانع قطع أو ظنّ بعدم جواز العمل بالممنوع وكذا العكس .

فالكلام المذكور مبنيّ على خلط المقام الأوّل بالثاني ، إلّا أن يقال : إنّه بنى ذلك على تقدير كون العقل في محلّ المسألة كاشفاً عن المجعول الشرعي ، فيتّحد المقامان .

وهو أيضاً ممنوع ، لإمكان ملاحظة اختلاف الرتبة والحيثية فيهما باختلاف الحكم الاُولى والثاني ، كما لا يخفي .

وأمّا ثانياً : فلأنّ الحال في الظنّ المانع والممنوع بحسب اندارجهما تحت الدليل المفروض هو الحال في الاستصحاب الوارد والمورود بحسب اندراجهما تحت دليل الاستصحاب ، في كون إندراج الأوّل منهما موجب لحصول التخصص ، بالنسبة إلى الثاني ، واندراج الثاني موجباً لحصول التخصيص بالنّسبة إلى الأوّل ، ومن المعلوم أنّ الدليل العقلي أولى بعدم جواز تخصيصه .

ص: 320

فما ذكر في وجه التفرقة بينهما لا محصّل له ؛ وأضعف منه ما دقّقه أخيراً في توجيه الفرق بين الظنّين ، فتأمّل .

الإيرادات الواردة على الوجه الرابع وأجوبتها في كلام الماتن

اشارة

قال - طاب ثراه - :

فإن قلت : إذا قام الدليل القاطع على حجّية بعض الظنون ممّا فيه الكفاية كانت القضيّة المهملة الثابتة بالدليل المذكور منطبقة عليه فلا يتسرّي الحكم منها إلى غيرها حسب ما مرّ ؛ وأمّا إذا قام الدليل الظنّي على حجّيته كذلك لم يكن الحال فيها على ما ذكر ؛ وإن قلنا بقيام الظنّ مقام العلم وتنزيله منزلته فلا وجه إذن للاقتصار عليه ، إذ الدليل الدالّ على حجّيته هو الدالّ على حجّية الباقي ؛ غاية الأمر أن يكون الدالّ على حجّيته أمران الدّليل القاطع العامّ والدليل الظنّي المفروض ، والدالّ على حجّية غيره هو الثّاني خاصّة .

قلت : الحال حينئذٍ على ما ذكرت وليس المقصود في المقام تنزيل الدليل الظنّي القائم على خصوص بعض الظنون منزلة الدليل القاطع الدالّ عليه في تطبيق القضيّة المهملة المذكورة عليه ، لوضوح الفرق بين الأمرين ، بل المقصود أنّ قيام الدليل الظنّي على عدم حجّية غير الظنون الخاصّة قاضٍ بسقوطها عن الحجّية ، فإنّ تنزيل ذلك الدليل الظنّي منزلة القطع قاضٍ بعدم حجّية غيرها من الظنون .

فإن قلت : إنّه يقع المعارضة حينئذٍ بين الظنّ المتعلّق بالحكم والظنّ المتعلّق بعدم حجّية ذلك الظنّ لقضاء الأوّل

ص: 321

بالظنّ بأداء المكلّف به القاضي بحصول الفراغ وقضاء الثاني بالظنّ ببقاء الاشتغال فيتدافعان ، ولابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى أقوى الظنّين المذكورين لا القول بسقوط الأوّل رأساً .

قلت : لا مصادمة بين الظنّين المفروضين أصلاً ، نظراً إلى اختلاف متعلّقيهما ، مع انتفاء الملازمة بينهما أيضاً ، لوضوح إمكان حصول الظنّ بالواقع مع الظنّ بعدم حصول البرائة به في الشريعة ، أو العلم به كما هو الحال في القياس ونظائره ، بل لا اقتضاء فيه لذلك كما مرّت الإشارة إليه ، وأيضاً أقصى ما يسلّم في المقام أن يكون الظنّ بأداء الواقع مقتضياً للظنّ بحصول البرائة في الشريعة ، وهو لا يزاحم الدليل الظنّي القائم على خلافه حتى يتدافعا ، ويرجع الأمر إلى ملاحظة الترجيح ، بل مع(1) حصول الثاني لا يحصل من الأوّل إلّا مجرّد الظنّ بالواقع من غير حصول الظنّ بالبرائة الشرعيّة .

فإن قلت : على هذا يقع المعارضة بين الدليل الظنّي المفروض والدليل القاطع المذكور الدالّ على حجّية مطلق الظنون(2) لقضاء ذلك بعدم حجّية الظنّ المفروض فهو دليل ظنّي خاصّ معارض لما يقتضيه القاعدة القطعيّة المذكورة .

ص: 322


1- في المطبوعة الحديثة زيادة كلمة : « ملاحظة » .
2- في المطبوعة الحديثة « الظن » .

ومن البيّن أنّ الظنّي لا يقاوم القطعيّ فلا وجه لالتزام التخصيص فيها وإخراج ذلك عن القاعدة من جهة قيام الدليل المفروض .

قلت : لا تعارض في المقام بين الديلين حتّى تكون ظنّية أحدهما قاضية بسقوطه في المقام ، بل نقول : إنّ ما يقتضيه الدليل القاطع مقيّد بعدم قيام الدليل على خلافه حسب ما مرّ بيانه . فإذا قام الدّليل عليه لم يعارض ذلك ما يقتضيه الدليل المذكور ، بل ينتهي عنده الحكم المدلول عليه ، فالظنّ الّذي قام الدليل المذكور على عدم حجّيته خارج عن موضوع الحكم المذكور .

وقد عرفت سابقاً : أنّ خروج الظنون الّتي قام الدّليل القاطع على عدم حجّيتها ليس من قبيل التخصيص ليلزم التخصيص في الأدلّة العقليّة ، فكذا ما بمنزلته من الدليل الظنّي إذا أفاد عدم حجّية بعض الظّنون فلا مدافعة أصلاً .

فإن قلت : إن قام هناك دليل علمي على عدم حجّية بعض الظنون كان الحال فيه على ما ذكرت ، وأمّا مع قيام الدليل الظنّي عليه فإنّما يصحّ كونه مخرجاً عن موضوع القاعدة المقرّرة إذا كانت حجّيته معلومة ، وهي إنّما مبتني(1) على القاعدة المذكورة ، وهي غير صالحة لتخصيص

ص: 323


1- في المطبوعة الحديثة : « تبتني » .

نفسها ، إذ نسبتها إلى الظنين على نحوٍ سواء . فنقول : إنّ مقتضى الدليل المذكور حجّية الظنين معاً ، ولمّا كانا متعارضين لا يمكن الجمع بينهما كان اللازم مراعاة أقواهما والأخذ به في المقام على ما هو شأن الأدلّة المتعارضة من غير أن يكون ترك أحد الظنّين مستنداً إلى القاعدة المذكورة كما هو مبنى الجواب ، إذ لا يتصوّر تخصيصها لنفسها .

والحاصل : أن المخرج عن حكم تلك القاعدة في الحقيقة هو الدليل الدالّ على حجّية الظنّ المفروض ، إذ الظنّ بنفسه لا ينهض حجّة قاضية بتخصيص القاعدة الثابتة ، والمفروض أنّ الدليل عليها هي القاعدة المفروضة فلا يصحّ جعلها مخصّصة لنفسها أقصى الأمر مراعاة أقوى الظنّين المفروضين .

قلت : الحجّة عندنا هي كلّ واحد من الظنون الحاصلة وإن كان المستند في حجّيتها شيئاً واحداً ، وحينئذٍ فالحكم بحجّية كلّ واحد منها مقيّد بعدم قيام دليل على خلافه . ومن البيّن حينئذٍ كون الظنّ المتعلّق بعدم حجّية الظنّ المفروض دليلاً قائماً على عدم حجّية ذلك الظنّ فلابدّ من ترك العمل به .

والحاصل : أنّ العقل قد دلّ على حجّية كلّ ظنّ حتّى يقوم دليل شرعيّ على عدم حجّيته ، فاذا تعلّق ظنّ بالواقع وظنّ آخر بعدم حجّية ذلك الظنّ كان الثاني حجّة على عدم

ص: 324

جواز الرجوع إلى الأوّل وخرج بذلك من الاندراج تحت الدليل المذكور ، فليس ذلك مخصّصاً لتلك القاعدة أصلاً .

فإن قلت : إنّ العقل كما يحكم بحجّية الظنّ الأوّل إلى أن يقوم دليل على خلافه كذا يحكم بحجّية الآخر كذلك ، وكما يجعل الثاني باعتبار كونه حجّة دليلاً على عدم حجّية الاوّل فليجعل الأوّل باعتبار حجّيته دليلاً على عدم حجّية الثاني ، إذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجّية فأيّ مرجّح للحكم بتقديم الثاني على الأوّل ؟

قلت : نسبة الدليل المذكور إلى الظنّين بأنفسهما على نحوٍ سواء لكن الظنّ الأوّل متعلّق بحكم المسألة بالنظر إلى الواقع والظنّ الثّاني متعلّق بعدم حجّية الأوّل ، فإن كان مؤدّى الدليل حجّية الظنّ مطلقاً لزم ترك أحد الظنّين ولاريب إذن في لزوم ترك الثاني ، فإنّه في الحقيقة معارض للدليل القاطع القائم على حجّية الظنّ مطلقاً لا للظنّ المفروض . وحينئذٍ فلا ظنّ بحسب الحقيقة بعد ملاحظة الدليل القطعيّ المفروض ، وأمّا إن كان مؤدّاه حجيّة الظنّ إلّا ما دلّ الدليل على عدم حجّيته فلا مناص من الحكم بترك الأخذ بالظنّ الأوّل ، إذ قضيّة الدليل المفروض حجيّة الظنّ الثاني فيكون دليلاً على عدم حجيّة الأوّل ، ولا معارضة فيه للدليل القاضي بحجّية الظنّ لكون الحكم بالحجّية هناك مقيّداً بعدم قيام الدليل على خلافه ولا للظنّ الأوّل ؛ لاختلاف

ص: 325

متعلّقيهما . ولو اُريد الأخذ بمقتضي الظنّ الأوّل لم يمكن جعل ذلك دليلاً على عدم حجّية الظنّ الثاني ، لوضوح عدم ارتباطه به وإنّما يعارضه ظاهراً نفس الحكم بحجيّته .

وقد عرفت : أنّه لا معارضة بينهما بحسب الحقيقة ولا يصحّ أن يجعل حجّية الظنّ الأوّل دليلاً على عدم حجّية الثاني ، إذ الحجّة في المقام هى نفس الظنّين والدليل المذكور في المقام دالّ على حجّيتهما ، وهو أمر واحد بالنسبة إليهما بأنفسهما على نحوٍ سواء كما عرفت ، وليست حجيّة الظنّ حجّة في المقام ، بل الحجّة نفس الظنّ .

وقد عرفت : أنّه بعد ملاحظة الظنّين وملاحظة حجبيتهما على الوجه المذكور ينهض الثاني دليلاً على عدم حجّية الأوّل دون العكس ، فيكون قضيّة الدليل القائم على حجّية الظنّ - إلّا ما قام الدليل على عدم حجّيته بعد ملاحظة الظنّين المفروضين - حجّية الثاني وعدم حجيّة الأوّل من غير حصول تعارض بين الظنّين حتّى يؤخذ بأقواهما بحسب ما اتّضح ممّا قرّرناه .

فإن قلت : إنّ مقتضى الدليل المذكور حجّية الظنّ المتعلّق بالفروع ، والظنّ المذكور إنّما يتعلّق بالاُصول ، حيث إنّ عدم حجّية الظنون المفروضة من مسائل اُصول الفقه فلا دلالة فيه إذن على عدم حجّيته فيندرج تلك الظنون حينئذٍ تحت القاعدة المذكورة ويكون الدليل المذكور حجّة

ص: 326

قاطعة على حجّيتها .

قلت : أوّلاً : إنّ مفاد الدّليل المذكور حجّية الظنّ فيما انسدّ فيه سبيل العلم مع العلم ببقاء التكليف فيه ، ولا اختصاص له بالفروع وإن كان عقد البحث إنّما هو بالنسبة إليها(1) ، والمفروض انسداد سبيل العلم في هذه المسألة وعدم المناص عنه في العمل .

وثانياً : أنّ مرجع الظنّ المذكور إلى الظنّ في الفروع ، إذ مفاده عدم جواز العمل بمقتضى الظنون المفروضة والإفتاء الّذي هو من جملة أعمال المكلّف ، فتأمّل [ج 3 ص 369 - 365] .

توضيح كلام الماتن

أقول : قوله : « الحجّة عندنا هي كلّ واحد من الظّنون الحاصلة وإن كان المستند في حجّيتها شيئا واحداً - إلى قوله - فإذا تعلّق ظنّ بالواقع وظنّ آخر بعدم حجّية ذلك الظنّ كان الثاني حجّة على عدم جواز الرّجوع إلى الاوّل » قد عرفت أنّ هذا إنّما يتمّ مع اختلاف الظنّين المفروضين في الجنس ، أمّا مع اتّحادهما في الجنس كما إذا كانا جميعاً من جنس الشهرة فلا ، إذ الثاني كما يقتضي عدم جواز الرجوع إلى الأوّل ، كذا يقتضي المنع من العمل بنفسه أيضاً ، لكونهما معاً من جنس واحد ، فحجيّة هذا الجنس يستلزم أحد المحذورين : التناقض ، أو التفكيك بين المتساويين من غير مرجّح ، ؛ وعدم شمول الشي ء لنفسه بعد القطع باتّحاد المناط وتساوي الظنّين لا يجدي شيئاً ، فالصواب إخراج الظنّين جميعاً

ص: 327


1- وفي المطبوعة الحديثة : « إنّما يستند إليها » .

عن الحجّية ، نظراً إلى امتناع شمول الحجّية لهما معاً ، وإنتفاء المرجّح لأحدهما ، كإندراجهما جميعاً تحت دليل واحد وجنس واحد ، على حسب ما مربّيانه .

والسرّ في ذلك أنّك قد عرفت ممّا ذكرناه في وجه خروج القياس وشبهه أنّ حكم العقل في هذا الباب يتصوّر على وجهين ؛

أحدهما : أن يحكم العقل بحجّية الظنّ بالحكم الفعلي الموجب للظنّ بالبرائة الفعليّة ، على ما اختاره المصنّف - طاب ثراه - وهذا ممّا لايمكن حصوله من الظنّ المدفوع بنفسه ، فيخرج عن مؤدّى الدليل بكلا قسميه من المانع والممنوع .

والآخر : أن يحكم بحجيّة الظنّ بالواقع من حيث غلبة الاصابة فيه وعدم ترتّب المفسدة عليه ، ويكون منع الشارع عن بعض الظنون مبنيّاً على انتفاء أحد الوصفين فيه ؛ وحينئذٍ فيكون حكم العقل بذلك ظاهريّاً مبنيّاً على عدم ظهور تخلّف الوصفين فيه ، فالظنّ بمنع الشارع قاضٍ بظهور تخلّف أحد الوصفين ، فالمدفوع بنفسه لا يستجمع شرط الحجيّة بكلا قسميه أيضاً ، وذلك ما أردناه فلا تغفل .

قوله : « فإن كان مؤدّى الدليل حجيّة الظنّ مطلقاً لزم ترك أحد الظّنين ، ولا ريب إذن في لزوم ترك الثاني » هذا واضح ، إذ بعد فرض حكم العقل بحجّية كلّ ظنّ لا يمكن منع الشّارع عن بعض أفراده في تلك الحال ، لامتناع المخالفة بين حكمي العقل والشرع - على ما تقرّر في محلّه - ففرض الظنّ بمنع الشارع عن بعض أفراده في تلك الحال فرض أمر محال ، إلّا أن يفرض الظنّ بالمنع منه من حيث هو بحسب الواقع مع قطع النظر عن خصوصيّة الانسداد ، كما مربّيانه .

قوله : « وأمّا إذا كان مؤدّاه حجّية الظنّ إلاّ ما قام الدليل على حجيّته إلى

ص: 328

آخره » قد عرفت أنّ ذلك مبني على اختلاف الجنس ، مثلاً إذا دلّ الخبر على المنع من الأخذ بالأولويّة الظنيّة كان الثاني من الظنون الّتي قام الدليل على المنع منها ، بخلاف الأوّل ، إذ الأولوية لا يقضي بالمنع منه .

نعم ، لو فرضنا أنّ الأولويّة أيضاً قاضية بالمنع من الأخذ بالظنّ الخبري امتنع اندراجهما جميعاً تحت الحجيّة على نحو ما لو كانا من جنس واحد ، لا من حيث قيام كلّ منهما دليلاً على المنع من الآخر ، نظير ما ذكرناه في الجنس الواحد ، فتأمّل .

قوله : « وثانياً : أنّ مرجع الظنّ المذكور إلى الظنّ في الفروع » فيه أنّ القائل بعدم حجّية الظنّ في الاُصول قائل بعدم حجّية هذا القسم من الظنّ المتعلّق بالفروع وإن لم يساعده الدليل ، على ما مرّبيانه ، وكان هذا وجه التّأمل المشار إليه في آخر الكلام .

الوجه الخامس من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة

اشارة

قال - طاب ثراه - :

الخامس : أنّه بعد البناء على حجّية الظنّ في الجملة على سبيل القضيّة المهملة كما قضت به المقدّمات الثلاث المذكورة إذا دار الأمر فيه بين حجّية جميع الظنون أو الظنون الخاصّة من دون قيام مرجّح لأحد الوجهين لزم البناء على حجّية الجميع ، لتساوي الظنون إذن في نظر العقل وبطلان الترجيح من غير مرجّح قاضٍ بالتعيين . وأمّا إذا كان البعض من تلك الظنون مقطوعاً بحجّيته على فرض حجّية الظنّ في الجملة دون(1) الآخر تعيّن ذلك البعض للحكم

ص: 329


1- في المطبوعة الحديثة : « دون البعض الآخر » .

بحجّيته دون الباقي ، فإنّه القدر اللازم من المقدّمات المذكورة دون ما عداه ، إذ حكم العقل بحجيّة الكلّ على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجّح بينها بحسب الواقع حتّى يجب الحكم بحجّية الجميع كذلك ، بل إنّما هو من جهة عدم علمه بالمرجّح فلا يصّح له تعيين البعض للحكم بالحجّية دون البعض من دون ظهور مرجّح عنده فيتعيّن عليه الحكم بحجّية الكلّ بعد القطع بعدم المناص عن الرجوع إليه في الجملة ، فعموم الحكم إنّما يجي ء حينئذٍ من جهة الجهل بالواقع ، ولا يجري ذلك عند دوران الأمر بين الأخصّ والأعمّ على نحو ما هو المفروض في المقام ، لثبوت حجّية الأخصّ حينئذٍ على التقديرين ، فبعد ثبوت حجّية الظنّ في الجملة لا كلام إذن في حجّية الأخصّ وإنّما التأمّل في الحكم بحجّية الباقي وحينئذٍ فيكف يسوغ للعقل في مقام الجهل أن يحكم بجواز الرجوع إلى الباقى مع الاكتفاء بتلك الظنون في استعلام الأحكام ، والمفروض كون حجية الأخصّ حينئذٍ مقطوعاً بها عند العقل وحجّية الباقي مشكوكة ، بل الضرورة العقليّة إذن قاضية بترجيح الأخصّ والاقتصار عليه في مقام الجهل حتّى يتبيّن حجّية غيره من الظنون ؟ [ج 3 ص 370 - 369] .

الإيرادات الثلاثة وأجوبتها على الوجه الخامس

أقول : قد يورد على هذا الاحتجاج أيضاً بوجوه ؛

الاوّل : إنّ ما ذكر من المقدار المتيقّن حينئذٍ من الظنون الخاصّة ، للقطع

ص: 330

التفصيلي بحجيّته حينئذٍ ، والدليل المشهور مبنيّ على انتفائها بالقدر الكافي في استنباط الأحكام .

وجوابه : أنّ المراد بالظنّ الخاصّ ما علم حجّيته من غير دليل الانسداد ، والمقصود من القدر المتيقّن في المقام أنّه بعد دلالة العقل بمقتضي المقدّمات المعروفة على حجيّة الظنّ على سبيل القضية المهملة يدور الأمر في ذلك بين القول بحجيّة الكلّ والبعض المعيّن ، فإذا كان الباعث على حجّيته هو الضرورة الملجئة إلى العمل به لزم الاقتصار على أقلّ ما تندفع به .

الثانى : أنّ الرجوع إلى القدر المتيقّن إنّما يتصوّر على تقدير كون العقل في ذلك كاشفاً عن الطريق المنصوب في الشرع ، وقد عرفت فساد القول به من وجوه عديدة ؛ أمّا بعد دلالة العقل على حجبية الظنّ على سبيل الحكومة - بمعنى قبح اكتفاء المكلّف بما دون الامتثال الظنّي وحسن العقاب على تركه وامتناع مطالبته بأكثر منه وترتّب المؤاخذة عليه - فلا وجه للقول بالقدر المتيقّن ، إذ الحكم المذكور ليس مجعولاً للشارع حتّى يقبل الترّدد بين الكلّ والبعض ، بل لو ورد الأمر في الشرع لكان للارشاد المحض ، ألا ترى أنّه لو قطع بعدم التفات الآمر إلى ذلك لكان الحكم فيه ثابتاً بنفسه ، كوجوب إطاعة الشارع وتحريم معصيته ، فالظنّ في ذلك نظير العلم لا يقصد منه سوى الانكشاف ؛ ومن المعلوم أنّ العقل لا يفرق في باب الإطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ ، كما لا يفرق في الإطاعة العلميّة بين أسباب العلم ، ألا ترى أنّه لو قطع المكلّف بانتفاء الطريق المجعول لم يعقل التفرقة بين القدر المتيقّن وغيره .

والجواب : أنّ ما ذكر من عدم تصوير القدر المتيقّن مع القطع بعدم تصرّف الشارع في طرق الوصول إلى أحكامه مسلّم ، للقطع حينئذٍ بتساوي الظنون

ص: 331

المتعلّقة بالأحكام من جهة أسبابها ، إنّما يعقل التفرقة حينئذٍ بين أقسام الظنون من حيث القوّة والضعف ، وقد عرفت أنّ إناطة الحكم بمقدار معيّن من القوّة ممّا لا يرجع إلى ضابط معلوم .

لكنّ الفرض المذكور خارج عن محلّ الكلام ، لأنّه راجع إلى إنكار موضوع القدر المتيقّن ، إنّما الكلام فيما لو كان هنا قدر متيقّن في الحجيّة ، وإنّما يتصوّر ذلك حيث يحتمل تصرّف الشارع في باب الطرق بأحد الوجوه المتقدّمة في بيان الوجه الثالث ، ولذا قلنا : إنّه على بعض التقادير رجوع إلى الوجه الخامس .

وحينئذٍ فما اتّفق عليه الفريقان هو القدر المتيقّن ، دون ما اختلفا فيه ، كيف وفرض القطع بعدم تصرّف الشارع في هذا الباب مجرّد فرض لا تحقّق له ؟ للقطع بعدم قيام الشاهد عليه من عقل أو نقل ، بل وعدم دلالة أمارة عليه ، بل الأمارات شاهدة على خلافه ، كما هو الحال في الموضوعات ؛ وحينئذٍ فلا يجوز في حكم العقل التجاوز عن القدر المتيقّن بعد انتفاء الضرورة به ، فإنّها يتقدّر بقدرها .

الثالث : أنّ تيقنّ البعض بالنسبة إلى الباقي لا يعدّ مرجّحاً ، لكونه معلوم الحجيّة تفصيلاً ، وغيره مشكوك الحجّية منفي بالأصل .

لكنّه لا يجدي شيئاً ، لقلّته وعدم كفايته ، لأنّ القدر المتيقّن من الأمارات الّتي في أيدينا إنّما هو الخبر الّذي زكّى جميع رواته بعدلين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله وتميز مشتركاته بظنّ أضعف نوعاً من ساير الأمارات ، ولم يوهن بمعارضة شي ء منها ، وكان معمولاً به عند الأصحاب كلاًّ أو جلاًّ ، ومفيداً للظنّ الاطميناني بالصدور ، إذ لا ريب أنّه كلّما انتفى أحد هذه القيود الخمسة في خبر احتمل كون غيره حجّة دونه ، فلا يكون متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير .

ص: 332

وعدم كفاية مثله لندرته ظاهر ؛ على أنّا نعلم إجمالاً بوجود معارضات ومخصّصات ومقيّدات كثيرة لمثله في الأمارات الاخر ، فيكون نظير ظواهر الكتاب في عدم جواز التمسّك بها مع قطع النظر عن غيرها ، وهذا الإيراد يأتي إن شاء اللَّه تعالى في كلام المحقّق المصنّف - طاب ثراه - .

الإيرادات الواردة على الوجه الخامس وأجوبتها في كلام الماتن

اشارة

وقد فصّل القول في جوابه بما لا يرد عليه حيث قال قدس سره :

فإن قلت : إنّ الظنون الخاصّة لا معيارلها حتّى يؤخذ بها على مقتضى اليقين المفروض لحصول الخلاف في خصوصيّاتها ، ودوران الأمر بين الأخذ بالكلّ والبعض المبهم لا ينفع في المقام ، لوضوح عدم إمكان الرّجوع إلى المبهم ، والمفروض أنّه لا دليل على شي ء من خصوص الظنون ليكون ترجيحاً بالخصوص فيلزم الحكم بحجّية الجميع ، لانتفاء المرجّح عندنا .

قلت : لابدّ في حكم العقل حينئذٍ من الأخذ بأخصّ الوجوه ممّا اتّفق عليه القائلون بالظنون الخاصّة بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونه بناءً على القول المذكور إن اكتفى به في دفع الضرورة ويترك الباقي ممّا وقع فيه الخلاف المذكور على القول المذكور ، فلا يثبت بالقضيّة المهملة الحاكمة بحجّية الظنّ حينئذٍ ما يزيد على ذلك . وإن لم يكتف بالقدر المعلوم حينئذٍ لاستنباط الأحكام اخذ بالأخصّ بعده أخذاً بمقتضى المقدّمات المذكورة وجرياً على مفاد الدليل المذكور بعينه بالنسبة إلى ما بعده ، فإن لم

ص: 333

يكتف أيضاً بالأخصّ بعده تعيّن ما ذكر إلى أن يدفع به الضرورة ويترك الباقي بعد ذلك ، هذا إذا كانت الظّنون متداخلة .

وأمّا إذا كانت متباينة بأن كان أرباب الظنون الخاصّة مختلفين من غير أن يكون هناك ظنّ متّفق عليه بينهم ، أو كان ولم يكن وافياً بالأحكام كان اللازم الحكم بحجّية جميع تلك الظنون ، لدوران البعض المحكوم بحجّيته قطعاً بين تلك الظنون ، ولا ترجيح بينها فيجب الأخذ بجميعها من غير أن يتسرّى إلى غيرها ممّا يتعدّى عن تلك المرتبة ، فالقدر الثابت من تلك المقدّمات القاضية بحجّية الظنّ على سبيل الإهمال هو الحكم بحجّية البعض [لدوران البعض المحكوم بحجيّته قطعاً بين تلك الظنون(1)] ولمّا دار البعض بين ظنون عديدة كان قضيّة انضمام المقدّمة الرابعة - أعني عدم الترجيح بينها وبطلان الترجيح بلا مرجّح - هو حجّية جميع تلك الظنون ولا يتعدّى إلى غيرها من سائر الظنون .

فإن قلت : إنّ المرجّح للأخذ بالبعض إنّما هو الأخذ بالمتيقّن بعد إثبات حجّية الظنّ في الجملة ، وإذا دار ذلك البعض بين ظنون عديدة وقع الاختلاف فيها انتفى المرجّح

ص: 334


1- ما بين المعقوفتين زيادة من النسخة الحجرية الوحيدة وليست في المطبوعة الحجرية والحديثة من الهداية .

المذكور فلا قاضي إذن بترجيح البعض ، بل يتساوى تلك الأبعاض وغيرها من الظنون ، لوقوع الخلاف في الجميع .

قلت : إنّ هناك درجتين لتسرية الحجّية إلى الظنون :

أحدهما : أن يحكم بحجّية تلك الأبعاض الخاصّة بعد العلم بحجّية الظنّ في الجملة ، ودوران الحجّية بين جميع تلك الأبعاض وبعضها نظراً إلى انتفاء الترجيح بين تلك الأبعاض وعدم المناص عن العمل .

وثانيهما : أن يتسرّى إلى جميع الظنون منها ومن غيرها .

ومن البيّن أنّ العقل حينَ جهالته ودوران الأمر عنده بين الوجهين إنّما يأخذ بالأخصّ ، فإنّ المهملة إنّما تكون كلّية على قدر ما قام الدليل القاطع عليه دون ما يزيد عليه .

والحاصل : أنّه بعد قيام الاحتمالين المذكورين إذا لم يقم دليل خاصّ على شي ء منهما كان قضيّة حكم العقل في شأن الجاهل بالحال هو الاقتصار على الأقلّ ، وعدم تسرية الحكم إلى ما عدا تلك الظنون أخذاً بالمتيقّن على التقدير المفروض .

وبتقرير آخر أوضح : أنّ العقل بعد علمه بحجّية الظنّ في الجملة والتزامه بالعمل بالظنّ المعيّن - إذ لا يعقل العمل بالمبهم - يتعيّن عليه الحكم بحجّية المعيّن ، وحيث لم يقم عنده دليل خاصّ على تعيين ما هو الحجّة من الظنون لا كلّاً

ص: 335

ولا بعضاً و دار الأمر عند العقل بين حجّية البعض المعيّن - أعنى الظنون المفروضة - وحجّية الكلّ ووقع الخلاف بين العلماء في ذلك لم يجز له الحكم حينئذٍ بحجّية ما يزيد على ذلك البعض ، فإنّ الضرورة الملجئة له إلى العمل يندفع به ، فلا داعي لضمّ غيره من الظنون إليه والحكم بحجّية الكلّ من دون ضرورة قاضية به ، وعدم قيام دليل خاصّ على التعيين لا يقضي بتسرية الحكم للجميع من جهة انتفاء المرجّح حينئذٍ ، لما عرفت من أن أخصّية أحد الوجهين في مثل هذا المقام من أعظم المرجّحات للحكم بالأخصّ ، ولا يجوز عند العقل حين جهله بالحال التعدّي منه إلى غيره قطعاً ، وهو ظاهر .

فإن قلت : إن تمّ ما ذكر من البيان فإنّما يتمّ لو لم يعارض الظنّ الخاصّ غيره من الظنون ، وأما مع المعارضة ورجحان الظنّ الآخر فلا يتمّ ذلك ، لدوران الأمر حينئذٍ بين الأخذ بأحد الظنّين فيتوقّف الرجحان على ثبوت المرجّح بالدليل ، ولا يجري فيه الأخذ بالأخصّ ، ولا اتفاق على الأخذ بالظنّ الخاصّ ليتمّ الوجه المذكور فيتساوي الجميع إذن في الحجّية ، وقضية بطلان الترجيح بلا مرجّح هو حجّية الكلّ حسب ما قرّروه ، ولابدّ حينئذٍ من الأخذ بالأقوى على ما يقتضيه قاعدة التعارض .

قلت : لمّا لم يكن تلك الظنون حجّة مع الخلوّ عن

ص: 336

المعارض حسب ما ذكر فمع وجوده لا تكون حجّة بالأولى ، فلا يعقل إذن معارضته لما هو حجّة عندنا .

فإن قلت : إنّا نقلب ذلك ونقول : إذا حكم إذن بحجّية الكلّ نظراً إلى بطلان الترجيح بلا مرجّح لزم القول بحجّيته مع انتفاء المعارض بالاُولى ، ويتعيّن الأخذ بذلك دون عكسه ، فإنّ قضيّة الدليل المذكور ثبوت الحجّية في الصورة المفروضة بخلاف ما اقتضاه الوجه الآخر من دفع الحجّية في الصورة الاُخرى ، فإنّه إنّما يقول به من جهة الأصل وانتفاء الدليل على الحجّية ، لعدم وفاء الدليل المذكور بإثباته ، فيكون إثباتها هنا حاكماً على نفيها فيثبت الحجّية إذن في جميع الظنون .

قلت : يمكن أن يقال في دفعه بأنّ القائل بحجّية الظنّ مطلقاً لا يمنع من حجّية الخبر مثلاً إذا عارضه الشهرة وكانت أقوى .

غاية الأمر : أنّه يرجّح جانب الشهرة حينئذٍ لقوّة الظنّ في جهتها ، فهي حينئذٍ عنده أقوى الحجّتين يتعيّن العمل بها عند المعارضة وترك الاُخرى ، لوجود المعارض الأقوى المانع من العمل بالحجّة لا أنّه يسقطها عن الحجّية بالمرّة ، وفرق بين انتفاء الحجّية من أصلها وثبوتها وحصول مانع عن العمل بها ، لوجود المقتضي في الثاني ، إلّا أنّه مصادف لوجود المانع بخلاف الأوّل ، إذ لاحجّية هناك حتّى

ص: 337

يلاحظ التعارض بينه وبين غيره .

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه على ما قرّرنا يكون بين القول بحجّية الظنون الخاصّة ومطلق الظنّ عموم مطلق ، كما هو أحد الوجهين المتقدّمين في أوّل المسألة ، فكلّ من يقول بحجّية مطلق الظنّ يقول بحجّية الظنون الخاصّة إلّا أن يقوم عنده دليل على خلافه دون العكس ، وبذلك يتمّ المطلوب ، إذ بعد تسليم حجّية الخبر في الصورة المفروضة لا دليل على حجّية الشهرة حتّى يعارض بها تلك الحجّة المسلّمة فضلاً عن ترجيحها عليها ، فإنّ الحكم بالترجيح فرع الحجّية ، فإذا كانت منتفية لعدم قيام الدليل عليها لم يعقل الترجيح ، ويتمّ ما قرّرناه ، فإنّ الفريقين متّفقان حينئذٍ على حجّية الخبر وجواز العمل به في نفسه لو لا وجود المعارض الأقوى ، إلّا أنّ القائل بحجّية مطلق الظنّ يقول حينئذٍ بوجود المعارض ، فلا يجوز عنده العمل بالخبر من تلك الجهة وإنّما يتمّ له تلك الدعوى على فرض إثباته .

وقد عرفت : أنّه لا دليل عليه حينئذٍ فيتعيّن العمل بالخبر ، هذا غاية ما يمكن تقريره في تصحيح هذا الوجه ، ولا يخلو عن تأمّل [ج 4 ص 373 - 370] .

بيان وجه التأمّل في كلام الماتن

أقول : وجه التّأمل في ذلك أنّ ظاهر القول بحجّية الظنّ المطلق إناطة الحجّية بنفس الظنّ الحاصل في المسألة المتعلّق بنفس الحكم ، وحينئذٍ فلا يتصوّر تعارض الحجّتين في ذلك ، لأنّ الحاصل من مجموعهما إمّا الظنّ بأحد

ص: 338

الطرفين أو الشكّ ؛

فإن كان الثّاني ، لم يكن هناك حجّة أصلاً ، فيلزم الرجوع فيه إلى الأصلى العملي ؛ وإن كان الأوّل ، أختصّت الحجّية بالأمارة المفيدة للظنّ الفعلي ، وخرجت الاُخرى عن درجة الحجيّة بالكليّة .

وحينئذٍ فإن كان القائل بالظنون المخصوصة قائلاً بإناطة الحجيّة بنفس الظنّ الحاصل من الأمارات المخصوصة ، كانت النسبة بين القولين من قبيل العموم المطلق فإذا دار الأمر بين الأمرين كان الأقلّ هو القدر المتيقنّ ، فلايرد عليه ما ذكر من الإيراد ، ولا يحتاج إلى الجواب المذكور ؛

أمّا إذا كان القائل بالظنون المخصوصة قائلاً بحجّية الأمارات المخصوصة الّتي من شأنها إفادة الظنّ وإن لم يحصل بالفعل - كما هو الظاهر من مذهب الجمهور - فلا يكون هناك قدر متيقّن عند المعارضة ولو في أصل الحجية ، إذ القائل بالظنّ المطلق إنّما يقول بحجيّة الظنّ الفعلي الحاصل من أقوى الأمارتين وخروج الاُخرى عن الحجّية بالكليّة ، لا أنّه يقول بتقديم أقوى الحجّتين مع تسليم حجيّتهما معاً حتّى يكون حجيّة أحدهما من حيث هي مسلّمة عند الفريقين ، وإن لم يعمل بها لوجود الأقوى ، كما بنى عليه الجواب المذكور .

وحينئذٍ فالنسبة بين القولين من قبيل العامّين من وجه ، فإن حصل الاكتفاء بمادّة الاجتماع كان هو القدر المتيقّن عند دوران الأمر بينهما ، وهو الظنّ الفعلي الحاصل من الأمارات المخصوصة ، وإلّا لزم التعدّي عنه إلى مادّة الافتراق ، وحيث لا ترجيح بينهما فيلزم القول بحجّية الجميع ، لبطلان الترجيح من غير مرجّح .

وحيث إنّ الأقوال في المسألة لا تنحصر في الوجهين المذكورين ، بل

ص: 339

تدور بين الوجوه الأربعة ، بل وأكثر من ؛ ذلك فهناك مراتب ثلاث لايجوز الانتقال إلى اللاحقة إلاّ بعد تعذّر السابقة ؛

أولها : القدر المتيقّن المسلّم بين الجميع ؛ ثمّ المتيقّن بالإضافة إلى غيره ؛ فإن لم يحصل الاكتفاء به لزم القول بحجيّة الجميع .

فظهر أنّ الأمارات المخصوصة مع معارضتها بالأقوى منها من الظنون المطلقة بل وبالمساوي أيضاً ليست من القسمين الأوّلين ، فيكون من القسم الثالث ، فلا يصحّ ترجيحها على غيرها بما ذكر .

إنّما يتوجّه ذلك عند فرض دوران الأمر بين القول بحجيّة مطلق الأمارات الّتي لها شأنيّة إفادة الظن والأمارات المخصوصة ، ومن المعلوم عدم انحصار القول فيهما ، بل وشهرة خلاف الأوّل بين القائلين بالظنّون المطلقة .

على أنّه على تقدير دوران الأمر بين القولين المذكورين يمكن أيضاً منع كون الأمارة الخاصّة قدراً متيقّناً عند معارضتها بالأقوى ، إذ المراد بالمتيقّن ما يجب العمل به على كلا القولين ، والمفروض أنّه على القول بمطلق الظنّ لا يجوز العمل به حينئذٍ ، ومجرّد أن يكون له شأنيّة الاعتبار لا يكفي في جواز العمل به بالفعل ، والمدار في المتيقّن على الجواز الفعلي دون الشاني .

فالصواب في تقرير الوجه المذكور إثبات الاكتفاء بما هو القدر المتيقّن ولو بالإضافة إلى بعض الظنون المطلقة وأماراتها من حيث اختصاصه ببعض الخصوصيّات المتقدّمة في أوّل الوجه الثالث بالنّسبة إلى ذلك البعض ، فلا يجوز التعدّي عنه في الحكم التابع للضرورة إلى ذلك البعض .

وما ذكر في الجواب عن الإيراد الأوّل والثاني - من أنّ دوران القدر المتيقّن بين الظنون الخاصّة يقتضي القول بحجيّتها جميعاً ، نظراً إلى انتفاء المرجّح بينها

ص: 340

دون الظنون المطلقة - إنّما يتمّ لو كان كلّ واحد منها بخصوصه متيقنّاً بالإضافة إلى الظنون المطلقة ، فيندرج في الوجه المذكور على الوجه المذكور ، حملاً لما دلّ على الرجوع اليهما ، وإنّما يكون كذلك إذا فرض اتّفاق القائلين بالظنّ المطلق على العمل بكلّ واحد من تلك الظنون الخاصّة ، وإنّما يتحقّق ذلك في بعض تلك الظنون على بعض الأحوال ، فلا يعمّ الحكم ، كما هو ظاهر .

الوجه السادس من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة

اشارة

قال قدس سره :

السادس : إنّه قد دلّت الأخبار القطعيّة والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الاُمّة ، وإن وقع الخلاف بين الخاصّة والعامّة في موضوع السنّة ، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام ، وحينئذٍ نقول : إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرجوع إليهما في الغالب تعيّن الرّجوع إليهما على الوجه المذكور حملاً لما دلّ على الرجوع إليهما على ذلك ، وإن لم يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفيّة الرجوع إليهما تعيّن الأخذ به وكان بمنزلة الوجه الأوّل .

المناقشات الثلاثة من الشيخ الأعظم على الماتن

وإن انسد سبيل العلم به أيضاً وكان هناك طريق ظنيّ في كيفيّة الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه وإن لم يفد الظنّ بالواقع تنزّلاً من العلم إلى الظنّ مع عدم المناص عن العمل ، وإلّا لزم الأخذ بهما والرجوع إليهما على وجه يظنّ منهما بالحكم على أيّ وجهٍ كان ، لما عرفت من

ص: 341

وجوب الرجوع إليهما حينئذٍ فيتنزّل إلى الظنّ ، وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظنون المتعلّقة بذلك على بعض يكون مطلق الظنّ المتعلّق بهما حجّة فيكون المتّبع حينئذٍ هو الرجوع إليهما على وجهٍ يحصل الظنّ منهما .

والحاصل : أنّ هناك درجتين :

أحدهما : الرجوع إليهما على وجهٍ يعلم معه بأداء التكليف من أوّل الأمر إمّا لكون الرجوع إليهما مفيداً بالواقع أو لقيام دليل أوّلاً على الرجوع إليهما على وجه مخصوص سواء أفاد اليقين بالواقع أو الظنّ به أو لم يفد شيئاً منهما .

ثانيهما : الرجوع إليهما على وجهٍ يظنّ معه بذلك ، وذلك بعد انسداد سبيل العلم إلى الأوّل مع العلم ببقاء التكليف المذكور فينزّل في حكم العقل إلى الظنّ به ، فإن سلّم انسداد سبيل الوجه الأوّل على وجهٍ مكتفى به في استعلام الأحكام كما يدّعيه القائل بحجّية مطلق الظنّ فالمتّبع في حكم العقل هو الوجه الثاني ، سواء حصل هناك ظنّ بالطريق أو الواقع ، وإن ترتّب الوجهان على حسب ما مرّ من التفصيل ، وحينئذٍ فالواجب الأخذ بمقتضى الظنّ المذكور بخصوصه في استنباط الأحكام من غير تعدية إلى ساير الظنون [ج 3 ص 374 - 373] .

أقول : قد اُورد عليه أوّلاً : ب « أنّ هذا الدليل بظاهره عبارة اُخرى عن دليل

ص: 342

الانسداد الّذي ذكروه لحجيّة الظنّ في الجملة أو مطلقاً ، وذلك لأنّ المراد بالسنّة هو قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، فإذا وجب علينا الرجوع إلى مدلول الكتاب والسنّة ولم نتمكّن من الرجوع إلى ما علم أنّه مدلول الكتاب أو السنّة تعيّن الرجوع - باعتراف المستدلّ - إلى ما ظنّ كونه مدلولاً لأحدهما ، فإذا ظننّا أنّ مؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول الكتاب أو قول الحجّة أو فعله أو تقريره وجب الأخذ به ، ولا اختصاص للحجيّة بما ظنّ كونه مدلولاً لأحد هذه الثلاثة من جهة حكاية أحدها الّتي تسمىّ خبراً وحديثاً في الاصطلاح .

نعم يخرج عن مقتضي هذا الدليل الظنّ الحاصل بحكم اللَّه من أمارة لا يظنّ كونها مدلولاً لأحد الثلاثة ، كما إذا ظنّ بالألويّة العقليّة أو الإستقراء أنّ الحكم كذا عنداللَّه ولم يظن بصدوره عن الحجّة ، أو قطعنا بعدم صدوره عن الحجّة إذ ربّ حكم واقعيّ لم يصدر عنهم وبقي مخزوناً عندهم لمصلحة من المصالح ، لكن هذا نادر جدّاً ، للعلم العاديّ بأنّ هذه المسائل العامّة البلوى قد صدر حكمها في الكتاب أو ببيان الحجّة قولاً أو فعلاً أو تقريراً ، فكلّما ظنّ من أمارة بحكم اللَّه تعالى فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم [عنهم] .

والحاصل : أنّ مطلق الظنّ بحكم اللَّه تعالى ظنّ بالكتاب أو بالسنّة ، ويدلّ على اعتباره ما دلّ على إعتبار الكتاب والسنّة الظنيّة »(1) .

وثانياً : « إنّا لو سلّمنا أنّ المراد بالسنّة الأخبار والأحاديث - على خلاف الاصطلاح - يرد عليه أنّ الأمر بالعمل بالاخبار المحكيّة المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على الرجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع والضرورة الثابتة من

ص: 343


1- وهو الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في فرائد الأصول 1 / 364 - 363 .

الدين أو المذهب .

وأمّا الرجوع إلى الأخبار المحكيّة الّتي لا تفيد القطع بالصدور عن الحجّة فلم يثبت ذلك بالإجماع والضرورة من الدّين الّتي ادّعاها المستدلّ ، فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما ادّعاه الشيخ والعلّامة في مقابل السيّد وأتباعه .

وأمّا دعوى الضرورة من الدين والأخبار المتواترة ، كما ادّعاها المستدلّ ، فليست في محلّها »(1) .

إرجاع الوجه الثالث إلى الوجه الآخر في كلام الشيخ الأعظم وجوابه عنه

وثالثاً : « أنّه لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الخطابات الغير العلميّة لأجل لزوم الخروج عن الدين لو طرحت بالكليّة ، يرد عليه أنّه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الّذي ذكروه لحجيّة الظنّ ، ومفاده ليس إلاّ حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التكليف الواقعي .

وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجماليّ بصدور أكثر هذه الأخبار - حتّى لا يثبت بها غير الخبر الظنّي من الظنون - ليصير دليلاً عقليّاً على حجّية خصوص الخبر ، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأوّل الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه »(2) ، انتهى .

واُشير بذلك إلى وجهٍ آخر ذكر المعترض أنّه إعتمد عليه سابقاً ثمّ عدل

ص: 344


1- فرائد الاُصول 1 / 365 - 364 .
2- فرائد الاصول 1 / 366 - 365 .

عنه ، يتركّب من مقدّمتين :

أحداهما أنّ أكثر الأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ، بل جلّها إلاّ ما شذّ وندر صادرة عن الائمّة عليهم السلام .

والاُخرى : أنّ العقل يحكم حينئذٍ بوجوب العمل بكلّ خبر مظنون الصدور .

واحتجّ على الاُولى : بالتتبّع في أحوال الروات المذكورة في تراجمهم ، وبظهور اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار في الأزمنة المتأخّرة عن زمان مولانا الرضا عليه السلام نظراً إلى كونها أساس الدين ، فإنّ الناس لا يرضون بنقل ما لا يوثق به في التواريخ وغيرها ممّا لا يترتّب على الكذب فيها أثر ديني ولا دنيويّ فما ظنّك بالكتب المؤلّفة لرجوع من يأتي إليها في اُمور الدين ، والكذب والوضع إنّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين علمي الحديث والرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام مع أنّ العلم بوجود الكذب إنّما ينافي القطع بصدور الكلّ الّذي ينسب إلى بعض الأخباريين ، ولا ينافي المقصود من العلم بصدور أكثرها أو كثير منها ، بل هو بديهي .

وعلى الثانية بأنّ تحصيل الواقع الّذي يجب العلم به إذا لم يمكن على وجه العلم تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه ، توصّلاً إلى العمل بالأخبار الصادرة ، بل ربّما يدّعي وجوب العمل بكلّ واحدٍ منها مع عدم المعارض ، والعمل بمظنون الصدور أو مظنون المطابقة للواقع من المتعارضين .

وأجاب عنه أوّلاً : ب « أنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل امتثال أحكام اللَّه تعالى الواقعيّة المدلول عليها بتلك الأخبار ، وهذا العلم الإجمالي ليس مختصّاً بهذه الأخبار ، بل نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة فإذا لم

ص: 345

يجب الاحتياط بما تقرّر في محلّه يرجع إلى ما أفاد الظنّ بصدور الحكم التكليفي عن الحجّة ، خبراً كان أو شهرة أو غيرهما ، وذلك أنّ ساير الأمارات المفيدة للظنّ بصدور الحكم الشرعي ليست خارجة عن أطراف العلم الإجمالي الحاصل في المجموع بحيث يكون العلم الإجمالي المذكور في المجموع مستنداً إلى خصوص الأخبار ، ولذا لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار وضممنا إلى الباقي مجموع الأمارات الآخر كان العلم الإجماليّ بحاله .

فهنا علم إجماليّ حاصل في الأخبار ، وعلم إجماليّ حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وساير الأمارات الباقية ، فالواجب مراعات الثاني وعدم الاقتصار على مراعات الأوّل ، فدعوى أنّ ساير الأمارات(1) لا مدخل لها في العلم الإجمالي وأنّ هنا علماً إجمالياً واحداً بثبوت الواقع بين الأخبار ، خلاف الإنصاف .

وثانياً : أنّ اللاّزم من ذلك [العلم الإجمالي] هو العمل بالظنّ في مضمون تلك الأخبار ، فكلّما يفيد الظنّ بمضمون الخبر الواقعي - ولو من جهة الشهرة - يؤخذ به ، وكلّ خبرٍ لم يحصل الظنّ بكون مضمونه حكم اللَّه تعالى لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصّدور ، وذلك أنّ وجوب العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اللَّه الّذي يجب العمل به .

وثالثاً : أنّ مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالخبر المقتضي للتكليف ، وأمّا الأخبار النافية للتكليف فلا يجب العمل بها ، إنّما يجب الإذعان بمضمونها وإن لم يعرف بعينها . وكذلك لم يثبت به حجّية الأخبار على وجه ينهض لصرف

ص: 346


1- في المصدر زيادة : « المجرّدة » .

الكتاب والسنّة القطعيّة عن ظواهرها .

والحاصل : أنّ معنى حجّية الخبر كونه دليلاً متّبعاً في مخالفة الاُصول العمليّة والاُصول اللفظيّة مطلقاً ، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور »(1) .

جواب المؤلف عن الشيخ الأعظم

قلت : أمّا ما أورده المحقّق المذكور(2) على المصنّف أوّلاً ، فجوابه أنّه ليس المقصود من وجوب الرجوع إلى السنّة لزوم لعمل بالسنّة الواقعيّة ، ولا من وجوب الأخذ بالكتاب والسنّة لزوم العمل بمدلولهما الواقعي ، إذ لا يخرج ذلك عن وجوب العمل بالأحكام الواقعية ؛ ولا يحتجّ على ذلك بالإجماع والأخبار القطعيّة ، لرجوعهما إلى السنّة الواقعيّة ، ولا يخالف مقتضاه مقتضى لزوم العمل بالواقع ، وكيف يعقل التفرقة بين الظنّ بالسنّة الواقعية والظنّ بالحكم الواقعي المدلول عليه بساير الأمارات ؟ بل الظنّ بالحكم الواقعي من أيّ طريق حصل لا ينفكّ عن الظنّ بالسنّة الواقعيّة ، للقطع بصدور عامّة الأحكام وإن بقيت مخزونة عند الإمام عليه السلام كما هو معلوم بالضرورة من مذهبنا ، فلا وجه لما تصوّره حينئذٍ من التفصيل بينهما ، وإنّما المقصود إثبات وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة الموجودين في أيدينا بالفعل ، وهي الحاصلة في ضمن الأخبار المرويّة ، للقطع بموافقة أكثرها للواقع كما ذكر ، إذ الغرض إثبات ما يزيد على القدر المتيقّن منها على التفصيل ، لأنّه أقلّ قليل منها .

ويمكن أن يريد بالسنّة نفس الأحاديث الموجودة ، والمقصود إثبات وجوب الرجوع إليها من حيث الطريقيّة في الجملة ، بمعنى لزوم استنباط

ص: 347


1- فرائد الاصول 1 / 360 - 357 .
2- هو الشيخ الأعظم الأنصاري .

الأحكام الشرعيّة منها حتّى على فرض انسداد باب العلم بتعيين ما هو الحجّة والطريق منها .

وغاية الأمر المناقشة في إطلاق السنّة على الأخبار المرويّة بمخالفته للاصطلاح ، وهو أمر هيّن بعد وضوح المقصود ، وخصوصاً مع شيوع إطلاق السنّة على السنّة المحكيّة - أعني الحديث والرواية - فإنّها الموجودة في أيدي الأصحاب في أزمنة الغيبة ، بل وفي زمان الحضور بالنسبة إلى الغائبين عن المجلس ، وسيأتي في كلام المصنّف قدس سره التصريح بما هو المقصود من القطع بوجوب الرجوع إلى الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتمدة وعدم الاكتفاء بالسنّة المقطوعة .

والحاصل : أنّ مدلول الكتاب والسنّة الواقعيين عين الحكم الواقعي ، وليس المقصود في المقام إثبات وجوب العمل به حتّى يستلزم الانتقال عن العلم عند تعذّره إلى الظنّ به ، إنّما المقصود إثبات التكليف بالرجوع إلى ما في أيدينا من الكتاب والسنّة زيادة على القدر المقطوع به منهما ، فيترتّب على ذلك وجوب الرجوع إلى المراتب الثلاث على الترتيب الّذي ذكره ، وعدم حصول الاضطرار في العمل بسايرالظنون المطلقة ممّا خرج عن ذلك ، فلا تغفل .

وأمّا ما أورده ثانياً ، فمحصّله المناقشة في الاستناد في تلك الدعوي المسلّمة إلى الضرورة والأخبار المتواترة ، وهذا بعد تسليم أصل الدعوى أهون من سابقه ، على أنّ ادّعاء التواتر والضرورة في تلك الدعوى ليس بذلك البعيد ، بل هو عند المتأمّل المنصف دعوى واضحة ، وقد تكرّر ذكرها في كلام جماعة ، وقد بيّنّا الوجه في ذلك في محلّه بما لا مجال لأحد في إنكاره .

وأمّا ما أورده ثالثاً ، فهو بكلا شقّيه توجيه بما لايرضى به صاحبه ، ألا ترى

ص: 348

أنّه استدلّ على ذلك بالإجماع والأخبار ؟ وهل يستدلّ بهما في إثبات وجوب العمل بالتكاليف الشرعيّة أو وجوب الاذعان بالأخبار الصادرة عن الحجّة ؟ على أنّ أحد الشقّين المذكورين راجع إلى الآخر ، فإنّ صدور الأخبار المخالفة للاُصول المشتملة على التكاليف الشرعيّة راجع إلى إثبات تلك التكاليف ، ووجوب العمل بها عين وجوب العمل بتلك التكاليف ، وهذا كما ذكره رجوع إلى دليل القائل بمطلق الظنّ ، فكيف يعقل تقرير المصنّف لذلك بعينه في مقام مردّ القول به ؟ وإنّما غرضه قدس سره إثبات الطريق الخاصّ إلى معرفة تلك الأحكام والتكاليف الشرعيّة في الجملة بالإجماع والضرورة ، لا إثبات وجوب العمل بالتكاليف الشرعيّة الّتي اشتملت عليها الكتاب والسنّة ، أو تصديق المعصوم عليه السلام ووجوب اتبّاعه في أقواله وأفعاله الصادرة عنه .

فالمقصود وجوب التمسّك بهما والرجوع إليهما والاحتجاج بهما في تشخيص الأحكام وتحقيق مسائل الحلال والحرام ، وهذا في الجملة أمر ثابت من الرجوع إلى الأخبار وكلمات علمائنا الأبرار وطريقتهم المستمرّة وسيرتهم الجارية من لدن زمان الأئمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا ، بل هو أمر متّفق عليه بين كافّة المسلمين ، وإنّما اختلفوا في موضوع السنّة من حيث الاختلاف في موضوع الحجّة وأنّه هو النّبي صلى الله عليه وآله أو مع الأئمّة عليهم السلام وذلك أمر آخر .

فإذا ثبت على الإجمال وجوب الرجوع إلى ما في أيدينا من الكتاب والسنّة في زماننا هذا كما قبله في استنباط الأحكام الشرعيّة مع ملاحظة الحال الّتي نحن عليها ، فإن حصل لنا العلم بما هو الحجّة علينا من ذلك فذاك ، وإلاّ فثبوت التكليف بذلك مع انسداد سبيل العلم بالقدر المعتبر من ذلك في حكم الشارع وتعذّر الاحتياط فيه بالاقتصار على القدر المتيقّن من ذلك ، أو الجمع بين

ص: 349

الوجوه المحتملة فيه يقتضي الرجوع إلى الظنّ بما هو الحجّة والطريق من ذلك ، فإن تعذّر ذلك أيضاً رجعنا إليهما على وجه يحصل الظنّ منهما بالواقع ، وهذا لا يقتضي حجّية مطلق الظنّ بالواقع ، بل ولا حجّية الظنّ بطريقته ما خرج من مدلول الكتاب والسنّة أيضاً .

نعم ، قد يقرّر الدليل بالنسبة إلى مجموع ما في أيدينا من الطرق والأمارات بأن يقال : يجب علينا إجمالاً الرجوع إليها والتمسك بها ، لتعذّر ما سواها ، فإذا انسدّ باب العلم بما هو الحجّة منها لزم الانتقال إلى الظنّ في ذلك ، ومقتضاه حجّية الظنّ بمطلق الطريق ، وذلك ممّا لا يأبى عنه المصنّف - طاب ثراه - بل هو الّذي بنى عليه الوجوه السابقة ، لكنّه عدل في المقام عن ذلك التقرير العام ، لوضوح الدليل من الإجماع والضرورة في خصوص الكتاب والسنّة ، وانتفائهما في غير القطعيّ من ساير الأمارات الموجودة ، بل لا دليل على وجوب الرجوع إلى ما سوى الكتاب والسنّة من ساير الأمارات الظنيّة أصلاً ، فلا يتعدّى إليها حينئذٍ ، فقد يلتزم بالتخصيص في الكتاب والسنّة أيضاً ، لعدم الدليل على وجوب الرجوع إلى ما عدى القدر المتيقّن منهما ولو بالاضافة ، فيقتصر عليه ولا يتعدّي إلى غيره أيضاً ، فلا تغفل .

وأمّا ذكره المحقّق المذكور في تقريب الوجه الآخر ، فالمقدّمة الاُولى منه مستغينة عن تكلّف إثباتها بما فصلّه من أحوال الرواة وغيرها ، فإنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة في مجموع كتب الأخبار غير قابل للتأمّل والترديد .

وأمّا الثّانية ، فممنوعة جدّاً ، فإنّ وجوب العمل بالخبر الصادر من حيث هو كذلك غير وجوب العمل بالمجهول منه إلاّ من جهة استلزامه للعلم الإجمالي بالتّكاليف الشرعيّة وإن كانت مجهولة ، وهو ما قرّره القائل بمطلق الظنّ في دليله

ص: 350

المعروف ، فما أجاب به أوّلاً واضح لا يحتاج إلى تكلّف إثباته بالتفصيل الّذي ذكره في ذلك ممّا أشرنا إلى بعضه .

كلام صاحب الوافية

وأمّا ما اُورده عليه ثانياً ، فممنوع فإنّه إنّما ادّعى العلم الإجمالي في هذه الأخبار الموجودة في أيدينا ، فالظنّ بغيرها كالظنّ بمطلق الحكم الشرعي خارج عن مقتضى ذلك إلاّ بملاحظة المناط الّذي ذكره أوّلاً .

وما ذكره ثالثاً من عدم شموله للأخبار النافية للتكليف ، مدفوع بالأولويّة القطعيّة مع عدم الحاجة إليه بالكليّة ، ثمّ المنع منه في الأخبار الصارفة عن ظواهر الكتاب والسنّة في مقابلة الاُصول اللفظية فضلاً عن الاُصول العملية ممّا لا يرجع إلى وجه متين ، واللَّه الهادي .

نقد الشيخ الأعظم عليه

واعلم أنّ صاحب الوافية قد ذكر في المقام وجهاً يقرب مما مرّ ، حيث استدلّ على حجيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة ب « أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة سيّما بالاُصول الضرورية ، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر [ذلك ]فإنّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان » انتهي(1) .

واُورد عليه المحقّق المذكور أوّلاً ب « أنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط بين جميع الأخبار ، لاخصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الإجماليّ ، في تلك الطائفة [الخاصّة] لايوجب خروج غيرها

ص: 351


1- الوافية / 159 .

عن أطراف العلم الإجماليّ ، وإلّا أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم الإجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلا فاللازم حينئذٍ إمّا الاحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شي ء أو شرطيّته ، وإمّا العمل بكلّ خبرٍ ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئية أو الشرطية إلاّ أن يقال : إنّ مظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكره من الشروط .

وثانياً : بأنّ مقتضي هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدّالة على الشرايط والأجزاء ، دون الأخبار الدالّة على عدمها ، خصوصاً إذا اقتضى الأصل الشرطية والجزئية » ، إنتهى(1) .

مناقشة المؤلف مع الشيخ الأعظم

ولا يذهب عليك انّه إن ادّعى أنّ الباعث على حصول العلم الإجمالي خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره أمكن تخصيص الحكم بالخبر المظنون الحاصل في تلك الأخبار ، وإلّا لزم التعدّي إلى مطلق الشرط والجزء المظنونين ولو من الشهرة وغيرها ، فالتعدّي عن ذلك إلى خصوص ساير الأخبار الّتي لا تأثير لها في حصول العلم المذكور لا وجه له .

فعلى الأوّل لا علم بالأجزاء والشرايط زيادة على ما اشتملت عليه تلك الأخبار ، وعلى الثاني يكون الأخبار المذكورة من أسباب العلم الإجمالي بوجود الأجزاء والشرايط المجهولة ، ومقتضاه وجوب الاحتياط بالإتيان بالمشكوك منها ، ومع تعذّره فبالمظنون أو بما عدا الموهوم منها على اختلاف الوجهين في مقتضى دليل الانسداد ، فهو حينئذٍ تقرير لذلك الدليل في خصوص الأجزاء والشرايط ، وذلك أنّه لم يدّع أنّ الباعث على حصول العلم المذكور

ص: 352


1- فرائد الأصول 1 / 362 - 361 .

خصوص تلك الأخبار ، فلا وجه لتخصيص الظنّ حال الانسداد بالمتعلّق بها ولا بالمتعلّق بمطلق الخبر ، بل ولا بالمتعلّق بالأجزاء والشرايط ، لعلمنا بساير الأحكام أيضاً على الإجمال ، فيرجع الأمر إلى دليل الانسداد ، فلا تغفل .

وجه آخر ذكره صاحب الفصول

وههنا وجه آخر ذكره في الفصول ، وهو « أنّه لا ريب في أنّا مكلّفون بطاعة العترة الطاهرين والتمسك بهم في معرفة أحكام الدين ، كما يدلّ عليه الأمر بطاعة اُولى الأمر والتمسّك بالثقلين وغيرهما ، وهما إنّما يتحقّقان باتبّاع أقوالهم ، فإذا تعذّر العلم بها وبما يقوم مقامه تعيّن التعويل على الظنّ المستند إلى نقل الآحاد ، لصدقهما بذلك بعد القطع ببقاء التكليف بهما في هذه الحالة على حسبها ، وعدم صدقهما على العمل بساير الظّنون »(1) .

وهذا التفصيل تحكّم ظاهر ، فغاية الأمر وجوب التمسّك حينئذٍ بالسنّة الظنيّة ومطلق الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالسنّة ، وأمّا مقتضى وجوب طاعتهم عليهم السلام فلا يخالف مقتضى وجوب طاعته سبحانه في اقتضاء العمل بالظنّ المطلق في تلك الحالة ، على أنّ التفصيل في صدق المفهومين المذكورين لغةً وعرفاً على العمل بالظنّ بين حالتي الانفتاح والانسداد تحكّم ، غاية الأمر أن يكون شموله لصورة تعذّر العلم قرينة على إرادة خلاف الظاهر منهما ، فتعمّ الحالين .

نقد كلام صاحب الفصول

وبالجملة ، فلا شكّ في استناد أحكام الدين إلى المعصومين عليهم السلام فلا يزيد ما ذكر على مقتضي العلم ببقاء الدين . ثمّ إنّ الأوامر المتعلّقة بالأمرين المذكورين إنّما تدلّ على الواقع منهما ، وإنّما تكون شمولها لزمان تعذّر العلم بهما إجمالاً وتفصيلاً دليلاً على حجّية الظنّ بهما ، لا على صدقهما بذلك في تلك الحالة ،

ص: 353


1- الفصول الغروية باختصار /227 .

فالعمل به ظنّ بالطاعة والتمسك ، أو تمسّك بالظنّ بهما ، أقصاه أن يكون معتبراً بدليل الانسداد ، فلا يخالف مقتضاه .

تقرير الدليل المذكور في المتن بالوجوه السبعة

فتلخّص ممّا مرّ أنّ تقرير الدليل المذكور في كلام المصنّف يتصوّر على وجوه سبعة ، هذا أحدها .

وثانيها : أنّه يجب الرجوع إلى ما هو قول اللَّه وقول المعصومين عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم بحسب الواقع ، ومقتضاه الرجوع بعد انسداد باب العلم بها . إلى الظنّ بها ومن المعلوم عندنا أنّ الظنّ بالحكم الواقعيّ من أيّ طريق حصل لا ينفكّ عن الظنّ بها ، للقطع بصدور جميع الأحكام عن صاحب الشرع عليه السلام وليس المقصود الرجوع إلى نفس الألفاظ ، كيف وهو غير حاصل في أكثر الأخبار أيضاً لغلبة النقل بالمعنى .

وقد عرفت أنّ هذا المعنى ممّا لا يستدلّ عليه بالإجماع والأخبار ، وليس بمقصود للمصنّف قدس سره ولاحاصل من دليله ، لرجوعه إلى مطلق الظنّ ، وعلى تقديره فالتفرقة بين الظنّ الحاصل من الأولويّة والاستقراء وغيرهما وغيره - وكما ذكره المعترض - فاسدة ، إذ بقاء الحكم مخزوناً عندهم لا ينافي صدوره عنهم ولو بإلقاء بعضهم عليه السلام إلى بعض ، كما هو معلوم بالضرورة من مذهبنا ، وهذا القدر كافٍ في تحقّق موضوع السنّة في الواقع ، كما لا يخفى .

وثالثها : أنّه يجب الرجوع إلى الكتاب والسنّة المنقولة لنا المعلومة على الإجمال في ضمن الأخبار الواردة الواصلة إلينا ، ومقتضاه بعد انسداد باب العلم بها العمل بما يظنّ بصدقه من الأخبار المشتملة على نقل السنّة بعد تسليم سقوط الاحتياط وانتفاء القدر المتيقّن .

وفيه : أنّ وجوب العمل بالسنّة المعلومة على الإجمال المشتبهة في

ص: 354

الأخبار الموجودة لم يثبت على وجه الإطلاق حتّى يثبت به حجيّة الظنّ بها مطلقاً ، لإمكان أن يكون هناك طريق مخصوص للشارع في تحصيلها ، فيرجع إلى مقتضى الوجه الأخير .

ورابعها : أن يستعلم من وجود الأخبار المطابقة للواقع في كتب الأخبار وجوب العمل بها مطلقاً ، فإن أمكن العلم بها على التفصيل ، وكذا إذا كان هناك قدر متيقّن لا يعلم بمطابقة ما عداه للواقع ولو بالإضافة ، وإلّا تعيّن الرجوع إلى الظنّ بها .

وفيه : أنّ وجود الخبر المطابق للواقع لا يدلّ على وجوب الأخذ به حال اشتباهه بغيره حتّى يرجع إلى الظنّ به ، إنّما الثابت بقاء التكاليف الشرعيّة فيرجع إلى دليل الانسداد ، فهذا أوضح فساداً من سابقه ، إذ الوجوب في الأوّل مستند إلى الإجماع وغيره ، وفي هذا مستند إلى مجرّد العلم الإجمالي بمطابقة الواقع ، وقد علم أنّه لا يدلّ على ذلك بوجه من الوجوه .

وخامسها : أن يستعلم من وجود التكاليف الواقعيّة في ضمن الأخبار وجوب العمل بها في الجملة .

وهذا أوضح فساداً من سابقه أيضاً ، إذ المستند في هذا العلم خارج عن الأخبار بالكلّية ، كيف وهذا العلم الاجمالي حاصل في كلّ واحد من كتب الفقه أيضاً ، بل وعلى سابقه أيضاً ، فكما لا يفيد حجيّة كتاب الفقه كذا الأخبار .

وسادسها : أنّ ترك العمل بأخبار الآحاد يقتضي خروج الماهيات المجملة عن حقايقها المطلوبة ، فيثبت به حجّيتها بخصوصها في الجملة ، ومع انتفاء المرجّح فالجميع .

وهذا أهون ممّا مرّ ، اذ لا تأثير لذلك في اختصاص الحجّية بالأخبار

ص: 355

الموجودة بالكلّيّة ، كما في سابقه ، ويزيد عليه فساد تخصيصه بتشخيص تلك الماهيات .

وسابعها : أنّا نقطع بحجّية الكتاب والأخبار الموجودة بالنسبة إلينا في الجملة ، وتعلق التكليف باستنباط الأحكام منها على سبيل الإجمال ، من غير استناد إلى الوجوه السابقة ، بل من جهة قيام الإجماع والأخبار القطعيّة على ذلك ، فإن تحقّق القدر المتيقّن المتيقّن لدينا في ذلك لزم الاقتصار عليه ، ومع القطع بتعلّق التكليف الفعليّ بما يزيد على ذلك يجب العمل بما يظنّ كونه طريقاً معتبراً عند الشارع من ذلك ، فإن تعذّر ذلك رجعنا إلى ما يفيد الظنّ بالواقع من ذلك ، من غير أن يتعدّى إلى الظنّ بمطلق الطّريق في المرتبة الثّانية ، ولا إلى مطلق الظنّ بالواقع في المرتبة الثالثة ، وهذا مراد المصنّف - طاب ثراه - في المقام .

الإيرادات الواردة على الوجه السادس وأجوبتها في كلام الماتن

اشارة

وقد تكرّر توضيحه في كلامه ، فمن العجيب مع ذلك بقاء الاشتباه في ذلك بحمله على أحد الوجوه السابقة الّتي قد عرفت ما فيها ، واللَّه الهادي .

قال قدس سره :

فإن قلت : إنّا نمنع وجوب الأخذ بالكتاب والسنّة مطلقاً ولو مع عدم إفادتهما اليقين بالحكم ولم يقم عليه دليل قاطع ، وقيام الإجماع على وجوب الرجوع إليهما من القائل بحجّية مطلق الظنّ ، والظنّ المخصوص لا يفيد حجّيتهما بالخصوص ، إذ القائل بحجّية مطلق الظنّ لا يقول بحجّيته من حيث الخصوصيّة وإنّما يقول من جهة اندراجه تحت مطلق الظنّ ، والقائل بحجّية الظنّ الخاصّ لا يثبت بقوله إجماع مع مخالفة الباقين ولم يقم دليلاً قاطعاً عليه

ص: 356

حتّى يثبت به ذلك ، والقول بدلالة الأخبار القطعيّة عليه ممنوع .

أقصى الأمر دلالتها على حجّية ذلك بالنسبة إلى المشافهين المخاطبين بتلك الخطابات ومن بمنزلتهم وحينئذٍ قد يقال بحصول العلم بالنسبة إليهم ، إذ لا بعد إذن في احتفافها بالقرائن القاطعة ، ومع تسليم عدمه فغاية الأمر حجّية الظنّ الحاصل بالنسبة إليهم وذلك غير الظنّ الحاصل لنا ، للاحتياج إلى ضمّ ظنون عديدة لم تكن محتاجاً إليها حينئذٍ ، ولا دليل على حجّيتها عندنا إلّا ما دلّ على حجّية مطلق الظنّ .

قلت : المناقشة فيما ذكرناه واهية ، إذ انعقاد الإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة بالنسبة إلى زماننا هذا وما قبله من الأُمور الواضحة الجليّة ، بل ممّا يكاد يلحق بالضروريات الأوّليّه ، وليس بناء الإيراد على إنكاره ، حيث إنّه غير قابل للمنع والمنازعة .

ولذا نوقش فيه من جهة اختلاف المجمعين في المبنى ، فإنّ منهم من يقول به من جهة كونه من جزئيّات ما يفيد الظن لا لخصوصيّة فيهما ، فلا يقوم إجماع على اعتبار الظنّ الحاصل منهما بخصوصه .

وفيه : أنّه بعد قيام الإجماع عليه لا عبرة بالخلاف المذكور في ما نحن بصدده ، إذ ليس المقصود دعوى الإجماع

ص: 357

على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة باعتبار خصوصيّتهما ، بل المدّعى قيام الإجماع بالخصوص على وجوب الرجوع إليهما ليكون الظنّ الحاصل منهما حجّة ثابتة بالخصوص ، إذ لا حاجة إذن في إثبات حجّيتهما إلى ملاحظة الدليل العقلي المذكور ، بل هو ثابت بالإجماع القطعي ، فيكون هو ظنّاً بالدليل الخاصّ ، وليس يعني بالظنّ الخاصّ إلّا ما يكون حجّيته ثابتة بالخصوص لا ما يكون حجّيته بحسب الواقع بملاحظة الخصوصيّة الحاصلة فيه لا من جهة عامّة ، وهو واضح لاخفاء فيه ، فإذا ثبت حجّية الظنّ الحاصل منهما في الجملة ووجوب العمل بهما وعدم سقوط ذلك عنده ، ولم يتعيّن عندنا طريق خاصّ في الاحتجاج بهما كان قضيّة حكم العقل حجّية الظنّ المتعلّق بهما مطلقاً ، حسب ما قرّرناه .

وأمّا المناقشة في الأخبار الواردة في ذلك فإن كان من حيث الإسناد فهو واهٍ جدّاً ، وكذا من جهة الدلالة ، إذ من البيّن بعد ملاحظة فهم الأصحاب وعملهم شمولها لهذا العصر ونحوه قطعاً ، وليس جميع تلك الأخبار من قبيل الخطاب الشفاهي ليخصّ الحاضرين ، ويتوقّف الشمول للباقين على قيام الإجماع ، ومع الغضّ عن ذلك ففي ما ذكرناه من الإجماع المعلوم كفاية في المقام .

وكيف كان ، فإن سلّم عدم قيام الدليل القاطع من

ص: 358

الشارع أوّلاً على حجّية الظنّ المتعلّق بالكتاب والسنّة على وجهٍ يتمّ به نظام الأحكام - حسب ما ندّعيه كما سيأتي الإشارة إليه - فقضيّة حكم العقل هو حجّية الظنّ المتعلّق بهما من أيّ وجه كان على ما يقتضيه الدليل المذكور ، والمقصود بالاحتجاج المذكور بيان هذا الأصل ، وبعد ثبوته لا وجه للرجوع إلى شي ء من سائر الظنون ، إذ لا ضرورة إليها ولم يقم عليها دليل خاصّ [ج 3 ص 376 - 374] .

توضيح كلام الماتن بطرح إشكال عليه وجوابه

أقول : قد يقال : إنّ غاية ما يفيده الإجماع والأخبار المذكورة احتمال أن يكون الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة مبنيّاً على خصوصيّة فيهما ملحوظه للشارع في ذلك كما اعترف به ، ومجرّد الاحتمال لا يكفي في صرف القضيّة المهملة الثابتة بدليل الانسداد إلى خصوص الظنّ الحاصل من الكتاب والسنّة ، لأصالة عدم الخصوصيّة ، بل وعدم جعل الشارع ، بالكليّة لإمكان الاكتفاء إلى مقتضى العقل والعادة في مطلق الطرق بالكلّية ، فمع احتمال أن يكون الرجوع إلى الكتاب والسنّة من تلك الجهة لا يمكن إثبات الخصوصيّة ، إلّا أن يكون الظنّ الحاصل من ذلك قدراً متيقنّاً بالنسبة إلى غيره ، فيرجع إلى الاحتجاج السابق ، ولا يكون دليلاً آخر وراء ذلك ، مع إمكان تطرّق المنع إليه ، إذ مع معارضة ظاهر الكتاب أو السنّة لساير الأمارات الظنيّة كالإجماع المنقول والشهرة والاستقراء وغيرها لا يقين باعتبار الأول ، ولا يدلّ على اعتباره حينئذٍ إجماع ولا رواية ، وعدم حصول الاكتفاء بالقدر المتيقّن منهما لا يقتضي الرجوع إلى مطلق الظنّ المتعلّق بهما ، إنّما يقتضي لزوم تحصيل الواقع بمطلق الظنّ ، لمساوات الظنّ الحاصل منهما لساير الأمارات ، لعدم حصول الوفاق حينئذٍ على الأوّل ، فإنّ

ص: 359

القائل بالظنّ المطلق حينئذٍ يأبى عن الرجوع إليه ويقدّم الأقوى من ساير الأمارات عليه ، فأين الإجماع حينئذٍ على إعتباره ؟

نعم ، لو كان هناك قدر متيقّن بأحد الاعتبارات السابقة إقتصرنا عليه ، سواء تعلّق بالكتاب والسنّة أو بغيرهما ، حسبما مرّ في الوجه السّابق .

إيراد من الماتن وجوابه

اشارة

والجواب : إنّ هذا إنّما يتمّ لو كان للتكليف بالرجوع إلى الكتاب والسنّة قدر متيقّن لا يعلم ببقائه زيادة على ذلك ، وحينئذٍ فإذا لم يحصل الاكتفاء به لزم الرجوع إلى مطلق الظنّ سواء تعلّق بهما أو لم يتعلّق أمّا إذا ثبت بقاء التكليف بالرجوع إليهما زيادةً على ذلك ، ولم يمكن الاحتياط بالجمع بين الوجوه المحتملة تعيّن الرجوع إلى الظنّ بما تعلّق ذلك التكليف المجمل به ، وهو الظنّ بالطريق المتعلّق بهما . وإذا ثبت بقائه بما يزيد على ذلك أيضاً لزم الرجوع إلى ما يفيد الظنّ بالواقع من ذلك دون غيره .

فثبت بذلك حجّية بعض الظنون بالدليل الخاصّ به ، إذ لا يجري هذا الدليل في ساير الظنون ، ولا نعني بالظنّ الخاصّ إلاّ ذلك ، وصيرورته قدراً متيقّناً بالنسبة إلى ساير الظنون بالاعتبار المذكور لا يوجب رجوعه إلى الإحتجاج السابق ، لعدم بنائه على ملاحظة الوجه المذكور أصلاً ، فربّما لا يكون متيقّناً بالملاحظة المذكورة في الوجه السابق كما ذكر .

إلّا أن يقال بوجود القدر المتيقّن من التكليف بالرجوع إلى الكتاب والسنّة ولو بالإضافة مع عدم حصول الاكتفاء به في امتثال التكاليف الواقعيّة المعلومة على الإجمال ، فلا بدّ من الرجوع إلى مطلق الظنّ ، وإنتفاء المتيقّن الحقيقي لا يكفي مع وجود المتيقّن الإضافي ؛ وهذا ما أورده المصنّف ثانياً حيث قال قدس سره :

فإن قلت : إنّ القدر المسلّم وجوب الرجوع إلى

ص: 360

الكتاب والسنّة في الجملة ولا يقضي ذلك بحجّية الظنّ الحاصل منهما مطلقاً ، بل القدر الثابت من ذلك هو ما قام الإجماع عليه فيقتصر من الكتاب على خصوصه ، ومن السنّة على الخبر الصحيح الذي يتعدّد مزكيّ رجاله ، فلا يعمّ سائر وجوه الظنّ الحاصل من الكتاب والسنّة . وحينئذٍ نقول : إنّه لا يكفي الظنّ المذكور في استنباط الأحكام فيتوقّف الأمر على الرجوع إلى الظنّ آخر ويؤول الأمر أيضاً إلى وجوب الرّجوع إلى كلّ ظنّ لانتفاء المرجّح على حسب ما مرّ ، فلا يتمّ التقريب المذكور .

قلت : بناءً على اختيار الوجه المذكور لانسلّم قيام الدليل القاطع على حجّية خصوص شي ء من الأخبار كيف ؟ ومن البيّن أنّ غالب التوثيقات الواردة من علماء الرجال ليس من قبيل الشهادة حتّى يقوم تعديل معدّلين منهم مقام العلم ، ومع ذلك فقيام الدليل القاطع على قيام شهادة الشاهدين مقام العلم في المقام محلّ منع ، ومع الغضّ عنه فحجّية خبر الثقة مطلقاً ممّا لم يقم عليه دليل قطعيّ ، وإذا لم يقم دليل قاطع على حجّية خصوص شي ء من الأخبار كان الحال على نهج واحد ، وكان الأمر دائراً مدار الظنّ حسب ما قرّرناه ، ولو فرض قيام دليل قاطع على حجّية بعض أقسامه فهو أقلّ قليل منها ، ومن البيّن أنّه لا يكتفي به في الخروج عن عهدة ذلك التكليف . ومن المعلوم كون التكليف

ص: 361

بالرجوع إلى الكتاب والسنّة في يومنا هذا زائداً على القدر المفروض ؛ وبملاحظة ذلك يتمّ التقريب المذكور .

والفرق في ذلك بين نصوص الكتاب وظواهره إن كان الملحوظ فيه حصول القطع من الأوّل دون الثاني فهو فاسد ، إذ دعوى حصول القطع من النصوص مطلقاً غير ظاهرة حسب ما قرّر ذلك في محلّه . وان كان المقصود دعوى القطع بحجّيتها دون الظواهر نظراً إلى حصول الاتّفاق على حجّية النصوص دون غيرها ففيه أنّه لا فرق في ذلك بين الأمرين ، لقيام الاتّفاق في المقامين ، وليس الحال في مفاد ألفاظ الكتاب إلّا كألفاظ السنّة ، والتفصيل المذكور وإن ذهب إليه شذوذ إلّا أنّه موهون جدّاً حسب ما قرّر الكلام فيه في محلّه .

كيف ! والرجوع إلى الكتاب والسنّة والتمسّك بهما وما بمعناهما ممّا ورد في الرّوايات يعمّ الأمرين كما يعلم الحال فيه من ملاحظة نظائر تلك العبارات في سائر المقامات [ج 3 ص 378 - 376] .

توضيح كلام الماتن

أقول : هذا لايدفع المتيقّن الإضافي ، فإنّ المتيقّن الحقيقي عند المنكرين للظنون المخصوصة وإن كان قليلاً لايكفي الاقتصار عليه في سقوط التكليف المذكور ، لكنّ الخبر الصحيح بالنسبة إلى الموثّق قدر متيقنّ ، وهما بالنسبة إلى الضعيف المنجبر كذلك ، وكذلك الحال في أقسامها ، فلا يمكن الرجوع إلى مطلق الظنّ المتعلق بها .

ص: 362

فالجواب عن ذلك أنّ المتيقّن الإضافي من ذلك كاف في استنباط الأحكام ، فلا يلزم من الاقتصار عليه خروج من الدين ، فغاية الأمر عدم العمل بساير الظنون المتعلّقة بالسنّة أيضاً ، لا ثبوت العمل بمطلق الظنّ بالواقع ؛ وليس الغرض إثبات الأوّل ، إنّما المقصود نفي الثاني ، وهو حاصل ممّا ذكر أيضاً ؛ بل نفى الأوّل أيضاً ألصق بمقصودنا من إثباته ، كما لا يخفى .

إيراد آخر من الماتن وجوابه

اشارة

قال - طاب ثراه - :

فإن قلت : إنّ قضيّة ما ذكر من وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة هو الرجوع إلى ما علم كونه كتاباً أو سنّة وإن كان الأخذ منهما على سبيل الظنّ تحقيقاً للموضوع كما هو قضيّة الأصل ، فلا عبرة بالكتاب الواصل إلينا على سبيل الظنّ حسب ما أشاروا إليه في بحث الكتاب . وكذا ينبغي ألاّ يعتبر من السنّة إلّا ما ينقل إلينا على وجه اليقين من المتواتر والمحفوف بقرينة القطع ، وحينئذٍ فلا يتمّ ما قرّر في الاحتجاج ، لظهور عدم وفاء المقطوع به منهما بالأحكام وإن كان استنباط الحكم منهما على سبيل الظنّ ، فلابدّ أيضاً من الرجوع إلى مطلق الظنّ .

قلت : لاريب أنّ السنّة المقطوع بها أقلّ قليل ، وما يدلّ على وجوب الرّجوع إلى السنّة في زماننا هذا يفيد أكثر من ذلك ، للقطع بوجوب رجوعنا اليوم في تفاصيل الأحكام إلى الكتب الأربعة وغيرها من الكتاب المعتمدة في الجملة بإجماع الفرقة واتّفاق القائل بحجّية مطلق الظنّ والظنون

ص: 363

الخاصّة ، فلا وجه للاقتصار على السنّة المقطوعة ، وبذلك يتمّ التقريب المذكور [ج 3 ص 378] .

توضيح كلام الماتن وجواب الشارح عن الإيرادات الثلاثة عليه

أقول : صدر الكلام يوهم إرادة السنّة الواقعيّة من الاحتجاج ، كما فهمه المعترض(1) السابق ، وأورد عليه باستلزام الظنّ المطلق للظنّ بالسنّة ، إلّا أنّ آخر الكلام صريح في المقصود ، كما مر التنبيه عليه ؛ فالموضوع هو مطلق الأخبار الموجودة ، أو خصوص المنقولة منها في الكتب المعتمدة كما عرفت ، وما ذكر في الكتاب الواصل إلينا على سبيل الظنّ لا يخلو من غرابة ، للإجماع على عدم حصول الزيادة في القرآن وامتناع اختراع ما يشاكله في البيان ، إلّا أن يراد بذلك ما صار إليه بعض الأخبارييّن من حصول التحريف والنقص المغيرّ للمعنى(2) وإن ثبت في محلّه فساد القول به .

واعترض عليه تارةً بأنّ وجوب الرجوع في الجملة إلى الكتب الأربعة وغيرها الثابت بإجماع الفرقة لا ينفع مع اختلاف المجمعين في القدر الّذي يجب أخذه منها ، إلّا أن يقتصر على القدر المتّفق عليه ، ولا يحتاج إثبات حجّيته إلى إثبات حجّية ما يظنّ كونها سنّة .

وتارةً بأنّ القدر المعلوم من إجماع الشيعة - بل الاُمّة - والأخبار القطعية

ص: 364


1- وهو الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ، اُنظر : بحر الفوائد 1/178 .
2- اُنظر : « تفسير آلاء الرحمن » 1 / 71 - 49 ، المقدّمة الثانية ، « البيان في تفسير القرآن » / 235 - 195 . « أنوار الهداية » 1 / 247 - 243 ، « صيانة القرآن من التحريف » للعلاّمة الشيخ هادي المعرفة ، « نفي التحريف عن القرآن » للعلاّمة السيّد علي الميلاني « حكم الأغلاط الواقعة ... » لآية اللَّه السيد أحمد الصفائي الخوانساري ( المتوفّى 1359 ه ) من أفاضل تلامذة المحقّق آية اللَّه الحاج آقا منير الدين البروجردي مع تحقيق منّا .

وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة الواقعيّة أفاد القطع أو الظنّ بالحكم الواقعي أو لم يفد شيئاً منهما ؛ وحينئذٍ فلو بنى على التعدّي عن السنّة القطعيّة إلى الظنيّة دخلت الشهرة وأخواتها ، لأنّ مضامينها أيضاً سنةً ظنيّةً .

ودعوى لزوم الاقتصار على قسم خاصّ من السنّة الظنيّة وهي الظنّ بالسنّة الثابت من حكاية الروات الّتي تسمّى في الاصطلاح حديثاً وروايةً - لأنّه القدر المتيقّن دون مطلق الظنّ بالسنّة - رجوع عن هذا الطّريق إلى بعض الطرق السابقة المعلومة حالها .

واُخرى بأنّ وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ليس لذاته ، بل لأجل ثبوت التكليف بالأحكام الواقعيّة الموقوف معرفتها على الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، فهذا بعينه دليل المشهور على مطلق الظنّ .

قلت : ولا أظنّك ترتاب بعد ما عرفت ممّا أسلفناه في الجواب عن الاعتراض المذكور .

أمّا الأوّل ، فإن اُريد به أنّ اختلاف المجمعين في القدر الّذي يجب أخذه مانع من حصول العلم الإجمالي بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة في الجملة ، فجوابه الحوالة على الوجدان ، أو أنّ الاختلاف في ذلك إنّما حصل بعد الاتّفاق على الحكم الثابت على الإجمال ، وليس الاتّفاق على ذلك مستفاداً من الأقوال المختلفة من باب الاتّفاق ، بل هو مقتضى ضرورة المذهب المستندة إلى نحو حديث الثقلين المقطوع به عند الفريقين وغيره ممّا لا يحصى .

وأمّا الاكتفاء بالقدر المتّفق عليه فخارج عن مفروض المسألة ، إذ الكلام إنّما هو على تقدير عدمه .

وإن اُريد أنّ العلم الإجمالى المجامع للاختلاف المذكور لا يكفي في إلزام

ص: 365

العقل بالعمل على حسبه ، فظاهر الفساد ، إذ بعد القطع بتعلّق التكليف بالرجوع إلى ذلك فعلاً على وجه يترتّب استحقاق العقوبة على ترك التعرّض لامتثاله لا مجال للتأمّل في الزام العقل بالعمل بمقتضاه بقدر الإمكان ، والتعرّض لامتثاله على أيّ حال كان ، لعدم الفرق بين العلم الإجمالى والتفصيلى في ذلك .

وأمّا الثّاني ، فلأنّ السنّة الواقعيّة كالحكم الواقعي في أنّ مقتضاها حكم شأنيّ لا تنجّز له إلاّ بعد وجود الطريق الموصل إليه ، إنّما المقصود قيام القاطع على الموجود عندنا من الأخبار الحاكية عن السنّة من حيث كونه طريقاً إلى معرفة السنّة الواقعيّة ولو على وجه الظنّ ، فإنّه الّذي دلّ القاطع على تعلّق التكليف الفعلي بالرّجوع إليه ، وإجتمعت الطائفة عليه دون المدلول عليه بذلك لعدم إتّصافه بالطريقيّة الفعليّة كنفس الواقع ، ومقتضي ذلك حجيّة الظنّ بما هو المعتبر من هذا الموجود عند الأصحاب عند تعذّر العلم به دون مطلق الظنّ بالسنّد وهو ظاهر .

وأمّا الثالث ، فلأنّا لا ندّعي أنّ وجوب الرجوع إلى ذلك وجوب نفسى ثابت من حيث ذاته في المقام ، إنّما هو توصّلي غيري ثابت لأجل استنباط الأحكام ؛ لكنّا لا نقول بكون وجوب ذلك تبعيّاً ناشيئاً من مجرّد توقّف امتثال الأحكام الواقعي عليه ، ولا ندّعي القطع بكونه أصليّاً ثابتاً بالجعل الشرعي المخصوص فيه ، إنّما المقصود ثبوت القدر المشترك بين هذين الوجهين ، وهو تعلّق التكليف الفعلي بذلك على الإجمال ، فإنّه بعد ثبوته ولو إجمالاً ممّا يحكم العقل بلزوم التعرّض لامتثاله ، فإذا تعذّر العلم بمتعلّقه لزم الانتقال إلى الظنّ به ، فيكون ذلك دليلاً مخصوصاً على اعتباره ، ويصير بذلك قدراً متيقنّاً بالنسبة إلى غيره ، على حسب ما مرّبيانه ، فلا تغفل .

ص: 366

فإن قلت : يكفي في نفى الجعل المخصوص الرجوع إلى أصل العدم ، فإنّه أمر حادث مجهول ، وقد استقرّت طريقة العقلاء في مثله على البناء على العدم والاقتصار على المتيقّن ، وهو الوجوب الناشي من توقّف أداء الواقع عليه ، فيرجع إلى دليل مطلق الظنّ ، لوضوح أنّ تقريرها على الوجه المخصوص لا يوجب الاختصاص به ، كما أنّ تقريره في باب العبادات لايمنع من جريانه في باب المعاملات .

قلت : لمّا كان المنع من العمل بالظنّ أصلاً ثابتاً بالأدلّة الأربعة لزم الاقتصار في الخروج عنه على القدر المتيقّن الحاصل بمجرّد الاحتمال ، وإن كان مدفوعاً بالأصل ، فإذا احتملت الخصوصية في الرجوع إلى الكتاب والسنّة على الوجه المذكور امتنع التعويل على ساير الظنون ، لكن على هذا الجواب يتّجه الايراد على ذلك بوجهين ؛

أحدهما : أنّ ذلك رجوع إلى الاقتصار على المتيقّن المذكور في بعض الوجوه السابقة ، لما عرفت من أنّه يتصوّر على وجوه عديدة يندرج هذا الوجه في بعضها ، فلا يكون دليلاً مستقلاً خارجاً عن ذلك .

والآخر : أنّ الاحتمال المذكور إذا حصل بعينه في بعض الطرق الخارجة عن الكتاب والسنّة - كالإجماع المنقول - لزم مشاركته لهما في الحجيّة - لاستواء نسبة القدر المتيقّن إليهما واتّحاد المناط فيهما .

فالوجه في الجواب أن يقال : إنّ الاقتصار على المتيقّن يتصوّر على وجهين ؛

أحدهما : أن يكون ذلك من جهة اختصاص بعض الظنون ببعض الاحتمالات المرجّحة ، وهو ما ذكر في الوجه السابق .

ص: 367

والآخر : أن يكون ذلك من جهة قيام الدليل الخاصّ فيه ، فلا يتعدّى إلى غيره ، فإن الدليل العامّ مبنى عليّ انتفاء الظّنون الخاصّة الثابتة بالأدلّة المخصوصة بقدر الكفاية ، فاذا ثبت حجيّة الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة بالعلم الإجمالي بوجوب الرجوع إليهما في الجملة بطل الدليل العام ، ولا يكفي مجرّد أصالة عدم الاختصاص في المقام ، إنّما يمنع منه القطع بعدم الاختصاص ، أو معارضة احتماله باحتمال الاختصاص بطرق اُخرى ، كما هو الحال فيما ذكر من المثال ، من تقرير الدليل في باب العبادات والمعاملات ، ومن المعلوم انتفاء كلّ من الأمرين في المقام .

نعم ، نقول بحجّية ما عدا ذلك من الطرق المظنونة ، نظراً إلى ما عرفت من جريان الدليل المتقدّم في كلّ مسألة بانفرادها وذلك غير ما بنى عليه الدليل العام ، إذ الملحوظ فيه نوع الأحكام .

وبالجملة ، فاحتمال الاختصاص وعدم المعارضة مأخوذ ان في كلّ من الوجهين المذكورين ، لكن يختلف تقرير الدليل باختلافهما ، فإن قرّر على الوجه السابق لزم التعدّي إلى كلّ طريق حصل فيه الاحتمال المذكور بخلاف الوجه المذكور ، إذ جريانه في غير الكتاب والسنّة يتوقّف على إثبات وجوب الرجوع إلى غير القطعي من غيرهما ، وهو ممنوع .

إلّا أن يقال : إنّ اختصاص هذا الوجه بهما يتوقّف على احتمال اختصاص الحجيّة في الواقع بهما دون غيرهما من غير عكس ، وقد عرفت أنّ ذلك أحد الوجوه القدر المتيقنّ بالاعتبار السابق أيضاً ، فلم يبق إلاّ اختلاف التقرير ، وهو كافٍ في تعدّد الدّليل ، فلا تغفل .

ص: 368

تتمّة الإيرادات الواردة على الوجه السادس وأجوبتها في كلام الماتن

قال قدس سره :

فإن قلت : لمّا كان محصّل الوجه المذكور إرجاع الأمر بعد القطع ببقاء التكليف بالرجوع إلى الكتاب والسنّة وانسداد سبيل تحصيل العلم منهما ، وعدم قيام دليل على تعيين طريق خاصّ من الطرق الظنّية في الرجوع إليهما وإلى مطلق الظنّ الحاصل منهما كان هذا الوجه بعينه هو ما قرّروه لحجّية مطلق الظنّ ، فإنّ هذا التكليف جزئيّ من جزئيّات التكاليف الّتي انسدّ سبيل العلم بها وقضيّة العقل في الجميع هو الرجوع إلى الظنّ بعد العلم ببقاء التكليف حسب ما مرّ ، فلا اختصاص إذن للظنّ المذكور ، بل يندرج على ما عرفت تحت القاعدة الكليّة الّتي ادّعوها .

قلت : لا حاجة في الرجوع إلى الظنّ في المقام إلى ملاحظة الدليل العامّ ، بل العلم ببقاء التكيلف بالرجوع إلى الكتاب والسنّة في الجملة بعد انسداد سبيل العلم بالتفصيل حسب ما فرض يقضي بحكم العقل بتعيّن الرجوع إلى الظنّ في ذلك ، فيكون الظنّ المذكور قائماً مقام العلم قطعاً ، ومعه فلا حاجة إلى الرجوع إلى غيره من الظنون ، وينطبق عليه ما دلّ عليه العقل من حجّية الظنّ في الجملة .

فإن قلت : إنّ الوجه المذكور الدالّ على الانتقال من العلم إلى الظنّ في المقام كما يجري فيما ذكر كذا يجري في سائر التكاليف عند انسداد باب العلم بها ، وكما لا يكون اعتباره في كلّ منهما منفرداً قاضياً بتعدّد الدليل وخروجه

ص: 369

عن الاندراج تحت الأصل المذكور ، فكذا هنا .

قلت : ليس المقصود بالظنّ الخاصّ إلّا ما قام الدليل الخاصّ على حجّيته مع قطع النظر عن قيام الدليل على حجّية مطلق الظنّ ، وذلك حاصل بالنسبة إلى الظنّ الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، لقيام الإجماع(1) على وجوب الرجوع إليهما مع عدم حصول العلم منهما بالواقع وعدم ثبوت طريق خاصّ في الرجوع إليهما كما هو المفروض ، إذ مؤدّاه حينئذٍ حجّية الظنّ الحاصل منهما مطلقاً ولا ربط لذلك بالقول بحجّيتها من جهة انسداد باب العلم بالحكم المستفاد منهما وانحصار الأمر في الوصول إليه بالرجوع إلى الظنّ حسب ما قرّروه في الاحتجاج ، فلا وجه لإدراج ذلك في مصاديق الأصل المذكور ، لما عرفت من وضوح خلافه .

فإن قلت : إنّ المراد من القول بإدراجه تحت الأصل المذكور أنّ جهة حجّية الظنّ المستفاد منهما مطلقاً هو العلم ببقاء التكليف بالرجوع إليهما وانسداد سبيل العلم بالطريق الّذي يجب الأخذ به بالرجوع إليهما ، فجهة حجّية هذا الظنّ في المقام هي بعينه جهة حجّية مطلق الظنّ بسائر الأحكام فلا يكون لخصوصيّته مدخليّة في ذلك .

ص: 370


1- في المطبوعة الحديثة : « الدليل » بدل « الإجماع » .

قلت : كون الدليل المذكور على طبق ذلك الدليل العامّ لايقضي بكون ذلك من جزئيّات ذلك الدليل وكون الأخذ به من جهة الاندراج تحت الأصل العامّ ليكون المناط في حجّيته هى الجهة العامّة ، وهو ظاهر .

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ كون الطريق بعد القطع ببقاء التكليف وانسداد سبيل العلم به وعدم ثبوت طريق آخر هو الظنّ بذلك أمر واضح في نظر العقل لا مجال لإنكاره ، فإذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى نفس الأحكام قضى بحجّية الظنّ المتعلّق بها من أيّ طريق كان إن لم يثبت هناك طريق خاصّ ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى الطريق المقرّر لاستنباط الأحكام كالرجوع إلى الكتاب والسنّة بعد ثبوت مطلوبيّة الأخذ بذلك الطريق بعد انسداد سبيل العلم بتفصيل ما هو الحجّة منه قضى ذلك بحجّية الظنّ المتعلّق به مطلقاً إن لم يثبت هناك خصوصيّة لبعض الوجوه .

و حينئذٍ نقول : إنّه إذا لوحظ هذان الأمران قضى العقل بتقديم الثاني على الأوّل فانّه(1) إذا ثبت بذلك حجّية الظنّ بحجّية بعض الطرق لاستنباط الأحكام إذا كان كافياً في الاستنباط قضى بانصراف ما دلّ على حجّية الظنّ في الجملة إلى ذلك ، فإنّ ما يستفاد منه هو حجّية جميع الظنون

ص: 371


1- فإنّه » لم يرد في المطبوعة الحديثة .

المتعلّقة بالواقع ، إلّا إذا ثبت هناك طريق خاصّ للاستنباط ، والمفروض هنا ثبوت الطريق المذكور فلا يثبت من ملاحظة الوجه الأوّل ما يزيد على ذلك ، فإنّ حجّية الظنّ على خلاف الأصل وإنّما يقتصر فيه على القدر الثابت ، وحيث لا يكون ترجيح بين الظنون يحكم بحجّية الكلّ ، لعدم المناص عن الأخذ به وعدم ظهور الترجيح بين الظنون ، وبعد ثبوت هذا الوجه الخاصّ والاكتفاء به في الاستنباط لا يحكم العقل قطعاً بعد ملاحظة الوجه الأوّل بحجّية ما عدا ذلك من الظنون [ج 3 ص 380 - 378] .

أقول : شرح هذا الكلام ظاهر لمن تدبّره ، ولعمري لقد أوضح المقصود على وجه لا يبقى لاعتراض المعترّض السّابق مجال .

الوجه السابع من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة

اشارة

قال - طاب ثراه - :

السّابع : إنّه لاشكّ في كون المجتهد بعد انسداد سبيل العلم مكلّفاً بالإفتاء وأنّه لا يسقط عنه التكليف المذكور من جهة انسداد سبيل العلم .

ومن البيّن أنّ الإفتاء فعل كسائر الأفعال يجب بحكم الشرع على بعض الوجوه ، ويحرم على آخر . فحينئذٍ إن قام عندنا دليل علمي على تميّز الواجب منه عن الحرام فلا كلام في تعيّن الأخذ به ووجوب الإفتاء بذلك الطريق المعلوم وحرمة الإفتاء على الوجه الآخر ، وإن انسدّ سبيل العلم بذلك أيضاً تعيّن الرجوع في التميز إلى الظنّ ، ضرورة بقاء

ص: 372

التكليف المذكور وكون الظنّ هو الأقرب إلى الواقع ، فإذا دار أمره بين الإفتاء بمطلق(1) الظنّ أو بمقتضى الظنيّات الخاصّة ( وكان المظنون عنده بعد استفراغ الوسع هو الأخذ بمقتضيات الظنيّات الخاصّة )(2) دون مطلق الظنّ لم يجز له ترك الفتوى مع حصول الأوّل ولا الإقدام عليه بمجرّد قيام الثاني ، إذ هو ترك للظنّ وتنزّل إلى الوهم من دون باعث عليه .

فإن قلت : إنّ الظنّ بثبوت الحكم في الواقع في معنى الظنّ بثبوت الحكم في شأننا وهو مفاد الظنّ بتعلّق التكليف ينافي الظاهر فكيف يقال بالانفكاك بين الظنّ بالحكم والظنّ بتعلّق التكليف في الظاهر المرجّح للحكم والإفتاء ؟

قلت : إنّ أقصى ما يفيده الظنّ بالحكم هو الظنّ بثبوت الحكم في نفس الأمر ، وهو لا يستلزم الظنّ بجواز الإفتاء أو وجوبه بمجرّد ذلك ، ضرورة جواز الانفكاك بين الأمرين حسب ما مرّ بيانه في الوجوه السابقة .

ألا ترى : أنّه يجوز قيام الدليل القاطع أو المفيد للظنّ على عدم جواز الإفتاء حينئذٍ من دون أن يعارض ذلك الظنّ المتعلّق بنفس الحكم ، ولذا يبقى الظنّ بالواقع مع حصول

ص: 373


1- في المطبوعة الحديثة : « بمقتضى » .
2- هذا السطر لم يكن في كلتي طبعتي الحجرية والحديثة من هداية المسترشدين .

القطع أو الظنّ بعدم جواز الإفتاء بمقتضاه .

ودعوى : أنّ قضيّة الظنّ بثبوت الحكم في الواقع هو حصول الظنّ بتعلّق التكليف ينافي الظاهر والظنّ بجواز الإفتاء بمقتضاه ، إلّا أن يقوم دليل قاطع أو مفيد للظنّ بخلافه عريّة عن البيان كيف ! وضرورة الوجدان قاضية بانتفاء الملازمة بين الأمرين ولو مع انتفاء الدليل المفروض نظراً إلى احتمال أن يكون الشارع قد منع من الأخذ به .

نعم لو لم يقم هذا الاحتمال كان الظنّ بالحكم مستلزماً للظنّ بتعلّق التكليف في الظاهر .

فإن قلت : إنّ مجرّد قيام الاحتمال لا ينافي حصول الظنّ سيّما بعد انسداد سبيل العلم بالواقع وحكم العقل حينئذٍ بالرجوع إلى الظنّ .

قلت : الكلام حينئذٍ في مقتضى حكم العقل ، فإنّ ما يقتضيه العقل توقّف الإفتاء على قيام الدليل القاطع على جوازه وبعد انسداد سبيله ينتقل إلى الظنّ به ، ومجرّد الظنّ بالواقع لا يقتضيه مع عدم قيام الدليل الظنّي على جواز الإفتاء بمجرّد حصوله ، فإذا قام الدليل الظنّى على جواز الإفتاء بقيام ظنيّات مخصوصة لزم الأخذ بمقتضاه ، وإذا لم يقم على جواز الإفتاء بحصول ظنون اُخرى لم يجز الإفتاء بها .

نعم ، ان لم يقم دليل ظنّي على الرجوع إلى بعض

ص: 374

الطرق ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللازم من الأحكام أو على جواز الرجوع إلى بعضها وكانت الظنون متساوية من حيث المدرك في نظر العقل كان مقتضى الدليل المذكور القطع بوجوب العمل بالجميع ، وجواز الإفتاء بكلّ منها ، لوجوب الإفتاء وانتفاء المرجّح بينها . وأمّا مع قيام الدليل الظنّي على أحد الأمرين المذكورين أو كليهما فلا ريب في عدم جواز الرجوع إلى مطلق الظنّ بالواقع .

نقل ايرادين للمحقّق الآشتياني وجوابه من المؤلف

والحاصل : أنّ الواجب أوّلاً بعد انسداد سبيل العلم بالطريق المجوّز للإفتاء هو الأخذ بمقتضى الدليل القاضي بالظنّ بجواز الإفتاء ، سواء أفاد الظنّ بالواقع أم لا ، ومع انسداد سبيل الظنّ به يؤخذ بمقتضى الظنّ بالواقع ويتساوى الظنون حينئذٍ في الحجّية ، ويكون ما قرّرناه دليلاً قاطعاً على جواز الإفتاء بمقتضاها [ج 3 ص 382 - 380] .

أقول : قد يورد عليه تارة بأنّه لا دليل على وجوب الإفتاء عند فقد ما يوجب القطع بالحكم ، وليس في حكم العقل والنقل ما يفيد ذلك ، بل هما متطابقان على المنع من الإفتاء حينئذٍ ، ودعوى الإجماع على وجوبه حينئذٍ ممنوعة ، كيف والأخباريّون مطبقون على وجوب التوقّف .

واُخرى بأنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو في تعيين الطريق المعتبر الّذي يستند الإفتاء إليه ، وأنّه هل هو الظنّ بالواقع أو بالطريق ، فلابدّ من النظر في الدليل القائم على ذلك ليجب الإفتاء على حسبه فوجوب الإفتاء يتفرّع عليه ، لأنّ الدليل على ذلك يتفرّع على وجوب الإفتاء ، إنّما المدار في ذلك على

ص: 375

مقتضى الدليل الجاري في الأحكام مع قطع النظر عن وجوب الإفتاء(1) .

والجواب عن الاوّل أنّه ليس المقصود من وجوب الإفتاء الإفتاء بمقتضى الأدلّة الاجتهاديّة حتّى يختصّ بموارد ثبوتها ويحكم بالتوقّف فيما عداها ، بل المراد ما يعمّ الإفتاء بمقتضى الأدلّة الاجتهادية أو الاُصول العمليّة ، وهذا أمر ثابت في كلّ مسألة ، للزوم بناء المجتهد في عمل نفسه ومقلّديه على وجه معيّن ، لامتناع التوقّف والتحيّر في مقام العمل وبنائه على الوجه المبهم .

غاية الأمر الحكم بلزوم التوقّف والاحتياط كما يراه الأخباري ، وهو لا ينافي ما قصدناه ، فإنّه أيضاً وجه معيّن في مقام العمل ، فإذا ثبت ذلك وجب الإفتاء على حسبه ، إذ لا سبيل للمقلّد إلى تميّز موارد الاحتياط الواجب عن غيرها إلاّ بالرجوع إلى المجتهد .

نعم ، قد لا يجب الإفتاء ، لعدم وجوب العمل ، أو لعدم وجود المستفتي ، أو لعدم حاجته إليه ، أو لوجود المانع عنه ، ومع ذلك فالحكم المذكور ثابت بالنسبة إلى عمل نفسه قبل إفتائه للغير على وجه لو أراد الإفتاء لزم إفتائه على حسبه ، وهذا القدر كافٍ في المقصود .

وإنّما عبر المصنّف قدس سره بوجوب الإفتاء لوضوحه وصراحته في المقصود ، ويمكن التعبير بوجوب القضاء أيضاً في موارده عند عدم إمكان إبقاء القضيّة على حالها ، نظراً إلى لزوم حسم مادّة النزاع ، فإنّه أيضاً ثابت في أغلب موارد الاختلاف ، فلابدّ من بنائه على وجه معيّن ولو بإلزام الخصمين بالاحتياط ، لكنّه أخصّ من موارد وجوب الإفتاء ، كما أنّه أخصّ من لزوم استنباط الحكم من

ص: 376


1- اُنظر : بحر الفوائد 1 / 226 .

الطريق المعتبر اجتهادياً كان أو عمليّاً ، فيمكن تقرير الدليل بأحد الوجوه الثلاثه .

وعن الثاني ، أنّه إن تعيّن طريق الإفتاء أو القضاء أو البناء مع قطع النظر عن وجوبها وتعيّنها فلا كلام ، وإلّا فوجوبها مع انسداد باب العلم بطريقها يقتضي العمل بالطريق المظنون فيها من أيّ طريق كان ، من دليل أو أصل أو تقليد أو احتياط أو قرعة أو غيرها ، وذلك لأنّا نتكّلم على هذا التقدير ، ومتى حصل الطريق المظنون في ذلك كان ما يخالفه موهوماً لا محالة وإن كان ظنّاً بالواقع ، فالظنّ بوجوب البناء على ذلك الطريق بخصوصه يستلزم الظنّ بتحريم البناء على غيره وترتّب استحقاق العقوبة عليه ، فالعدول عنه إلى ساير الطرق المتصوّرة في المسألة المفروضة ترجيح للمرجوح على الراجح ، ورجوع عن المظنون إلى الموهوم ، ووقوع في الضرر المخوف ؛ وقد أطبق العقلاء على المنع عنها والحكم بقبحها ، وكيف يرضى العقل بسلوك طريق في ذلك يظنّ معه بالضّرر المذكور وإن كان من مسمّى الظنّ بالواقع ، فإنّ العمل به مع الشّك في اعتباره موجب لخوف الوقوع في الضّرر المترتّب عليه عند عدم اعتباره ، بل الظنّ بلزوم البناء على غيره موجب للظنّ بترتب الضّرر عليه .

ودعوى أنّ الضّرر والعقوبة إنّما يترتّب على ذلك عند العلم بمنع الشّارع عنه مدفوعة بأنّ المفروض الظنّ بمنع الشارع عن ذلك أو الشكّ فيه على حسب ما عليه المكلّف في تلك الحال ، فالمنع المظنون أو المحتمل فعليّ تنجيزي لاشأنىّ تعليقيّ كما هو شأن الأحكام الواقعية .

وهذا هو الفارق بين الظنّ بالواقع والطريق ، فلا يستريب ذو مسكة في لزوم التحرز ، عنه ، بخلاف الطريق المظنون اعتباره في تلك الحال ، فإنّه غاية الممكن في أداء التكليف المتعلّق بالقضاء والإفتاء وسقوط الواقع عنه في مقام

ص: 377

العمل ، سواء كان ذلك من الطرق المتعلّقة للجعل أو المعتبرة عند العقل أو العقلاء ، فيحصل الأمن من ترتّب الضرر عليه والعقاب بسلوكه .

نعم ، لوفرضنا انحصار الوجه في اعتبار الطريق المفروض في نظر الشارع في غلبة إصابته للواقع لم يمكن التفرقة بينه وبين الظنّ بالواقع إن لم يكن أولى ، لاشتراكهما في نوع الظنّ ، فلا يختلف غلبة الإصابة باختلافهما ، بل يزيد عليه احتمال عدم الإصابة في نفس الطريق ، مضافاً إلى احتمال عدم الأصابة في الظنّ المتعلّق به الحاصل في الظنّ بالواقع أيضاً ، فيكون أولى بالاعتبار .

لكنّه مجرّد فرض لا تحقّق له ، كما يرشد إليه ملاحظة الطرق المقرّرة للموضوعات الّتي يغلب فيها عدم الإصابة غلبة تامّة يقلّ معها الإصابة جدّاً ، والحال أنّ إحراز المصالح الواقعية كما يتوقّف على إصابة الحكم كذا يتوقّف على إصابة الموضوع ، فعلم من ذلك أنّها لا تستقلّ بالمطوبية الفعليّة ، كما مرّ تفصيل القول فيه في المقدمّة الرابعة الّتي بنى المصنّف قدس سره عليها الوجوه المذكورة .

فمحصّل الاستدلال المذكور على الوجه الّذي يعمّ موارد وجوب الإفتاء والقضاء أن يقال : إنّه لا شكّ في وجوب استنباط الأحكام الشرعيّة - واقعيّة كانت أو عملية - من الطرق المرضيّة لصاحب الشريعة ، وأنّه لا يسقط عنّا التّكليف بذلك بتعذّر تحصيل العلم بالواقع والطريق ، نظراً إلى امتناع التحيّر في مقام العمل وتعذّر البناء على الوجه المبهم ، وحينئذٍ فلا يستريب العاقل في لزوم الاستناد إلى الطريق المعلوم في ذلك والانتقال عنه عند تعذّره إلى الطريق المظنون ، دون مجرّد الظنّ بالواقع ، وإنّما يكون ذلك بعد استفراغ غاية الوسع وبذل منتهى الجهد في جميع ما يتعلّق باستكشاف حكم المسألة في الظّاهر بقدر الطاقة لاستناده إلى الضرورة المتفرّعة على ذلك ، بخلاف الطرق المنصوبة من

ص: 378

قبل الشارع ، فإنّ اعتبارها ثابت على الإطلاق إلاّ أن يزاحم ذلك علم إجماليّ : ونحوه ، وإنّما الطريق المقصود في المقام هو الطريق الفعليّ المرضيّ للشارع ولو مع القطع بانتفاء المجعول ، كما إذا حصلت الشبهة فيما يعتبره العقل والعقلاء في تلك الحال ، فيجب الانتقال عن العلم بذلك عند تعذّره إلى الظنّ به كالطريق المجعول من غير فرق ، فالمنع من نصب الطريق لا يؤثّر في ذلك بوجه من الوجوه .

ولا يذهب عليك أنّ حقيقة هذا الدليل وإن كانت راجعة إلى الدليل الأوّل إلّا أنّ اختلاف الطريق وتباين التقرير كافٍ في تعدّد الدليل ، كما ذكر في الوجه السابق ، وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ هذا المسلك هو الّذي سلكه الأصحاب في فتاويهم ، حيث يعبّرون عنها بالأظهر والأقرب والأشبه والأصحّ والأولى والظاهر والوجه والقوّي ونحوها ، لوضوح أنّه لا يراد من تلك العبارات بيان الحكم المظنون بحسب الواقع ونفس الأمر لكثرة التعبير بنحو ذلك في فتاويهم المستندة إلى الاُصول العمليّه الّتي لانظر لها إلى الواقع بالكليّة أو إلى الاُصول اللفظية والقواعد الفقهية الّتي قد لا تفيد الظنّ الفعلي بالواقع ، فليس المراد منها إلاّ بيان ما هو الأوفق بالأدلّة الظاهرية الّتي يجب البناء عليها في مقام العمل ، فتأمّل .

تقرير آخر للدليل السابع من صاحب الهداية

اشارة

قال - طاب ثراه - :

ثمّ إنّه لا يذهب عليك أنّ ما قرّرناه بالنسبة إلى جواز الإفتاء وعدمه يجري بعينه لو قرّر بالنسبة إلى العمل بالظنّ الواقع وتركه ، فيقال : إنّ الأخذ بالظنّ والعمل به حين انسداد سبيل العلم بالواقع يتوقّف على قيام الدليل القاطع عليه ، فإن قام دليل قاطع عليه من أوّل الأمر فذاك ، ومع

ص: 379

انسداد سبيله ينتقل(1) بحكم العقل إلى الدليل الظنّي القاضي بالعمل به والجرى على مقتضاه ، ومع انسداد سبيله يؤخذ بما يظنّ منه ثبوت الحكم في الواقع فيتساوى الظنون بأجمعها من حيث المدرك حينئذٍ لا قبل ذلك ، ولا ريب إذن في حجّية الجميع وأين ذلك من القول به قبل حصول الانسداد المذكور ؟ فالخلط الواقع من الجماعة القائلين بأصالة حجّية الظنّ بعد انسداد سبيل العلم بالواقع إنّما وقع من جهة عدم التميّز بين المرتبتين المذكورتين وعدم إعطاء التأمّل حقّه فيما يقتضيه العقل من الأمرين المفروضين ولا ريب في حصول الترتيب(2) بين الصورتين ، وذلك بحمداللَّه واضح لا سترة عليه [ج 3 ص 383 - 382] .

إيرادٌ على هذا التقرير

أقول : قد يورد على هذا التقرير أنّ توقّف الأخذ بالظنّ على قيام القاطع عليه محلّ وفاق قد تطابقت عليه الأدلّة الأربعة ، وإنّما غرض القائل بالظنّ المطلق أنّ دليل الانسداد دليل قاطع دلّ عليه ، فلا ينتقل عنه إلى غيره ، فيرجع الكلام إلى المناقشة في الدليل المذكور بأحد الوجوه السابقة ، فلا يفيد الوجه المذكور أمراً زايداً على ذلك .

جواب الإيراد من المؤلف

وفيه : أنّ المقصود من الترديد المذكور فرض قيام الدليل القاطع على ذلك أوّلاً مع قطع النظر عن انسداد باب العلم بحجّيته ، وهذا معنى قوله قدس سره من أوّل

ص: 380


1- في المطبوعة الحديثة : « يتنزّل » .
2- في المطبوعة الحديثة : « الترتّب » .

الأمر ، فالغرض أنّ انسداد باب العلم بالواقع يقتضي العمل بالظنّ في الجملة ، لكن لابدّ في تعيين الحجّة منه من قيام القاطع عليه من خارج ، فإن تعذّر ذلك قام الظنّ به مقامه ، فإن تعذّر ذلك لزم تعميم الحكم ، وهو رجوع إلى بعض الطرق السابقة .

ولو قرّر ذلك على وجه يعمّ الظنّ وغيره كان أقرب إلى مقصوده ، فيقال : إنّ انسداد باب العلم بالواقع يستلزم العمل بغيره من ساير الطّرق الممكنة ، فإن أمكن تعيين الحجّة منها بالدليل القاطع فذاك ، وإلّا لزم تعيينه بالأمارة الظنيّة ، افادت الظنّ بالواقع أو لم تفد ، فإن تعذّر ذلك فمطلق الظنّ بالواقع ، لكنّ المقصود هنا تقرير الدليل على طبق ما ذكر في مسألة وجوب الإفتاء ، فيقال : لاشكّ في وجوب العمل بالظنّ في زمان الانسداد في الجملة ، وأنّه لم يسقط عنّا التكليف بالعمل به بواسطة الجهل بتعيين الحجّة منه ، فإن قام القاطع على حجيّة قسم مخصوص منه بقدر الكفاية فذاك ، ومع تعذّره يرجع إلى الدليل الظنّي الدّال على حجّيته وجواز العمل عليه كذلك ، فإذا انسدّ ذلك أيضاً حصل الانتقال إلى مطلق الظنّ ، وهذا أيضاً وإن رجع في الحقيقة إلى بعض ما مرّ إلّا أنّه تقرير آخر ، فتدبّر .

الوجه الثامن من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة

اشارة

قال قدس سره :

الثامن : إنّ الدليل القاطع قائم على حجيّة الظنون الخاصّة والمدارك المخصوصة ، وقد دلّ على انّ هناك طريقاً خاصّاً مقرّراً من صاحب الشريعة لاستنباط الأحكام الشرعيّة لايجوز التعدّي عنه في الحكم والإفتاء مادام التمكّن منه حاصلاً ، وما ذكروه من اعتبار القطع في الاُصول لابدّ من حمله على إرادة هذه المسائل ونحوها من مسائل

ص: 381

الاُصول إن أرادوا بذلك ما يعمّ اُصول الفقه فيكف يلتزم بانسداد سبيل العلم فيها ؟ والطريق عندنا هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة حسب ما دلّت النصوص المستفيضة بل المتواترة على أخذ الأحكام منهما والرجوع إليهما والتمسّك بهما ، وهناك أخبار كثيرة متجاوزة عن حدّ التواتر دالّة على حجّية الكتاب ، وكذلك أخبار اُخر دالّة على حجيّة الأخبار المأثورة على حسب ما فصّل القول فيه في محلّه .

ويدلّ عليه أيضاً : جريان الطريقة المألوفة من لدن زمان الأئمّة عليهم السلام على العمل بالأمرين بين الشيعة وأخذ الأحكام منهما دون سائر الوجوه حسب ما تراه العامّة الضالّة . والأمر في رجوعهم إلى الأخبار أوضح من الشمس في رابعة النهار فإنّ عليها مدار المذهب ، ولا زالت عمل الشيعة من أزمنة الأئمّة عليهم السلام على الأخبار المأثورة بتوسّط من يوثق به من الروايات ، أو مع قيام القرينة الباعثة على الاعتماد عليها والظنّ بصدقها وإن كان راويها مخالفاً لأهل الحقّ كالسّكونى وأضرابه حسب ما نشاهده من طريقتهم . ويؤيّده حكاية الشيخ إتّفاق العصابة على العمل بأخبار جماعة هذا شأنهم كالسكوني وإبن الدراج والطاطريين وبني فضّال وأضرابهم(1) ويشير إليه الإجماع المحكيّ عن الجماعة

ص: 382


1- عدّة الاُصول : 1 / 151 - 149 .

المخصوصين وفيهم فاسد العقيدة .

ومن البيّن : أنّ الصحيح في اصطلاح القدماء هو المعمول به عندهم(1) ، وقد ذكر الصدوق أنّ كلّ ما صحّحه شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد فهو صحيح(2) ، وظاهر في العادة أنّ مجرّد تصحيحه لا يقتضي القطع بصدق الرواية ، فلا يزيد على حصول الاعتماد عليها من أجله فبملاحظة ذلك وغيره ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الرجال وغيرها ممّا ليس هنا موضع ذكره لا يبقي ريب وشبهه في كون الطريقة المستقيمة الجارية بينهم الكاشفة عن تقرير الأئمّة عليهم السلام أو قولهم على كون المدار في حجّية الأخبار على حصول الوثوق و الاعتماد بصدق قائله وحصول الظنّ الغالب بصدوره عنهم عليهم السلام ، ويأتي إن شاء اللَّه تعالى تفصيل القول فيه في محلّه .

فظهر : أنّ الظنّ الخاصّ الّذي نقول بالعمل به وجعله طريقاً إلى معرفة أحكامه هو الظنّ الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ولا نقول بحجّية ظنّ سوى ذلك .

نعم ، هناك قواعد مستنبطة من السنّة واُصول مقرّرة في الأخبار المأثورة يستفاد منها الأحكام حسبما نصّوا عليهم السلام

ص: 383


1- انظر : الفرائد 1 / 340 .
2- انظر : الفقيه 2 / 90 ، ذيل الحديث 1817 وعيون أخبار الرضا عليه السلام 1 / 26 - 22 ، الحديث 45 .

عليه في الروايات من أنّ علينا إلقاء الاُصول وعليكم بالتفريع ، فتلك إذن مندرجة في السنّة ، وأمّا العقل والإجماع فهما يفيدان القطع وليسا من الأدلّة الظنّية ، والمنقول بخبر الواحد إنّما نقول بحجّيته ، لما دلّ من السنّة على حجّية قول الثقة والاعتماد عليه في الشريعة ، فهو أيضاً مستفاد من السنّة مأخوذ منها .

فإن قلت : إنّ حجّية الكتاب قد وقع الخلاف فيها عن جماعة من الأخبارية مطلقاً ومن آخرين منهم بالنسبة إلى ظواهره ، فغاية الأمر تحصيل الظنّ الاجتهادي بحجّيته مطلقاً . ولا وجه لدعوى القطع فيها مع شيوع خلافهم والخلاف في حجّية أخبار الآحاد معروف حتّى أنّ السيّد قدس سره ادّعى إجماعنا على عدم حجّيتها ، بل ربّما يدّعى كونه من ضروريّات مذهبنا كالمنع من العمل بالقياس عندنا(1) .

ومع الغضّ عنه فالخلاف في تفاصيلها متداول بين الأصحاب حتّى المتأخّرين(2) منهم ، فإنّ منهم من يقتصر على العمل بالصحيح ومنهم من يقول بحجّية الحسان أيضاً ، ومنهم من يقول بحجّية الموثّق أيضاً ، إلى غير ذلك من الآراء

ص: 384


1- انظر : رسائل الشريف المرتضى 1 / 24 و 3 / 309 .
2- اُنظر : قوانين الاُصول / 484 ، الفوائد الحائرية / 143 و518 ، تعليقة الوحيد على منهج المقال ، منهج المقال 1 / 109 - 106 الفائدة الثانية .

المتفرّقة ، ومع هذا المعركة العظمى من فحول العلماء كيف يعقل دعوى القطع فيها ؟ هذا بالنسبة إلى أصل الحجّية .

وأمّا بالنسبة إلى الدلالة فالأمر أظهر ، لوضوح ابتناء الأمر فيها على الظنّ تارة من جهة ثبوت مفاد ألفاظها وتحصيل الأوضاع الحاصلة لها حين صدور الخطابات كوضع ألفاظ العموم للعموم ، ووضع الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلاً ، إلى غير ذلك من المباحث الخلافيّة المتعلّقة بالأوضاع سواء كانت شخصيّة أو نوعيّة ، وكثير من أوضاع الألفاظ مأخوذة من نقل الآحاد وتارة من جهة عدم التصرّف في استعمال تلك الألفاظ بإرادة خلاف حقائقها ، أو طروّ الإضمار ، أو التخصيص ، أو التقييد عليها ، إلى غير ذلك .

ومايتخيّل من قيام الإجماع على حجّية الظنون المتعلّقة بمباحث الألفاظ ممنوع على إطلاقه ، وإنّما المسلّم منه ما تعلّق باستعمال المستعمل بإرادة ظواهرها وعدم الخروج عن مقتضى أوضاعها بعد ثبوت الوضع إلى أن يقوم القرينة على خلافه ، وليس ذلك أيضاً على إطلاقه ، بل(1) المسلّم منه خصوص صورتين لا يتعدّاهما ، لاختصاص الدليل بهما :

أحدهما : بالنّسبة إلى المخاطب بذلك الخطاب إذ عليه

ص: 385


1- في المطبوعة الحديثة زيادة : « إنّما » .

بناء اللغات ، وعليه تجري المخاطبات والمحاورات الدائرة بين الناس في جميع الألسنة من لدن زمان آدم عليه السلام إلى يومنا هذا ، كيف ! ولو لا ذلك لكان تقرير اللغات لغواً ، إذ ليس مفادها غالباً إلّا الظنّ ، وأمّا غير من ألقى إليه ذلك الكلام سواء كان في ذلك العصر أو الأعصار المتأخّرة فلا يفيد الوجه المذكور حجّية ظنّه في فهم مراد(1) المتكلّم لعدم وقوع المخاطبة إيّاه وعدم كونه مقصوداً بالإفادة من العبارة ، فلابدّ له من(2) تحصيل فهم المخاطب ، فإن أمكن تحصيله على وجه اليقين فلا كلام ، وإلّا كان الاعتماد على الظنّ به موقوفاً على أصالة حجّية الظنّ ، إذ لا دليل عليه بالخصوص يفيد القطع بحجّيته والدليل المتقدّم لا يجري بالنسبة إليه فينحصر الأمر في الاعتماد عليه في الاندراج تحت ذلك الأصل .

ثانيهما : أن يكون الكلام موضوعاً لإفهام من يصل إليه مطلقاً أو لإفهام من يصل إليه من صنف خاصّ فيكون مقصود المتكلّم بقائه والاستفادة منه ، وحينئذٍ فلا فرق بين من وقعت المخاطبة معه من الحاضرين الّذين اُلقى إليهم الكلام والغائبين والمعدومين ممّن يأتي في الأعصار اللاحقه

ص: 386


1- في المطبوعة الحديثة زيادة : « ذلك » .
2- لم تراقي المطبوعة الحديثة كلمة : « مِن » .

الّذين قصد استفادتهم من ذلك الكلام وإن لم يكونوا مخاطبين بذلك الخطاب على وجه الحقيقة ، وذلك كتصنيفات المصنّفين ، فإنّ الظنّ الحاصل لهم من ذلك الكلام حجّة بالنسبة إلى الجميع في الوقوف على مراد المتكلّم والطريقة المستمرّة من أهل العرف قاضية بذلك بحيث لا مجال أيضاً ولا الريب فيه ، وعليه يبتنى في العادة فهم الكتب المصنفّة والرّسائل الواردة ونحوها ، وشي ء من الأمرين المذكورين لا ينفعنا في المقام .

أمّا الأوّل : فظاهر ، لعدم وقوع المخاطبة معنا في شي ء من الخطابات الواردة في الشّريعة ، نعم لو قيل بعموم الخطاب الشفاهي لربّما أمكن القول به إلّا أنّ القول المذكور ضعيف حسب ما بيّن في محلّه .

وأمّا الثاني : فلعدم قيام دليل عليه ، كيف ! والمقصود في المقام حصول القطع بالحجّية ، ولا يتمّ ذلك إلّا مع قيام الدليل القاطع على كون تلك الخطابات من هذا القبيل وليس بظاهر ، بل من الظاهر خلافه بالنسبة إلى الأخبار فإنّ الظاهر أنّ خطابات الصادق عليه السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم مثلاً لا يشمل غيره ، ولا يريد بحسب المخاطبة إلّا تفهيمه وإن كان غيره مشاركاً للحكم معه ، فإنّ مجرّد المشاركة لا يقتضي إرادة تفهيمه بذلك الخطاب حتّى يكون الكلام الوارد منه عليه السلام بمنزلة كلام المصنّفين وخطابهم المقصود منه

ص: 387

إفهام الجميع .

وهذا الوجه وإن لم يكن بعيداً بالنسبة إلى الكتاب - فإنّ الظاهر كونه موضوعاً لإفهام الاُمّة واستفادتهم منه بالتدبّر فيه والتأمّل في معانيه إلى يوم القيامة على ما هو الظاهر من وضع الكتاب ويستفاد من بعض الأخبار أيضاً - إلّا انّه لم يقم عليه دليل قاطع ، فلا يخرج أيضاً عن دائرة الظنّ المطلق ، ولا دليل على حجّية ذلك الظنّ المخصوص ، فلا فائدة في ادراج خطاباته تحت القسم المذكور إلّا مع إقامة الدليل القاطع عليه لابدونه ، كما هو الواقع .

فظهر بما ذكرنا أنّه ليس شي ء من الظنون الحاصلة عندنا ممّا قام الدليل على حجّيته على سبيل السلب الكلّي ، ولا يتمّ القول بحجّية شي ء منها إلّا بالدليل العامّ القاضي بحجّية ظنّ المجتهد مطلقاً . هذا كلّه بالنسبة إلى السند والدلالة .

ثمّ يأتي بعد ذلك ملاحظة التعارض الحاصل بينهما ، فإنّه لا يحصل دليل ظنّى خالٍ عن المعارض بالمرّة وعلاج التعارض بين الأدلّة من الأُمور الظنيّة في الأغلب ، والأخبار الواردة فيه مع كونها ظنيّة متعارضة أيضاً ، ولا يستفاد المقصود منها إلّا بالظنّ ، فهو ظنّ في ظنّ .

قلت : أمّا المناقشة في قطعيّة حجيّة الكتاب من جهة وقوع الخلاف فيها فهو أو هن شي ء ، لوضوح أنّ مجرّد وقوع

ص: 388

الخلاف في مسألة لا يقضي بكونها ظنيّة كيف ! وأغلب المطالب الكلاميّة ممّا وقع الخلاف فيها من جماعة من العقلاء ، ومع ذلك فالحكم فيها من القطعيّات ، وليس المدرك لحجّية الكتاب منحصراً في الإجماع حتى يناقش فيه(1) من جهة وجود الخلاف ، وعلى فرض انحصار دليله القطعي فيه ووجود الخلاف فيه من الجماعة مسبوق بالإجماع ، بل قد يدعى قيام الضرورة عليه ، وقد بلغت تلك المسألة في الوضوح مبلغاً لا يتلفت معه إلى الخلاف المذكور ولا إلى الشبهة الواردة فيها .

وامّا السنّة المرويّة والأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والائمّة عليهم السلام وإن أمكن المناقشة في بادي الرأي في كون حجّيتها إجماعيّة نظراً إلى شيوع الخلاف فيها بيننا من قديم الزمان ، الّا أنّ طريقة الّتي قرّرناه في الرجوع إليها والأخذ بها هي الّتي استقامت عليه الشيعة من لدن زمان الأئمّة عليهم السلام بحيث يحصل القطع من التأمّل فيها كون ذلك ناشئاً عن إجماع وإن خالف فيه من خالف ، فإنّ مجرّد وجود الخلاف من جهة بعض الشبهات والتباس الأمر على المخالف لا يقضي بكون المسألة ظنيّة حتّى أنّ الأخباريين توهّموا من ملاحظة ذلك كون الأخبار المأثورة عن

ص: 389


1- لم ترد في المطبوعة الحديثة كلمة : « فيه » .

الأئمّة عليهم السلام قطعيّة الصّدور معلومة الورود عنهم عليهم السلام بحسب الواقع ، وهو خطاء في مقابلة التوّهم المذكور ، إلّا أنّهم خلطوا بين معلوم الحجيّة ومعلوم الصدور ، والّذي ثبت من ملاحظة طريقة السلف وعملهم - الكاشف عن تقرير الأئمّة أو تصريحهم - هو القطع بالحجّية وتقرير صاحب الشرع ذلك طريقاً موصلاً إلى الأحكام كما قرروا لإثبات الموضوعات لا العلم بالصدور ، إذ ليس شي ء من الوجوه المذكورة مقيّداً له ، وقد فصّل القول فيه في محلّه .

المناقشات الثلاثة في الوجه الثامن وجواباته

اشارة

وأمّا ما ذكر من المناقشة في حجّية الظنّ المتعلّق بالألفاظ فأوهن شي ء ، إذ جريان السيرة المستمّرة من أهل اللغات على ذلك ظاهر أيضاً ، فكما أنّ المخاطب يحمل الكلام على ظاهره حتّى يتبيّن المخرج عنه كذا غيره حسب ما هو ظاهر من ملاحظة طريقة الناس في فهم ما يسمعونه من الأقوال المحكيّة والخطابات المنقولة ، وقد ملئت منه كتب التواريخ وغيرها ، ولا يتوقّف أحد في فهمها وحملها على ظواهرها [ج 3 ص 388 - 383] .

أقول : هذا الوجه هو الأصل في هذا الباب ، وعليه عمل الفرقة الإماميّة من قديم الدهر إلى يومنا هذا ، وإنّما غلبت الشبهة على شر ذمة منهم لا يقدح مخالفتهم في الإجماع ، ولا شكّ أنّه مع البناء على حجيّة الطرق المذكورة لا يتحقّق الحاجة إلى التمسّك بمطلق الظنّ في شي ء من المسائل ، وإنّما يجب الرجوع فيما لا دليل عليه من تلك الطرق إلى القواعد الشرعيّة والاُصول العمليّة

ص: 390

الّتي لا يخلو منها شي ء من المسائل ، ولا يلزم من ذلك خروج من الدين ، بل ولا مخالفة في ذلك للمعلوم بالإجمال أصلاً .

نعم ، قد يتّفق في بعض المسائل دوران الأمر بين المحذورين ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصلين البرائة والاحتياط ، فإن ثبت فيه التنجيز مطلقاً فذاك ، وإلّا فلا محيص في مثله عن العمل بمطلق الظنّ فيما يجب بناء العمل عليه في الظاهر على طريقة المصنّف قدس سره كما مرّ ، وذلك خارج عن محلّ الكلام ، إنّما الكلام في طريق إثبات معظم الأحكام ، وهو في غير ما دلّ القاطع عليه من العقل والإجماع المحقّق ما ذكر من الكتاب والسنّة .

المناقشة الاُولى وجوابات الثلاث لها : المناقشة في الإسناد يجري في الكتاب

وغاية ما يتصوّر من المناقشة في ذلك وجوه ثلاثة أشار إليها المصنّف قدس سره ؛

الأوّل : المناقشة في الإسناد أمّا ، الكتاب فالوجه فيه ما اشتهر بين الأخباريين من وقوع التحريف والنقصان فيه ، فيقوم احتمال اختلاف المعنى بسببه في كلّ مقام يتمسّك به ، وهو أوهن المناقشات في هذا الباب .

أمّا أوّلاً ، فلمنافاته لجميع ما جاء عن أئمة الهدى عليهم السلام في التمسّك بالآيات - مع وضوح انعقاد الإجماع عليه - للقطع بأنّ المراد من ذلك هذا الموجود بين الدفتين ، دون المحفوظ عند الأئمّة عليهم السلام ألا ترى أنّ أحداً من العلماء لم يناقش في ذلك بما ذكر ، حتّى إنّ الأخبارييّن لم يناقشوا في ذلك الاّ من حيث الدلالة نظراً إلى اختصاص علم الكتاب بهم عليهم السلام فلا أقلّ من أن يكون المناقشة في ذلك من حيث السند خرقاً للإجماع المركّب .

وأمّا ثانياً ، فلأنّ التمسّك بالقرآن إنّما يثبت على الوجه الّذي يجب قرائته عليه ، ولا شكّ في ثبوت ذلك في القراءات المشهورة على الشروط المقرّرة بالنصّ والإجماع ، فيثبت وجوب التمسّك به على ذلك ؛ وإنكار الملازمة بين

ص: 391

جواز القرائة والحكم بالصّحة على وجه يترتّب عليه الاستناد ظاهر الفساد ، للقطع بأنّ تجويز القرائة بما يقرئه الناس إنّما وقع من حيث الحكم بمطابقته لما أنزل اللَّه وباعتبار كونه قرآناً يترتّب عليه آثاره ويتحقّق به امتثال التكاليف المتعلّقة به ، كما لا يخفى .

وأمّا ثالثاً ، فلأنّ وقوع الزيادة مجمع على بطلانه ، وقد صرّح جماعة من المحققّين بنقل الإجماع عليه ، وذلك أنّه إن وقع الشكّ في تواتر القرائة المختصّة ببعض القرآء فلا شكّ في تواتر القدر المتّفق عليه بين الجميع ، وذلك أمر معلوم من ملاحظة طريقتهم والنظر في أسانيد رواياتهم ، فلم يبق إلّا احتمال النقصان المغيّر للمعني ، وهو أيضاً ممنوع ، وقد اتّفق المحقّقون على خلافه ، وما يترائى من ظواهر عدّة من الأخبار من وقوع التحريف والنقصان المذكورين مدفوع بمعارضتها بأقوى منها .

ثمّ الاحتمال المذكور - على فرض تسليمه - مدفوع بالأصل ، لأنّ احتمال انضمام الآية إلى الزيادة المغيّرة للمعنى كاحتمال انضمامها إلى ساير القرائن الحاليّة أو المقاليّة الصارفة لها عن معانيها الظاهرة ، وقد جرت طريقة كافّة العقلاء على عدم الاعتناء بمثل ذلك ، ألا ترى أنّه إذا وصل إلى العبد حكم من سيّده فلم يمتثل معتذراً باحتمال انضمامه إلى زيادة تغيّر معناه أو قرينة اُخرى في ذلك عدّ عاصياً عندهم مستحقّاً للعقاب ، وإنّما يحكمون بالبناء على الأمر الثابت من ذلك حتّى يثبت الصارف عنه ، ولو لا ذلك لزم سدّ باب التمسّك بالعبارات المحكيّة مطلقاً ، وهو باطل بالضرورة .

وبالجملة ، فالشكّ المذكور راجع إلى الشّك في المراد دون الاسناد ، فالشبهة فيه شبهة في مقابلة الضرورة .

ص: 392

المناقشة في الإسناد يجري في الأخبار أيضاً

وأمّا الأخبار ، فالوجه فيه أحد اُمور ؛

منها : مخالفة السيّد وأتباعه في مطلق أخبار الآحاد ، حتّى ادّعى السيّد قيام الضرورة عليه على نحو القياس وشبهه(1) ، ويشبه أن يكون غرضه من ذلك مجرّد خبر الواحد دون الخبر الموجب للعلم العادي المقتضي لسكون النفس الّذي فسّرهو قدس سره العلم به ، ويعامل معه في العادات معاملة اليقين في الأُمور المتعلّقة بالدين والدنيا ، وهو المقترن بقرينة وثاقة الراوى وتحرّزه عن الكذب أو عمل الأصحاب أو نحو ذلك بعد إلغاء الاحتمالات الضعيفة الّتي لا يعتدّ بها في العرف والعادة ، كاحتمال السهو والنسيان والتقيّة وأمثالها ممّا لا يستند إلى شاهد ولا أمارة .

نقد كلام السيد المرتضى في عدم حجيّة خبر الواحد

وأمّا ما ذكره السيّد من وجود الطرق القطعيّة للأحكام الشرعيّة ، فلا شكّ أنّ غرضه من ذلك القطع باعتبارها ولزوم العمل عليها دون القطع بإصابة الواقع . ألا ترى أنّ تمسّكه في المسائل الفرعيّة بالظواهر والاُصول اللفظيّة والقواعد الشرعيّة والاُصول العمليّة - كدليل الاحتياط والبرائة - أكثر من أن يحصى ، مع عدم إفادة شي ء منها للقطع بالواقع بالضرورة .

ولو سلّم مخالفة السيّد وأتباعه ، فلا شكّ في استناده إلى شبهة حصلت لهم في ذلك منعتهم من اعتقاد الضرورة - كما ذكره العلّامة وغيره - وإلّا فانعقاد الإجماع على خلافه من قديم الزمان إلى الآن حتّى في ساير الملل والأديان ممّا لا يتطّرق إليه شائبة الإشكال ، وقد انقرض المخالف وسبقه الإجماع ولحقه ، بل الاعتبار الصحيح قاضٍ بالعلم به مع قطع النظر عن الشواهد النقليّة ، وذلك للقطع

ص: 393


1- انظر : المسائل الموصليات الثالثة (رسائل الشريف المرتضى) 1 / 210 - 211 .

بأنّ الأحكام الشرعيّة على تكثّرها وتشعّب مسائلها وعدم انتهاء فروعها وتجدّد الحاجة إلى جزئياتها واشتراك عامّة أهل الأمصار والأعصار المتباعدة حتّى النساء والضعفاء والمرضى وأهل البوادي والقرى في الحاجة إليها لا تكاد تبلغ عامّة المكلّفين بطريق التواتر والاحتفاف بقرائن اليقين .

فلا يستريب ذو مسكة في استمرار الطريقة على الاكتفاء في وصولها وإيصالها بتوسّط الثقات والمعتمدين من المفتين والروات في جميع الشرايع ، وخصوصاً في هذه الشريعة السهلة المبنيّة على غاية اليسر والسهولة المنفيّة عنها أقسام الحرج والمشقّة ، مع أنّ الشواهد النقليّة في ذلك أكثر من أن يحصى ، كيف ولو بنى الأمر على هذا التضييق وابطال هذا الركن الوثيق لتكثّرت به الأخبار ، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار ، ونادى به رؤساء الدين في خطبهم ومواعظهم ، وذلك لاستمرار طريقة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقات ، واعتقاد دوران استحقاق الثواب والعقاب وصدق الإطاعة والعصيان مدارها .

فالالتزام بتحصيل حقّ اليقين في كلّ جزئي من جزئيات الدين بالنسبة إلى كلّ واحد من آحاد المكلّفين خروج عن السيرة المعروفة ، ومنافاة للطريقة المألوفة ، ووقوع في غاية الحرج والمشقّة ونهاية العسر والشدّة ، فلا يسوغ لصاحب الشريعة المبلّغ لعامّة التكاليف الشرعيّة المتصدّي لبيان جزئيات الأحكام الخفيّة المتعلّقة بالوقايع النادرة إهمال الأمر في ذلك مع عموم البلوى به وشدّة الحاجة إليه ، فضلاً عن تقريرهم على ما علم من طريقتهم ، وابقائهم على ما عهد من سيرتهم ، مع أنّه لم يصل إلينا في ذلك نصّ ولاخبر ، ولا يوجد منه عين ولا أثر ؛ بل الأخبار المتواترة شاهدة على خلاف ذلك ، وطريقة المسلمين جارية على ضدّ ذلك ، ولذا لم يقع السؤال في شي ء من الأخبار عن جواز ذلك ، مع غاية

ص: 394

حرصهم على السؤال عن جزئيّات الأحكام ؛ وليس ذلك إلاّ لكونه أمراً مركوزاً في أذهانهم لا يعترته شائبة الشكّ والشبهة عندهم ، وإنّما تكرّر السؤال عن وثاقة عدّة من الرواة وعن علاج المتعارضات ، نظراً إلى كون أصل الحكم عندهم من المسلّمات .

قول بعض الأخباريين بقطعيّة الأخبار الواردة في الكتب الأربعة ضلال مبين

ألا ترى أنّ الشيعة بعد زمن المشايخ الثلاثة إنّما كان معوّلهم في معظم أحكام الشريعة على الكتب الأربعة ونحوها ، وعمل من قبلهم على الاُصول الأربعمائة ، مع أنّ أكثرها أخبار آحاد لا يفيد اليقين ، وقول بعض الأخبارييّن(1) بقطعيتها ضلال مبين ، وقد جرت طريقتهم على نحو ذلك في مدّة تزيد على مأتي عام ، وأئمّة الهدى عليهم السلام بين أظهرهم ، وكان أقصى همهم التفتيش عن عدالة الراوى ، فإذا أصابوا ذلك لم يتوقّفوا إلاّ لعارض أو مانع ، فيرجعون في ذلك إلى الإمام عليه السلام .

وقد أطال الشيخ في العدّة كلامه في بيان الوجوه الدالة على ذلك ، فليرجع إلى كتابه ، فإنّه بلغ في ذلك الغاية ، حتّى قال : « إنّ من ادعى القرائن في جميع المسائل الّتي استعمل الأصحاب فيها أخبار الآحاد كان معوّلاً على ما يعلم ضرورة خلافه ، مدافعاً لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه »(2) .

وقد اشتهر الإجماع الّذي نقله شيخنا الكشّي على تصحيح ما يصحّ عن جماعة معروفين بين أصحابنا ، وتلقّوه بالقبول مع وضوح عدم كونهم معصومين

ص: 395


1- نحو الشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار / 17 ، المحدث البحراني في الحدائق 1 / 25 والمحدّث العاملي في الوسائل 18 / 52 و 75 .
2- عدة الاُصول 1 / 136 .

عن الخطأ والسهو ونحوهما من العادات البشرية ، وحكى النجاشي وغيره أنّ أصحابنا يسكنون إلى مراسيل إبن أبي عمير(1) .

وقال الشهيد : « قبلت الأصحاب مراسيل إبن أبي عمير وصفوان والبزنطي ، لأنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة »(2) .

وحكى الشيخ في العدّة عمل الطائفة بأخبار عدّة من الفرق ، فصلّهم هناك تفصيلاً(3) .

وصرّح المحقّق ب « أنّ الاقتصار على سليم السّند طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلّا وقد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر المعدّل »(4) .

وحكى ابن إدريس في رسالة المضايقة نقلاً عنه : « إنّ ابني بابويه والأشعريين كسعد بن عبداللَّه وسعد بن سعد ومحمّد بن على بن محبوب والقمّيين أجمع كعلي بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد وغيرهما ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق بروايته »(5) .

وحكى الشهيد(6) وإبن الشيخ أنّ من الأصحاب كانوا يتمسّكون بما

ص: 396


1- رجال النجاشي / 326 الرقم 887 .
2- ذكرى الشيعة 1 / 49 .
3- عدّة الاُصول 1 / 150 - وانظر : معجم رجال الحديث 7 / 159 .
4- المعتبر 1 / 29 .
5- رسالة خلاصة الاستدلال في بحث قضاء الصلاة لإبن إدريس الحلّي وهي غير مطبوعة ، بل قد يقال أنّها مفقودة ولكن حكى عنه الشهيد في غاية المراد 1 / 102 .
6- ذكرى الشيعة 1 / 51 .

يجدونه في شرايع على بن بابويه ، تنزيلاً لفتاويه منزلة رواياته(1) .

إدّعى إبن طاووس الإجماع على حجيّة الخبر الواحد

وبالغ إبن طاووس في إظهار التعجّب من السيّد ، أنّه كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة يعمل بأخبار الآحاد ، قال : « ومن اطّلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار وجد المسلمين والمرتضى قدس سره وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين »(2) .

وصرّح المجلسي بتواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على أخبار الآحاد(3) وإنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام بها متواتر في المعنى ، وقد تكثّر نقل هذا الإجماع والتواتر في كلام كثير من المتأخّرين ، ومن تتبّع كتب الرجال والحكايات المنقولة في هذا الباب في كتاب الكشّي وغيره لم يختلجه فيما ذكر شكّ ولا ارتياب ، بل الغرض من تدوين هذا العلم إنّما هو ذلك ، ألا ترى إلى قولهم : فلان مقبول الحديث ، أو صحيح الحديث ، أو ثقة في الحديث ، أو معتمد الكتاب ، أو مسكون إليه ، أو يعمل بما ينفرد به ؛ وفلان ضعيف في الحديث ، أو متّهم في حديثه ، أو متروك العمل بما يتخصّ بروايته ، أو منكر الحديث ، أو يعرف وينكر ، أو يعتمد المراسيل ويروى عن المجاهيل ، إلى غير ذلك من العبارات الكاشفة عن إطباق الأصحاب على العمل بأخبار الثقات ؛ ولذا استثنى إبن الوليد من كتاب نوادر الحكمة(4) روايات أشخاص معيّنة وتلقّاه بالقبول من بعده .

ص: 397


1- نقله عنه في الفرائد 1 / 339 .
2- نقله عنه في الفرائد 1 / 332 .
3- بحار الأنوار 2 / 245 ح 55 .
4- انظر : رجال النجاشي / 348 ، الرقم 939 ، ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى - الفهرست للشيخ الطوسي / 411 - 408 ، الرقم 623 .

وكيف يدّعى حصول القطع من رواية الواحد والإثنين والثلاثة مع انفتاح أبواب الخطأ والسهو والنسيان ونحوها على فرض إحراز العدالة الواقعيّة ؟ ولو جرت أخبار الآحاد مجرى القياس والاستحسان في الشريعة لشاركتها في لزوم الأعراض عنها ، ولمّا وقع الاهتمام الشديد من الأصحاب في حفظها ونقلها وضبطها ، بل لزمهم الاهتمام ببيان الأخبار القطعيّة وذكر الوجه في قطعيّتها وتفصيل القول في القرائن المنضمّة إليها حتّى يسوغ العمل عليها ، لاختصاصها بالحجيّة دون غيرها ، فكيف ملئوا كتبهم واُصولهم الموضوعة لعمل المكلّفين من أخبار الآحاد بمجرّد ثبوت الوثاقة لهم وسكون النّفس بنقلهم ؟ وما ذلك إلاّ لأجل العمل .

ألا ترى أنّ قوماً من الثقات قد أعرضوا عن روايات من لا يوثق به من الروات حتّى تركوا نقلها وإيرادها ، كما نقل أنّ أحمد بن محمّد لم يرو عن إبن محبوب على جلالة قدره من أجل أنّ أصحابنا يتّهمونه في روايته عن أبي حمزة ، وأبعد البرقي وغيره عن قم لروايته عن الضّعفاء(1) .

وذكر النجاشي أنّه رأى أحمد بن محمّد بن عيّاش وسمع منه شيئاً كثيراً ، قال : « ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو عنه وتجنّبته »(2) .

وعن أيّوب بن نوح أنّه قال : « لا أروي لكم عن محمّد بن سنان شيئاً ، فإنّه قال قبل موته : كلّما حدّثتكم به لم يكن لي سماع ولا رواية ، وإنّما وجدته »(3) .

ص: 398


1- خلاصة الاقوال / 63 الرقم 7 - الرجال ( إبن غضائرى ) 39 الرقم 10 - واُنظر : الفرائد 1 / 353 .
2- رجال النجاشي / 86 - 85 الرقم 207 .
3- اختيار معرفة الرجال 2 / 795 الرقم 976 .

وحكى النجاشي أنّ علي بن فضّال لم يرو عن أبيه شيئاً ، وقال : « كنت اُقابله وسنّي ثمانية عشر سنة بكتبه ولا أفهم إذ ذاك الروايات ، ولا أستحلّ أنّ أرويها عنه »(1) .

ومن تأمّل في طريقة المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وآله ومابعده وجد عمل الصحابّة والتابعين بأخبار الآحاد والاستدلال بها من غير نكير في وقايع كثيرة حكاها الفريقان في كتبهم ، وقد حكى العلّامة بعضها قائلاً : إنّ الأخبار بذلك كثيرة وإن لم يكن كلّ واحد منها متواتراً لكنّ القدر المشترك بينها وبين العمل بمقتضى الخبر متواتر(2) .

وما أجاب به السيّد من أنّه « إنّما عمل بخبر الواحد المتأمّرون الّذين يتحشّم التصريح بخلافهم فإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم »(3) ؛ مدفوع بأنّ العمل به شايع في الخاصّة ، مع أنّ ذلك ليس بأعظم من مسألة الخلافة الّتي أنكرها عليهم من أنكر ، بل عرفت أنّ العمل بخبر الثقة أمر قد استقرّت عليه طريقة العقلاء كافّة في الأوامر الجارية بين الموالى والعبيد ، وكلّ مطاع ومطيع ، فيعدّ الأخذ به عندهم طاعة ومخالفته معصية ، فمع دوران صدق الإطاعة والعصيان مدار ذلك كيف لا يمكن الرجوع إلى الاُصول المعمول عليها عندهم عند عدم الدليل ؟ وقد اعترف السيّد(4) بذلك في عدّة من المقامات ، إلّا أنّه ذكر أنّ هذه مقامات ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق عمليّة من إجماع أو غيره ،

ص: 399


1- رجال النجاشي / 258 - 257 الرقم 676 .
2- انظر : الفرائد 1 / 348 - 347 .
3- انظر : الذريعة 2 / 537 .
4- اُنظر رسائل الشريف المرتضى 1 / 41 - 37 .

فكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام ؟

وفيه أنّ سيرة المسلمين مستمرّة على العمل بالخبر في تلك الموارد مع عدم اطّلاعهم على كون ذلك إجماعيّاً ، بل لكونه مركوزاً في أذهانهم ، فلا يفرق بين المقامات إلّا فيما ثبت فيه الطرق المخصوصة من البيّنات بشروطها المقرّرة على حسب اختلاف المقامات . ألا ترى أنّ المقلّدين لايتوّقفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد ، والزوجة لا تتوقّف فيما يحكيه زوجها في مسائل حيضها مثلاً إلى أن يسألوا المجتهد عن جواز العمل بذلك .

ودعوى حصول القطع في جميع الموارد مخالفة للوجدان ، على أنّ السيّد إنّما منع من ذلك لزعمه عدم الحاجة إلى خبر الواحد ، كما قال :

نقل الروايات في حجيّة أخبار الآحاد

فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد فعلى أيّ شي ء تعوّلون في الفقه كلّه ؟

فأجاب بأنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلميّة . ومن المعلوم أنّ هذا لوصحّ - ولن يصحّ - فإنّما يصحّ في أمثال زمانه دون ما بعده ، فيكون في مثل هذا الزمان موافقاً ، ومن تتبّع كتب الاستدلال وشاهد سيرة العلماء في جميع أبواب الفقه ازداد فيما ذكرناه يقيناً .

وفيما ورد في علاج متعارضات الأخبار أوضح شاهد على قبول أحاديث الثقات والأخيار ، وفي عدّة من الروايات إرجاع آحاد الأصحاب في أحكام دينهم إلى آحاد الروات ، فروى « الكشّي أنّ شعيب العقرقوفي قال لأبي عبداللَّه عليه السلام : ربّما احتجنا إلى أن نسأل عن الشي ء ، فمن نسأل ؟ قال : عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير »(1) .

ص: 400


1- اختيار معرفة الرجال 1 / 400 ، الرقم 291 .

وإنّ فيض ابن المختار دخل عليه فقال عليه السلام : « إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» ، يعني زرارة(1) .

وإنّ ابن أبي يعفور قال له : « ليس كلّ ساعةٍ ألقاك ولا يمكن القدوم ويجي ء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسئلني عنه ، قال : فما يمنعك عن محمّد بن مسلم ؟ فإنّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً »(2) .

وعن يونس بن يعقوب قال : « كنّا عنده عليه السلام فقال : أمالكم من مفزع ؟ أمالكم من مستراح يستريحون إليه ؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة » ؟(3)

وعن علي بن المسيّب أنّه قال للرضا عليه السلام « شقّتى بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم الدين ؟ قال : من زكريّا ابن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا »(4) .

وعن عبدالعزيز بن المهتدي أنّه قال له : « شقّتى بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين ؟ قال : نعم »(5) .

وفي حديث آخر : « أفيونس بن عبدالرّحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني ؟ فقال عليه السلام : نعم »(6) .

ص: 401


1- اختيار معرفة الرجال 1 / 347 ، الرقم 216 .
2- اختيار معرفة الرجال 1 / 383 ، الرقم 273 .
3- اختيار معرفة الرجال 2 / 628 ، الرقم 620 .
4- اختيار معرفة الرجال 2 / 858 ، الرقم 1112 .
5- اختيار معرفة الرجال 2 / 785 ، الرقم 937 .
6- اختيار معرفة الرجال 2 / 784 ، الرقم 935 .

وفي آخر أنّه قال له : « إنّى لا ألقاك(1) في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني ؟ فقال : فإنّه من يونس »(2) .

وعن مسلم إنّ أبا عبداللَّه عليه السلام قال له : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّى حديثاً كثيراً ، فما روى لك عنّي فأروه عنّي »(3) . ورواه النجاشي عن سليم(4) .

وروى عن أبان بن عثمان أنّه عليه السلام قال له : « إنّ أبان بن تغلب روى ثلاثين ألف حديثاً فأروها عنه »(5) .

وروى الصّدوق أنّه عليه السلام قال له : « إنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي رواية كثيرة ، فما رواه لك فأروه عنّي »(6) .

وروى الكليني عن أحمد بن إسحاق أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام وقال : « من اُعامل وعمّن آخذ وقول من اقبل ؟ فقال : العمري ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون » .

وسال أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك فقال : « العمري وإبنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان » إلى آخره(7) .

وفيما ورد في حقّ النجباء الأربعة من قوله عليه السلام : « أربعة نجباء اُمناء اللَّه

ص: 402


1- في المصدر : « لا أقدر على لقائك » .
2- اختيار معرفة الرجال 2 / 789 ، الرقم 910 .
3- اختيار معرفة الرجال 2 / 623 - 622 ، الرقم 604 .
4- رجال النجاشي / 13 ، الرقم 7 .
5- رجال النجاشي / 12 ، الرقم 7 .
6- الفقيه 4 / 435 .
7- الكافي 1 / 330 - 329 ح 1 ، وسائل الشيعة 27 / 138 ، ح 4 .

على حلاله وحرامه ، وأنّه لو لا هم لاندرست آثار النبوّة »(1) .

وفي حق السفراء الأربعة ووكلاء الناحية المقدّسة وساير الثّقات ممّا يقف عليه المتتبّع كفاية في الباب .

أتزعم أنّ هؤلاء كانوا معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان وغيرها من العادات البشريّة ؟ كلاّ ، بل ليس المعصوم إلاّ من عصمه اللَّه ، ومن تتبّع في أخبار هؤلاء وقف على ما في بعضها من الخطأ ، والاستقراء والتّعليل وظهور المناط في تلك الأخبار يشهد باناطة الحكم بالوثاقة والأمانه .

وفي توقيع الحجّة - روحي وروح العالمين له الفداء - : « وامّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى روات حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم »(2) .

وفي آخر : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا »(3) .

وروى الكشّي « أنّ أبا الحسن الثالث عليه السلام كتب إلى إبني حاتم حين سأله كلّ منهما عمّن آخذ معالم ديني ؟ فهمت ما ذكرتما فاصمدا ، في دينكما على كلّ مستنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهم كافوكما ، إن شاء اللَّه تعالى »(4) .

وإنّ أبا الحسن الأوّل كتب إلى على بن سويد ، وهو في السجن : « وأمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين »(5) .

ص: 403


1- اختيار معرفة الرجال 1 / 398 ، الرقم 286 .
2- كمال الدين 484 - 483 ح 4 ، وسائل الشيعة 27 / 140 ، ح 9 .
3- اختيار معرفة الرجال 2 / 816 ، الرقم 1020 .
4- اختيار معرفة الرجال 1 / 16 - 15 ، الرقم 7 .
5- اختيار معرفة الرجال 1 / 7 ، الرقم 4 .

وفي تفسير القرى المباركة والقرى الظاهرة في الآية الشريفة في عدّة من الأخبار : نحن القرى الّتي بارك اللَّه فيها ، والقرى الظاهرة الرسل ، والنقلة عنّا إلى شيعتنا وفقهاء شيعتنا(1) .

وروى الكشّى أنّ أبا عبداللَّه عليه السلام قال : « لو لا زرارة ونظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب »(2) .

وفي حديث آخر : « لاندرست أحاديث أبي »(3) .

وفي النبوي المتواتر في المعنى : من حفظ على اُمتي أربعين حديثاً بعثه اللَّه فقيهاً عالماً(4) .

وفي آخر : « إعرفوا منازل الرجال منّا بقدر روايتهم عنّا »(5) .

وفي المستفيض : « حديث واحد في حلال وحرام تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها من ذهب وفضّة »(6) . وفي بعضها : « يأخذه صادق عن

ص: 404


1- الاحتجاج 2 / 63 .
2- اختيار معرفة الرجال 1 / 345 ، الرقم 210 .
3- اختيار معرفة الرجال 1 / 348 - 347 ، الرقم 217 .
4- الأربعون حديثاً لشيخنا البهائي / 71 ، مرآة العقول 1 / 165 ، فرائد الاُصول 1 / 307 ، وانظر : الوسائل 27 / 95 - 93 ، ح 54 ، 58 ، 59 ، 60 ، 62 - قال العالم الفاضل المولى صالح المازندراني « . . . ومضمون هذا الحديث مستفيض مشهور بين الخاصّة والعامّة ، بل قال بعض اصحابنا بتواتره و . . . » شرح اصول الكافي 2 / 193 - 191 ، وعليك في هذا المجال بالتأمّل التامّ في ما أفاده المحقّق [المولى محمّد اسماعيل المازندراني] الخواجوئى قدس سره في أربعينه ؛ فلعمرى أنّه قد أحسن واجاد . الأربعون حديثاً / 6 .
5- اختيار معرفة الرجال 1 / 5 .
6- المحاسن 1 / 227 ، ح 157 . واُنظر : الفصول المهمّة 1 / 686 ، ح 5 .

صادق »(1) .

وفي الحديث : « رحم اللَّه إمرأ أحيا أمرنا ، قيل : وكيف يحيى أمركم ؟ قال : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس »(2) .

وفي تفسير : «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ» الآية : « هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، وليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتّى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلبوا إليهم ، فاولئك الّذين يجعل اللَّه لهم مخرجاً »(3) .

وفي تفسير قوله تعالى : «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ» الآية المروىّ في الإحتجاج : « قال رجل للصادق عليه السلام : هل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علمائهم ؟ فأجاب عليه السلام بكلام طويل فيه : فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوم أن يقلّدوه »(4) إلى آخر الحديث .

وفي النبوي قال صلى الله عليه وآله وسلم : « اللّهمّ ارحم خلفائي - ثلاثاً - قيل : ومن خلفائك ؟ قال : الّذين يأتون من بعدي يرون حديثي وسنّتي »(5) .

وفي آخر : « الرواية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد »(6) .

ص: 405


1- مستدرك الوسائل 17 / 299 - 298 ، ح 43 .
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 / 275 ، ح 69 ، معاني الأخبار / 180 ، ح 1 . والآية من سورة الطلاق / 2 .
3- الكافي 8 / 179 - 178 ، ح 201 .
4- الاحتجاج 2 / 263 . والآية من سورة البقرة / 78 .
5- معاني الأخبار / 375 - 374 ، ح 1 .
6- الكافي 1 / 33 ، ح 9 .

وأمثال هذه الأخبار ممّا ورد في مذاكرة الحديث والحثّ عليه وما أشبه ذلك أكثر من أن يحصى .

إن قلت : إنّ الإجماع المنقول وأخبار الآحاد لا يصلح لإثبات حجيّة أخبار الآحاد ...

فإن قلت : من المعلوم أنّ الإجماع المنقول وأخبار الآحاد لا يصلح لإثبات حجّية أخبار الآحاد ، فلابدّ من دعوى القطع بالإجماع والسنّة بالنقل المتواتر والاحتفاف بالقرائن القاطعة ، وهي ممنوعة ، إذ من المشهور في ألسنة قدماء الأصحاب أنّ أخبار الآحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، وصرّح السيّد(1) والقاضي(2) وإبن زهرة(3) والطبرسي(4) وإبن إدريس(5) بالمنع ، وربّما ينسب إلى الشيخين والمحقّق ، بل وإبن بابويه(6) ، بل في الوافية إنّه « لم يجد القول بالحجيّة صريحاً ممّن تقدّم على العلامّة »(7) .

ونصّ السيّد في مواضع كثيرة على دعوى الإجماع على المنع ، ونصّ في مجمع البيان على أنّه لا يجوز العمل بالظنّ عند الإمامية إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات وأرش الجنايات ، بل اشتهر المنع بين أصحابنا حتّى نسبه الحاجبي والعضدي وغيرهما من العامّة إلى الرافضة(8) .

ص: 406


1- الذريعة 2 / 528 .
2- حكاه عنه في المعالم / 189 .
3- غنية النزوع 2 / 329 - 328 .
4- مجمع البيان 5 / 133 .
5- السرائر 1 / 51 .
6- انظر : فرائد الاُصول 1 / 240 .
7- الوافية / 158 .
8- انظر : شرح مختصر الاُصول 1 / 161 - 160 ، [أصله للحاجبي وشرحه للقاضي عضد الدين] .

وأشدّ من بالغ في إثبات حجيّة خبر الواحد بالوجوه الكثيرة ونقل الإجماع عليه الشيخ في العدّة(1) .

نقل كلام الشيخ الطوسي في حجيّة الخبر الواحد

وقد أنكر جماعة من الأصحاب دلالة كلامه على الحجيّة ، أوّلهم المحقّق في المعارج ، فقال : « إنّ لفظه وإن كان مطلقاً فعند التحقيق يتبيّن أنّه لا يعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الأخبار الّتي رويت عن الأئمّة عليهم السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ، هذا هو الّذي تبيّن لي من كلامه ، ويدّعى إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار ، حتّى لو رواها غير الإماميّ وكان الخبر سليماً عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به »(2) .

وقال في المعالم : « والإنصاف أنّه لم يتّضح من الشيخ وأتباعه مخالفتهم للسيّد ، إذ كانت أخبار الآحاد يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه السلام واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن المعاضدة لها متيسّرة كما أشار إليه السيّد ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه ، وتفطّن المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه .

قد أنكر جماعة من الأصحاب دلالة كلام الشيخ على حجيّة خبر الواحد

ثمّ قال : وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ هو الّذي ينبغي أن يعتمد عليه ، لا ما نسبه العلّامة إليه »(3) .

وقال المحدّث الأسترابادى : « إنّ الشيخ لا يجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع

ص: 407


1- عدة الاُصول 1 / 126 .
2- معارج الاُصول / 147 .
3- المعالم / 198 - 197 .

بصدوره عنهم ، وذلك هو مراد المرتضى ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلّامة ومن تبعه »(1) .

وقال بعض المحدّثين بعد ذكر كلام المعالم : « ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيّد من كلام المحقّق كما هو حقّه ، والّذي يظهر منه أنّه لم يرعدّة الاُصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ممّا نقله المحققّ ، ولو رآها لصدع بالحقّ أكثر من هذا . وكم له من تحقيق أبان به عن غفلات المتأخّرين ، كوالده وغيره . وفيما ذكره كفاية لمن طلب الحقّ وعرفه ، وقد تقدّم كلام الشيخ ، وهو صريح فيما فهمه المحقّق ، وموافق لما يقوله السيّد ، فليراجع .

والّذي أوقع العلّامة في هذا الوهم ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الإماميّ ، ولم يتأمّل بقية الكلام كما تأمّله المحقّق ، ليعلم أنّه يعمل بهذه الأخبار الّتي دوّنها الأصحاب واجتمعوا على جواز العمل بها ، وذلك ممّا يوجب العلم بصحّتها ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إمامىّ يجب العمل به ، وإلّا فكيف يظنّ بأكابر الفرقة الناجية وأصحاب الأئمّة عليهم السلام - مع قدرتهم على أخذ اُصول الدين وفروعه منهم عليهم السلام بطريق اليقين - أن يعوّلوا فيها على أخبار الآحاد المجرّدة ، مع أنّ مذهب العلّامة وغيره أنّه لابدّ في أُصول الدين من الدليل القطعي [وأنّ المقلّد في ذلك خارج عن ربقة الإسلام] وللعلامّة وغيره كثير من هذه الغفلات ، لاُلفة أذهانهم باُصول العامّة .

ومن تتّبع كتب القدماء وعرف أحوالهم قطع بأنّ الأخبارييّن من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقايدهم إلاّ على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة

ص: 408


1- الفوائد المدنيّة / 145 .

بالقرائن المفيدة للعلم ، وأمّا خبر الواحد فيوجب عندهم الاحتياط دون القضاء والإفتاء »(1) ، انتهي .

وقد صرح السيّد قدس سره في بعض تحقيقاته ب « أنّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوع على صحّتها ، إمّا بالتّواتر أو بأمارة وعلامة تدلّ على صحتّها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مفيدة للقطع وإن وجدناها في الكتب مودّعة بسند مخصوص من طريق الآحاد »(2) ، انتهى .

وقال المحقّق : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد فانقادوا لكلّ خبر - إلى أن قال - والتوسّط أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض عنه الأصحاب أو شذّ يجب إطراحه »(3) ، انتهى .

هذا حال الإجماع في هذه المسألة ، وأمّا الأخبار فمعارضة بما دلّ من الكتاب والسنّة المتواترة على النهي عن العمل بما وراء العلم ، حتّى التعليل في آية النبأ كما ذكر شيخنا الطبرسي(4) أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد ، على عكس ما فهمه الجمهور ، وبأخبار كثيرة كالمروي عن بصائر الدرجات(5) ومستطرفات السرائر « [ سألت ] عن أبي الحسن الثالث عليه السلام عن العلم المنقول عن آبائه عليهم السلام قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه ؟

ص: 409


1- القائل هو شيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي في كتابه هداية الأبرار / 69 - 68 .
2- المسائل التّبانيّات ( رسائل الشريف المرتضى ) 1 / 26 .
3- المعتبر 1 / 29 .
4- مجمع البيان 9 / 221 .
5- بصائر الدرجات / 544 ، ح 26 . مستدرك الوسائل 17 / 305 ، ح 10 .

فكتب عليه السلام بخطّه : ما عملتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا(1) .

والنبوي « ما جائكم عنّي لا يوافق القران فلم اقله »(2) .

وعن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهم السلام : « لا تصدّق علينا إلاّ ما يوافق كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم »(3) .

وقوله عليه السلام : « إذا جائكم من حديث لا يصدّقه كتاب اللَّه فهو باطل »(4) .

وقول أبي جعفر عليه السلام : « ما جائكم حديث عنّا فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللَّه فخذوا به ، وإلّا فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى نبيّن لكم »(5) .

وعن إبن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الحديث ، يرويه من نثق به ؟ ومن لا نثق به قال : إذ اُورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه تعالى أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فخذوا به ، وإلّا فالّذي جائكم به أولى به »(6) .

وعنه عليه السلام إنّه قال لمحمّد بن مسلم : « ما جائك من رواية من برّ أو فاجر يخالف كتاب اللَّه فلا تأخذ به »(7) .

ص: 410


1- السرائر 3 / 584 .
2- مستدرك الوسائل 17 / 304 ، ح 3 .
3- تفسير العياشي 1 / 9 ح 6 .
4- المحاسن 1 / 221 ح 129 .
5- الكافي 2 / 222 ، ح 4 وفيه « حتى يستبين » - وسائل الشيعة 27 / 112 ، ح 18 .
6- الكافي 1 / 55 ، ح 2 - وسائل الشيعة 27 / 110 ، ح 11 .
7- تفسير العياشي 1 / 8 ، ح 3 [وفيه « في رواية » بدل « من رواية »] مستدرك الوسائل 17 / 304 ، ح 5 .

وقوله عليه السلام : « ما جائكم عنّا فإن وجدتموه موافقاً للقران فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه ، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا »(1) .

وقول الصادق عليه السلام : « كلّ شي ء مردود إلى كتاب اللَّه [والسنّة] ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف »(2) .

وعنه عليه السلام في الصحيح : « لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المستقدمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللَّه دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا اللَّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا »(3) .

وروى العيص قال : « قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام ما هذا الاختلاف الّذي بين شيعتكم ؟ قال : وأي الإختلاف ؟ قلت : إنّي أجلس في حلقهم بالكوفة وأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ، حتّى أرجع إلى المفضّل ، فيوقفني في ذلك على ما تستريح به نفسي ، قال عليه السلام : أجل ، كما ذكرت ، إنّ الناس قد اُولعوا بالكذب علينا ، كأنّ اللَّه تعالى افترض عليهم ولا يريد منهم غيره ، إنّي اُحدّث أحدهم بحديث ، فلا يخرج من عندي حتّى يأوّله على غير تأويله ، وذلك لأنّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبّنا ما عنداللَّه ، وكلّ يحبّ أن يدعى رأساً »(4) ، وقريب منها رواية اُخرى(5) .

ص: 411


1- أمالي الطوسي / 231 [المجلس التاسع] ح 2 الوسائل 27 / 120 ، ح 37 .
2- المحاسن 1 / 220 ، ح 128 ، وسائل الشيعة 27 / 111 ، ح 14 .
3- بحار الأنوار 2 / 250 ، ح 62 .
4- اختيار معرفة الرجال 1 / 347 ، الرقم 216 .
5- اختيار معرفة الرجال 1 / 399 - 398 ، الرقم 287 .

وقد حكى أنّ إبن أبى العوجاء قد قال عند قتله : قد دسست في كتبكم أربعة آلاف حديث »(1) .

وقد ورد في الأخبار : « كثرت عليّ الكذّابة »(2) ، أو « ستكثر بعدي القاله ، ومن كذّب عليّ فليتبؤا مقعده من النّار »(3) .

« ولكلّ رجل منّا من يكذب عليه »(4) .

« وإنّا أهل بيت صدّيقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا »(5) ، ونحو ذلك .

وروي أنّه عرض يونس بن عبدالرحمان على أبي الحسن الرضا عليه السلام « كتب جماعة من أصحاب الصادقين عليهما السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبداللَّه عليه السلام وقال : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبداللَّه عليه السلام وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام »(6) .

وعن هشام ابن الحكم أنّه سمع أبا عبداللَّه عليه السلام يقول : « كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه المستترون بأصحاب أبي ، يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة لعنة اللَّه عليه ، فكان يدسّ فيها

ص: 412


1- انظر : أمالي السيد المرتضى 1 / 95 .
2- الكافي 1 / 62 ، ح 1 ، وسائل الشيعة 27 / 206 ، ح 1 .
3- السرائر 2 / 154 .
4- المعتبر 1 / 29 .
5- اختيار معرفة الرجال 1 / 324 ، الرقم 174 .
6- اختيار معرفة الرجال 2 / 490 - 489 ، الرقم 401 .

الكفر والزندقة ويسندها إلى أبى عبداللَّه عليه السلام »(1) .

إلى غير ذلك من الأخبار المتضمّنة لردّ ما لا شاهد له من الكتاب والسنّة ، نظراً إلى احتمال كونه من الكذب ، فإذا كان الأمر في الأخبار بهذه المثابة فمن أين يحصل من الأخبار الّتي ذكرتم القطع بحجيّة الخبر المجرّد من القرينة والشاهد ؟ فلم يبق إلاّ إثبات حجيّة الخبر بالخبر ، وهو دور ظاهر .

قلت : جواب هذه الشبهات

قلت : ما أظنّك تستريب بعد ما شرحناه في إفادته للقطع بما ادّعيناه ، وأين ما ذكرناه من الشبهات الّتي ذكرتم ممّا لا يخفى ضعفها على من له أدنى بصيرة في الأقوال والأخبار ؟

أمّا الشّبهة في الإجماع بمخالفة الجماعة المذكورة وكلماتهم المعروفة فموهونة جدّاً ، لأنّهم شر ذمة قليلون ، وكلامهم مؤوّل أو مستند إلى شبهة منعتهم من اعتقاد الضرورة كما ، مرّ عن العلّامة وانعقد الإجماع قبلهم وبعدهم على خلاف ذلك(2) .

دفع توهّم من كلام الشيخ الطوسي

وأمّا توهّم المخالفة من كلام الشيخ مع تصريحاته الأكيدة المكرّرة مرّة بعد اُولى وكرّة بعد اُخرى فمخالف للضرورة الظاهرة على من أحاط خبراً بكتبه وكلماته واطلّع على موارد استدلالاته في الفروع ، ونظر في جميع ما أفاده في هذا المقام في كتاب العدّة(3) فإنّه قلّ ما يتّفق أحد كشف عن حقيقة مطلبه أكثر ممّا أفاده - طاب ثراه - في هذه المسألة أو شرح مقصوده أكثر ممّا شرحه ، وليت

ص: 413


1- اختيار معرفة الرجال 2 / 490 - 489 ، الرقم 401 .
2- انظر : فرائد الاصول 1 / 311 .
3- العدّة 1 / 129 - 126 .

شعري إذا لم يحصل من هذه التصريحات الأكيدة القطع بمذهبه فمتى يحصل العلم من شي ء من العبارات ؟ ولا أظنّ مثل هذا يشتبه على مثل المحقّقٍ ، إنّما غرضه قدس سره أنّ خبر العدل بمجرّده ليس بحجّة تعبّداً ، فإنّه إنّما نفى الإيجاب الكلّي في قوله ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إمامي يجب العمل به ، وهو كذلك ، فكثيراً ما نطرح أخبار العدول ، بل لابدّ من بقاء الوثوق ، وهذا معنى اشتراط وجوده في كتب الأصحاب وقبولهم له ، للقطع بأنّ مجرّد وجوده في الكتب لايفيد القطع ، فإنّ أكثر ما في الكتب أخبار آحاد خالية عن القرائن .

ودعوى السيّد انضمامها إلى القرائن دعوى خالية عن البرهان مخالفة للوجدان ، إنّما هي شبهة حصلت له في ذلك ، مع إمكان حمله على العلم العرفي كما مرّ ، وإلّا فعمل الشيخ والمحقّق بأخبار الآحاد من أوضح الواضحات ، كما يظهر على الناظر في كتبهما واستدلالاتهما ، وقد صرّح المحقّق في المنع من تخصيص الكتاب بها بأنّ الدليل على حجيّة خبر الواحد الإجماع على استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة(1) وقد تكثّر في كلامهما نقل الإجماع على العمل بأخبار جماعة من الثقات والموثّقين وأمثال ذلك في كتبهما كغيرهما كثيرة .

فالشبهة في اعتقادهما في ذلك شبهة في الأُمور البديهيّة ، وكأنّ صاحب المعالم لم يلاحظ العدّة كما نقله المحدّث المشار إليه(2) ، وأشار في الحاشية(3) ولو لا حظ لاستبان له مطلبه ، لا كما ذكره المحدّث المذكور وإلاّ لم يعقل التفرقة

ص: 414


1- المعارج / 96 .
2- اُنظر : هداية الأبرار / 69 - 68 .
3- أشار به المولى صالح المازندراني في حاشيته على المعالم ، انظر : حاشية معالم الدين / 234 .

بين اُصول الدين وفروعه في ذلك ، فكيف نسب العمل بأخبار الآحاد في الأوّل إلى غفلة بعض أصحاب الحديث ؟

وقال في العدّة : « فإن قيل ما أنكرتم أن يكون الّذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها لأجلها عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يكن الاعتماد على عملهم بها .

قيل لهم : القرائن الّتي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر (ودليل العقل)(1) ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل الّتي استعملوا فيها أخبار الآحاد ، لأنّها أكثر من أن يحصى » ؛ إلى آخر ما أفاده(2) .

وتوهّم أنّ ما ذكره من انعقاد الإجماع إلى آخر ما ذكره على العمل بتلك الأخبار كاف في ثبوت القرينة العملية وهمٌ فاحش ، فإنّ غرضه الإجماع على عدم ردّ تلك الأخبار بكونها أخبار آحاد ، لا الإجماع على العمل بكلّ خبر منها ، كيف وقد عرفت إنكاره للقرائن حتّى لنفس المجمعين ؟

دعوى تمكّن أصحاب الأئمة عليهم السلام من أخذ جميع الأحكام بطريق اليقين ممنوعة

ثمّ دعوى تمكّن أصحاب الأئمّة عليهم السلام من أخذ جميع الأحكام بطريق اليقين ممنوعة ، سيّما بعد ملاحظة انتشارهم في البلاد المتباعدة ، وحصول الاختلاف بينهم في المسائل المتعلّقة بالاُصول والفروع أكثر من أن يحصى ، ولذا شكى غير واحد منهم ذلك ، فأجابوا تارةً بأنّهم عليهم السلام قد ألقوا الخلاف حقناً

ص: 415


1- ليس في المصدر المطبوع .
2- عدّة الاُصول 1 / 136 - 135 .

لدمائهم(1) ، واُخرى بأنّ ذلك من جهة الكذّابين والجاهلين(2) ، كما مرّ بعض الأخبار في ذلك ، واستثناء القميّين لكثير من رجال نوادر الحكمة معروف(3) ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى .

وأمّا استبعاد مخالفة الشيخ للسيّد بتلك المثابة(4) مع عدم الإشارة إلى قوله في ذلك فليس في محلّه ، وظنّي أنّ الداعي للشيخ إلى المبالغة في إثبات دعوته بما لا نظير له في ساير مطالبه ليس إلاّ لمخالفة السيّد ، ودعواه الإجماع والضرورة على خلافه ومبالغته في إنكاره في مواضع كثيرة من مصنّفاته وأجوبة مسائله ، ولو كان الخلاف بينهما لفظيّاً لما احتاج إلى تكلّف إقامة الأدلّة على مدّعاه ، ضرورة أنّ حجيّة الخبر المقطوع به لا يفتقر إلى شاهد ، وما ذكره من الإجماع على العمل بالروايات الّتي دوّنها الأصحاب لا يقتضي تقييد الحجيّة بهذا القيد ، إنّما استدلّ به على حجيّة مطلق خبر الثقة ، ألا ترى أنّه لم يأخذ في عنوان مختاره قيد آخر .

وظنّي أنّ المحقّق أيضاً لا يعتبر قيداً آخر وراء العدالة والوثاقة في الراوي ، وإن أوهمه كلامه ، وذلك لأنّ اشتراط قبول الأصحاب للخبر إن كان لحصول القرينة العلميّة فهو مناف لما استقرّ عليه عمله في جميع أبواب الفقه ، للقطع بعدم وجودها في أكثر الأخبار الّتي استدلّ بها ، وقد أنكر على من اقتصر على سليم السند بمخالفته للإجماع ، وإن كان لحصول القرينة الظنيّة فبعد ثبوت وثاقة

ص: 416


1- انظر : هداية الأبرار / 68 .
2- انظر : علل الشرايع 2 / 397 - 395 ، ح 16 - 15 - 14 .
3- انظر : رجال النجاشي / 348 ، الرقم 939 .
4- انظر : الفرائد 1 / 328 .

الراوي لا معنى له ، إذ لا قائل باشتراطه تعبّداً ، فلم يبق إلاّ الاحتراز به عن الخبر الشاذّ والذي اعرض الأصحاب عنه ، كما ذكره في مقابله المقبول ، وذلك لقلّة الواسطة بين المعمول به والمعرض عنه في المسائل المعنونة ، فكأنّه إنّما حمل كلام الشيخ على هذا المعنى وعليه عمل الأصحاب ، هذا هو الّذي تبيّن لي من كلامه .

كلام صاحب المعالم ونقد الشيخ الأعظم عليه

وامّا ما ذكره السيّد قدس سره من أنّ أصحابنا شدّدوا النكير على العامل بأخبار الآحاد وقالوا : إنّها لا يوجب علماً ولا علماً ، فقد أجاب الشيخ بأنّهم إنّما منعوا من الأخبار الّتي رواها المخالفون في المسائل الّتي روى أصحابنا خلافه .

وأنكره صاحب المعالم في حاشيته حتّى قال : « إنّه لا يعقل صرفه إلى ذلك ، لأنّ اشتراط العدالة عندهم وانتفائها في غيرهم كافٍ في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في نفى العمل بخبر يروونه »(1) .

جواب المؤلف على نقد الشيخ الأعظم

واُجيب ب « أنّه يمكن أن يكون إظهار هذا المذهب في مقام لا يمكنهم التصريح بفسق الراوي ، فأحتالوا في ذلك بهذا الكلام ، ولذا خصّ الشيخ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد بصورة المناظرة مع خصومهم »(2) .

وهذا تكلّف ، وإنّما غرض الأصحاب أنّ خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ليس بحجّة في مقابلة الحشوية الّذين قد انقادوا لكلّ خبر ، وهذا غير الاعتماد على أخبار الثقات من حيث تحقّق الوثاقة في رواتها أو انضمام القرائن المفيدة للوثوق إليها ، ومن لاحظ الوجوه الّتي ذكرها الشيخ في العدّة واطّلع على

ص: 417


1- حكاه المولى صالح المازندراني في حاشيته على المعالم ، انظر : حاشية معالم الدين / 235 .
2- الجواب للشيخ الأعظم الانصاري في فرائد الأصول : 1 / 330 .

طريقة الأصحاب لم يبق له في ذلك شكّ ولا ارتياب ، وقدا هملنا ذكر كلام الشيخ بطوله مع كثرة ما فيه من الفوائد حوالة على كتابه ، فليرجع إليه .

ما ذكره شيخنا البهائي قدس سره وغيره في معنى الصحيح عند القدماء

وقد اعترف السيّد في بعض كلماته بأنّ شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار الّتي رووها عن ثقاتهم وجعلوها العمدة والحجّة في الأحكام ، حتّى رووا عن أئمتهم فيما يجى ء مختلفاً من الأخبار عند عدم الترجيح : أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة .

كلام الآقا رضي القزويني في تفسير الخبر الواحد

إلّا أنّه أجاب بأنّه ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها بما هو مشتبه وملتبس مجمل(1) وقد كان عليه قدس سره أن يعكس القضيّة ، فلا يرجع عن العمل المستمرّ بين الطائفة بالأخبار بما هو مشتبه مجمل من قولهم : خبر الواحد لا يفيد علماً ولا عملاً ، فإنّ الأمر قد بلغ في الوضوح حدّاً لا يدانيه كثير من الواضحات ، بل ليس الصحيح عند قدماء الأصحاب إلاّ ما أفاد الوثوق وسكون النفس ، كما ذكره شيخنا البهائي(2) وغيره(3) .

فالقرائن القطعيّة فيما ذكرناه كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء اللَّه تعالى .

هذا ، وذكر بعض المتأخّرين « أنّ هذه الكلمة أعني خبر الواحد - على ما يستفاد من تتّبع كلماتهم ويستعمل في ثلاثة معان ؛

احدها : الشاذّ النادر الّذي لم يعمل به أحد ، أوندر من يعمل به ، ويقابله ما عمل به كثيرون .

الثاني : ما يقابل المأخوذ عن الثقات المحفوظ في الاُصول المعوّل عليها

ص: 418


1- المسائل الموصليات الثالثة (رسائل الشريف المرتضى) 1 / 211 - 210 .
2- مشرق الشمسين / 26 - 25 .
3- روضة المتقين 14/10 ، تعليقة الوحيد على منهج المقال [منهج المقال /1] /106 ، الفائدة الثانية .

عند جميع خواصّ الطائفة ، فيشمل الأوّل ومقابله .

الثالث : ما يقابل المتواتر القطعي الصدور ، وهذا يشمل الأوّلين وما يقابلهما .

ثمّ ذكر أنّ ما نقل إجماع الشيعة على إنكاره هو الأوّل ، وما انفرد السيّد بردّه هو الثاني ، وأمّا الثالث فلم يتحقّق من أحد نفيه على الإطلاق »(1) ، انتهى ، وهو قريب إلى الصواب .

جواب المؤلف عن شبهة أنّ الكتاب والسنّة يمنعان عن العمل بغير العلم

وأمّا الشبهة في الأخبار الّتي ادّعينا تواترها - وفاقاً لكثير من المتأخّرين - بمعارضتها بالكتاب والسنّة الدالّين على المنع من العمل بغير العلم وبالأخبار المتقدمّة ، فأضعف من سابقتها ، إذ لو سلّمنا إطلاقها فيجب تقييدها بتلك الأخبار الدالّة على حجيّة خبر الثقة ، لكنّه ممنوع أيضاً ، لانصرافها إلى غير ما يعامل معه معاملة العلم في مجاري العادات ، بل نقول : إنّ ما دلّ على حجيّة ذلك يخرجه عن موضوع المنع من العمل بما لا يعلم ، ويدخله فيما دلّ على العمل بالمعلوم ، لانّ مساق تلك الأدلّة إنّما هو المنع عن العمل من غير بصيرة والحكم بالشي ء من غير دليل ، فاذا ثبت الدليل كان العمل بذلك مستنداً إليه والعامل به عاملاً على بصيرة ، ألا ترى أنّ في تلك الأدلّة إشارة إلى ما هو مركوز في العقول من قبح الحكم بالشي ء من غير دليل ، ولذا احتجّ به على الكفّار ، فلا ربط لذلك بما نحن فيه .

على أنّ العمدة من تلك الأخبار أخبار العرض على الكتاب ، اذ يمكن دعوى تواترها في المعنى ، وما سوى ذلك أخبار آحاد تدفع نفسها ، فكيف تصلح لمعارضة الأخبار المتواترة ؟ وما ورد من أخبار العرض في باب التعارض

ص: 419


1- هو الفاضل الآقارضي القزويني في كتابه لسان الخواص . ونقلها عنه في الفرائد 1/342 .

والترجيح به بين المتعارضين لا يرتبط بما نحن فيه .

والباقي على قسمين : أحدهما : المنع من العمل بما يخالف الكتاب والسنّة ، والآخر : المنع من العمل بما لا يوافقهما .

فإن اُريد من عدم الموافقة المخالفة - كما هو الظاهر ، نظراً إلى شيوع التعبير به عنها - رجع إلى الاوّل ، وإلّا لزم حصر الحجّة في غير القطعيّات في دلالة الكتاب ، وانّما يوجد ذلك في أقلّ قليل من المسائل ، والأوّل لا يدلّ على المنع من الخبر الّذي لا يوجد في الكتاب والسنّة ما يدلّ على حكم مورده ، وما يوجد فيهما من حكم الاُصول العمليّة لا يعدّ موافقة ولا مخالفة ، إذ لا نظر لها إلى الواقع بالكليّة ، وإنّما الملحوظ فيها حكم المجهول من حيث الجهالة .

ثم المخالفة إمّا للنصّ ، أو للعموم ، أو الإطلاق ، أو غيرهما من الظواهر .

أمّا الاوّل ، فلا شكّ في تقديم نصّ الكتاب ، إذ غاية الأمر أن يكون خبر الواحد نصّاً في المطلوب ، فتبقى قطعيّة الأوّل مرجحّة إلاّ مع احتمال النسخ ، فيرجع أيضاً إلى الظاهر من أصالة عدمه .

وأمّا الثاني ، فمرجعه إلى المسألة المعروفة من جواز نسخ الكتاب وتخصيصه وتقييده والخروج عن ظاهره باخبار الآحاد ، والوجه الرجوع فيه إلى حكم التعادل والتراجيح بعد ملاحظة جميع الجهات المرجّحة للجانبين .

والظاهر أنّ ذلك غير مقصود من الأخبار المشتملة على « أنّ ما يخالف الكتاب باطل »(1) ، أو « زخرف »(2) ، أو « ليس من حديثي » ، أو « لا تقبلوه

ص: 420


1- بحار الانوار 2 / 242 ح 38 .
2- الكافي 1 / 55 ح 3 .

علينا ، فإنّا إن حدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن والسنّة »(1) ونحو ذلك ، وهل يرضى العاقل بتخصيص أمثال ذلك بالأخبار القطعيّة المخالفة لعمومات الكتاب والسنّة وظواهرهما ، مع أنّ أكثرها مخصّصة أو مقيّدة باُمور كثيرة ، بل لا تحصى كثرة ؟ فيقال : إنّ المخالف لها في تلك الموارد الكثيرة ليس بباطل ولا زخرف ، بل مقبول صادر عنهم عليهم السلام دون ما عداها ، بل ليس مساق تلك الأخبار وموردها إلاّ المخالفة الواقعيّة ، وبطلانها حينئذٍ من ضروريات المذهب .

فالمراد من أمثال تلك الأخبار هو المراد من توافق الثقلين وعدم مخالفة أحدهما للآخر وعدم افتراقه عنه ، وأمثال ذلك ممّا ورد في الأخبار المتواترة وقامت عليه الضرورة ، كيف ولو اُريد المخالفة لعموماتهما أو إطلاقاتهما لقلّ ما يوجد مسألة خرجت عن دلالتهما مع ورود الأخبار في بيان حكم الخارج عن دلالتهما ، ولكثر وقوعها في أحكامنا على التفصيل والإجمال مع ظهور الأخبار في امتناعها ، فالتمسّك بها في المنع من الخروج عن ظواهر الكتاب بأخبار الآحاد ليس على ما ينبغي ، لوقوعها حينئذٍ مفسّرة للكتاب وبياناً لما هو المراد منه واقعاً ، فلا يعدّ مخالفة ، وقد جرت طريقة الأصحاب إلى يومنا هذا على العمل بها وتكثّرت فتاويهم على حسب ذلك من غير تأمّل .

ويشبه أن يكون الأخبار المشار إليها واردة في ردّ الأخبار المشتملة على الغلوّ والجبر والتفويض ونحوها من العقايد الباطلة والفروع الفاسدة المخالفة للكتاب والسنّة ، وهي كثيرة في الكتب القديمة ، وقد طرحها علمائنا في اُصولهم المعتبرة حتّى تركوا روايتها ، بل قدحوا في روايات مَن أكثر منها ، وأعرضوا عن

ص: 421


1- بحار الأنوار 2 / 250 - 249 ، ضمن الحديث 62 .

الكتب المشتملة عليها ، ولو اشتمل بعضها على شي ء منها استثنوا ذلك من أحاديثها ، فكأنّ شيئاً من تلك الأخبار المجعولة قد وصل إلى النبي والأئمّة عليهم السلام فأنكروا ذلك ومنعوا شيعتهم من قبولهم وأمروهم بردّها في أمثال ما أشرنا إليه من الأخبار ، وجملة منها إنّما وردت في مقام الترجيح بين الأخبار المتعارضة ، فيكتفى فيه بمجرّد موافقه بعضها لظاهر الكتاب والسنّة من عموم أو إطلاق أو غيرهما ، وجملة اُخرى منها إنّما جائت في المنع من العمل بالأخبار الضعيفة والشاذّة المتروكة ، على ما جرت عليه طريقة الحشويّة وأمثالهم ممّن لا يبالي عمّن أخذ الحديث وفيما ورد ، حتّى صار ذلك طعناً فيهم وقدحاً في كتبهم ورواياتهم ، بل أخرج القميّون جماعة زعموا أنّ هذه طريقتهم ، ومنعوا الناس من الرجوع اليهم ، وأعرضوا عن عامّة أحاديثهم حتّى لم يستحلّوا روايتها ، وأين ذلك من روايات الثقات الأجلاّء الّذين هم اُمناء اللَّه على حلاله وحرامه وبلغ الأمر في تثبتهم في الأخبار إلى أقصى الغايات .

فذلكة الكلام للمؤلف

ويشهد بما ذكره ما مرّ من التعليل الوارد في عدّة من تلك الأخبار بوجود الكذابة ودسّ الغلات والزنادقة ، وأين ذلك من الأخبار المأخوذة يداً بيد عن الثقات المتّصلة إلى الأئمّة الهداة عليهم السلام وكيف يشترط في قبول مثلها وجدان شاهد أو شاهدين على مضمونها من الكتاب والسنّة بعد الوثوق بكون مضمونها هو السنّة ، بل القطع بكون أكثرها كذلك ؟ فيكون الكتاب مشتملاً عليه أيضاً ولو بحسب بطونه ، بناء على ما ثبت عندنا من اشتماله على جميع الأحكام .

وبالجملة ، فما ذكر من الأخبار قاصر عن معارضة الأخبار المتواترة في المعنى الّتي مرّت الإشارة إليها من وجوه كثيرة ، بمعنى أنّه لا يصلح مانعاً من حصول القطع منها ولا قادحاً في ثبوت مضمونها ، سيّما مع ملاحظة استمرار

ص: 422

عمل الشيعة عليها وهم بمرئى من ائمّتنا عليهم السلام ومسمع منهم ، فكيف بمن بعدهم من الأصحاب مع انقطاع يدهم عنهم عليهم السلام .

ومنها : أنّ القدر الثابت من الأخبار المتواترة وعمل الأصحاب إنّما هو حجيّة الخبر الّذي نصّ الإمام عليه السلام على عداله راوية ، كما ورد في حقّ عدّة من أصحاب الأئمّة عليهم السلام فيما مرّ من الأخبار ، أو ثبت ذلك شرعاً بالمعاشرة التامّة ، أو شهادة العدلين به ، على ما هو الطريق في إثبات الموضوعات ، وذلك عند حصول المعاشرة لهما معه بطريق شاهد الأصل لاكشاهد الفرع ، ثمّ يحكي تلك الرواية عدلان لنا ، نظراً إلى أصالة اشتراط التعدّد في الشاهد بالمشافهة ، لا بالوجادة أو الإجازة ونحوهما .

وذلك ممّا لا يتّفق العلم بحصوله في أخبارنا إلّا نادراً ، لاستناد تعديل رواتنا إلى قول أهل الرجال مع عدم ملاقاتهم للراوي غالباً ، وإنّما يستند تزكيتهم غالباً إلى حكايات السابقين أو إلى القرائن الخارجة والأمارات الظنيّة ، وأكثرهم إنّما يعتمدون على الظنون الرجاليّة ، وكثيراً ما يشترك الراوي بين أشخاص متعدّدة لا يمكن تعيينه إلّا بأمارات ظنيّة ، وقد طال الزمان وبعد العهد واختفت القرائن وتكثّرت الاختلالات الحادثة ودسّت الغلاة والزنادقة في كتب أصحاب الائمّة عليهم السلام ، فكيف يدّعى القطع بحجيّة ما في أيدينا من الأخبار بملاحظة الأخبار السابقة الّتي موردها ما ذكرناه ؟

ودعوى إجماع الأصحاب على ذلك ممنوعة ، لإمكان رجوعهم إليها في أزمنة الغيبة من حيث انسداد باب العلم وحجيّة الظنّ ، فإنّ الأخبار المأثورة من أعظم الأسباب الموجبة لحصول المظنّة ، فلا يفيد المدّعى .

والجواب : أنّ ثبوت العدالة في حقّ الوسايط بيننا وبين أصحاب الاُصول

ص: 423

على كثرتهم ممّا لا يعتريه شائبة الريب ، بل الاُصول المعروفة مأخوذة يداً بيد على وجه التواتر عن أربابها ، أو على الوجه المفيد للعلم ، وأمّا الوسايط بينهم وبين الائمّة عليهم السلام فكثير منهم ممّن ثبت عدالته بأحد الطرق المثبته لها ، أو بالقرائن المفيدة للعلم بها ، وإنّما اخذوا الروايات غالباً بالمشاهد عن الروات ، فهي مصونة عن الاختلالات المنقوله عن الرّوات فظاهر النقل أيضاً ذلك . نعم ، الاقتصار على ما ذكر مدفوع بما يأتى إن شاء اللَّه .

الأخبار الواردة في جواز العمل بالاُصول المعتبره

اشارة

وممّا يدلّ على جواز العمل بالاُصول المعتبرة والكتب المعتمد عليها أخبار كثيرة ؛

منها : ما رواه الكليني في الصحيح عن عبداللَّه بن سنان قال : « قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام : يجيئني : القوم فيستمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوي ، قال : فاقرأ عليهم من أوّله حديثاً ومن وسطه حديثاً ومن آخره حديثاً »(1) .

وظاهره قرائة الكتاب وإثبات الاعتماد على تمامه بعد قرائة الأحاديث الثلاثة وإجازة الباقي ، فيدلّ على الاكتفاء بالإجازة .

ومنها : ما رواه عن أحمد بن عمر الحلاّل قال : « قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول أروه عنّي ، يجوز لي أن أرويه عنه ؟ فقال : إذا علمت أنّ الكتاب له فاروه عنه »(2) . وهذا يدلّ على الاكتفاء بالوجادة .

ومنها : ما رواه عن حسين الأحمسي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : « القلب

ص: 424


1- الكافي 1 / 52 - 51 ، ح 5 .
2- الكافي 1 / 52 ، ح 6 .

يتّكل على الكتابة »(1) .

ومنها : ما رواه عن أبي بصير قال : « سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول : اكتبو فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا »(2) .

ومنها : ما رواه في الموثّق عن عبيد بن زرارة قال : « قال أبو عبداللَّه عليه السلام : احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها »(3) .

ومنها : ما رواه عن المفضّل بن عمر ، قال : « قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام : اُكتب وبثّ علمك في إخوانك ، فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبكم » وفي نسخة : « إلّا بكتبهم »(4) .

وهذا الحديث صريح في اعتبار هذه الكتب الّتي في أيدي الأصحاب إذا علم استنادها إلى الثقات .

ومنها : ما رواه عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال : « قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام : جعلت فداك إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام وكانت التقيّة شديدة ، فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا . فقال : حدّثوا بها فإنّها حقّ »(5) .

وهذا أيضاً يدلّ على جواز الرواية بالوجادة(6) وجواز التعويل على كتب

ص: 425


1- الكافي 1 / 52 ، ح 8 .
2- الكافي 1 / 52 ، ح 9 .
3- الكافي 1 / 52 ، ح 10 .
4- الكافي 1 / 52 ، ح 11 . وفي المصدر المطبوع « إلّا بكتبهم » .
5- الكافي 1 / 53 ، ح 15 .
6- المراد من الوجادة نقل الحديث بمجرّد وجوده في كتاب من دون أن يكون له طريق إلى نفس الكتاب ، انظر : وصول الأخيار / 145 - 143 ، حبل المتين 1 / 28 ، هداية الأبرار / 131 وراجع بيان صاحبي القوانين [/ 490] والفصول [/ 311] .

الثقات إلاّ أن يقال : إنّه عليه السلام أخبر بصحّة كتب مخصوصة .

ومنها : ما رواه الصدوق بأسناده عن حمّاد بن عمر وأنس عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام في وصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : قال : « يا على أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً قوم يكونون في آخر الزمان ، لم يلحقوا النبي وحجب عنهم الحجّة ، فآمنوا بسواد على بياض »(1) .

ومنها : ما رواه الكليني صحيحاً عن إبن فضّال ويونس ، « قالا : عرضنا كتاب الفرائض عن أميرالمؤمنين عليه السلام على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال : هو صحيح »(2) .

ومنها : ما رواه المشايخ الثلاثة إنّه عرض على أبي عبداللَّه عليه السلام كتاب ظريف(3) في الدّيات(4) .

ص: 426


1- الفقيه 4 / 366 - كمال الدين / 288 ، ح 8 .
2- الكافي 7 / 324 ، ح 9 .
3- وهو أبو الحسن ظريف بن ناصح ، قال النجاشي « أصله كوفي ، نشأ ببغداد وكان ثقة في حديثه ، صدوقاً ، له كتب » وقال الطوسي رحمه الله « له كتاب الديات » وعدّه أيضاً في رجال الباقر عليه السلام قائلاً « بيّاع الأكفان » وقد روي عنه بعنوان ظريف ، ظريف أبو الحسن ، ظريف الأكفاني ، له أكثر من 44 رواية في الكتب الأربعة ، وروى عنه علي بن إبراهيم الهمداني والحسن بن ظريف والحسن بن علي بن فضّال . انظر : رجال النجاشي / 209 ، الرقم 553 - رجال الطوسي / 138 ، الرقم 1465 - نقد الرجال 2 / 435 ، الرقم 2689 - معجم رجال الحديث 10 / 191 - 187 ، الرقم 6040 - 6037 - الموسوعة الرجالية الميسّرة / 243 ، الرقم 2962 .
4- انظر : الكافي 7 / 324 ، ذيل ح 9 - الفقيه 4 / 75 ح 5150 - التهذيب 10 / 295 ، ح 1148 .

ومنها : ما رواه الكشّي عن أحمد بن أبي خلف ، قال : « كنت مريضاً ، فدخل عليّ أبو جعفر عليه السلام يعودني عند مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة ، حتّى أتى عليه من أوّله إلى آخره ، وجعل يقول : رحم اللَّه يونس ، ثلاثاً »(1) .

وروى تصحيحه عن أبي جعفر(2) ، وأبي الحسن(3) وأبي محمد عليهم السلام(4) وروى نحو ذلك في بعض كتب الفضل بن شاذان ، وفي نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي .

وذكر النجاشي « أنّ كتاب عبيداللَّه بن علي الحلبي عرض على الصادق عليه السلام فصحّحه واستحسنه »(5) .

وروى أيضاً عن أبي هاشم الجعفري قال : « عرضت على أبي محمد العسكري عليه السلام كتاب يوم وليلة ليونس فقال : أعطاه اللَّه بكلّ حرف نوراً يوم القيامة »(6) .

وأمثال هذه الأخبار كثيرة يقف عليها المتتبّع ، ولا يخفى عليك أنّ ما عندنا من الكتب الأربعة وغيرها ليس بأدون من الكتب الّتي اشتملت عليها الأخبار المذكورة وغيرها ، فتأمّل .

ص: 427


1- اختيار معرفة الرجال 2 / 780 - 779 ، الرقم 913 .
2- اختيار معرفة الرجال 2/780 ، الرقم 916 .
3- اختيار معرفة الرجال 2 / 780 ، الرقم 915 .
4- اختيار معرفة الرجال 2 / 817 ، الرقم 1023 .
5- رجال النجاشي 231 - 230 ، الرقم 612 .
6- رجال النجاشي 447 - 446 ، الرقم 1208 .

ومنها : إنّا سلّمنا حجيّة ما يوجد من خبر الواحد ، إلّا أنّ كثرة الخلاف في شرايطه ووقوع الاختلاف الشديد في تفاصيله يمنع من القطع بحجيّة القدر الّذي يمكن الاكتفاء به ، فإنّ القدر المسلّم هو الصحيح الّذي عدّلت رواته بعدلين ، وكان مشهوراً بين الأصحاب ، ولم يعارضه ما يوجب الوهن فيه ، ولا ما يحتمل حجيّته ورجحانه عليه ، أو مساواته له . ومثل هذا لا يكاد يوجد إلاّ في قليل من المسائل ، والاكتفاء به يستلزم الخروج من الدين ، والعمل بالاُصول في غير مورده يوجب تبدّل الشريعة بشريعة اُخرى غير معهودة بين الطائفة ، فلا محيص عن العمل بالظنّ كما يراه القائل بمطلق الظنّ ، نظراً إلى تساوي أفراده وموارده .

إشكال في المقام وجوابه

والجواب : أنّ المعروف من طريقة الأصحاب وعملهم المستمرّ من قديم الزمان إلى الآن إناطة الحجيّة بحصول الوثوق بصدق الراوي وصحّة خبره ، وإن كان فاسقاً بحسب الاعتقاد أو اعمال الجوارح ، فإنّا نعلم علماً وجدانياً أنّ قدماء الأصحاب كانوا يعتمدون على جماعة من الفطحيّة والواقفية والزيديّة وبعض العامّة وأضرابهم في أخذ الأخبار عنهم وقرائتها عليهم وروايتها لمن أخذ عنهم ، ويعوّلون على كتبهم ويعدّونها من الاُصول(1) .

ألا ترى أنّ الكتب الأربعة وساير الكتب المشهورة ، بل كثيراً من الاُصول الأربعمائة مشحونة من أخبار الجماعة مع أنّ أكثرها موضوعة لأجل الاعتماد والعمل ، ولو كان الحال في أخذ الأحكام على نحو الحال في إثبات الموضوعات لكان العمل بأخبار الجماعة محظوراً والتمسّك بها في الشرع محرّماً ، ولو كان الأمر كذلك لوقفوا على ما يدلّ عليه وامتنعوا من الرجوع إليها ،

ص: 428


1- انظر : عدة الاصول 1 / 150 - 149 .

ومنعوا النّاس من التعويل عليها ، وأمروا بالإعراض عنها كما أعرضوا عن أحاديث أكثر العامّة كأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير ومن بعدهم كقتادة والواقدي ومسروق وأضرابهم ، إلّا فيما لا يبتني عليه الأحكام ، كما في تفسير القرآن وغيره .

نقل كلام المحقّق في المعتبر وتأئيده من المؤلف

ألا ترى أنّ المدّعي لو جاء بشهود كثيرة من أحد الفرق المخالفة عند الحاكم لردّ شهادتهم وطالبه بإقامة الشهود من أهل الحقّ وأصحاب الحديث إذا أخذوا الحديث من الضعفاء والمجاهيل عدّد ذلك طعناً فيهم ، بل ربّما أخرجوا من كان كذلك عن بلدهم لئلاّ يعتمد الناس عليهم ، ولو كانت أخبار الجماعة المذكورة بهذه المثابة لما ساقوها مساق الأدلّة ، ولصنعوا بها كما صنعوا بغيرها ، ومن هنا يظهر أنّ عمل الطائفة بها لم يكن لاقترانها بالأدلّة ، وإلّا فلا فرق .

ثمّ إنّا لمّا تتبّعنا كتب الرجال وشاهدنا سيرة أهل الاستدلال وجدنا العمل بأخبارهم والتمسّك برواياتهم طريقة مستمرّة منهم على قديم الدّهر ، يعرفها منهم كلّ مخالط لهم ناظر في تصانيفهم ، ولقد أجاد المحقّق - طاب ثراه - في قوله : « إنّ الاقتصار على سليم السند قدح في المذهب وطعن في علماء الشيعة ، إذ ما من مصنّف إلاّ وقد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر المعدّل »(1) .

وهو حقّ لامرية فيه ولا شبهة تعتريه ، ألا ترى أنّ شيخنا الكشي قد عدّ عبداللَّه بن بكير(2) وأبان بن عثمان ممّن اجتمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عنه وتصديقه لما يقول ، وتلقّاه المتأخّرون بالقبول ، مع حكايته عن العيّاشي أنّ الأوّل

ص: 429


1- المعتبر 1 / 29 .
2- اختيار معرفة الرجال 1 / 217 ، الرقم 88 .

فطحيّ ، وعنه عن علي بن الحسن أنّ الثاني ناووسي .

وحكى الإجماع المذكور عن بعضهم في حقّ عثمان بن عيسى والحسن بن علي بن فضّال ، مع أنّ الأوّل واقفي والثاني فطحىّ ، وإن حكى رجوعهما(1) لكنّه على تقدير صحّته لايجدي في شأن الأخبار الواردة عنهما في حال الضلال أو المشتبهة بذلك ، لعدم نقل التاريخ ، ومنه يظهر الحال في عبداللَّه بن المغيرة ونحوه ممّن اهتدي بعد ضلالته ، على أنّ الحسن بن فضّال إنّما يحكى رجوعه عند وفاته ، فلا ربط لذلك بأخباره .

وقول الأصحاب في حقّ الموثّقين من الفرق الضالة : فلان ثقة في الحديث ، أو معتمد الكتاب ، ونحو ذلك ظاهر في قبول أخبارهم ، ألا ترى إلى ما ذكروه في حقّ إبن عقدة ، مع كونه زيديّاً جاروديّاً قد مات على ذلك ، وقالوا : « إنّ أمره في الثقة والجلالة وعظم الحفظ أشهر من أن يذكر ، وإنّما ذكرناه في جملة أصحابنا لكثرة رواياته عنهم وخلطته بهم وتصنيفه لهم ، وعظم محلّه وثقته وأمانته وحفظه حتّى حكى أنّه قال : احفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها ، واذاكر بثلاثمائة ألف حديث »(2) . أترى يحصل العلم اليقيني بمطابقة جميعها للواقع مع غلبة السهو والنسيان على نوع الإنسان ؟ وذكر أسماء الرجال الّذين رووا عن الصادق عليه السلام أربعة آلاف رجل ، وروى جميع كتب أصحابنا وصنّف لهم وذكر اصولهم ، وذكروا في حقّ كثير من الموثّقين ما ذكروا ، كقولهم في عليّ بن فضال : « إنّه كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث

ص: 430


1- انظر اختيار معرفة الرجال 1 / 217 و 2 / 860 .
2- الفهرست / 68 ، الرقم 86 وخلاصة الأقوال / 322 - 321 ، الرقم 13 .

والمسموع قوله فيه »(1) .

وقال إبن الغضايرى في أحمد بن هلال : « أرى التوقّف في حديثه إلاّ فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة ، وعن محمد بن أبي عمير من نوادر الحكمة ، وقد سمع هذين الكتابين منه جلّ أصحابنا واعتمدوه فيهما »(2) .

وقال النجاشي في الحسين بن عبيداللَّه السعدى : « رمي بالغلوّ ، له كتب صحيحة الحديث »(3) .

وقال الشيخ في طلحة بن زيد : « إنّه عاميّ المذهب إلاّ أنّ كتابه معتمد »(4) .

وقال النجاشي في على بن محمد بن رياح : « كان ثقة في الحديث ، واقفاً في المذهب ، صحيح الرواية ، ثبتاً معتمداً على ما يرويه »(5) .

وقال الشيخ والعلّامة في الحسن بن على بن فضّال : « إنّه روى عن الرضا عليه السلام وكان خصّيصاً به ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، زاهداً ورعاً ثقة في الحديث وفي رواياته »(6) .

وقال الكشّي : قال محمد بن مسعود في عبداللَّه بن بكير وجماعة من الفطحيّة : هم فقهاء أصحابنا ، منهم : إبن بكير ، وإبن فضّال يعني الحسن بن علي ، وعمّار السّاباطي ، وعلي بن أسباط ، وبنو الحسن بن على بن فضال علي

ص: 431


1- رجال النجاشي / 258 - 257 ، الرقم 676 ، نقد الرجال 3 / 245 - 244 الرقم 3539 .
2- رجال ابن داود / 230 ، الرقم 45 ، وانظر : الرجال لإبن الغضائرى /111 ، الرقم 166 .
3- رجال النجاشي / 42 ، الرقم 86 .
4- الفهرست / 256 ، الرقم 372 .
5- رجال النجاشي / 259 ، الرقم 679 .
6- الفهرست / 123 ، الرقم 164 - خلاصة الاقوال 98 ، الرقم 2 .

وأخواه ، ويونس بن يعقوب ، ومعاية بن حكيم وعدّ عدّة من أجلّة العلماء الفقهاء »(1) إلى غير ذلك من كلماتهم المذكورة في حقّ الموثّقين .

ويرشد إليه اعتماد جماعة من أصحابنا عليهم ممّن دأبه الامتناع من النقل عن المجاهيل فضلاً عن الضعفاء ، كما لا يخفى ، وكفاك قول الصدوق - رضي اللَّه عنه - في أوّل الفقيه : « ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحتّه وأعتقد أنّه حجّة بيني وبين ربّي ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل »(2) مع أنّ كثيراً من تلك الكتب منسوبة إلى الثقات والمعتمدين من ساير الفرق الضالّة ودعوى حصول اليقين له بصحّة أحاديثها نظراً إلى قوله : « وأحكم بصحّته وأعتقد أنّه حجّة » مخالفة للضرورة ، إذ كيف يحصل اليقين من أحاديث غير المعصوم على تكثّرها مع انفتاح أبواب السهو والنسيان والخطأ وغيرها فيها ، وظهور وقوعها في جملة منها ، سيّما مع ملاحظة اعتماده في تصحيح الخبر وردّه على شيخه .

وتوهّم تواترها واقترانها بالقرائن القاطعة في الجميع الطبقات وهمٌ فاحش ، ألا ترى أنّا إذا سمعنا أخباراً غير محصورة من أوثق إخواننا لقلّ ما يتّفق مصادفة جميعها بتمام جزئيّاتها للواقع من دون اتّفاق السهو في شي ء منها فضلاً عن حصول اليقين بذلك ، فلم يبق إلاّ الوثوق الموجب لسكون النّفس ، فإنّه يعدّ في العادة من العلم ، ويعامل معه معاملة القطع ، وهذا معنى حكمه بصحّته واعتقاد حجيّته دون القطع بمتن الواقع ، إنّما زعم ذلك جماعة من متأخّري الأخباريّين ،

ص: 432


1- اختيار معرفة الرجال 2/635 ، الرقم 639 .
2- الفقيه 1 / 3 - 2 .

وذكروا جملة من القرائن الّتي أقصاها ما ذكرناه من الوثوق .

نقل كلام الشيخ الطوسي في العدّة وقبوله من المؤلف

وقال الشيخ في العدّة بعد تفسير العدالة المعتبرة في ترجيح الخبرين على الآخر ب « أنّها كون الراوي معتقداً للحقّ مستبصراً ثقة في دينه ، متحرّجاً عن الكذب ، غير متّهم فيما يرويه ، أمّا إذا كان مخالفاً في الاعتقاد لأصل المذهب وروي مع ذلك عن الأئمّة عليهم السلام نظراً فيما يرويه - إلى أن قال - وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضاً العمل به ، كما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما يروي عنّا فانظروا إلى مارووه عن علي عليه السلام فاعملوا به .

ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بمارواه حفص بن غياث ، وغياث بن كلوب ، ونوح بن درّاج ، والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه . وأمّا إذا كان الراوي من فرق الشيعة مثل الفطحيّة والواقفيّة والناووسيّة وغيرهم نظراً فيما يروونه - إلى قوله - وان كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه وجب أيضاً العمل به إذا كان متحرّجاً في روايته موثّقاً في أمانته وان كان مخطئاً في أصل الاعتقاد .

ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحيّة مثل عبداللَّه بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفيّة مثل سماعه بن مهران وعلي ابن أبي حمزة وعثمان بن عيسى ، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضّال وبنو سماعة والطاطريّون وغيرهم فيما لو يكن عندهم فيه خلافه - إلى أن قال - فأمّا من كان مخطئاً في بعض الأفعال أو فاسقاً بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرّجاً فيها ، فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره ويجوز العمل به ، لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه ، وإنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك

ص: 433

قبلت الطّائفة أخبار جماعة هذه صفتهم »(1) ، انتهى .

فانظر إلى هذا الكلام المتين وما حكاه من الإجماع المقرون بقرائن اليقين ، فإنّ من وقف على كلمات الأصحاب وطريقتهم من المتقدّمين والمتأخّرين قطع بصحة ما أفاده هذا الشيخ الجليل الّذي هو رئيس الفرقة الناجية وأبصر الناس بآرائهم ومذاهبهم .

إشكال على الشيخ الطوسي وجوابه

فإن قلت : كلامه هذا مناقض لما ذكره من أنّ المعلوم من حال الفرقة المحقّة الّذي لا ينكر ولا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الّذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ، وأنّ من شروط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلاً بلا خلاف ، وكلّ من أسند إليه ممّن خالف الحقّ لم يثبت عدالته فثبت فسقه ، فلأجل ذلك لم يجز العمل بخبره ، وصرّح في مفتح الباب بأنّ جواز العمل بخبر الواحد في الشرع موقوف على طريق مخصوص ، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقّة ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها ، وذكر في معنى العدالة المعتبرة في ترجيح أحد الخبرين على الاخر ما مرّ ، وقال بعد نقل المذاهب في خبر الواحد : وأمّا الذي اخترته من المذاهب فهو أنّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويّاً عن النبيّ أو واحد من الأئمّة عليهم السلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديداً في نقله جاز العمل به . ومفهومه أنّه مع عدم الشرايط لايجوزالعمل به .

قلت : لا يخفى على من نظر في أطراف كلامه - طاب ثراه - أنّه رحمه الله إنّما أجمل الكلام ابتداءً جرياً على الطريقة المألوفة ، ثمّ فصّل الحقّ في ذلك وبيّن

ص: 434


1- عدة الاصول 1 / 152 - 148 .

حقيقة العدالة المطلوبة في الرواية ، وصرّح بأنّها غير العدالة المطلوبة في الشهادة ، واستقرّ عمله على ذلك في كتبه الفقهيّة ، وليس ذلك من التعارض في شي ء .

وقد اعترض على نفسه في جملة كلام له « بأنّكم كيف تعوّلون على هذه الأخبار وأكثر رواتها المجبّرة والمشبّهة والمقلّدة والغلات والواقفيّة والفطحيّة وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلاً ؟

استشهاد بمقالات المحقّق على حجيّة خبر الثقات

فقال عن ذلك جوابان ؛

أحدهما : أنّ ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد ، إذا علم من اعتقادهم تمسّكهم في الدين وتحرّجهم عن الكذب ووضع الحديث ، وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمّة عليهم السلام .

والجواب الثاني : أنّ جميع ما يرويه هؤلاء إن اختصّوا بروايته لا يعمل به ، وإنّما يعمل به إذا يضاف إلى رواياتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح(1) .

ولا يذهب عليك أنّ تنافي الجوابين مدفوع بتقييد الثاني بغير الثقات على ما شرط في الأوّل ، وقد صرّح في إثبات العمل بخبر الواحد : إنّي وجدت الفرقة مجمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اُصولهم ، أن لا يتناكرون ذلك حتّى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشي ء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا ؟ فاذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لاينكر

ص: 435


1- عدة الاصول 1 / 134 - 131 .

حديثه سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبّلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده »(1) .

وقال قدس سره في أوّل الفهرست : « فإذا ذكرت كلّ واحد من المصنّفين وأصحاب الاُصول فلابدّ من أن اُشير إلى ما قيل فيه من الجرح والتعديل ، وهل يعوّل على روايته أو لا ؟ واُبيّن عن اعتقاده ، هل هو مخالف للحقّ أو موافق له ؟ لأنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا وأصحاب الاُصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وإن كانت كتبهم معتمدة »(2) ، انتهى .

وبالجملة ، فما ذكره من الإجماع على قبول أخبار الفرق المسطورة عند ثبوت وثاقتهم في النقل مقترن بالقرائن العلميّة ، فلا مانع من التعويل عليه ، على أنّه - طاب ثراه - من أوثق العلماء كافّة ، وأورعهم وأعدلهم وأصدقهم وأبصرهم بطرايق العلماء ، فيقبل قوله في ذلك لاستجماعه لشرايط الحجيّة .

فإن قلت : فقد أنكر المحقّق عليه في ذلك وقال : « نحن نمنع هذه الدعوى ونطالب بدليلها ، ولوسلّمناها لاقتصرنا على المواضع الّتي عملت الطائفة فيها بأخبار جماعة خاصّة ، ولم نجز التعدّي في العمل إلى غيرها . ودعوى التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعدة »(3) . وقد وافقه على ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه .

قلت : انّ ذلك عجيب منه قدس سره فإنّ عمل الطائفة بأخبار الجماعة ممّا لا يكاد

ص: 436


1- عدة الاصول 1 / 127 - 126 .
2- الفهرست / 4 - 3 .
3- معارج الاصول / 149 .

يخفى على من له أدنى خبرة ، ولا زال المحقّق - رضى اللَّه عنه - بنفسه يعمل بأخبارهم في مسائل كثيرة ، ويعترض على نفسه بنحو ذلك ، ويجيب « بأنّهم وإن كانوا كذلك ، لكنّهم مشهود لهم بالثقة ، فلا طعن في روايتهم إذا لم يكن لها معارض من الحديث السليم »(1) .

ففي مسألة موت الإنسان في البئر عند التمسّك برواية الفحطيّة قال : « لا يقال : هذا السند فطحيّة ، لانّا نقول : هذا حقّ ، لكن من الثقات مع سلامته عن المعارض ، ثمّ إنّ هذه الرواية معمول عليها بين الأصحاب عملاً ظاهراً ، وقبول الخبر بين الأصحاب مع عدم الرادّ له يخرجه إلى كونه حجّة ، فلا يعتدّ إذن بمخالف فيه »(2) .

وفي مسألة سؤر الطيور عند التمسّك برواية علي ابن أبي حمزة وعمّار « لا يقال : علي بن أبي حمزة واقفي ، وعمار فطحىّ [فلا يعمل بروايتهما(3)] لأنّا نقول : الوجه الّذي لأجله عمل بخبر الثقة قبول الأصحاب وإنضمام القرينة ، لأنّه لو لا ذلك لمنع العقل من العمل بخبر الثقة ، إذ لا قطع بقوله ، وهذا المعنى موجود هنا ، فإنّ الأصحاب عملوا برواية هؤلاء كما عملوا هناك .

ولو قيل : فقد ردّوا رواية كلّ واحد منها في بعض المواضع .

قلنا : كما ردّوا رواية الثقة في بعض المواضع معلّلين بأنّه خبر واحد ، وإلّا فاعتبر كتب الأصحاب ، فإنّك تراها مملوّة من رواية عليّ المذكور وعمّار ، على

ص: 437


1- المعتبر 1 / 60 .
2- المعتبر 1 / 62 .
3- اضفناها من المصدر .

أنّا لم نرمن فقهائنا من ردّ هاتين الروايتين ، بل عمل المفتين منهم بمضمونها »(1) .

وهذه العبارة موهومة لخلاف المقصود ، لكن ذيلها صريح في أنّ المراد من صدرها قبول الأصحاب وثبوت القرينة للرواية المذكورين من حيث النوع دون الشخص ، ولا شكّ في عدم إفادة ذلك ، للقطع بخصوصيات أخبارهما ، ويشهد بذلك سائر عباراته قدس سره . ففي مسألة التراوح عند ذكر رواية عمّار : « ولقائل أن يطعن في هذه الرواية لضعف سندها ، فإنّ رواتها فطحيّة - إلى أن قال - وربّما قيل : إنّ المذكورين وان كانوا فطحيّة فإنّهم مشهود لهم بالثقة ، فلا طعن في روايتهم إذا لم يكن لها معارض من الحديث السليم - إلى أن قال عند ذكر رواية اُخرى - والاُولى وإن ضعف سندها فإنّ الاعتبار يؤيّدها من وجهين : أحدهما : عمل الأصحاب على رواية عمّار لثقته ، حتّى أنّ الشيخ ادّعى في العدّة إجماع الإماميّة على العمل بروايته ورواية أمثاله ممّن عدّدهم »(2) .

وفي مسألة وقوع البول في البئر : « لا يقال : عليّ بن أبي حمزة واقفي ، لأنّا نقول : تغيّره إنّما هو في موت موسى عليه السلام فلا يقدح فيما قبله ، على أنّ هذا الوهن لو كان حاصلاً وقت الأخذ عنه لانجبرت بعمل الأصحاب وقبولهم لها »(3) .

وذكر نحو ذلك في موت الطير ، فقال : « والاُولى يعضدها العمل ، فهي أولى وإن ضعف سندها »(4) .

وفي موت العصفور عند ذكر رواية عمّار : « وقد قلنا : وإنّ عماراً مشهود له

ص: 438


1- المعتبر 1 / 94 .
2- المعتبر 1 / 60 - 59 .
3- المعتبر 1 / 68 .
4- المعتبر 1 / 70 .

بالثقة في النقل منضمّاً إلى قبول الأصحاب لروايته هذه ، ومع القبول لا يقدر اختلاف العقيدة »(1) .

وفي مسألة ما لا نفس له : « هذه الروايات وإن ضعف سندها فإنّ فتوى الأصحاب يؤيّدها »(2) .

وفي مسألة ما تراه المرأة مع الطلق عند ذكر رواية الفطحيّة : « وهذه وإن كان سندها فطحيّة لكنّهم ثقات في النقل ، ولامعارض لها . ومثله روى السكوني ، قال : والسكوني عامي لكنّه ثقة ، ولا معارض لروايته هذه »(3) .

إلى غير ذلك من كلماته المتفرّقة في كتبه ، فإنّها مشحونة من العمل بأخبار الجماعة ، وردّها في كثير من المقامات - لوجود المعارض لها ، أو تطرّق الوهن إليها أو نحو ذلك - غير مناقض لما ذكر ، وقد تقدّم نقله الاتّفاق على العمل بأخبار المجروحين ، وقوله : « إنّ الاقتصار على سليم السّند قدح في المذهب وطعن في علماء الشيعة .

وهذه العبارات وأمثالها ممّا لا موقع لها على تقدير حصول العلم اليقيني بشخص الخبر ، فإنّ مجرّد الوثاقة لا يفيد ذلك ، ومعه كيف يعقل اشتراط السلامة عن المعارض في قبوله ؟ وربّما يعمل بخبر هؤلاء مع وجود السليم أيضاً إذا كان شاذّاً ، ويعتذر بالأمر بترك الشاذ ، وكذا غيره من الأصحاب وقد ذكر عند تقرير كلام الشّيخ أنّه يدّعى إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتّى لو رواه

ص: 439


1- المعتبر 1 / 73 .
2- المعتبر 1 / 101 .
3- المعتبر 1 / 252 .

غير الإماميِّ وكان الخبر سليماً عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به .

ودعوى حصول القطع له رحمه الله من المعاضدات الّتي أشار إليها معلومة الفساد ، إنّما يعقل اشتراط السلامة عن المعارض فيما لا قطع به ، والاستناد إلى الوثاقة - كما تكرّر في عباراته - لا يفيد القطع ، كما يشهد به ضرورة الوجدان ، فالمراد ما ذكرنا من الوثوق واطمينان النّفس من أيّ سبب حصل . وأمّا اشتراط المعاضد فإنّما يتمّ في أخبار غير الثقات ، لتوقّف الوثوق بها على انضمام القرينة إليها ، أمّا بعد ثبوت وثاقة الراوي وأمانته فلا ، لحصول الفائدة المقصودة من المعاضد ، ولذا علّل بمجرّد الوثاقة .

والحاصل : أنّ من تصفّح الاُصول القديمة والجوامع المأخوذة منها والكتب الفقهية وجدها مشتملة على ما لا يحصى من أخبار هؤلاء ممّا لم يقترن بدليل ولم تقم عليه حجّة من الخارج ، فإنّك ترى المحدّثين يسوقونها مساق الأدلّة ، وأرباب الاستدلال يتمسّكون بها كما يتمسّكون بغيرها ، ويحكون التمسّك بها عن قبلهم عند حكاية الخلاف والاستدلال ، ولو كان التمسّك بها لاقترانها بالأدلّة لكانت تلك الأدلّة بالتعرّض لها أولى وبالاستناد أحرى ، وإن كان ذلك لاعتضادها بالقرائن الخارجيّة فليست القرائن الداخلة من وثاقة الراوي وأمانته واحتياطه بأدون منها ، فإنّما يأخذون بها لمكان الوثوق بصحّتها من أيّ طريق حصل ، فإن استند إلى وثاقة الراوي لم نقتصر على أخبار مخصوصة ولا على جماعة مخصوصة ، فإنّ سائر الخصوصيات ممّا لا مدخل لها في قبول الروايات ، فعلمنا أنّ المدار على الأمانة ، كما أنّا لمّا استفدنا من تتبّع أحوالهم أنّ طريقتهم الأخذ بخبر العدل لم نخصّه بعدل دون آخر ، وإن ردّوا جملة

ص: 440

من أخبارهم لعوارض اخر ، وليس رجوعهم إلى روايات الجماعة إلاّ كرجوعهم في اللّغة والنحو والتصريف إلى الثقات من أربابها وإن كانوا مخالفين في الإعتقاد .

غاية الأمر أنّهم في الأوّل وسايط في السّند ، وفي الثاني وسايط في الأدلّة ، واستنباط الحكم كما يتوقّف على الأوّل كذا يتوقّف على الثاني ، والمستند في المقامين واحد ، فيثبت الحكم فيهما على حدّ سواء .

وأمّا استبعاد التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق فليس في محلّه كما نشاهد في كثير ، مع أنّ مثله جار في المقام الثاني أيضاً . نعم ، قد يستبعد ذلك من بعض العصاة المرتكبين للمآثم الفظيعة ، وإلّا فالتحرّج عن بعض المعاصي دون بعض ليس بعزيز ، بل هو الغالب في الناس .

معنى الصحيح عند قدماء الأصحاب

فظهر أنّه ليس المدار على صحّة السند بالاصطلاح الجديد ، وإنّما يراد صحّة السند لأجل الوثوق والاطمينان ، فإنّ الصحيح عند قدماء الأصحاب ليس إلاّ ما تسكن النفس إليه ، فإنّه بمنزلة العلم في العادات ، وعليه المدار في صدق الطّاعة والعصيان ، وقصر الحجيّة في كلام البعض على الأخبار المعمول عليها مبنيّ على أنّ ما عداها إمّا أن يكون ممّا شذّ عن الأصحاب ، أو ممّا أعرضوا عنه ، لا أنّ لها خصوصية اُخرى موجبة لقبولها خاصّة .

فسقط بما ذكرناه اعتراض الشهيد الثاني قدس سره على الشيخ حيث قال : « والعجب أنّ الشيخ اشترط الإيمان والعدالة في كتب الاُصول ، ووقع له في كتب الحديث والفروع الغرائب ، فتارةً يعمل بالحديث الضعيف مطلقاً حتّى أنّه يخصّص به أخباراً كثيرةً صحيحةً تعارضه بإطلاقها ، وتارةً يصرّح بردّ الحديث لضعفه ، واُخرى بردّ الصحيح معلّلاً بأنّه خبر آحاد لا توجب علماً ولا عملاً ، كما

ص: 441

هو عبارة المرتضى قدس سره »(1) .

وأنت تعلم أنّ هذا التفصيل لا يختصّ بالشيخ ، بل يوافقه عليه ساير الأصحاب ، وطريقتهم مستمرّة عليه ، فإنّ الضعيف متى لم يعتضد بما يوجب الوثوق به وجب إطراحه ، كما أنّ الصحيح إذا تطرّق الوهن إليه خرج عن الاعتبار ، وتقدّم اصطلاح القوم في أخبار الآحاد وإن اشتبه على السّيد قدس سره ومن تبعه ، مع أنّ هذا التفصيل جار في نقلة اللّغات ونحوها أيضاً ، والإجماع على كفاية الظنّ فيها على نحو الإجماع في المقام من غير فرق(2) .

هل يشترط الاُمور الخمسة في الراوي ؟

فإن قلت : كيف تدّعى الإجماع في المقام مع اشتهار اشتراط الأمور الخمسة في الراوي من البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والضبط حتّى نسبوه إلى أكثر الطائفة(3) بل نقل عليه الإجماع(4) حتّى قال السيّد قدس سره في الذريعة : « إنّ احداً من علماء الاُمّة لا يقول بأنّ المدار في الأحكام على الظنّ بها مطلقاً ولو من خبر الكافر والفاسق » .

وفي النهاية : « أجمع العلماء على عدم قبول رواية الكافر الّذي لا يكون من أهل القبلة ، سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لا »(5) .

وذكر أيضاً « أنّ الفاسق إذا أقدم على الفسق عالماً بكونه فسقاً لم يقبل

ص: 442


1- الرعاية / 90 ، وانظر : أوثق الوسائل / 137 ، الانتصار / 483 - 463 - 217 .
2- انظر : بحر الفوائد 1 / 114 .
3- انظر : وصول الأخيار / 187 .
4- الذريعة 2 / 538 .
5- نهاية الوصول (مخطوطة) نقل عنه في مفاتيح الأصول / 359 .

روايته إجماعاً »(1) .

وفي الدراية وشرحها « اتّفق أئمّة الاُصول والحديث على اشتراط إسلام الراوي وبلوغه وعقله ، وجمهورهم على اشتراط عدالته بمعنى كونه سليماً من أسباب الفسق وخوارم المروة وضبطه بمعنى كونه حافظاً متيقّظاً [غير مغفل(2) إن حدّث من حفظه ، ضابطاً لكتابه [حافظاً له من الغلط والتصحيف والتحريف(3)] عارفاً بما يختلّ به المعنى إن روى به قال : والمشهور بين أصحابنا اشتراط إيمانه مع ذلك ، قطعوا به في كتب الاُصول وغيرها »(4)(5) .

الأقوال حول شرائط الراوي

وفي المنية : « إنّ القائلين بأنّ خبر الواحد حجّة اعتبروا فيه شروطاً خمسة يتعلّق بالخبر - إلى أن قال - وأمّا المخالف في العقايد الّتي لا يبلغ إلى حدّ الكفر فلا يقبل روايته عندنا » .

وقال : « إنّ الفاسق إمّا أن يكون عالماً بفسقه أولا ، والأوّل مردود الرواية إجماعاً ، سواء كان فسقه مظنوناً أو معلوماً »(6) .

وفي شرح المبادي : « يشترط أن يكون عادلاً ، وأن لا يكون مجهول الحال عند الإمامية »(7) .

ص: 443


1- نهاية الوصول (مخطوطة) نقل عنه في مفاتيح الأصول / 370 .
2- ]() زيادة من المصدر في الرعاية .
3- زيادة من المصدر في الرعاية .
4- الدراية / 37 .
5- الرعاية 114 - 110 وانظر : وصول الأخيار / 187 .
6- لم نجده ولكن نقل عنه في مفاتيح الأصول / 370 ، 357 .
7- لم نجده ولكن نقل عنه في مفاتيح الأصول / 370 .

وفي المعالم : « إنّه لاريب في اشتراط الإسلام ، واشتراط الإيمان والعدالة هو المشهور بين الأصحاب ، ولا خلاف في اشتراط الضبط »(1) ونحوه ذكر في غاية المأمول(2) وغيره من كتب المتأخّرين(3) .

وبالجملة ، فمن تتبع كتب الاُصول في شرايط الراوي وما يتعلّق بها من مباحث الجرح والتعديل وغيرها وجد لهم طريقة اُخرى غير ما حكيت عن الطائفة .

إن قلت : الاُصولي من شأنه بيان الاُمور الكلّيّة دون الجزئيّات المختلفة باختلاف الخصوصيات ، فالغرض أنّ اجتماع الأمور الخمسة في الراوي مقتض لقبول خبره إلاّ أن يمنع من ذلك مانع من معارض أو شذوذ أو غير ذلك ، وتخلّف بعضها مقتض للردّ إلاّ أن ينجبر بخصوصيات المقام .

وكلا الأمرين مسلّم على ما ذكرناه أيضاً ، لوضوح أن تخلّف بعض تلك الشرايط موجب لارتفاع الوثوق بالخبر ، فإنّ الصبيّ لارتفاع القلم عنه لا يؤمن عن الإقدام على رواية ما لا يعتقده ، وفاسد العقيدة لإهماله في الأصل متّهم في نقل الفرع ، والفاسق لانتفاء الخوف المانع له عن المعصية غير مأمون في الرواية ، وكذا غير الضابط ، فكلّ من تلك الأُمور مقتض للاتهام ، مانع من حصول الوثوق التامّ ؛ وحصوله من الخارج في خصوص بعض الروايات أو من خصوصيّات المقام لا ربط له بما هو الغرض من بيان الحكم العامّ ، كما أنّ عدم حصول الوثوق

ص: 444


1- المعالم / 203 - 199 .
2- نقله عنه في مفاتيح الاصول 362 ، 365 وانظر : الفوائد الحائرية 488 .
3- انظر : القوانين / 462 ، الفصول 297 .

بكثير من أخبار العدول لا ينافي إطلاق الحكم بالقبول .

غير أنّ جماعة من المتأخّرين غفلوا عن ذلك ، وزعموا أنّها عندهم شروط تعبديّة ، أخذاً بظاهر القول ، وغفلة عن الطريقة في العمل ، حتّى أوردوا على الأصحاب بمخالفة عملهم في أبواب الفقه لمختارهم في الاُصول ، وحاشاهم عن ذلك ، إنّ ذلك من سوء الظنّ بهم ، إنّما يكون الغفلة فيما يتّفق نادراً ، ألا ترى أنّ العلّامة قد صرّح في كتبه الاُصوليّة بالشرايط الخمسة(1) وقد ملأ كتبه الفقهيّة والرجاليّة من الاستناد إلى الأخبار الفاقدة لها ، والاعتماد على كثير من الفطحيّة والواقفية وأضرابهم ، وطرح الأخبار الصحيحة .

والمحقّق في اُصوله قد اعتبر الشرايط المذكورة(2) مع أنّه الّذي يقول : « إنّ الاقتصار على سليم السند قدح في المذهب »(3) .

وقد نبّه في التهذيب(4) والمنية(5) على ذلك ، حيث ذكر الأوّل أنّه « يجب كون المخبر راجح الصدق عند السامع وإنّما يحصل مع الشرايط الخمسة » . وقال الثاني : « إنّها ينظمها شي ء واحد ، وهو كونه راجح الصدق على الكذب عند السامع » .

وقد عرفت عن الشيخ مع نفيه الخلاف عن اشتراط العدالة وتصريحه باعتبار الشرايط المبالغة في إثبات ما ذكرناه .

ص: 445


1- انظر ، مبادي الوصول / 206 .
2- راجع : معارج الاصول / 151 - 149 .
3- انظر : المعتبر 1 / 29 .
4- تهذيب الوصول إلى علم الاصول / 230 .
5- منية اللبيب في شرح التهذيب لابن اخت العلّامة السيد مرتضى الحسيني الحلّي ، مخطوطة .

وقد أورد في الدراية(1) وشرحها(2) بأنّ إطلاق اشتراط الايمان والعدالة غير جيّد ، لأنّهم لا يقولون به لعملهم بأخبارٍ ضعيفة أو موثقّة في كثير من الأبواب معتذرين بانجبار الضعف بالشهرة ونحوها من الأسباب ، فاللازم اشتراط أحد الأمرين من الإيمان والعدالة ، أو الانجبار بمرجّح . وقد عرفت عذر القوم في ذلك ، فإنّ الثاني لا يرجع إلى ضابط معلوم ، لاختلافه بحسب اختلاف المقامات ، وإن أمكن تعيينه في بعضها لم يمكن تعيين القرائن الخارجية وضبطها ، ولذا اختلفوا ، فمنهم من عيّن ما يمكن تعيينه ، وهو وثاقة الراوي وأمانته في نقل الأخبار ؛ ومنهم من أهمل ذكره ، نظراً إلى اندراجه في القرائن المنضمّة إلى الخبر الموجبة للوثوق به ، من غير فرق بين القرائن الداخلة والخارجة .

ومن لاحظ احتجاج القوم على اعتبار الشرايط الخمسة لا يبق له فيما ذكرناه شبهة ، فإنّهم لم يزعموا أنّه حكم مخصوص جائت به الشريعة ، وإنّما علّلوا اشتراط البلوغ بارتفاع القلم عن الصبي الموجب لعدم المؤاخذة وعدم التحفّظ عن الكذب ، وأنّ رد خبره أولى من الفاسق ، لعلمه بالتكليف دونه ؛ والضبط بأنّه لا يبقي وثوق مع عدمه ، فقد يسهو عن بعض الحديث أو يغيّره بالزيادة والنقصان والتبديل في السند والمتن ونحو ذلك ، والعدالة ببعد التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق ؛ وقولهم : لا يقبل رواية الكافر من غير أهل القبلة ، والفاسق العالم بفسق نفسه إجماعاً ونحو ذلك من العبارات يشير إلى أنّ الوثوق لا يحصل بذلك ، وإلّا

ص: 446


1- الدراية / 38 - 37 .
2- الرعاية / 113 ، وانظر : وصول الأخيار / 187 .

فأيّ فرق بين أقسام الكافر والفاسق ، ولذا علّلوا الفرق بجرئته على الإقدام على الفسق ، فيرتفع الثقة بكلامه ، بخلاف المبتدع .

ثمّ لا يخفى على المتتبّع أنّ الأصحاب قد أعرضوا عن روايات كلّ من أعرض من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم مع تكثّرها وتوفّرها في فنون علوم الدين ، وهم جمهور أهل الخلاف من الصحابة والتابعين ومن تأخّر عنهم إلاّ فيما لا يبتني عليه الحكم الشرعي ، وتعرّضوا لروايات كلّ من أقبل إليهم وخالطهم وتصدّى لجمع أخبارهم وروايتها لهم ، وافقهم في الاعتقاد أو خالفهم ، كالسكوني وغيره من الفرق الضالّة ممّن خالطهم وخالطوه وعرفّهم وعرفّوه حتّى حصل لهم الوثوق بهم ، وليس ذلك إلاّ لأنّ المدار عندهم في قبول الخبر وردّه على الوثوق وعدمه . ومن تامّل كتب الأصحاب في جميع أبواب الفقه علم أنّ عمل القوم بأخبار غير العدول أضعاف عملهم بأخبار العدول ، لخلوّ أكثر المباحث عن صحاح الأخبار ، وغلبة المعارضة بين الأخبار الصحيحة ، وكثرة العوارض المانعة من التمسّك بكثير منها ، حتّى أنّ من يقتصر على الصحاح لا يزال يتحيّر في المسائل حيث إنّ العمل بغير الصحيح عندهم مشكل ، ومخالفة الأصحاب أشكل ، فتارةً يقدمون على الأوّل ، وتارةً على الثاني ، واُخرى يتحيّرون ويتوقّفون في الفتوى ويحتاطون في العمل .

وجه إعراض الأصحاب عن روايات كلّ من أعرض من أهل البيت عليهم السلام

وهذا شأن من غفل عن طريقة الأصحاب من لدن زمان الأئمّة عليهم السلام وهم بمرئى منهم ومسمع ، وما فطنوا أنّ الشرايط التعبّدية إنّما جائت في الشهادات ، ولو جرت في أخذ الأخبار لماخفى على أساطين الأصحاب ، فضاق عليهم الأمر حتّى اشترط بعضهم في الراوي تعدّد المزكّى ، مع أنّ تزكية كثير منهم مبنيّة على ضرب من الاجتهاد في القرائن والأمارات ، أو على الاعتماد على كتب من

ص: 447

تقدّمهم ، كما لا يخفى على الناقد البصير ؛ وأين ذلك من الشهادة ؟ إنّما يتحقّق ذلك في حقّ المعاصرين لهم أو المقاربين لأعصارهم أو المعروفين الّذين أغنت شهرة عدالتهم عن البحث في أحوالهم .

ممّا يدلّ على حجيّة ما يوثق به من الأخبار اُمور

اشارة

ثمّ ينبغي على طريقة الجماعة إناطة تميز المشتركات وتعيين الطبقات أيضاً بشهادة العدلين وإسقاط عامّة القرائن والأمارات الرجالية عن الاعتبار ، مع استمرار عملهم على خلاف ذلك ،

وممّا يدلّ على حجيّة ما يوثق به ويعتمد عليه من الأخبار وإناطة الحكم فيها بالوثوق والاعتماد اُمور .

منها : آية النبأ والروايات الواردة في المقام

منها : آية النبأ(1) المعللّة لوجوب التبيّن في بناء الفاسق بمخالفة الوقوع في الندامة ، ولو بنى الأمر في ذلك على مجرّد الاحتمال لاشترك فيه نبأ العدل والفاسق ، وامتنع التفرقة بينهما بذلك ، فلم يبق إلاّ التفرقة بالوثوق وعدمه ، فمتى انتفى الوثوق في نبأ العدل كان كخبر الفاسق ، وإذا حصل الوثوق في نبأ الفاسق كان كخبر العدل ، فيكون هو المراد من التبيّن المأمور به ، وعلى هذا بنى الأصحاب طريق إثبات الأحكام ، وإن خالفوه في الموضوعات ، نظراً إلى ثبوت الشرايط التعبديّة في طريق إثباتها ، فيشكل التمسّك بالآية الشريفة من حيث ورودها في إثبات الموضوع وإن أمكن التزام التقييد في مورده ، وهناك إيرادات كثيرة ذكرناها في محلّها .

ومنها : ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة عن الشريف النقيب أبي محمّد

ص: 448


1- سورة الحجرات / 6 .

المحمّدي الحسن بن أحمد بن القاسم بن محمّد بن على بن أبي طالب(1) - الّذي قرأ عليه النجاشي وقال : « إنّه سيّد في هذه الطائفة »(2) وذكره الشيخ مترضّياً(3) مترحّماً عليه(4) - عن أبي الحسين محمّد بن علي بن الفضل - الثقة العين الصحيح الاعتقاد الجيّد التصيف - قال : « حدّثني عبداللَّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح - رضي اللَّه تعالى عنه وأرضاه - قال سأل الشيخ - يعني أبا القاسم - عن كتب إبن أبي العزاقر(5) بعد ما ذمّ وخرجت فيه اللعنة ، فقيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملأ ؟ فقال : أقول فيها ما قاله أبو محمّد الحسن بن على عليهما السلام وقد سأل عن كتب بني فضّال ، فقالوا : كيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملأ ؟ فقال - صلوات

ص: 449


1- وقال في عمدة المطالب [ / 354] : « هو السيّد الجليل النقيب المحمّدي كان يخلّف السيّد المرتضى على النقابة ببغداد ، له عقب يعرفون ببني النقيب المحمّدي ، كانوا أهل جلالة وعلم ورواية ثم انقرضوا » ونقل عنه في قاموس الرجال 3 / 190 ، الرقم 1843 .
2- رجال النجاشي / 65 ، الرقم 152 وانظر : قاموس الرجال 3 / 190 ، الرقم 1843 ، معجم رجال الحديث 5 / 271- 270 ، الرقم 2721 .
3- الغيبة / 389 وقال فيها : وأخبرني أبو محمّد المحمّدي رضى الله عنه عن . . .
4- الغيبة / 175 ، ح 132 وقال فيها : أخبرنا أبو محمّد المحمّدي رحمه الله ، عن ...
5- وهو محمّد بن علي الشلمغاني - بالشين المعجمة والعين المعجمة - قال الطوسي « يكنّى أبا جعفر ويعرف بابن أبي العزاقر [بالعين المهملة والزاء والقاف والراء أخيراً] له كتب وروايات ، وكان مستقيم الطريقة ثمّ تغيّر وظهرت منه مقالات منكرة ، إلى أن أخذه السلطان فقتله وصلبه ببغداد ، وله من الكتب التي عملها في حال الاستقامة ، كتاب التكليف ، رواه المفيد إلّا حديثاً واحداً منه في باب الشهادات » وقال النجاشي « كان متقدّماً في أصحابنا ، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب ... وله كتب » - اُنظر : رجال النجاشي 387 ، الرقم 1029 - الفهرست ( الشيخ الطوسي ) /413 الرقم 628 - معجم رجال الحديث 18 / 50 ، الرقم 11411 - الموسوعة الرجالية الميسّرة / 435 ، الرقم 5585 .

اللَّه عليه - خذوا بما رووا وذروا ما رأو »(1) ومنه يظهر الحال في أحاديث الثقات من جميع الفرق ، إذ لو احتمل الاختصاص لامتنع الشيخ قدس سره عن التعدّي عن مورد النصّ إذ لا يحتمل في حقّه إلاّ الحقّ ، فعلم أنّه لم يفهم من ذلك إلاّ إناطة الحكم بوثاقة الراوي ، استقام في اعتقاده وساير أعماله أو فسد .

ومنها : الأخبار المعللّة

ومنها : الأخبار المعلّلة بالوثاقة والأمانة بصريحها أو ظاهرها ، كما ورد في حقّ العمروي وإبنه من التّعليل بأنّهما الثقتان المأمونان(2) .

وفي حقّ يونس ، حيث سأل الراوي : « أفيونس بن عبدالرحمان ثقة آخذ عنه معالم ديني ؟ فقال نعم »(3) .

وفي زكريّا بن آدم من قوله عليه السلام : « عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا »(4) .

وفي محمّد بن مسلم من قوله عليه السلام : « ما يمنعك من محمّد بن مسلم ؟ فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً »(5) ، إلى غير ذلك(6) .

ومنها : الأخبار العامّة

ومنها : الأخبار العامّة كقوله : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك »(7) .

وقوله عليه السلام حين سئل : « يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ،

ص: 450


1- الغيبة 175 ح 132 و 389 ح 354 .
2- الكافي 1 / 330 - 329 - ح 1 .
3- اختيار معرفة الرجال 2 / 490 ، الرقم 935 .
4- اختيار معرفة الرجال 2 / 858 ، الرقم 1112 .
5- اختيار معرفة الرجال 1 / 163 ، الرقم 273 .
6- انظر ، الوسائل 27 ، 136 ، الباب 11 من ابواب صفات القاضي .
7- الاحتجاج 2 / 109 - 108 .

ولا نعلم أيّهما حقّ : « إذا لم تعلم فموسّع عليك . بأيّهما أخذت »(1) .

وقوله عليه السلام : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك »(2) .

وقوله عليه السلام : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجيتي عليكم »(3) .

وقوله عليه السلام : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا »(4) .

وقوله عليه السلام : « هولاء حفّاظ الدين واُمناء أبي على حلال اللَّه وحرامه »(5) .

وقوله : « أربعة نجباء اُمناء اللَّه على حلاله وحرامه »(6) .

وقوله عليه السلام : « حديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها »(7) .

وقوله في رواية اُخرى : « يأخذه صادق عن صادق »(8) .

وما ورد في رواية الأربعين حديثاً ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع .

المناقشة من جهة الدلالة

الثاني : المناقشة من جهة الدّلالة ، وتفصيل القول في ذلك أنّ الكتاب والسنّة ألفاظ وعبارات قلّ ما يفيد العلم اليقيني بالحكم الواقعي ، بل يتوقّف

ص: 451


1- الاحتجاج 2 / 108 .
2- عوالي اللآلي 4 / 133 ، ح 229 - المستدرك 17 / 303 ، ح 2 .
3- الاحتجاج 2 / 283 .
4- اختيار معرفة الرجال 2 / 816 ، الرقم 1020 .
5- اختيار معرفة الرجال 1 / 348 ، الرقم 219 .
6- اختيار معرفة الرجال 1 / 398 ، الرقم 286 .
7- أمالي المفيد ، المجلس الخامس / ص 42 ، ح 10 .
8- الإختصاص / 61 - مستدرك الوسائل 17 / 299 - 298 ، ح 43 .

استنباط الأحكام الشرعيّة منها غالباً على مقدّمات متى تطرّق المنع إليها أو إلى شي ء منها امتنع الإستدلال بها ، منها إثبات أوضاع الألفاظ المفردة من الأسماء والأفعال والحروف من حيث المادّة ، كلفظ الصعيد والكعب وغيرهما ، والهيئة كهيئة الأمر والنهي ونحوهما ، والمركّبة كالجملة الشرطية ، وغيرها بحسب اللغة والشرع والعرف ، والمرجع في إثبات اللغات غالباً إلى العلوم الأدبيّة من اللغة والنحو والتصريف وفي الشرع والعرف العامّ والخاص إلى نقل أهلها أو إلى علامات الحقيقية والمجاز ، والعُمدة فيها قول ائمة هذه الفنون .

وهذا وإن حكي اتّفاق العلماء بل عامّة المسلمين على الرجوع إليهم في فهم اللّغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج من غير نكير ، كما يستفاد من السيّد قدس سره في بعض كلماته(1) بل اتّفاق العقلاء في كلّ عصر وزمان على صحّة الرجوع إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، كما عن السبزواري قدس سره(2) الّا أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرايط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك لا مطلقاً .

ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال ، بل وبعضهم على اعتبار التعدّد ، والظّاهر اتّفاقهم على اعتبار التعدّد والعدالة في أهل الخبرة وقيم المتلفات واُروش الجنايات والعيوب وغيرها من الموضوعات ، مع أنّه لا يعرف الحقيقة عن المجاز من أقوال أهل العربية غالباً ،

ص: 452


1- حكاه السيّد المجاهد عن السيّد الاُستاذ ، انظر : مفاتيح الاُصول / 61 .
2- رسالةٌ في تحريم الغناء / 32 ، المطبوعة ضمن مجموعة رسائل غناء وموسيقي المجلد الأوّل ، وحكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الاُصول / 61 .

لخلطهم الحقايق بالمجازات وعدم تميزهم بينهما في أغلب المقامات ، وأمّا الرجوع إليهم مع عدم اجتماع شروط الشهادة فيهم فإنّما يقع غالباً في مقامات يحصل العلم بالمعنى من مجرّد ذكر لغوي واحد أو اكثر على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ، أو في مقامات يتسامح فيها ، لعدم تعلّق التّكليف الشرعي بإثباتها كمعنى خطبة أو رواية لا يتعلّق بالتكاليف ، أو من جهة انسداد باب العلم بالأحكام ، ولابدّ من العمل ، فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعي المستند إلى قول أهل اللغة .

الجواب عنها

والجواب : أنّ أكثر مواد الألفاظ معلومة المعاني بالرجوع إلى العرف واللّغة ، والمتّبع في معرفة الهيئات هو القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي ، أو الإتّفاق ، أو علامات الحقيقة والمجاز ، أو نحوها على أنّا نقطع بأنّ رجوع العلماء بل جميع العقلاء إلى قول أهل اللّغة وأضرابهم ثابت من غير نظر في عقايدهم ولا فحص عن ساير أفعالهم ، وإنّما الملحوظ هناك العلم والتتبّع والاطّلاع والتثبّت ونحوها ممّا يؤثر في حصول الوثوق بكلامهم ، وأمّا الشرايط التعبديّة فغير ملحوظة هناك بالكليّة .

ثم إنّه قد تكرّر نقل الإجماع في كلامهم على اعتبار الظنّ باللغات كما في كلام السيّد الطباطبائي وغيره ، وكيف كان فالحاجة إلى قول اللغوي الّذي لا يحصل العلم بقوله لقلّة مواردها لا يصلح سبباً للحكم بانسداد باب العلم بمعظم الأحكام كما هو مناط الاستدلال .

مناقشات آخر وجواباتها

ومنها : إثبات أنّ تلك المعاني ثابتة لتلك الالفاظ في زمان صدورها ، إذ لا فائدة في تقدّمها على ذلك أو تأخّرها ، ولابدّ من نفي الاشتراك والنقل الموجبين للإجمال أيضاً ، وذلك ممّا لا يمكن القطع به في أكثر الموارد ، فلا محيص عن

ص: 453

العمل بالظنّ .

والجواب : أنّ سبيل العلم في أكثر الموارد مفتوح بملاحظة الاستعمالات والقرائن المنضمّة إليها ، وهناك اُصول معتبرة في موارد الشّك قد اتّفق عليها العقلاء في جميع اللغات ، فلا مانع من العمل عليها .

ومنها : إثبات ظهور المعاني الحقيقيّة من الألفاظ المقترنة ببعض الخصوصيات ، كالأمر الوارد عقيب توهّم الحظر ، والنهي الوارد عقيب توهّم الإيجاب ، وشهرة المعاني المجازية الموجبة للشكّ في احتياج الحقيقة إلى القرائن الصارفة ، وشيوع بعض أفراد المطلق الموجب للشكّ في ظهور الإطلاق ، ونحو ذلك . ومن المعلوم أنّ غاية ما يحصل في تلك الموارد الظنّ بالمعنى الظاهر من اللفظ ، ولا دليل على حجيّة مثله بالخصوص .

والجواب : أنّ تلك المسائل معنونة في كلام القوم ، وإن اختلفوا فيها كما اختلفوا في غيرها من المباحث المتعلّقة بالألفاظ ، وكلّ يدّعي الجزم بمختاره فيها ، ولا شكّ في ندرة موارد التوقّف الّتي لا سبيل فيها إلى الجزم ، فلا يصلح سبباً لتأسيس مسألة الظنّ المطلق .

ومنها : إثبات عدم انضمام الألفاظ الواردة حال ورودها إلى القرائن الحاليّة أو المقاليّة الموجبة لصرفها عن حقايقها وساير ظواهرها ، وذلك لتوقّف الجزم بإرادة الظاهر عليه ، وذلك ممّا لا سبيل إلى العلم به في أغلب الموارد ، لبعد العهد وطول الزمان وعروض التغيّرات وحصول الاختلالات ، فلابدّ من العمل بالظنّ .

وجوابه : أنّ المرجع في ذلك إلى الاُصول اللفظية كأصالة الحقيقة وإرادة العموم والإطلاق من ألفاظهما وعدم اعتماد المتكلّم على القرائن الصّارفة ونحو

ص: 454

ذلك ، ولا شكّ أنّ طريقة محاورة الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقاً مخترعاً مغايراً لطريقة محاورات أهل اللّسان في تفهيم مقاصدهم ، وإنّما جرى في ذلك على الوجه المتعارف عند أهل اللسان في استفادة المعاني من الألفاظ ، ومن البيّن أنّ تلك الاُصول اُمور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم .

ومنها : إثبات أنّ الداعي إلى صدور تلك الخطابات إنّما هو بيان حكم اللَّه تعالى لا أن يكون الباعث على ذلك أمراً آخر من تقية وغيرها ، سيّما مع ملاحظة توفّر أسباب التقية في دولة الباطل وشدّة الخوف المستمرّ في أزمنة خلفاء الجور وأئمة الضّلال .

وجوابه : أنّه يكفي في دفع هذا الاحتمال اتّفاق العلماء ، بل إطباق العقلاء على حمل كلام المتكلّم على كونه صادراً لبيان مطلوبه الواقعي لا لإظهار خلاف مقصوده ، ولذا لا يسمع دعواه ممّن يدّعيه إذا لم يكن كلامه محفوفاً بأمارته(1) .

ومنها : إثبات أنّ المقصود من الخطاب إفهام السامع بمجرّده واستفادة المطلب منه مستقلاًّ .

وجوابه ما ذكر ، فلو أراد المتكلّم غير ذلك وجب التنبيه عليه .

ومنها : إثبات أنّ المقصود تفهيم الغائبين عن مجلس الخطاب والمعدومين في زمان التخاطب ، فإنّ المقصود إثبات حجيّة الكتاب والأخبار في أمثال هذه الأعصار ومن البيّن أنّ تلك الخطابات إنّما توجّهت إلى المخاطبين والمشافهين ، اشتملت على الأمر والنهي أو لم تشتمل ، وثلم يدلّ هناك دليل على إرادة إفهام

ص: 455


1- انظر : فرائد الاصول 1 / 238 - 237 .

أمثالنا بنفس تلك الخطابات ، بل الدليل ظاهر على خلافه ، نظراً إلى قبح توجيه الخطاب إلى المعدوم ، وظهور تعلّق غرض المجيب بإفهام السائل والمتكلّم بتفهيم المخاطب ، إلّا حيث يجري الكلام على سبيل تصنيف المصنّفين الّذي لا يراد منه إلاّ إفهام الناظرين أو يصرّح المتكلّم بإبلاغ الشاهد للغايب ، وتطرّق المنع إليهما في أكثر الخطابات ظاهر .

غاية الأمر ثبوت اشتراك الغائبين في التكاليف مع الحاضرين ، وإنّما يفيد ذلك مع القطع بتكاليف الحاضرين ، وحيث لا سبيل إليه غالباً فلا محيص عن العمل بالظنّ .

توضيح تفصيل المحقّق القمّي بين من قصد إفهامه في الخطاب وغيره

وتوضيح الكلام في المقام أنّ الظهور اللفظي إنّما يعوّل عليه في الألفاظ من باب الظنّ النوعي ، وهو كون اللفظ لوخلّي وطبعه مفيداً للظنّ بالمراد الواقعي ، فإذا كان مقصود المتكلّم من الكلام إفهام من يقصد إفهامه وجب عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع الملقي إليه في خلاف المراد بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود لكان إمّا لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام ، أو لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد ، ومعلوم أنّ احتمال الغفلة من المتكلم أو السامع أمر مرجوح في نفسه ، وقد انعقد الإجماع من العلماء ، بل جميع العقلاء على عدم الاعتناء بمثله .

وأمّا إذا لم يكن الشخص مقصوداً بالإفهام فوقوعه في خلاف المقصود لا يستند إلى مجرّد الغفلة ، لاحتمال أن يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة خفيت علينا ، إذ لا يجب على المتكلّم إلاّ نصب القرينة لمن يقصد ا،فهامه ، فلا يكون هذا الاحتمال لأجل غفلة من المتكلّمين أو منّا ، إذ ليس اختفاء القرينة علينا حينئذٍ مستنداً إلى غفلتنا عنها ، بل لدواعي الاختفاء الخارجة عن اختيار المتكلّم

ص: 456

والمخاطب ، فليس هنا شي ء يوجب الظنّ بالمراد من حيث نفسه وإن حصل الظنّ من باب الاتّفاق ، فإنّ اعتبار هذا الظنّ الشخصي لم يثبت من الإجماع وغيره ، فليس هناك ما يوجب مرجوحيّة احتمال اختفاء القرائن علينا نوعاً حتّى لو تفحصّنا عنها ولم نجدها ، لعدم قضاء العادة بأنّها لو كانت لظفرنا بها ، لخفاء كثير من القرائن علينا ، بل لا يبعد دعوى العلم بأنّ ما خفي علينا من القرائن والأمارات أكثر ممّا ظفرنا بها .

ولو سلّمنا حصول الظنّ بانتفاء القرائن المتّصلة فالقرائن الحاليّه وما اعتمد عليه المتكلّم من الأُمور العقلية أو النقلية الكلّية أو الجزئية المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام ليست ممّا يحصل الظنّ بانتفائها نوعاً ولو بعد الفحص ولو فرض حصول الظنّ من الخارج بإرادة الظاهر من الكلام فليس ذلك ظنّاً مستنداً إلى الكلام .

والحاصل : أنّ القدر الثابت من اتّفاق العقلاء والعلماء على العمل بظواهر الخطابات والأقارير والشهادات والأوقاف والوصايا والمكاتبات وغيرها هو عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها حيث يكون منشأه احتمال الغفلة للمتكلّم في كيفيّة الإفادة أو المخاطب في كيفيّة الاستفادة ، دون ما إذا كان ناشياً من اختفاء اُمور لم تجر العادة القطعيّة ولا الظنيّة بأنّها لو كانت لوصلت إلينا ، إلّا أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبّد ، ودون إثباته خرط القتاد ودعوى أنّ الغالب اتّصال القرائن ، فيكون احتمال اعتماد المتكلم على القرينة المنفصلة مرجوحاً لندرته مدفوعة بأنّ من المشاهد المحسوس تطرّق التقييد أو التخصيص إلى أكثر العمومات والإطلاقات مع عدم وجوده في الكلام ، وليس إلاّ لكون الاعتماد في ذلك كلّه على القرائن المنفصلة ، سواء كانت منفصلة حين

ص: 457

الاعتماد كالقرائن العقلية والنقلية الخارجية أو مقالية متصّلة عرض لها الانفصال بعد ذلك لعروض التقطيع في الأخبار أو حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى أو غير ذلك ، فمع جميع ذلك لا يحصل الظنّ نوعاً بأنّها لو كانت لوصلت إلينا ، ولو حصل الظنّ بذلك لم يكن على اعتباره دليل مخصوص .

جواب المؤلف عن هذا التفصيل

هذا غايه ما أفاده بعض المحقّقين في توجيه التفصيل المذكور(1) ، وإليه يشير كلام صاحب المعالم حيث قال : « أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخرّ إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف بين الكلّ ، وحينئذٍ فمن الجايز أن يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّ على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسايرها على العلامات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم ، ويستوي حينئذٍ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّهاً إلينا ، وقد تبيّن خلافه»(2) ، انتهى .

وقد ذكر في القوانين(3) توضيح ذلك بما يرجع أقصاه بعد تنقيحه إلى ما ذكر .

والجواب عن ذلك دعوى القطع بعدم التفرقة في حجيّة الظواهر المستندة

ص: 458


1- وهو الشيخ الأعظم الأنصارى في فرائد الاُصول / 163 - 160 .
2- المعالم 194 - 193 .
3- القوانين / 481 .

إلى الاُصول اللّفظية بين المقامين ؛ ويكشف عن ذلك مع وضوحه وجوه ؛

الأوّل : إطباق أهل العالم من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على الأخذ بظواهر العبارات والاعتماد على مداليل الخطابات ، وعدم الاعتناء باحتمال وجود القرينة الصارفة لها عن ظواهرها ، كاحتمال إرادة خلاف الظاهر منها ، من غيرفرق بين المقصود بالخطاب وغيره . وهذه طريقة مستمرّة بين المولى وعبيده ، والسلطان ورعيّته ، وكلّ مطاع ومطيعه ، وأصحاب الشرايع واُممهم ، والمجتهدين ومقلّديهم ، وغيرهم من أهل المحاورات في عامّة المخاطبات والمكاتبات .

ألا ترى أنّ القاضي يحكم بظاهر ما وصل إليه من الأقارير والوصايا والأوقاف والوكالات ، وساير العقود والإيقاعات والحجج والشهادات وغيرها من العبارات في جميع اللغات والمحاورات وإن لم يكن هو المخاطب بتلك الخطابات ، بل وإن لم يخطر ببال أربابها وصولها ورجوعها إليه كما هو الغالب في أكثر المذكورات ، وأهل اللسان لا يفرّقون في استخراج مراد المتكلّمين من عباراتهم بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه ، فمتى وصل الكتاب المرسل من شخص إلى غيره إلى ثالث لم يتأمّل في البناء على أصالة عدم القرينة الخارجيّة ، وحمله على ظواهره العرفيّة ، فإذا فرضنا اشتراك الثالث مع المكتوب إليه في الحكم لم يجز له الاعتذار بقيام ذلك الاحتمال في ترك الامتثال ، بل يعدّ مطيعاً بامتثاله ، عاصياً بمخالفته ، على ما هو الحال في المكتوب إليه من غير فرق .

ومن المعلوم أنّ المرجع في صدق الطاعة والعصيان إلى الطريقة المعروفة والسيرة المألوفة ، إذ لو كان حكم الشارع في ذلك على خلاف مجرى العادات

ص: 459

لوجب في الحكمة تنبيه المكلّفين عليه وإرشادهم إليه حتّى يتواتر به الأخبار ؛ ويشتهر حكمه في جميع الأعصار ، لما في تركه من الإغراء بالجهل ، وكيف والأمر بالعكس ؟ بل ليس الداعي إلى وضع الألفاظ في جميع اللغات إلاّ الاعتماد عليها في فهم المرادات .

الثاني : اتّفاق أهل الإسلام من لدن نبيّنا صلى الله عليه وآله إلى هذه الأيّام على التمسّك بالآيات والروايات في جميع فنون علوم الدين ، كما يشهد به تتبّع الآثار المنقولة عن السابقين ، وملاحظة الطريقة المستمرّة بين المسلمين ، بل قد يعدّ ذلك من ضروريات الدين ؛ ومن تتبّع الآثار ورجع إلى الأخبار وجد سيرة الأئمّة الأطهار وأصحابهم الأبرار مستمرّة على الاستدلال بها على المخالف والمؤالف ، من غير نكير في اُصول الدّين وفروعه ، والاستناد إليها في المواعظ وغيرها ، ولم يخطر ببال أحدهم المناقشة فيها باختصاص المشافهين بتوجيه الخطاب إليهم وإمكان ظهور بعض القرائن الصّارفة لديهم ، مع كونه من الأُمور الشايعة الّتي تعمّ بها البليّة ، وتشتدّ إليها الحاجة .

وفي جميع ما قدّمناه في العمل بأخبار الآحاد أوضح شهادة على ما ذكر ، إذ الغالب فيها توجيه الخطاب إلى أشخاص مخصوصين ، وتعلّق الغرض فيها بالجواب عن مسائل السائلين ، مع استمرار سيرة المسلمين إلى يومنا هذا على التمسّك بها والاستناد إليها في جميع أحكام الدين ، على حسب ما مرّ توضيح الحال فيه ، ونحوه الحال في التمسّك بالكتاب على وجهٍ لايعتريه شائبة الارتياب .

وتوّهم بناء العمل في ذلك على قاعدة الانسداد واضح الفساد ، بل عرفت استمرار سيرة الأئمّة عليهم السلام وأصحابهم على ذلك ويعمل على ذلك ، من يدّعي

ص: 460

الانفتاح وينكر العمل بأخبار الآحاد ، مدّعياً كون معظم الفقه معلوماً بالإجماع أو الضرورة أو الأخبار المتواترة(1) .

الثالث : تكاثر الآيات وتواتر الروايات على وجوب العمل بالكتاب والسنّة ، مضافاً إلى ما انعقد عليه من إجماع الاُمّة ، ومن البيّن أنّه ليس مفاد العمل عليهما إلاّ الاعتماد على مداليلهما اللغويّة والعرفيّة ، سواء كانا من قبيل خطاب المشافهة أو من باب تصنيف المصنّفين ، ومن جملة الأخبار المذكورة ما تواتر من عرض الأحاديث المسموعة على الكتاب أو الكتاب والسنّة ، ولاشكّ في ظهورها في الرجوع إلى معانيهما اللغوية والعرفيّة ، إذ لا طريق إلى معرفة المراد منهما وراء ذلك ، والغالب عدم حصول اليقين من الألفاظ ، لأنّها بنفسها لا يأبى عن وجوه كثيرة ، ولا أقلّ من أن يكون هذه الظواهر المتواترة حجّة للمشافهين بها فيشترك في ذلك غيرهم ، واحتمال اقترانها في حقّهم بالقرينة المفيدة لاشتراط حصول اليقين خلاف اليقين .

فما قيل من أنّ دلالة رواية الثقلين على حجيّة ظاهر الكتاب لغير المشافهين ظنيّة ، لاحتمال تقييدها بما بعد ورود تفسيره عنهم عليهم السلام كما يراه الأخباريّون فالتمسّك بها مصادرة(2) مدفوع بأنّ الدليل لا ينحصر في رواية الثقلين ؟ إذ الأخبار في ذلك متعاضدة خارجة عن حدّ التواتر ، وقد عمل بها كافّة الأصحاب ، فيحصل القطع بعدم اقترانها في حقّ المشافهين بها بالقرائن الصارفة لها عن ظواهرها . فقد ظهر ممّا ذكر القطع بحجيّة الظواهر اللفظيّة على الإطلاق ،

ص: 461


1- انظر : الفرائد 1 / 165 .
2- القائل : المحقّق القمّي في القوانين 2 / 104 .

وعدم الاعتناء بشي ء من الشكوك والشبهات الّتي اُشير إليها في الوجوه السابقة ، ما لم يصرف عنها صارف أو يمنع عن العمل بها مانع ، فلا تغفل .

ردّ صاحب الفصول على تفصيل المحقّق القمّي وتوضيح المؤلف حول الرد

ومنها : عدم ظهور المانع من التمسّك بتلك الظواهر ، ويكفى في المانع علمنا إجمالاً بأنّ كثيراً من ظواهر الخطابات الشرعيّة قد اُريد بها خلافها ، إمّا بطريق التجوّز ، أو التخصيص ، أو التقييد ، أو التقيّة ، أو غيرها . ولا سبيل لنا غالباً إلى تحصيل العلم بسلامة ما نعمل به منها عن ذلك إلاّ بالطرق الظنيّة ، وقد اعتمد على هذا الوجه عمّي قدس سره في فصوله على ما تقدّم ذكره ، قال : « ولو لا ذلك لما جاز لنا تقييد شي ء منها ولا تخصيصه ولا تأويله بشي ء من أخبار الآحاد الّتي حجيّتها عندنا في المرتبة الثانية ، إذ مع إمكان العلم وما في مرتبته لا سبيل إلى التمسّك بما يبتني حجّيته على انتفاء الأمرين »(1) ، انتهى .

وقد اُشير إلى الوجه المذكور في أخبار كثيرة تدلّ على أنّ في الكتاب والسنّة عامّاً وخاصّاً ، ومطلقاً ومقيّداً ، وناسخاً ومنسوخاً ، ومحكماً ومتشابهاً ونحو ذلك ، وأنّه لا يجوز التمسّك بها قبل تمييز تلك الوجوه ، وجملة منها وإن اختصّت بالكتاب إلاّ أنّ جهة المنع جارية في السنّة أيضاً ؛

ففي الكافي في احتجاج الصادق عليه السلام على الصوفية حين احتجّوا عليه بآيات من القرآن قال : « ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه الّذي في مثله ضلّ من ضلّ ، وهلك من هلك من هذه الاُمّة ؟ قالوا : أمّا كلّه فلا ، فقال لهم : فمن هنا اتيتم ، وكذلك أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله - إلى أن قال - فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وأحاديثه الّتي

ص: 462


1- الفصول / 289 .

يصدّقها الكتاب المنزّل ، وردّكم إيّاها لجهالتكم ، وترككم النظر في غريب القران من التفسير والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه - إلى قال - دعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به ... »(1) الحديث .

وروى المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه عنه عليه السلام في جملة كلام له : « وذلك أنّهم ضربوا القران بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاصّ وهم يقدرون أنّه العامّ ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام إلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله ، فضّلوا وأضلّوا »(2) .

وفي الكافي والاحتجاج ونهج البلاغة وغيرها عن أميرالمؤمنين عليه السلام : « إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعامّاً وخاصّاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على عهده حتّى قام خطيباً - إلى أن قال - فإنّ أمر النبي صلى الله عليه وآله مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ومحكم ، ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان ، وكلام عامّ وكلام خاصّ ، مثل القرآن ... »(3) الحديث .

وحكى منصور بن حازم لمولانا الصادق عليه السلام صورة مناظرته مع المخالفين وفيها : « فنظرت في القرآن ، فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق [الذي لا يؤمن به] حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لايكون حجّة

ص: 463


1- الكافي 5 / 70 - 65 ، ح 1 ، وسائل الشيعة 27/183 ، ح 23 .
2- المحكم والمتشابه / 13 ، وسائل الشيعة 27/200 ، ح 62 .
3- الكافي 1 / 64 - 62 ، ح 1 - نهج البلاغة / 325 خطبه 210 ، وسائل الشيعة 27 / 206 ، ح 1 .

إلاّ بقيم ، فقال : رحمك اللَّه »(1) .

وفي مناظرة هشام مع الشامي بمحضر منه عليه السلام حيث قال له : « فبعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من الحجّة ؟ قال : الكتاب والسنّة ، قال : فهل ينفعنا الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ، قال : نعم ، قال : فلم اختلفت أنا وأنت ؟ » الحديث(2) .

إلى غير ذلك ممّا دلّ على أنّ استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة يتوقّف على العلم بخاصّها وعامّها وناسخها ومنسوخها ونحوها ، وهو ما ذكرناه من أنّ العلم الإجمالي المذكور مانع من الاحتجاج ، ولذا لو تردّد اللفظ بين معنيين ، أو علم إجمالاً بمخالفة أحد الظاهرين - كما في العامّين من وجه - وجب التوقّف فيه ولو بعد الفحص ، فالعلم الإجمالي بمخالفة المراد من كثير من الآيات والروايات والحكم الواقعي فيها لظواهرها موجب للتوقّف في جميعها ، فلا محيص إذن عن العمل بالظنّ المطلق .

تفصيل بين عمومات الكتاب والسنّة النبويّة وبين عمومات الأخبار الإماميّة وردّه

نعم ، قد يفرّق بما ذكر من الاعتبار والأخبار بين عمومات الكتاب والسنّة النبويّة وعمومات الأخبار الإماميّة بالنسبة إلى أصحاب الأئمّة عليهم السلام نظراً إلى حصول العلم الإجمالي لهم بورود التخصيص على الأوّل دون الثاني ، فيقال : إنّهم ما كانوا يعملون بعمومات الكتاب والسنّة النبويّة بمجرّد الوقوف عليها ، وكانوا يعملون بعموم الروايات المعتبرة بمجرّد ورودها ؛ أمّا بالنسبة إلينا فلا فرق بين المقامين ، فيكون حالنا بالنسبة إلى مطلق العمومات كحالهم بالنسبة إلى عمومات الكتاب ونحوها ، فلا يجوز لنا الاعتماد على شي ء منها من حيث

ص: 464


1- الكافي 1 / 168 ، ح 2 - علل الشرائع 1 / 193 - 192 ، ح 1 ، وسائل الشيعة 28 / 176 ، ح 1 .
2- الإحتجاج 2 / 122 ، وسائل الشيعة 27 / 177 ، ح 2 .

الخصوص ، لمكان العلم الإجمالي بورود التخصيص على كثير منها إلاّ من باب الظنّ المطلق .

والجواب : أنّ القدر المعلوم على الإجمال مخالفة كثير من ظواهر الكتاب والسنّة للحكم الواقعي بحيث يظهر بعد الفحص على التفصيل ، ومقتضاه وجوب الفحص والاجتهاد في طلب الأدلّة ، فلا يجوز العمل قبله ، لاحتمال ظهور المخصّص مثلاً بعده ، ولا يمكن نفيه بالأصل بعد العلم الإجمالي ؛ أمّا بعد الفحص المعتبر فلا علم لنا بوجود ما يخالف ظاهره للواقع زيادة على ما ظهر بالفحص ، فينتفي بالأصل السالم عن العلم الإجمالي المذكور .

إشكال ودفعه

وبهذا يندفع ما قد يورد على القول بوجوب الفحص من جهة العلم المذكور بأنّ العلم الإجمالي إمّا أن يبقى أثره بعد العلم التفصيلي بوجود عدّة مخصّصات أو لا يبقي ، فإن بقى ذلك لم يكف الفحص وإلاّ فلا مقتضي له .

توضيح من المؤلف

كذا قيل(1) ، وأنت خبير بأنّ مقتضى ما ذكر إناطة الفحص اللازم بالعلم الإجمالي المذكور ، فمتى حصل العلم بالقدر المتيقّن على التفصيل بحيث لم يعلم بوجود ما يزيد عليه من المخصّص ونحوه ولو على الإجمال لزم الاكتفاء به ، ألا ترى أنّه لو توقّف العمل بالعامّ على الفحص عن المخصّص مع إمكانه مطلقاً لم يجز العمل عليه بالنسبة إلى أصحاب الأئمّة عليهم السلام لإمكان الفحص في حقّهم مع ظهور القطع بخلافه ، بل ينبغي القطع بتمسّكهم بظواهر الكتاب أيضاً ، وتقرير الأئمّة عليهم السلام لهم على ذلك ، بل تحريصهم عليه وترغيبهم إليه في أخبار متواترة يأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه تعالى .

ص: 465


1- اُنظر : قوانين الاُصول / 226 ، الفصول / 200 ، فرائد الاُصول 1 / 149 .

وهي أولى بالاتّباع من ظاهر ما يترائى من الأخبار المذكورة الواردة في مقام الطعن على من يدّعي الاستغناء بالكتاب والسنّة عن وجود الحجّة ، والاحتجاج عليه بما ذكر من العلم الإجمالي وعدم حصول الكفاية ، وشي ء منهما لا يجري بالنسبة إلى أصحابهم عليهم السلام لحصول العلم لهم بالقدر المتيقن من ذلك ببركة الرجوع إليهم عليهم السلام ووجود المفرغ لهم فيما لا يدلّ عليه الكتاب والسنّة بسلوك ذلك الطريق الأعظم والصراط الأقوم .

فنقول : إنّ حالنا في استنباط الأحكام ، بل وحال من يأتي من جماعتنا إلى ظهور الإمام عليه السلام - روحنا وروح العالمين له الفداء - كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله مذ بعث إلى ما بعده ، وكحال أصحاب كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام في أعصارهم إلى زمان الغيبة ، وحال أهل الغيبة الكبرى في ذلك كحال الموجودين في زمان السفراء الكرام في الغيبة الصغرى ، ألا ترى أنّ أصحابنا يومئذ كانوا يعتمدون على الأخبار المأثورة ، وقلّ ما يتّفق رجوعهم إلى السفراء العظام في استعلام الأحكام ، فانظر إلى كتاب الكافي الّذي لم يصنّف إلاّ لرجوع الطائفة إليه واعتمادهم عليه حيث لم يتعرّض فيه إلاّ لذكر الأخبار السابقة إلاّ نادراً فيما لا يتعلّق بالأحكام ، ولئن تعذّر الرجوع يومئذٍ إلى الإمام عليه السلام فإنّه لم يتعذّر الأخذ من نائبه الخاصّ الّذي قوله حجّة بنصبه عليهم السلام .

وكذلك الحال في الاُصول والكتب الّتي كان إليها مرجع الإماميّة ، وعليها معوّلهم في أزمنة الأئمّة عليهم السلام وهم بمرئى منهم ومسمع ، ومن تتبّع الآثار ورجع إلى الأخبار قطع بأنّ الكتب الأربعة الّتي عليها المدار في هذه الأعصار إن لم يكن أضبط وأتقن وأولى من تلك الاُصول الأربعمائة من حيث الجمع والترتيب والاشتهار والإتقان والتهذيب فلا تقصر عن ذلك ، بل هي مأخوذة من جميع

ص: 466

ذلك ، حاوية لأكثر ما هنا لك ، مضبوطة من حيث المتن والسّند على الوجه المعتمد ؛ واحتمال وجود المخصّص والمعارض في أخبار بعض تلك الاُصول المعمول عليها في تلك الأزمنة وقلّتها لكثرة الأخبار الخارجة عنها أقوى من احتمال ذلك في أخبار هذه الجوامع العظام المشتملة على معظم أخبار الأحكام .

ولئن حصل الريب فيما ذكر فلا ريب في أنّ حال الموجودين في البلاد النائية في زمن النبي والأئمّة عليهم السلام كحال الموجودين في الأعصار البعيدة كهذه الأزمنة ، لاشتراك البعد المكاني والزماني في انقطاع اليد عن الرجوع إلى أهل العصمة عليهم السلام فكيف يعقل التفرقة بين عصري الغيبة والحضور وزماني الاستتار والظهور ؟ وتأمّل فى حال عامّة أهل الأمصار المتباعدة ، بل وأهل القرى والبوادي في تلك الأزمنة الشريفة ، وكيف كان رجوعهم وعملهم فيما يرد عليهم من الفروع الغير المحصورة ، أليس كانوا يكتفون بظواهر ما يصل إليهم ويتّصل بهم من الكتب المعتمد عليها والأخبار الموثوق بها ؟ مع أنّ الوثوق الحاصل بعد هذا الجمع والترتيب في كتب الحديث والإتقان والتهذيب في كتب الاستدلال أقوى منها بكثير ، كما لا يخفى على الممارس الخبير . وجميع ما ورد في العمل بالكتاب والسنّة والرجوع إليهما في استنباط الفروع المتجدّدة شامل لزماني الحضور والغيبة ، من غير فرق بينهما في ذلك بالكليّة .

وأمّا كثرة الواسطة بيننا وبين المشايخ الثلاثة وغيرهم من أرباب الكتب المعتبرة فلا تقضي بضعف الوثوق بها والاطمينان إليها ، لوضوح تواتر هذه الكتب عن أربابها ، وعدم تطرّق وجوه الاختلال إليها بعدها ، وإنّما الفارق خفاء عدّة من القرائن والأمارات من حيث السند والدلالة في هذه الأزمنة ، وظهورها في الأزمان السابقة ، وخفاء حال جملة من الروات ، ووجود المشتركات ؛ وينجبر

ص: 467

ذلك بوفور مساعي علمائنا الأعلام في تنقيح مدارك الأحكام وتلاحق الأفكار في طرق استنباطها من الأخبار ممّا لم يقع معشار ذلك في سالف الأعصار .

نقد كلام الأخباريين في تحريم التمسّك بالكتاب إلّا بعد ورود تفسيره من المعصومين عليهم السلام

اشارة

وأمّا دسّ الغلات والزنادقة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام فإنّما وقع في تلك الأزمنة ، كما نصّ عليه الأئمّة عليهم السلام ولم يقع شي ء من ذلك بعدهم عليهم السلام ، بل قد بالغ علمائنا في تنزيه الأخبار عنها بما لم يقع في تلك الأزمنة ، لشدّة احترازهم عن تلك الشبهة بأخذ الروايات بالمشافهة عن الثقات الأثبات ، وتكثّر الوجوه والاحتمالات في كثير من المسائل إنّما نشأ من تلاحق الأفكار وتتبّع مجموع الأخبار وكمال الدّقة في الرجوع إلى الآثار ، وذلك أولى بزيادة الوثوق ، وأقرب إلى حصول الركون .

وبالجملة ، فتوّهم التفرقة بين الزمانين باختصاص الظنون المخصوصة بالعصر الأوّل من أفحش أوهام العلماء ، واللَّه يهدى من يشاء .

ومنها : عدم ورود المنع في الشرع من العمل بالظّاهر الّذي يستدلّ به ، وقد تكثّر ورود النهي عن ذلك بالنسبة إلى الكتاب المبين ، حتّى ذهب جماعة من متأخّري الأخباريين إلى تحريم التّمسّك به وتفسيره إلاّ بعد وروده عن بعض المعصومين عليهم السلام(1) وهم بين مطلق للمنع ومفصّل بين نصوصه وظواهره .

وأقصى ما يحتجّ به على ذلك وجوه(2) .

الدليل الاولى من أدلّة الأخباريين في المقام
اشارة

الأوّل : إنّ التشابه كما يكون في أصل اللغة - كما في المشترك اللّفظي -

ص: 468


1- اُنظر : الفوائد المدنيّة / 336 ، الحدائق الناضرة 1 / 35 - 27 ، الدرر النجفيّة / 174 - 169 ، الفوائد الطوسية / 186 . وعليك في هذا المجال بالتأمّل التامّ في بيان حفيد المؤلّف ،العلّامة الفقيه الاُصولى آية اللَّه الشيخ محمّد رضا النجفى في وقاية الأذهان / 503 ، فلعمرى أنّه قدس سره أحسن وأجاد .
2- انظر : الفرائد 1 / 153 - 151 .

كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : إنّى أستعمل العمومات كثيراً وأنا اُريد الخصوص من غير ضمّ قرينة متّصلة ، واُطلق المطلقات وأنا اُريد المقيّد ، وربّما أحكم حكماً يدلّ ظاهره على الاستمرار لكنّى ، سأنسخه ، وربّما اُخاطب أحداً وأنا اُريد غيره ، أو اُخصّص قوماً بالخطاب وأنا اُريدهم مع غيرهم ، أو نرى نحن أمثال ذلك في كلامه وإن لم يصرّح هو به مع علمنا بعدم غفلته ومسامحته ، فحينئذٍ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ، اللّهم إلاّ أن يكون العامّ الباقي على عمومه والمطلق الباقي على إطلاقه كثيراً بالنسبة إلى المخصوص والمقيّد ، وكذا غيرهما .

والقرآن من هذا القبيل ، لأنّه وإن كان عربيّاً لكنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول : على وضع جديد ، بل أعمّ من أن يكون كذلك أو يكون فيه مجازات لم يعرفها العرب ، وحينئذٍ فما صار منه متشابهاً لا يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقى على ظهوره وحصل الظنّ منه مندرج في أصل عدم العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل ، وقد ذمّ اللَّه تعالى ورسوله وأوصيائه عليهم السلام على اتّباع الظنّ ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن ، لا قولاً ولا تقريراً ، وليس هناك دليل قطعيّ ولا ظنّي ولا إجماع على الاستثناء .

وضعفه ظاهر ، إذ الفرق بين ظواهر الكتاب والسنّة فيما ذكر تحكّم صرف ، ولئن خرجنا عن الظاهر في بعض ألفاظ الكتاب ففي السنّة أضعاف ذلك .

كلام السيّد الصدر شارح الوافية والمناقشة فيه

وما استدلّ به المعترض على حجيّة ظواهر الأخبار من أنّ مدار التكاليف في كلّ اللغات على الظّواهر من لدن آدم عليه السلام إلى زماننا هذا - كما مرّ بيانه - جارٍ في الكتاب ، موجب للخروج عمّا دلّ على المنع من العمل بالظنّ فيهما معاً على حدٍّ سواء ، بل الأمر في الكتاب من بعض الوجوه أظهر من الأخبار ، إذ المناقشة

ص: 469

السابقة في الأخبار من حيث اختصاص المخاطبين بها بقصد الإفهام لا تجري في المقام ، للقطع ببنائه على وجه يصلح لرجوع عامّة المسلمين إلى يوم القيامة .

وما ذكر من حصول التشابه في الكلام بتصريح المتكلّم بعدم إرادة المعاني الظاهرة من عباراته على وجه العموم أو الإجمال مسلّم ، لكنّ القول بوقوعه في الكتاب خروج عن الصواب ، وما يوهم ذلك مدفوع بما يأتي إن شاء اللَّه تعالى ، بل الأدلّة على خلافه متظافرة ، كما نشير إليها إن شاء اللَّه تعالى .

إنّما الأمر في بطون الكتاب وتأويلاته ومتشابهاته خارج عن وضع ساير العبارات بحسب الطريقة المعهودة في فهم المعاني منها ، وإنّما خصّ اللَّه تعالى نبيّه وأهل بيته - صلّى اللَّه عليه وعليهم - بالعلم بها دون ساير الناس ، ولا ينافي ذلك إرادة المعاني الظاهرة من ألفاظها على حسب الطريقة الجارية في جميع اللغات في استنباط المعاني من العبارات .

فما ذكر من نزوله على الاصطلاح الخاصّ إنّما يصحّ في باب البطون والتأويلات ، وذلك أمر آخر لا ينافي ما نحن بصدده ، فإنّا لا ندّعي اشتراك ساير الناس في العلم بشى ء منها من غير جهتهم عليهم السلام إنّما الكلام في التمسّك بظواهرها الّتي يشترك في العلم بها جميع أهل اللسان ، ولا منافاة بين الأمرين في ذلك ، إذ ليس ذلك من باب استعمال اللّفظ في المعنيين .

وقدأ غرب المستدلّ المذكور في وجه التفرقة بين ظواهر الكتاب والسنّة ، حيث أتى بكلام متهافت يناقض أوّله آخره ، فأجاب بأنّا لوخلّينا وأنفسنا لعلمنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، لكن منعنا من ذلك في القران مانع - إلى أن قال - وأمّا الأخبار فقد سبق أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا

ص: 470

عاملين بها ، ولو لا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضاً من المتوقّفين(1) .

وأنت خبير بأنّ عمل الأصحاب مشترك بين السنّة والكتاب ، ومن أحاط خبراً بطريقتهم قطع بأنّ عملهم بذلك لم يكن لدليل شرعيّ مخصوص وصل إليهم من أئمّتهم عليهم السلام إنّما كان ذلك أمراً مركوزاً في أذهانهم في مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الإفادة والاستفادة ، على ما هو الأصل في مطلق الخطاب ، وأمّا ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ فليس الخارج منه خصوص الظنّ الحاصل من ظواهر الأخبار ، بل الخارج منه مطلق الظهور الحاصل في الكلام المقصود به الإفهام .

وأمّا ما ذكر من العلم الإجمالي بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في ظواهر الكتاب ، فهو وإن كان موجباً للتوقّف في العمل بها حتّى يعلم بسلامة ما يعمل به منها ، على ما هو الحال في نظائره من المشتبه المحصور والعامّ المخصّص بالمجمل ، لكنّه مع جريان مثله في الأخبار - كما عرفت - إنّما يقضي بوجوب الفحص عمّا يوجب الخروج عن الظاهر ويمنع من العمل بها من غير فحص ، أمّا بعد الفحص الموجب للوقوف على القدر المتيقّن من ذلك فلا شكّ في لزوم البناء فيما عدا ذلك على متقضى الأصل والعمل فيه بمقتضى الظاهر ، كما مرّ التنبيه عليه .

وتوهّم بقاء العلم الإجمالي بعد القدر الظاهر من الفحص في ساير الظواهر فيمنع من العمل عليها مدفوع بالوجدان وشهادة العيان . نعم ، قد يحصل العلم الإجمالي في بعض العمومات والظواهر المخصوصة ، فيمنع من التمسّك بها

ص: 471


1- شرح الوافية للسيد الصدر - مخطوطة - نقل عنه في الفرائد 1 / 153 - 151 .

بخصوصها كما قرّر في مسألة العام المخصّص بالمجمل ، ولا يسري المنع إلى غيرها كما هو ظاهر .

الثاني من أدلّة الأخباريين
اشارة

الثّاني : أنّه سبحانه قد قسّم كتابه الكريم إلى قسمين ، أمرنا بالأخذ بأحدهما ونهانا عن اتّباع الآخر ، فقال تعالى : «مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ»(1) الآية ، ثُمّ لم يبيّن لنا المتشابهات ما هي ؟ وكم هي ؟ بل لم يبيّن المراد من هذه اللفظة ، وجعل البيان موكولاً إلى خلفائه عليهم السلام وشمول المحكم للظاهر غير معلوم ، كيف وهم عرّفوه بتعريفات مختلفة ، ولم يقيموا دليلاً على أنّ المعنى الشامل للظاهر هو المراد منه في القرآن والأخبار ، ولا يظهر أيضاً من الأحاديث الواردة في تفسيره هذا الشمول ، بل ادّعى الشيخ حسين بن شهاب الدين العاملي أنّ المفهوم من الأحاديث هو أنّ المحكم ما لا يحتمل غير ما يفهم منه مع بقاء حكمه على حاله ، والمتشابه ما عداه(2) مثل ما ورد من أنّ المتشابه ما اشتبه على جاهله(3) فإنّه شامل للمظنون أيضاً ، لأنّ الجهل المقابل للعلم بمعنى الاعتقاد الجازم يصدق على الظاهر ، فيكون الظانّ أيضاً جاهلاً ، والمراد مشتبهاً عليه ، ولئن سلّمنا كون الظاهر غير متشابه فلا نعلم أنّه من المحكم ، ولا دليل على انحصار الآيات فيهما ، فلا يلزم من وجوب اتّباع المحكم جواز اتّباع الظواهر .

جواب الدليل الثاني

والجواب : أنّ الآية المذكورة كساير الآيات ممّا يجب الرجوع في فهمها

ص: 472


1- سورة آل عمران / 7 .
2- هداية الأبرار / 243 ، « المطلب الثالث » .
3- تفسير العياشي 1 / 11 ، ح 7 .

واستنباط المراد منها إلى القواعد المقرّرة في باب اللغات المعمول عليها في فهم مطلق العبارات ، فإن ثبت في لفظي المحكم والمتشابه حقيقة شرعيّة أو دلّت على إرادة خلاف الظاهر منها قرينة متّصلة أو منفصلة لزم اتّباعها في فهم المراد منهما ، وإلّا لزم الرجوع إلى العرف واللغة ، كما في ساير ألفاظ الكتاب والسنّة ، وحيث لم يثبت هناك شي ء من الأوّلين لزم اتّباع الأخيرين .

ومن المعلوم أنّه لا يطلق المتشابه في العرف واللغة على أكثر الألفاظ الدائرة في المحاورات والمخاطبات بمجرّد احتمال إرادة الخاصّ من العامّ والمقيّد من المطلق والمجاز من اللفظ الخالي عن القرينة ، بل الطريقة الجارية بين أهل اللّسان في فهم اللّغات رافعة للتشابه والاشتباه ، ولا يصدق معها ما ذكروه في تفسيره من أنّه ما اشتبه على جاهله ، وما يشبه بعضه بعضاً(1) ، ونحو ذلك(2) .

بل مع ملاحظة تلك الطريقة المألوفة يندرج الظاهر في الحدود الّتي ذكروها للمحكم ، من أنّه ما اتّضح وظهر لكلّ عارف باللغة ، وأنّه المضبوط المتقن(3)(4) ، وأنّه ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدلّ على المراد لوضوحه(5) ؛ وليس غرضنا التمسّك بظاهر تلك الآية في حجيّة

ص: 473


1- تفسير العياشي 1 / 10 ح 1 - العين 3 / 403 .
2- مجمع البحرين 2 / 479 .
3- في المصدر « المتقن » ولكن في النسخة المطبوعة الحجرية الوحيدة « المتيقن » .
4- الأربعون حديثاً للشيخ البهائي / 293 - مجمع البحرين 1 / 552 - بحار الأنوار 2 / 231 .
5- التبيان 2 / 395 - 394 ، وعليك - أيها القاري ء الكريم - في هذا المجال بالرجوع والتأمّل التامّ في بيان المحقّق الفقيه الاُصولي المفسّر السيّد عبد الأعلى السبزواري قدس سره في تراثه القرآني القيّم ؛ مواهب الرحمن 5 / 72 - 65 ، فلعمري أنّه قدس سره أحسن وأجاد وإن شئت للإطلاع على الأقوال حول المحكم والمتشابه من المتقدميّن والمتأخرين والعامّة والخاصّة راجع : « بحوث في تاريخ القرآن » للعلّامة الزرندي / 271 - 257 .

ظواهر الكتاب ليدور بل الغرض دفع حجّة المانع .

كلام شيخنا البهائي لا ينافي غرضنا

وأمّا ما قيل من « أنّه ما كان محفوظاً عن التخصيص أو النسخ أو عنهما »(1) ، فلا ينافي غرضنا ، إذ يكفي نفيهما بالأصل المقطوع به المسلّم بين الكلّ المعمول عليه في جميع اللغات ، وما في بعض الأخبار من أنّ المنسوخات من المتشابهات ، وأنّ المتشابه نؤمن به ولا نعمل به ونحو ذلك(2) إنّما يقتضي أنّ المنع من الأخذ بالمتشابه لكونه منسوخاً ، ولا كلام فيه .

ثمّ لوكان احتمال إرادة خلاف الظاهر صالحاً للمنع من العمل به لجرى مثله في السنّة من غير فرق ، وفي قوله تعالى «ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ» دلالة على وجه المنع من اتّباع المتشابه ، وليس في العمل بالظواهر اللفظيّة والاُصول المعتبرة فيها ابتغاء فتنة ولا تأويل ، ولو سلّمنا كون الظاهر واسطة بين المحكم والمتشابه فلا ريب في عدم شمول المنع له ، فيدلّ على جواز العمل به كلّما دل على ظواهر الأخبار .

وكذا احتمال إندراج الظاهر في المتشابه لا يكفي في المنع من التمسك به ، لأنّه اعترف بأنّ مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر ، فلا يمكن الخروج عنها

ص: 474


1- القائل الشيخ بهاء الدين العاملي في الأربعون حديثاً / 293 ح 21 واُنظر شرح اُصول الكافي 2 / 309 و 8 / 91 .
2- الكافي 2 / 28 .

بمجرّد الاحتمال ، إنّما يجب الخروج عنها بعد العلم بنهي الشارع ، فدعوى اعتبار العلم بكونه من المحكم في ذلك منافية لذلك ، بل يجب حينئذٍ الاقتصار في المنع عن العمل بالمتشابه على موضع اليقين ، على أنّ في الرجوع إلى علامات الحقيقة والمجاز أوضح شهادة على عدم صدق المتشابه على الظاهر ، لا بحسب اللغة ولا العرف ، لصحّة سلبه عنه ، وفيما يأتي الإشارة إليه - إن شاء اللَّه - من تطابق الكتاب والسنّة والإجماع على العمل بظواهر الآيات أدلّ دليل على اندراجه في المحكمات .

الثالث من أدلّة الأخباريين ونقدها

الثالث : إنّ في الكتاب العزيز آيات كثيرة مفسّرة في الأخبار المأثورة تدلّ على اختصاص علم الكتاب بأهل البيت عليهم السلام فتدلّ على أنّ خطابات الكتابات لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة تفسير أهل الذكر عليهم السلام فلو كان ظاهر الكتاب حجّة لدلّ على أنّه ليس بحجّة ، مع أنّ الظاهر المفسّر في الأخبار حجّة على القولين ، فيكفي في إثبات المطلوب عند الفريقين .

منها : قوله سبحانه : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» فقد ورد تفسيره بهم عليهم السلام .

وفيه أنّ الوارد في أكثر الأخبار أنّهم عامّة ولد عليّ وفاطمة عليهم السلام وأنّ السابق بالخيرات هو الإمام عليه السلام(1) . ودلالته إذن على خلاف المدّعى ظاهرة ؛ نعم ، في بعضها بعد ذكر اشتمال القرآن على كلّ شي ء : « فنحن الّذين اصطفينا اللَّه تعالى فورثنا هذا الّذي فيه كلّ شي ء »(2) واختصاص العلم بذلك بهم عليهم السلام ظاهر .

ص: 475


1- تفسير نور الثقلين 4 / 362 - 361 ، ح 80 - 74 والآية من سورة الفاطر / 32 .
2- تفسير نور الثقلين 4 / 361 ، ح 77 .

ومنها : قوله سبحانه : «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» فقد روى أنّهم الأئمة عليهم السلام .

وهذا الاستدلال أوضح فساداً من سابقه ، لأنّ اختصاص تأويل المتشابه بهم عليهم السلام لا ربط له بالمدّعى .

ومنها : قوله سبحانه : «قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» فقد روى أنّه الإمام عليه السلام وأنّ عنده علم الكتاب كلّه(1) .

وظاهره اختصاص العلم بجميعه ظهراً وبطناً به عليه السلام ، ولذا استدلّ عليه السلام بتلك الآية على علمه بجميع الكتاب في مقابله الّذي عنده علم من الكتاب .

ومنها : قوله تعالى : «هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» فقد ورد أنّهم الأئمّة عليهم السلام(2) وغايته أن يكون لها اختصاصاً بهم عليهم السلام فلعّله من جهة اختصاص العلم ببطونها ومعاني متشابهاتها واستنباط جميع الأحكام منها والعمل بمقتضاها بهم عليهم السلام فلا ينافي ذلك اشتراك ساير الناس معهم عليهم السلام في العلم بظواهرها .

ومنها : وقوله تعالى : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ» فقد روى أنّهم الأئمّة عليهم السلام(3) .

ويمكن أن يكون الوجه في تخصيصه بهم عليهم السلام اختصاص العلم والعمل بجميعه بهم صلوات اللَّه عليهم .

ومنها : قوله تعالى : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

ص: 476


1- تفسير نور الثقلين 2 / 524 - 522 ح 220 - 208 والآية من سورة الرعد / 43 .
2- تفسير نور الثقلين 4 / 166 - 165 ح 82 - 70 والآية من سورة العنكبوت / 49 .
3- تفسير نور الثقلين 4 / 605 - 604 ، ح 62 - 54 والآية من سورة الزخرف / 44 .

يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ» فقد روي أنّ المراد بهم الأئمّة عليهم السلام(1) .

ولا ربط لمورده بما نحن فيه .

ثمّ إنّ في الكتاب الكريم آيات كثيرة تدلّ على اعتبار ظواهره المرعيّة في ساير العبارات ، وأنّ الحال فيها هو الحال في ساير الخطابات الجارية في المحاورات ، وأين ذلك من البطون والتأويلات المخصوصة بالأئمة الهداة عليهم السلام ؟ كقوله تعالى : «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(2) .

وقوله سبحانه : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3) ،.

وقوله تعالى : «قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(4) ،

وقوله تعالى : «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ»(5) ، وقوله «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(6) الآية ،

وقوله «لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(7) ،

وقوله «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»(8) ،

وقوله «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً»(9) وقوله «وَإِذْ

ص: 477


1- تفسير نور الثقلين 1 / 523 - 522 ، ح 430 - 429 والآية من سورة النساء / 83 .
2- سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم / 24 .
3- سورة إبراهيم / 4 .
4- سورة الزمر / 28 .
5- سورة الشعراء / 195 .
6- سورة الاسراء / 9 .
7- سورة ص / 29 .
8- سورة هود / 1 .
9- سورة النساء / 82 .

صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى»(1) الآية .

وقوله تعالى «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً»(2) الآيات .

وقوله «لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(3) ،

وقوله «هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ»(4) الآية .

وقوله تعالى : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ»(5) ،

وقوله : «وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ»(6) الآية .

وقوله سبحانه : «لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ»(7) ،

ص: 478


1- سورة الأحقاف / 29 - 30 .
2- سورة الجن / 1 - 2 .
3- سورة الحشر / 21 .
4- سورة آل عمران / 138 .
5- سورة الزمر / 23 .
6- سورة المائدة / 83 .
7- سورة المائدة / 101 .

وقوله : «يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم»(1) الآية ،

وقوله : «فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ»(2) ،

وقوله : «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ»(3) ،

وقوله : «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(4) ،

قوله : «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً»(5) ،

وقوله «تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»(6) ،

وقوله : «سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(7) ،

وقوله : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ»(8) الآية ،

وقوله : «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ»(9) ،

ص: 479


1- سورة التوبة / 64 .
2- سورة النساء / 59 .
3- سورة النمل / 76 - 77 .
4- سورة يوسف / 2 .
5- سورة فصلت / 3 - 4 .
6- سورة النمل / 1 - 2 .
7- سورة النور / 1 .
8- سورة الكهف / 1 - 2 .
9- سورة يوسف / 1 .

وقوله : «لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ»(1) ،

وقوله : «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً»(2) ،

وقوله : «وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»(3) ،

وقوله تعالى : «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً»(4) الآية ،

وقوله : «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»(5) ،

وقوله : «وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً»(6) .

الى غير ذلك من الآيات المتكاثرة المفسّره في الأخبار المتظافرة الناطقة بخلاف ما زعمه الجماعة(7) من نزوله على سبيل الإلغاز والتعمية ، فلم يفرّقوا بين

ص: 480


1- سورة النور / 34 .
2- سورة الاسراء / 89 .
3- سورة الزمر / 27 .
4- سورة الاسراء 45 - 46 .
5- سورة النحل / 102 .
6- سورة الأنعام / 25 .
7- منهم المحدّث الأستر آبادي في الفوائد المدنيّة / 105 ، والمحدّث العاملى في تحرير وسائل الشيعة / 191 - 188 ، المسألة الحادية والثلاثون وفي وسائل الشيعة 27 / 209 - 176 ، الباب 13 ، 14 من أبواب صفات القاضي وإن شئت لمزيد البيان راجع : أوثق الوسائل / 78 - 76 ، وقاية الأذهان / 507 - 503 .

ظواهره المعتبرة في جميع المخاطبات وبطونه المتكثّرة وما فيها من التأويلات ، فخلطوا فخبطوا خبط عشواء ، واللَّه يهدي من يشاء .

الرابع من أدلّة الأخباريين ونقدها
اشارة

الرابع : أنّه قد وردت في المقام أخبار كثيرة تدلّ على المنع من تفسير القرآن بغير النصّ الصحيح والأثر الصريح ، فتدلّ على أنّه ليس كساير المحاورات ، وليس المقصود تفهيم المطالب بنفس هذا الكلام لغير المعصومين عليهم السلام فروى الكليني قدس سره في الروضة عن زيد الشحّام قال : « دخل قتادة على أبي جعفر عليه السلام فقال : عليه السلام بلغني أنّك تفسّر القران ، فقال : نعم ، فقال عليه السلام : إن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ، وإن كنت إنّما فسّرته من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد آخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك ياقتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به »(1) .

وعن منصور بن حازم قال : « قلت : لأبي عبداللَّه عليه السلام قلت للنّاس : فحين مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من كان الحجّة للَّه على خلقه ؟ قالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن ، فإذا هو يخاصم به المرجى ء والقدري والزنديق الّذي لايؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شي ء كان حقّاً - إلى أن قال - فقال : عليه السلام رحمك اللَّه »(2) .

وعن القاسم بن سليمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : « قال أبي : ما ضرب

ص: 481


1- الكافي 8 / 311 ، ح 485 ، وسائل الشيعة 27 / 185 ، ح 25 .
2- الكافي 1 / 168 ، ح 2 ، وسائل الشيعة 27 / 176 ، ح 1 .

رجل القران بعضه ببعض إلّا كفر »(1) .

قال الصّدوق : « سألت محمّد بن الحسن عن معنى الحديث ، فقال : هو الرجل يتمسّك في تفسير آية بتفسير آية اُخرى »(2) .

وعن مسعدة بن صدقة عنه عليه السلام في حديث احتجاجه على الصوفية لمّا احتّجوا بآيات من القرآن ، قال : « ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه الّذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الامّة ؟ قالوا : أو بعضه وأمّا كلّه فلا ، فقال لهم : ومن هنا اتيتم ، وكذلك أحاديث رسول اللَّه ... الخبر »(3) .

وروى أنّه عليه السلام قال لأبي حنيفة : « تعرف كتاب اللَّه حقّ معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ، ويلك ما جعل اللَّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين أنزل عليهم ، ولا هو إلّا عند الخاصّ من ذريّة نبيّنا صلى الله عليه وآله وما ورثك اللَّه من كتابه حرفاً »(4) .

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبة له قال : « إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلاّ من ذاق طعمه - إلى أن قال - فطلبوا ذلك من عند أهله وخاصّته ... » الخبر(5) .

وعن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : « قال اللَّه تعالى : ما آمن بي من فسّر

ص: 482


1- الكافي 2 / 632 ، ح 17 ، وسائل الشيعة 27 / 183 ، ح 22 .
2- معاني الأخبار / 190 ، ح 1 . وفي المصدر « هو أن تجيب الرجل في ... » .
3- الكافي 5 / 65 ، ح 1 ، وسائل الشيعة 27 / 183 ، ح 23 .
4- علل الشرائع 1 / 89 ، ح 5 ، وسائل الشيعة 27 / 48 ، ح 27 .
5- الكافي 8 - 386 ، ح 586 ، وفيه « وخاصّه » وسائل الشيعة 27 / 185 ، ح 26 .

برأيه كلامي »(1) .

وفي النبوي : « إنّ اللَّه تعالى أنزل عليّ القرآن ، وهو الّذي من خالفه ضلّ ، ومن يبتغي علمه عند غير عليّ هلك »(2) .

وفي آخر : « من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللَّه الكذب »(3) .

وفي الرضوي : « إتّق اللَّه ولا تأوّل كتاب اللَّه برأيك ، فإنّ اللَّه تعالى يقول : «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» »(4) .

وروى الصّدوق عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام : « إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما السلام يسألونه عن الصمد ، فكتب عليه السلام : أمّا بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلّموا فيه بغير علم ، فإنّي سمعت جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار »(5) .

وروى البرقي في المحاسن عن المعلّى بن خنيس قال : « قال أبو عبداللَّه عليه السلام في رسالة : وأمّا ما سألت عن القرآن ، فذلك أيضاً من خطراتك المتفاوتة المختلفة ، لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت ، وكلّ ما سمعت فمعناه ( على )(6) غير ما ذهبت إليه ، وإنّما القران أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حقّ تلاوته ، وهم الّذين يؤمنون به ويعرفونه ، وأمّا غيرهم فما أشدّ إشكاله

ص: 483


1- التوحيد / 68 ، ح 23 ، وسائل الشيعة 27 / 45 ، ح 22 .
2- امالي الصدوق - المجلس 15 ، 122 - 121 ، ح 11 ، وسائل الشيعة 27 / 186 ، ح 29 .
3- كمال الدين / 256 ، ح 1 .
4- امالي الصدوق - المجلس 20 ، ح 148 ، ص 150 ، والآية من سورة آل عمران / 7 .
5- التوحيد / 91 - 90 ، ح 5 ، وسائل الشيعة 27 / 189 / ح 35 .
6- ليس في الصدر .

عليهم ، وأبعده من مذاهب قلوبهم ، ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ( إنّه )(1) ليس شي ء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ، وفي ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلاّ من شاء اللَّه ، وإنّما أراد اللَّه بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه ، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم ، ولا عن أنفسهم .

ثمّ قال «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2) فأمّا غيرهم فليس يعلم ذلك أبداً ولا يوجد ، وقد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر - إلى أن قال - وإيّاك وتلاوة القرآن برأيك ، فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الاُمور ، ولا قادرين(3) على تأويله - إلى قوله - فافهم واطلب الأمر من مكانه ، تجده إن شاء اللَّه تعالى »(4) .

وعن أبي جعفر عليه السلام : « إنّ رجلاً قال له : أنت الّذي تقول : ليس شي ء من كتاب اللَّه إلاّ معروف ؟ قال : ليس هكذا قلت ، إنّما قلت : إنّما ليس شي ء من كتاب اللَّه إلاّ عليه دليل ناطق عن اللَّه في كتابه ممّا لا يعلمه النّاس - إلى أن قال - إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومعايناً وناسخاً ومنسوخاً ومحكماً ومتشابهاً وسنناً وأمثالاً وفصلاً ووصلاً وأحرفاً وتصريفاً ، فمن زعم أنّ الكتاب مبهم فقد هلك وأهلك »(5) .

وعن جابر قال : « قال أبو جعفر عليه السلام : يا جابر إنّ للقرآن بطناً [وللبطن بطناً ]

ص: 484


1- ليس في الصدر .
2- سورة النساء / 83 .
3- في المصدر زيادة : عليه ولا .
4- المحاسن 1 / 268 ، ح 356 ، وسائل الشيعة 27 / 190 ، ح 38 .
5- المحاسن 1 / 270 ، ح 360 ، وسائل الشيعة 37 / 191 ، ح 39 .

وله ظهر وللظهر ظهر ، وليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية يكون أوّلها في شي ء وآخرها في شي ء ، وهو كلام متصرّف على وجوه »(1) .

وروى العيّاشي في تفسيره « أنّ عليّاً عليه السلام مرّ على قاضٍ فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، فقال : هلكت وأهلكت ، تأويل كلّ حرف من القرآن على وجوه »(2) .

وعن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : « من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء »(3) .

وعنه عليه السلام : « ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن »(4) .

وعن أبي جعفر عليه السلام نحوه ، وزاد : إنّ الآية نزلت أوّلها في شي ء وآخرها في شي ء(5) .

وروى الطبرسي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار »(6) .

[ و ] قال : « وصحّ عن النّبي صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام أنّ تفسير القران لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح »(7) . [ و ] قال : « وروى العامّة عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه

ص: 485


1- المحاسن 2 / 300 ، ح 5 ، وسائل الشيعة 27 / 204 ، ح 74 .
2- تفسير العياشي 1 / 12 ، ح 9 ، وسائل الشيعة 27 / 202 ، ح 65 .
3- تفسير العياشي 1 / 17 ، ح 4 ، وسائل الشيعة 27 / 202 ، ح 66 .
4- تفسير العياشي 1 / 11 ، ح 2 ، وسائل الشيعة 27 / 203 ، ح 69 .
5- تفسير العياشي 1 / 12 ، ح 8 - وسائل الشيعة 27 / 203 ، ح 73 .
6- تفسير مجمع البيان 1 / 33 ، وسائل الشيعة 27 / 204 ، ح 76 .
7- تفسير مجمع البيان 1 / 33 ، وسائل الشيعة 27 / 204 ، ح 76 .

قال : من فسّر القران برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ »(1) .

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال : « والقران ضرب فيه الأمثال للنّاس وخاطب نبيّه به ، ونحن نعلمه فليس يعلم غيرنا »(2) .

وروى المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النعماني عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام قال : انّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وأنزل عليه كتاباً ، فجعله النّبي صلى الله عليه وآله علماً باقياً في أوصيائه ، فتركهم الناس وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاصّ وهم يظنّون أنّه العام ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله ، فضّلوا وأضلّوا .

ثمّ ذكر كلاماً طويلاً في تفسير القرآن إلى أقسام ووجوه تزيد على مأئة وعشرة ، - [ إلى أن ] قال : - وهذا دليل واضح على أنّ كلام الباري تعالى لا يشبه كلام الخلق ، كما لا يشبه أفعاله أفعالهم ، ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللَّه إلاّ نبيّه وأوصيائه عليهم السلام - إلى أن قال - إنّ المحكم الّذي لم ينسخه شي ء ، وإنّما هلك الناس في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ، ونبذوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ... الحديث »(3) .

ص: 486


1- تفسير مجمع البيان 1 / 39 ، وسائل الشيعة 27 / 204 ، ح 79 و 78 .
2- تفسير القمّي 2 / 425 ، وسائل الشيعة 27 / 205 ، ح 80 .
3- المحكم والمتشابه / 5 ، 13 ، 16 ، وسائل الشيعة 27 / 200 ، ح 62 .

وروى الطبرسي في الاحتجاج عن أميرالمؤمنين عليه السلام في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من القرآن إلى أن قال عليه السلام : « ثمّ إنّ اللَّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تميزه ممّن شرح صدره للإسلام ، وقسماً لا يعلمه إلاّ اللَّه وملائكته والراسخون في العلم ، وإنّما جعل ذلك كذلك لئلا يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمام بمن جعله وليّ أمرهم فاستكبروا عن طاعته ... » الحديث(1) .

والجواب أنّ في الخبر الأخير وأمثاله بيان معنى الأحاديث السابقة وتفسيرها وإن كان ظاهراً ، وذلك أنّ هذه الاقسام الثلاثة في القرآن معلومة بالوجدان ، مشاهدة بالعيان ، ومن المعلوم أنّ ترجمة الظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها والقرائن القائمة على إرادة خلاف ظاهرها في الأخبار لا يسمّى تفسيراً ، كما يترجم للأعجمي أو يبيّن للعاميّ ، فإنّ أحداً من العقلاء إذا رأى العبد في كتاب مولاه أنّه أمره بلسانه المتعارف في مخاطبته له عربيّاً أو فارسيّاً أو غيرهما فعمل به وامتثله لم يعدّ تفسيراً ، إنّما التفسير كشف القناع عمّا يحتاج إلى البيان من إجمال أو تأويل ، كما يظهر من أهل اللّغة والعرف والتفسير ، دون ما يفهمه كلّ عارف باللغة من الخطاب المحكم ، نصّاً كان أو ظاهراً ، فإنّه غنى عن البيان ، وأيّ بيان أوضح من بيان من علم البيان ؟ سلّمنا لكنّه ليس تفسيراً بالرأي ، وإنّما يستند إلى الدليل المحكم من النقل المضبوط المتقن

ص: 487


1- الاحتجاج 1 / 375 باختلاف ، وسائل الشيعة 27 / 194 ، ح 44 .

أو الرجوع إلى أهل العرف ، إنّما التفسير بالرأي التصرّف في البطون والتأويلات أو تفسير المتشابهات ، وهو الّذي اتّفق علمائنا على المنع منه إلّا بالأثر الصحيح والنصّ الصريح أو ما يقوم مقامه من إجماع أو عقل .

وكفاك شاهداً طريقة شيخنا الطّبرسي قدس سره مع تصحيحه الخبر عن النبي وأئمة الهدى عليهم السلام بالمنع من التفسير قد ملأء كتابه من تفسير الكتاب على حسب ما جرت عليه طريقة أرباب اللغات ، ونصّ على جوازه ، ونسب المنع إلى بعض الحشوية واحتّج عليه(1) .

وأمّا ضرب القرآن بعضه ببعض ، فإنّما هو تأويل شي ء بشي ء من دون رجوع إلى قوّامه وحفظته ولا مراعات لطريقتهم ، وهو كناية عن عدم ملائمته له ، كأنّه يقرعه به ، وذلك كما عمد كلّ واحدة من الفرق الضالّة إلى متشابهات القرآن ، يأوّلونها على طريقتهم ويردّون ما يخالفها إليها ، وهذا بخلاف من عرف الطريقة وتعرف المحكم بموافقته للشريعة فأخذ به وردّ ما خالفه إليه ، فإنّ ذلك ليس بضرب وإنّما هو تأليف .

ووجه المنع والإنكار على أبي حنيفة وقتادة وأمثالهما من العامّة العمياء ظاهر ، لأنّهم أعرضوا عن الثقل الأصغر الّذي عنده علم الثقل الأكبر ، ورجعوا فيما يحتاج إلى البيان إلى آرائهم أو رجالهم وكلاهما إضلال ، بل العمل بالظواهر مع إمكان الفحص عن المخصّص والمعارض بالرجوع إليهم عليهم السلام أيضاً ممّا يمكن الإنكار عليه في الجملة ، وأين ذلك ممّن يسلك سبيلهم وتعرف ما يجري من الظاهر على طريقتهم ولا يأخذ بالظواهر حتّى يرجع إليهم أو يتصفّح ما جاء عنهم

ص: 488


1- مجمع البيان 3 / 142 .

وينظر هل في ذلك ما يعارضه أم لا ؟

وأمّا معرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والعامّ والخاصّ والظاهر والمؤوّل والمجمل والمبيّن ، فذلك ممّا لابدّ منه في التفسير بالقدر الممكن ، نظراً إلى العلم باشتمال الكتاب الكريم عليها ، فلابدّ من تميز بعضها عن بعض .

فالمنع في المقام يدور بين وجوه ؛

منها : حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه بمجرّد الاعتبار العقلي الراجع إلى الاستحسان ، أو الشاهد النقلي الراجع إلى من لا ينبغي الوثوق به أو لا يحصل به الاطمينان ، كما هو الغالب .

ومنها : حمله على ظاهره من دون تأمّل في الأدلّة العقليّة وتتّبع في القرائن الخارجيّة .

ومنها : العمل به قبل تميز الناسخ من المنسوخ والعامّ من الخاصّ والظاهر من المؤوّل ونحو ذلك ، مع العلم بوجود أمثال ذلك على الإجمال ، وإمكان الفحص عنها بالرجوع إلى أئمّة الهدى وأصحابهم الأبرار أو إلى الأخبار والآثار .

ومنها : الاستغناء بذلك عن الرجوع إلى أهل الذكر عليهم السلام مع قيام الضرورة عندنا على تقديم نصّ الإمام عليه السلام على ظاهر القرآن وعدم إمكان استنباط الأحكام منه إلّا بعد البيان .

ومنها : حمل اللفظ على ما يظهر في بادي الرّأى قبل التأمّل في أطراف الكلام وقرائن المقام أو بدون العلم بالفنون العربيّة والبصيرة في العلوم الأدبيّة .

ص: 489

وأمّا ما جاء في أنّ للقران ظهراً وبطناً(1) فذلك أيضاً لا كلام فيه ، بل جاء أنّ بطونه ربّما بلغت سبعين ، وإنّما يعرفها من خوطب به(2) وأنّى يصل الناس إليها والخطاب غير مستعمل فيها لا حقيقة ولا مجازاً وإنّما يرمز إليها رمزاً ؟ وذلك كما يقع في الأحلام وتأويلها ؟ وإلّا فكيف يكون القرآن تبياناً لكلّ شي ء(3) ومشتملاً على كلّ رطب ويابس(4) مع أنّ ظواهره لا تفي بأغلب الأحكام فكيف بغيرها ؟ ولمّا كان المخاطب هو اللَّه سبحانه والمخاطب نبيّه صلى الله عليه وآله تكثّرت الرموز بينهما ، ولا ريب في بُعدها عن عقول الرجال ، ولا منافاة بين إرادة الظاهر والرمز إلى الباطن ، وهذا كما تكون في ذكر معروف ومنكر وتفصيل أحوالهما وترمز بكلّ منهما إلى ناس بأعيانهم محرّكاً رأسك حركة يبنى عن التعجّب من شأنهم ، كما ورد في قوله سبحانه : «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» الآية من تفسير المذكورات فيه بأئمة الهدى والضلال(5) حتّى توّهم من توّهم إرادتهم من اللفظ ، فأنكروا عليهم السلام ذلك عليه ونسبوه إلى الضلال ، وإنّما يراد من أمثال ذلك الرمز والإيماء مع إرادة المعاني الظاهرة على الاستقلال ، كما ورد « أنّ كتاب اللَّه عزّ وجل على أربعة أشياء : العبارة والإشارة واللطايف والحقايق ، فالعبارة للعوامٌ

ص: 490


1- عوالي اللآلي 4 / 107 ، ح 159 وراجع تفسير الصافي 1 / 31 ، وكلمة « السبعين » لم يرد إلّا في تفسير الميزان 1 / 7 .
2- الكافي 8 / 311 ، ح 485 .
3- إشارة إلى كريمة سورة النحل / 89 .
4- إشارة إلى كريمة سورة الأنعام / 59 .
5- الآية من سورة النحل / 90 ، تفسير العياشي 2 / 268 - 267 ، ح 62 - 59 ، البرهان في تفسير القرآن 3 / 449 - 448 .

والإشارة للخواصّ ، واللطايف للأولياء ، والحقايق للأنبياء »(1) .

وبالجملة ، فاختصاص أهل البيت عليهم السلام بوراثة كتاب اللَّه وعلم ما فيه لا يوجب الصّد عمّا يعقله كلّ عارف باللّغة عالم بلسان العرب ، وقد ورَد في غير واحد من الأخبار اشتراك الكتاب والسنّة في بعض ما مرّ ؛

ففي الاحتجاج عن مولانا الصادق عليه السلام : « إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ، ومحكماً كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تردّوا محكمها فتضّلوا »(2) .

وفي معاني الأخبار بسنده عنه عليه السلام أنّه قال : « حديث تدريه خير من ألف ترويها ، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتّى يعرف معاريض كلامنا ، وإنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج »(3) .

وفي خبر آخر : « لا يكون فقيهاً حتى يلحن له فيعرف ما يراد »(4) . يقال : عرفته في معراض كلامه وفي لحن كلامه وفي فحوي كلامه ، أي بلمحه وإيمائه .

فظهر مما بيّنّاه أنّ الكتاب والسنّة صريحان في وجوب العمل بمحكماتها وردّ المتشابهات منهما إليها والرجوع في تفسيرها إلى أهل الذكر عليهم السلام وأنّ المحكم يعمّ النصّ والظاهر منهما ، وأنّ العمل به أيضاً في بعض المقامات موقوف على الفحص عمّا يعارضه بالرجوع إلى أئمة الهدى عليهم السلام عند إمكان الرجوع إليهم أو التّتبع في أخبارهم والفحص التامّ عن آثارهم ، وذلك عند العلم بالخروج عن

ص: 491


1- جامع الاخبار / 116 ، ح 15 - عوالي اللئالي 4 / 105 ، ح 155 .
2- الإحتجاج 2 / 192 .
3- معاني الأخبار / 2 ، ح 3 .
4- الغيبة للنعماني / 141 ، ح 2 .

الظاهر في اُمور محصورة بالنسخ أو التخصيص أو التقييد أو المجاز أو نحوها .

أمّا بعد العلم بالقدر المتيقنّ منها فالواجب إبقاء سايرها على ظواهرها ، من غير فرق بين الكتاب والسنّة في ذلك أصلاً ، لاشتراكهما في مناط المنع والتجويز وورود الأخبار فيهما جميعاً ، بل الكتاب أولى بالتمسّك ، لأنّه الأصل المقطوع به الموضوع لرجوع الاُمّة إليه إلى يوم القيامة .

وحيث تبيّن لك الجواب عن شبهة المانعين ففي الأصل الأصيل الدالّ على حجيّة الظواهر الّتي بنى عليها جميع المخاطبات في جميع اللّغات من لدن آدم عليه السلام إلى انقراض العالم كفاية في هذا الباب .

الأدلّة الدالّة على حجيّة ظواهر الكتاب

ويدلّ عليه مع ذلك وجوه كثيرة ؛

الأوّل : اتّفاق أهل الإسلام من لدن نبيّنا صلى الله عليه وآله إلى هذه الأيّام على الرجوع إليه والتدبّر فيه والتمسّك به ، من غير نكير ولا توقّف على ورود تفسير ، كما يشهد به تتبّع الكتب المصنّفه في فنون علوم الدين ، والآثار المنقولة عن السابقين ، وملاحظة الطّريقة المستمرّة بين المسلمين ، حتّى عدّه بعضهم من ضروريات الدين ، ونقلوا عليه إجماع المسلمين(1) ، فإنّك تجد علماء التفسير يعتمدون في تفسيرهم على العرف واللّغة ، والكتب العلميّة مشحونة من الاحتجاج بالآيات القرآنيّة ، بل هي عندهم من أقوى الأدلّة الشرعيّة ، حتّى جعلوه مرجعاً عند اختلاف الأخبار ، واختلفوا في تخصيصه ونسخه بالآحاد منها .

ومن تتبّع الأخبار ونظر في الآثار وجد سيرة الأئمّة الأطهار وأصحابهم

ص: 492


1- ومنهم : الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني في معالم الدين / 194 - 193 .

الأبرار مستمرّة على الاستدلال به على المخالف والمؤالف في الفروع والأحكام والقصص والمواعظ وغيرها ، ولم ينقل من أحد من الأئمّة إنكار ذلك والتأمّل فيه ، مع كونه من الأُمور الشايعة الّتي تعمّ بها البليّة وتشتدّ إليها الحاجة ، وليس الحال في ذلك إلاّ ما هو الحال في الأخذ بظواهر العبارات والاعتماد على مداليل الخطابات في الأحكام الجارية بين السيّد وعبيده ، والسلطان ورعيّته ، وكلّ مطاع ومطيعه ، وأصحاب الشرايع واُممهم ، والمجتهدين ومقلّديهم ، والوكلاء والأوصياء ، وفي جميع العقود والإيقاعات ، وعامّة المحاورات والمخاطبات .

الثاني : إنّا نقطع بأنّ النبي صلى الله عليه وآله منذ بعث إلى آخر عصره قد كان يتلو على الناس في مجامعهم آيات الكتاب ، ويريد منهم الاستماع والإصغاء إليها والإنصات لها ، ومن المعلوم أنّهم إنّما كانوا يعتمدون في فهمه على مداليله اللّغويه والعرفيّة ، على حسب ما استقرّت عليه عادتهم المعلومة ، واستمرّت عليه طريقتهم المألوفة .

ألا ترى أنّك لا تجد لهذه المسألة عنواناً في الكتب المعروفة ، وليس ذلك إلاّ لكون حجيّته عندهم من المطالب الضروريّة والمباحث البديهيّة المستغنية لوضوحها عن إقامة البيّنة عليها بالكليّة ، وليس اعتمادهم على اللّغة والعرف هناك نحو اعتمادهم على ذلك في فهم ساير أوامر النبي صلى الله عليه وآله ونواهيه ، لا يعقلون التفرقة في ذلك بين المقامين ، بل لا يخطر ببالهم فرق في البين ، فلو كان الأخذ من الكتاب على خلاف ما استقرّت عليه السيرة الجارية في ساير المقامات لحكم النبي صلى الله عليه وآله بذلك على كافّة العباد ، ونادى به أصحابه على رؤس الأشهاد ، حتّى يتواتر به الأخبار ، ويشتهر اشتهار الشّمس في رابعة النّهار ، فكيف والأمر بالعكس ؟ فإنّه إنّما أراد بتلاوته عليهم أن يحيلوا فيه أفكارهم ، ويسرعوا في

ص: 493

ربوعه أنظارهم ، ويتأمّلوا في معانيه ، ويتبصّروا ما فيه ، ويمتثلّوا أوامره ونواهيه ، ويعتبروا بأقاصيص الاُمم السابقة والقرون الخالية ، ويهتدوا بحجّته القاطعة وبراهينه الساطعة ، ويزدادوا بسماعه إيماناً ويقيناً ، ويرغبوا في مواعيده ، ويخافوا من وعيده ، إلى غير ذلك من فوائده الّتي لاتحصى ، وعوائده الّتي لا تستقصى ، ألا ترى أنّ كثيراً منه خطابات لعامّة الناس ، ومن المعلوم قبح مخاطبة الناس بما لا يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود منه ، واحتمال اقتران كلّ آية منه بالبيان خلاف الوجدان ، وأيّ تبيان أوضح من تبيان من علّم البيان .

الثالث : أنّه لا شكّ في كون القرآن من أظهر المعجزات وأوضح البيّنات المستمرّة على ممرّ الأوقات ، ومن أظهر وجوه إعجازه اشتماله على الفصاحة والبلاغة الّتي لا تسعها طاقة البشر ولا تبلغها قدرة الجنّ والإنس وإن كان بعضهم لبعض ظهيراً(1) ، حتّى إعترف به فصحاء العرب ، وأقرّوا بالعجز عن الإتيان بمثلها بعد وقوع التحدّي فيه ، ولا ريب أنّ ذلك لا يتمّ إلّا بمعرفة مداليله ومعانيه ، فإنّ البلاغة لا تعرض اللّفظ إلّا بالقياس إلى ما اُريد به من المعنى إذا وافق مقتضى الحال ، ولم ننقل أنّه صلى الله عليه وآله كان يحاجّ العرب بالقرآن بشرط التفسير والبيان ، بل إنّما وقع التحدّي في صريح الآيات ومتواتر الروآيات بمجرّده ، ولو توقّفت معرفة إعجازه على تفسيره وبيانه لكان في أمثال زماننا ظنيّاً ، لثبوت التفسير غالباً بطريق ظنّي ، ففي المنع من الاعتماد على مداليل الآيات والحكم بجريانها مجرى الألغاز والمعميّات نقض لمعظم الغرض المقصود من إنزاله من العلم باعجازه من حيث اللّفظ والمعنى ، والإنتفاع بفوائده الّتي لا يخفى .

ص: 494


1- إشارة إلى الآية 88 من سورة الإسراء .

الرابع : أنّك قد عرفت أنّ في الكتاب الكريم آيات كثيرة حثّ فيها على النظر فيه والتفكر في أساليبه ومعانيه ، ليهتدوا ويتعلّموا ويعتبروا ، ووصف المحكمات بأنّهنّ أمّ الكتاب أي أصله الّذي يلجأ إليه إذا تشابهت الأُمور ، ويعوّل عليه إذا أشكلت ، ويردّ عليه المتشابهات ، ومنّ علينا في مواضع كثيرة بإنزاله بلسان عربي مبين(1) ، أتراه يمتنّ عليهم بإنزاله بلغتهم وإيضاحه لهم ثمّ لا يبيح لهم الرجوع إليه ؟ بل اقسم اللَّه تعالى أنّه جعله كذلك رجاء أن يعقلوه ، ونادى بأنّه علم نجاة ودليل هداية وشاهد صدق وذكرى مذكّر وواعظ متّعظ ، إلى غير ذلك ممّا تضمّنته الآيات السابقة وما أشبهها من الآيات ، ومعلوم أنّ الظواهر إذا تعاضدت ترفّعت عن مقام الظهور ، فكيف إذا تأيدّت بتظافر السّنة وقضاء الحكمة وإجماع الاُمّة وسيرة صاحب الشريعة وأربابها واتّفاق المفّسرين وإطباق المتشرّعين ؟ فليس التمسّك بها دوريّاً ، كما لا يخفى .

الخامس من أدلّة الأخباريين ونقدها
اشارة

الخامس : أنّه قد وردت في المقام روايات متجاوزة عن حدّ التواتر ، تدلّ على وجوب التمسّك بالكتاب العزيز وعرض الأخبار عليه والاستناد إليه .

منها : خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين(2) .

والمناقشة بإرادة التمسّك بهما معاً لا بكلّ واحد على الاستقلال ضعيفة جدّاً ؛ لأنّه إن اُريد التمسّك بالمجموع في كلّ مسألة ، فلا دلالة في اللّفظ عليه ، ولو دلّ لدلّ على توقّف التمسّك بالعترة أيضاً على دلالة الكتاب ، فلو توقّف على الأوّل لزم الدور . على أنّه خلاف الضرورة ، فكما لا يراد هناك اشتراط الاجتماع

ص: 495


1- إشارة إلى الآية 195 من سورة الشعراء .
2- الفصول / 280 و 277 - وانظر : الفوائد الحائريه / 284 .

كذا في العكس .

وإن اُريد التمسّك بهما في مجموع الأُمور الدينيّة ، فلا ينافي ما قصدناه ، لأنّ جملة منها خالية عن دلالة السنّة ، كما أنّ أكثرها خالية عن دلالة الكتاب ، فيجب التمسّك بهما مطلقاً ، سواء اجتمعا في المسألة أو انفرد أحدهما عن الآخر . على أنّ التمسّك بالمجموع ينافي ما زعموه من عدم انفهام شي ء من القرآن إلّا بالتفسير ، لأنّه تمسّك بالعترة فقط .

وقوله عليه السلام : « وإنّهما لن يفترقا » لا يدلّ على المنع من الاكتفاء بأحدهما عند الاستدلال إنّما يدلّ على مطابقة الآخر له في الحقيقة وامتناع مخالفته له بحسب الواقع ، كما هو معلوم بالضرورة من مذهبنا ، وأين هذا من ذاك ؟ فالمتمسّكّ بكلّ ما يوجد في الكتاب والسنّة جامع بينهما وإن انفرد أحدهما ، عالم بموافقة الآخر له وإن لم يقف على مدركها ، حيث إنّه إذا عرضت له الواقعة أبى إلاّ أن يرجع إليهما معاً ، ولم يكتف بأحدهما مخافة أن يكون في الآخر ما يفيد خلاف ظاهره ، فإن وجد شيئاً من ذلك جمع بينهما كما نجمع بين كلامي شخص واحد ، وإلّا أخذ به ، وإن وجدهما متعاضدين فتلك أقصى بغيته ، فليس بمفرّق بينهما . على أنّ نفي الافتراق غير النهي عن التفريق ، وهو ظاهر .

ومنها : ما تواتر عنهم عليهم السلام من الأمر بعرض الخبر على الكتاب والأخذ بما وافقه وترك ما خالفه(1) . ورد ذلك في مطلق الأخبار وفي خصوص الأخبار المتعارضة .

والمناقشة بأنّ ترجيح الخبر بموافقة الكتاب كترجيحه بالشهرة ومخالفة

ص: 496


1- الوسائل 27 / 118 ، ح 31 - 30 - 29 .

العامّة ونحوهما لا يدلّ على حجيّة الكتاب غفلة واضحة ، فإنّ موافقة الكتاب لا يتصوّر إلاّ مع كونه بنفسه مفهوم المعنى معتبر الظاهر ، على أنّ ردّ ما خالف الكتاب في معنى التمسّك به وحده في إثبات خلافه ، ولو توقّف العرض على الكتاب على تفسيره في الأخبار رجع إلى عرض الأخبار على الأخبار ، إنّما شرع العرض لردّ المجهول إلى المعلوم ، كما ورد في العرض على المعلوم من أخبارهم أيضاً . على أنّ تخصيص العرض بالمفسّر تقييد للنصّ المتواتر .

الأخبار المتواترة الدالّة على جواز التمسّك بظواهر الكتاب

ومنها : ما تواتر عن المعصومين عليهم السلام من الاستشهاد بالآيات القرآنيّة والاحتجاج بها على الأُمور الدينيّة على المخالف والمؤالف ، أتراهم يحتجّون بما لا يعلم إلاّ من قبلهم ؟ كقوله عليه السلام لمن أطال الجلوس في المخرج يستمع الغناء معتذراً بأنّه لم يكن شيئاً أتاه برجله : أما سمعت قول اللَّه عزّوجلّ : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»(1) حيث أنكر عليه كيف لم يلتفت إلى هذا القول وهو ممّا يمنع من ذلك ويصدّ عنه ؟

وقوله عليه السلام لمن انقطع ظفره وجعل عليه مرارة : « يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه حيث قال : «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» أمسح عليه »(2) .

هل قال له ذلك إلاّ وهو يبيح أن يتعرّف من الكتاب سقوط الغسل وإن لم يثبت به وجوب المسح إلاّ بضميمة .

وقوله عليه السلام لمن لبس العبا وترك الملاء : « أترى أنّ اللَّه أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أخذك منها ؟ أو ليس اللَّه يقول : «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ

ص: 497


1- الكافي 6 / 432 ، الحديث 10 ، والآية من سورة الاسراء / 36 .
2- الكافي 3 / 33 ، الحديث 4 ، والآية من سورة الحج / 78 .

ذَاتُ الْأَكْمَامِ» اُو فليس يقول : «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ» »(1) .

وفي احتجاج سيّدة النساء - سلام اللَّه عليها - على الأوّل : « أفي كتاب اللَّه أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ تركتم كتاب اللَّه ونبذتموه وراء ظهوركم ، إنّه يقول : «وَوَرِثَ سُلَيْمان داوُدَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» إلى آيات آخر »(2) .

وفي إحتجاج سلمان الفارسي على الثاني حين استعمله وأمره أن يستقصي على من كان قبله : « قد نهاني اللَّه عن ذلك يا عمر في محكم كتابه حيث يقول : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ» » الآية(3) .

وفي احتجاج أبي الحسن الهادي عليه السلام في مسألة الجبر والتفويض : « اجتمعت الأُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها ، فهم في حالة الاجتماع مصيبون ، لقول النبي صلى الله عليه وآله : لا يجتمع اُمّتي على الضلالة لا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب واتّباع حكم الأحاديث المزوّرة واتباع الأهواء المرديّة الّتي يخالفه نصّ الكتاب - إلى أن قال - وأصحّ خبر ما عرفت تحقيقه من الكتاب ... » الحديث(4) .

وفي احتجاج أبي جعفر الثاني عليه السلام على القاضي في مجلس المأمون ردّ عدّة من الأخبار بمخالفة جملة من الآيات(5) .

ص: 498


1- الكافي 1 / 410 ، الحديث 3 ، والآيات من سورة الرحمن / 11 و 10 ، 22 - 19 .
2- الاحتجاج 1 / 138 ، والآيات من سورة النحل / 16 وسورة مريم / 6 - 5 .
3- الاحتجاج 1 / 186 ، والآية من سورة الحجرات / 12 .
4- الاحتجاج 2 / 251 .
5- الاحتجاج 2 / 240 .

وفي احتجاج إبن عبّاس حين بعثه أميرالمؤمنين عليه السلام إلى إبن الكواء وأصحابه فأنكر عليه لبس الرقيق والحلة : هذا أوّل ما اُخاصمكم فيه «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ» الخبر وقال : «خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ»(1) .

وفي إحتجاج مولانا الصادق عليه السلام على سفيان الثوري وعبّاد بن كثير نحو من ذلك(2) .

وفي احتجاجه عليه السلام على زرارة حين قال له : من أين علمت أن المسح ببعض الرأس ؟ فقال : لمكان الباء(3) .

وفي احتجاجه على الدوانيقي في ردّ خبر النمّام أنّه فاسق قال اللَّه تعالى : «إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ»(4) .

وفي احتجاجه على ولده إسماعيل فيمن اشتهر بشرب الخمر حيث قال له : إنّي لم أره يشرب الخمر ، إنّما سمعت الناس يقولون ، فقال عليه السلام : إن اللَّه عزوجل يقول : «يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم(5) .

وفي احتجاجه عليه السلام في تحليل العبد للمطلّقة ثلاثاً أنّه زوج وقال اللَّه تعالى : «حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ»(6) .

ص: 499


1- الكافي 6 / 442 - 441 ، الحديث 6 ، والآيات من سورة الأعراف / 31 - 30 .
2- الكافي 6 / 443 - 442 ، ح 9 ، 8 .
3- الفقيه 1 / 103 ، ح 212 .
4- امالي الصدوق ، المجلس 89 / ص 710 - 709 ، ح 10 ، والآية من سورة الحجرات / 6 .
5- الكافي 5 / 299 ، الحديث 1 ، والآية من سورة التوبة / 60 .
6- الكافي 5 / 425 ، الحديث 3 ، والآية من سورة البقرة / 230 .

وفي عدم التحليل بالمنقطع أنّه تعالى قال : «فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا»(1) .

وفي حلّيّة بعض النساء ، قال اللَّه تعالى : «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ»(2) .

وفي عدم جواز إطلاق العبد ، قال اللَّه : «عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ»(3) .

وفي إباحة بعض الحيوانات : قل لا أجد فيما اُوحى إلىّ محرّما ... الآية(4) .

وورد فيمن صلّى أربعاً في السفر : « إن قرأت عليه آية القصر وجب عليه الإعادة »(5) .

وفي رواية اُخرى : « وفسّرت له »(6) .

ووجدان نفي الجناح لا يدلّ على وجوب القصر إلاّ بتفسير ، كما سأله بعض أصحابه عليه السلام فأجاب إنّه كقوله : «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا»(7) .

وفي بعض الخطب : كأنّهم لم يسمعوااللَّه تعالى يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً» الآية(8) .

وفي احتجاجه عليه السلام على من زعم شمول الموصول في قوله تعالى : «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» « لمن لا يجوز ما أجهلك بلسان قومك ؟ أما

ص: 500


1- التهذيب 8 / 34 ، الحديث 103 ، والآية من سورة البقرة / 230 .
2- التهذيب ، الحديث 1368 ، والآية من سورة النساء / 24 .
3- الإستبصار 3 / 215 ، الحديث 3 ، والآية من سورة النحل / 75 .
4- الإستبصار 4 / 60 - 59 ، الحديث 9 - 8 ، والآية من سورة الأنعام / 145 .
5- دعائم الإسلام 1 / 195 .
6- التهذيب 3 / 226 ، ح 80 .
7- الفقيه 1 / 278 ، الحديث 1266 ، والآية من سورة البقرة / 158 .
8- الإرشاد 1 / 289 ، والآية من سورة القصص / 83 .

علمت أنّ ما لمن لا يعقل ؟! »(1) .

وورد فيمن شرب الخمر معتذراً بجهله الأمر بأن يدار به مجالس المهاجرين والأنصار للسؤال عن بلوغ آية التحريم إليه(2) .

وفي احتجاجه عليه السلام على من اشترط الدخول في تحريم الزوجة كالرّبيبة أنّ الآية في الاُولى مرسلة وفي الثانية مقيّدة(3) . إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة .

ومن نظر في الآثار ورجع إلى الأخبار المتضمّنة للاحتجاجات المرويّة عن كلّ واحد من المعصومين عليهم السلام وأصحابهم الثقات قطع بتواتر القدر المشترك بينهما في المعنى ، وفي بعضها الإنكار على السامع بقوله عليه السلام : ألستم عرباً(4) ؟ أما تتلوا كذا(5) ؟ أما تسمع اللَّه يقول(6) ؟ ألا ترى أنّه قال تعالى(7) ؛ وما أشبه ذلك من العبارات الدالّة على صحّة الاستناد إليه فمن الاعتماد عليه ؟

ومنها : الخطب المرويّة في نهج البلاغة وغيره من الكتب المتضمّنة للأمر بالتمسّك بالكتاب الكريم والرجوع إليه والتدبّر فيه والاهتداء بنوره والاستشفاء به ، وما أشبه ذلك من المعاني .

ومنها : الأخبار الكثيرة الصريحة فيما ذكرناه ، كقوله عليه السلام : « ما وجدتم في

ص: 501


1- كنز الفوائد 2/187 - 186 ، مناقب آل أبي طالب 1/49 ، بحار الأنوار 9 / 282 ح 6 .
2- الكافي 7 / 249 ، ح 4 - الإرشاد 1 / 199 .
3- الكافي 5/422 ، ح 4 ، وفي المصدر « مستثناة » بدل « مقيدة » .
4- الخصال / 316 ، ح 98 - معاني الأخبار / 318 ، ح 1 .
5- المحاسن 1 / 163، ح 115 .
6- التوحيد / 458 - 457 ، ح 18 .
7- المحاسن 1 / 166 ، ح 123 .

كتاب اللَّه فالعمل به لازم ، لا عذر لكم في تركه ، وما لم يكن في كتاب اللَّه وكان فيه سنة منّي فلا عذر لكم في سنّتي ... » الخبر(1) .

وقوله صلى الله عليه وآله في جواب من قال له : « فمن نسئل بعدك [وعلى ما نعتمد ؟ ]قال : استفتحوا كتاب اللَّه »(2) .

وقوله عليه السلام : « إنّ القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه »(3) .

وقوله عليه السلام : « من لم يعرف الحقّ من القرآن لم يتنكّب الفتن »(4) .

وقوله عليه السلام : « ويل لمن لاكها ثم لا يتدبرّها »(5) .

وقوله عليه السلام : « من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم »(6) .

وقوله عليه السلام : « إنّ اللَّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل ... » الخبر(7) .

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المتفرقة في كتب الأخبار ، فهي متجاوزة عن حدّ التواتر ، ولعمري إنّ هذه المسألة قد بلغت في الوضوح والظهور حدّاً لا

ص: 502


1- معاني الأخبار / 156 ، ح 1 .
2- أمالي الطوسي ، المجلس 9 / ص 234 ، ح 8 ، بحار الأنوار 2 / 300 ، ح 29 .
3- عوالي اللئالي 4 / 104 ، ح 153 .
4- المحاسن 1 / 216 ، ح 105 ، بحار الأنوار 2 / 242 ، ح 36 .
5- التنبيهات العليّه ، (ضمن المصنفات الأربعة) / 255 - 254 ولكن فيه زيادة « بين لحييه » بعد كلمة « لاكها » - لاك ، يلوك لوكاً اللقمة مضغها أهون المضغ وأدارها في فمه [ولكت الشي ء في فمى الوكة : علكته (مجمع البحرين 4 / 154 ، الصحاح 4 / 1607 ، لسان العرب 10 / 484) ] كناية عن قرائتها من دون تأمّل وتفكّر وتدبّر .
6- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 / 261 ، ح 39 ، وسائل الشيعة 27 / 115 ، ح 22 .
7- الإحتجاج 1 / 375 باختلاف - وسائل الشيعة 27 / 194 ، ح 44 .

يدانيه كثير من البديهيّات فليس الحال في التّمسك بالكتاب إلاّ ما هو الحال في التّمسك بالسنّة .

وقد ظهر من جميع ما تقدّم من الأدلّة القطع باعتبار الظواهر اللفظيّة ، واندفاع الشبهات المتقدّمة بحذافيرها ، إذ ليس معنى التمسّك بالألفاظ إلاّ الأخذ بمداليلها اللغوية والعرفيّة العامّة أو الخاصّة ، والعمل بمقتضي الاُصول اللفظيّة المقرّرة في مباحث الألفاظ ، فالشبهة في هذا الباب شبهة في مقابلة الضرورة ، فلا يعبأ بها ، واللَّه سبحانه هو الهادي .

الثالث من أدلّة الأخباريين وتوضيحه
اشارة

الثالث : من الشبهات الّتي قد يتمسّك بها في إنكار القطع بحجيّة الظنون المخصوصة بقدر الكفاية أنّ جميع ما تقدّم إنّما يدلّ على حجيّة الكتاب والسنّة حيث لا يوجد هناك معارض أصلاً ، ولا ريب أنّ وجود مثل ذلك في أدلّة الأحكام الشرعيّة نادر لا يكتفي به في تعيين القدر المتيقّن منها ، للقطع بوجود أحكام كثيرة في المسائل الّتي لا يعلم بسلامة الدّليل الموجود فيها عن المعارض ، بل الاقتصار على الأوّل يوجب الخروج عن الدين قطعاً .

ومع الغضّ عنه فالعلم الإجمالي هناك يستدعي التعرّض للامتثال ، فإذا تعذّر الامتثال القطعي تعيّن الظنّي ، فلا محيص إذن عن العمل بمطلق الظنّ ، لانتفاء الترجيح بين الظنون في نظر العقل .

وتوضيح المقام أنّ المسائل المذكورة على أقسام ؛

الأوّل : المسائل الّتي نجد فيها أدلّة مخصوصة ولم نقف فيها على ما يعارضها من الأدلّة المعتبرة ، غير أنّا نظنّ أو نحتمل وجود المعارض لها في الواقع ، فلا نأمن سلامتها عن المعارض ، وهذا الاحتمال قائم في عامّة المسائل إلاّ ما شذّ وندر من الأحكام القطعيّة المستغنية عن تجشّم إقامة الأدلّة ، والشّك

ص: 503

في المانع ينافي القطع بالحكم .

ولئن سلّمنا عدم العبرة بالشكّ في المانع بعد العلم بالمقتضي فلا شكّ في معارضة تلك الأدلّة في أغلب المسائل بأدلّة الاُصول العمليّة المقرّرة في محلّها من برائة أو اشتغال أو استصحاب أو نحوها ، إذ المفروض عدم إفادة تلك الأدلّة للقطع بالواقع ، فيبقى موضوع الشكّ المأخوذ في أدلّة الاُصول المذكورة بحاله ، فيحصل المعارضة . ولم يقم هناك دليل قطعيّ على ترجيح الأوّل على الثاني ، سيّما مع تأيّد الأصل المفروض في المسألة ببعض المؤيّدات الخارجيّة والمرجّحات الظنيّة .

الثاني : المسائل الّتي نجد عليها أدلّة مخصوصة ، ولم نقف على ما يعارضها من الدليل المعلوم اعتباره ، لكنّا نجد هناك أمارات معارضة لها نظنّ أو نحتمل أن يكون معتبرة في الشريعة ولو من الأمارة المفيدة لمطلق الظنّ كالشهرة وغيرها ، فإنّا إن لم ندّع القطع باعتبار الظنّ في هذه الأزمنة فلا أقلّ من الاحتمال ، وهو كافٍ في هدم الاستدلال ، فإنّا إذا احتملنا اعتبار المعارض في نفس الأمر لم يحصل القطع بوجوب العمل بالدليل الموجود في المسألة إلاّ مع القطع بإستجماعة لشرايط التقديم حين المعارضة ، وسدّ باب الاحتمال المذكور ممّا يتعذّر في أغلب المسائل .

الثالث : المسائل الّتي نجد عليها أدلّة متعارضة من الأمارات الّتي ثبت التعويل عليها في الشريعة ، وهذه أيضاً كثيرة في أبواب الفقه كما لا يخفى على المتتبّع فيها ، ولم يقم بالشرع دليل قطعيّ على طريق المعالجة ، غاية ما هناك الأخبار العلاجيّة ، وهي مع تعارضها في نفسها - فيكون التمسك بها موقوفاً على نفسها - لا تفيد أكثر من المظنّة ، فلا يحصل القطع بوجوب العمل بأحد

ص: 504

المتعارضين ، وينحصر الأمر في العمل بمطلق الظنّ ، إذ قلّ ما يتّفق الدليل الخالي عن المعارض بالمرّة .

وهذا الاعتراض ممّا أشار إليه المحقّق المصنّف - طاب ثراه - في السؤال ولم يتعرّض في الجواب لدفعه ، وإنّما تعرّض للجواب عن الوجهين الأوّلين على سبيل الإجمال ، مع أنّه من عمدة الإشكالات الواردة في هذا المجال ، فكأنّه جعل الجواب عنه موكولاً إلاّ ما قررّوه في مبحث التعادل والتراجيح .

جواب أدلّة الأخباريين

والجواب عن الأوّل : أنّ احتمال المعارض والمانع ساقط في نظر العقل بالكلّية وإن تأيّد بحصول المظنّة ، لإطباق العقلاء على عدم مزاحمة الدليل بالاحتمال ، وذلك أمر معتبر في مقام الإطاعة والامتثال ، إذ المرجع في صدقه هو العرف والعادة ، والمدار فيه على الطريقة الجارية بين العقلاء كافّة .

ألا ترى أنّه لو وصل إلى العبد حكم من سيّده فلم يمتثل معتذراً باحتمال المعارض أو المانع لعدّه العقلاء عاصياً مستحقّاً للعقاب ؟ ولو عاقبه المولى عليه لم يكن ملوماً في نظر العقل ، على أنّ أصالة النفي من الاُصول المسلّمة .

ودعوى أنّ القدر المسلّم عدم العبرة بمجرّد الاحتمال مع ضعفه ، أمّا مع قوّته بالظنّ فلا دليل على سقوطه عن الاعتبار ، بل العقلاء ربّما يعتمدون على الظنّ بذلك في الأُمور العاديّة ؛

مدفوعة بأنّ الأُمور العاديّة في الأغلب إنّما يبتني على ملاحظة المصالح الجزئية الّتي لا يترتّب على الإخلال بها في الأغلب ضرر فاحش لا يمكن تحمّله في العادة ، وربّما ينسدّ باب العلم بها في كثير من المقامات فيرجع إلى الظنّ ، وأين ذلك من الأحكام الشّرعيّة الّتي يترتّب على التعدّي عن حدودها المقرّرة والخروج عن وظايفها المعيّنة استحقاق أشدّ العقوبة ، ممّا لم يشاهده عين ولم

ص: 505

تسمع به اُذن ولم يخطر على قلب بشر ، نعوذ باللَّه تعالى منه . وليست العلّة التامّة في امتثالها مجرّد إدراك المصالح الواقعية ، بل العمدة فيها تحصيل الإطاعة على الوجه المقرّر في الشريعة ، على حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، وقد جاء في الخروج عن القانون المقرّر في الشرع لمعرفة الأحكام والموضوعات من التهديدات البالغة ما لا يحصى ، ومثل هذا ممّا لا يجوّز العقل فيه المسامحة والاكتفاء بمجرّد المظنّة ، إنّما المتبّع فيه الطرق المقرّرة في الشريعة ، فلا يجوز رفع اليد عنها بمجرّد الاحتمال أو المظنّة .

ألا ترى أنّ استصحاب حكم العموم إلى أن يثبت المخصّص وحكم المطلق حتّى يعلم التقييد وحكم النصّ حتّى يثبت المزيل من الأُمور المسلّمة الّتي ادّعى عليها الإجماع والضرورة ، وهو كذلك لإطباق العلماء كافّة على عدم جواز رفع اليد عن كلّ ما يصحّ به الاستدلال بمجرّد الظنّ بوجود المعارض له فضلاً عن الاحتمال ، وعلى وجوب العمل بالمقتضى حال تعذّر العلم بوجود المانع في كلّ حال ، وليس ذلك محلّاً للتأمّل والإشكال .

وبه يظهر الجواب عن الثاني أيضاً ، للقطع بعدم مزاحمة الحجّة الثابتة بغيرها ، وإتّفاق العقلاء على المنع من العدول عن مطلق الأمر المعلوم إلى المحتمل ، وعدم جواز ترك المتيقّن بالشك ، وجميع ما جاء في الإستصحاب من النّهى عن نقض اليقين بالشّك شامل لذلك بل فيه تنبيه على أنّ من الأُمور المركوزة في العقول عدم معارضة المعلوم بالمجهول وقبح الرجوع عنه بذلك والعدول ، بل هو أولى من الاستصحاب ، لاجتماعهما في حالة واحدة ، إذ المفروض استجماع الحجّة الثابتة لشرايطهما المقرّرة حين معارضتها للمحتمل ، أمّا إذا أفاد ذلك خللاً في بعض شرايطها تساويا في عدم الحجيّة ، وهذا كلّه ممّا لا

ص: 506

خلاف فيه ولا شبهة تعتريه .

إنّما الكلام في القسم الثالث ، لكثرة الخلاف في وجوه الترجيحات ، وانتشار الأقوال في كيفيّة علاج المتعارضات ، فإن حصل هناك قدر متيقّن يمكن الاكتفاء به تعيّن الاحتياط في غيره ، وإلّا فغاية الأمر حجيّة الظنّ في هذا المقام بخصوصه ، لاختصاص الدليل ، به فيعمل بكلّ طريق يظنّ باعتباره في مقام الترجيح ، حيث لم يقم على اعتباره نصّ صريح أو دليل صحيح ، لكنّ الدليل على القدر اللازم من ذلك قائم من النص والإجماع .

أمّا الأدلّة الاجتهاديّة وما يتعلّق بها من الاُصول اللفظيّة ، فلا شكّ في تقديمها على الاُصول العمليّة ، لاختصاص مواردها بفقد مطلق الأدلّة المعتبرة ، قطعيّة كانت أو ظنيّة ، وإلّا لزم طرحها بالكلّية ، لعدم خلوّ المسائل الّتي لا يقطع بحكمها عن بعض الاُصول المذكورة .

فما ذكر في القسم الأوّل من بقاء المعارضة على الحقيقة واضح الضعف ، كما لا يخفى على الناظر المتأمّل في أدلّة الاُصول من معقول أو منقول ، وقد سبق التنبيه على ذلك في كلام المصنّف - طاب ثراه - في ابتداء المبحث .

وأمّا الأدلّة الإجتهاديّة ، فإنّما يتصوّر المعارضة فيها في غير الأدلّة القطعيّة وفي غير الأدلّة الظنيّة أيضاً ، حيث يناط الحجيّة فيها بحصول الظنّ الفعلي بثبوت الحكم في نفس الأمر ، لامتناع حصول القطع أو الظنّ بالضدّين جميعاً أو طرفي النقيض معاً ، فيكون المفيد لأحدهما إذن هو الحجّة دون غيرها ، وإنّما يعقل المعارضة بين الدليلين حيث لا يناط الحجيّة فيهما بأحد الوصفين ، وتلك مسألة من المسائل المعروفة ، قد قامت فيها كغيرها أدلّة معتبرة عقليّة ونقليّة ، من جنس ما تقدّم إثبات حجّيته من الأدلّة ، وما يرجع إليها في الحقيقة كالإجماعات

ص: 507

المنقولة ، ولا بأس بالإشارة إلى نبذة منها في المقام ، لتضمحّل الشبهة المذكورة كغيرها ممّا سبق فيه الكلام ، فنقول :

تقرير الدليل العقلي في المقام على الوجهين

اشارة

أمّا الدليل العقلي في المقام على سبيل الإجمال ، فتقريره من وجهين ؛

الوجه الأوّل

أحدهما : ما أشرنا إليه في هذا المقام ، وهو أنّه بعد فرض القطع بثبوت التكليف في موارد الأدلّة المتعارضة بالبناء على وجه معيّن وانسداد باب العلم بتعيينه يتعيّن العمل بالظنّ به ، وذلك بعد إثبات سقوط التكليف بالاحتياط فيها ، للزوم الحرج وغيره ممّا قرّره القائل بحجيّة الظنّ ، ولا يلزم من ذلك الانتقال إلى مطلق الظنّ بالأحكام وإن كان الدليل المذكور على طبق ما ذكروه من الدليل العامّ ، كما مرّ نظيره في الدليل السادس من الأدلّة الّتي أفاده المصنّف - طاب ثراه - في المقام ، ويأتي ههنا أكثر الإيرادات الّتي ذكرها هناك ، والأجوبة الّتي قرّرها في ذلك .

فدعوى أنّ انسداد باب العلم بطريق المعالجة في الأدلّة المتعارضة يوجب انسداد باب العلم بمعظم الأحكام الموجب للانتقال إلى الظنّ بها واضحة الفساد ، إذ بعد إثبات الأدلّة المعتبرة في نظر الشارع بقدر الكفاية لا شكّ في لزوم البناء عند تعارضها على وجه معيّن ، من ترجيح أو تخيير أو غيرهما ، لاتّفاق الاُمّة عليه وإن اختلفوا في تعيينه ، وتطابق الأخبار الواردة هناك في الأدلّة عليه وإن اختلفت في بيان طريقه ، فلا يجوز الانتقال عنه إلى الظنون الخارجة عن هذا المقام ممّا لا يرتبط به .

ألا ترى أنّه لو انسدّ باب العلم في باب مخصوص من أبواب الفقه - كتميز الحيض عن الاستحاضة - أو في بعض الموضوعات الخاصّة - كتشخيص الأوقاف الواقعيّة ونحوها من الأُمور العامّة - امتنع الرجوع إلى الظنّ في ساير

ص: 508

الأبواب والموضوعات الّتي لا يكون بتلك المثابة .

وكذا لو انسدّ باب العلم في مسألة خاصّة - كمسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بعد فرض بقاء التكليف فيها لم يلزم من العمل بالظنّ فيها حجيّة الظنّ في ساير المسائل ، أو انسدّ باب العلم بالأحكام بالنسبة إلى شخص خاصّ أو فى زمان خاصّ أو في حالة مخصوصة لم يلزم من حجيّة الظنّ في تلك المقامات حجيّته في غيرها ، وهذا ظاهر .

فإن قلت : إنّا نمنع من بقاء التكليف بالعمل بالأدلّة بعد تعارضها الموجب لتساقطها ، وإنّما المسلّم بقاء التكليف بالعمل بالأحكام الشرعيّة في تلك الحال ، للزوم الخروج عن الدين بدونه ، فيلزم الانتقال إلى مطلق الظنّ بها .

قلت : ما أشرنا إليه من الإجماع والأخبار كافٍ في إثبات التكليف بذلك ، لوضوح أنّ الإعراض عن مطلق الأدلّة الشرعيّة بمجرّد حصول المعارضة فيها خروج عن الطريقة الجارية بين كافّة المسلمين ، ورجوع عن اليقين إلى الظنّ والتخمين ، ولذا ترى القائلين بالظنّ المطلق أيضاً عاملين بمسائل التعادل والتراجيح فيما ثبت عندهم حجيّته من الظنون المخصوصة ، وأقصى مرامهم عدم حصول الاكتفاء بها ولزوم الخروج من الدين بالاقتصار عليها .

ونحن بعد أن أثبتنا حجيّة الأدلّة الشرعيّة بما تقدّم تفصيله من الوجوه القطعيّة بقدر الكفاية أنكرنا عليهم الرجوع إلى مطلق الظنّ ، فالعمل بقواعد التعادل والتراجيح المقرّرة في الأدلّة الثابتة في الشريعة مسلّم بين الفريقين في الجملة ، فيلزم الانتقال عند انسداد باب العلم بتفصيلها ، وعدم حصول الاكتفاء بالقدر المتّفق عليه المتيّقن منها في سقوط التكليف المتعلّق بالعمل عليها إلى الظنّ بها من دون ساير الظنون ، كما قرّرنا .

ص: 509

نعم ، قد وقع الخلاف بين الاُمّة ، وحصل الاختلاف في الأخبار العلاجيّة عند تعادل الأدلّة في بقائها على الحجيّة أو تساقطها وسقوطها عن الاعتبار بالكلّيّة ، فغاية الأمر عدم الرجوع إلى الظنّ في تلك المسألة الخاصّة إن لم يقم عندنا دليل على بقائها على الحجيّة ، فيكون إذن من شرايط حجيّتها عدم معارضتها بما يعادلها ، وذلك خروج عن مفروض المسألة ، فيرجع في مواردها إلى الاُصول العمليّة ، كساير الموارد الّتي يتعذّر فيها إقامة الأدلّة ، ولا يلزم هناك محذور في العمل عليها ، لندرة مواردها بالنسبة إلى غيرها ، وإنّما نقول بالانتقال إلى الظنّ عند بقاء الأدلّة على اعتبارها ولزوم العمل عليها في تلك الحال .

الوجه الثاني

الوجه الثاني : أنّ كلّ واحد من الأدلّة المتعارضة بعد ثبوت اعتبارها وحجيّتها مطلقاً بما تقدّم من الأدلّة يستدعى العمل على حسبه ، وحيث تعذّر العمل بجميعها وجب العمل ببعضها ، إذ لا يلزم من تزاحم الحقوق الثابتة سقوطها بالكلّيّة ، فإذا تعادلت الأمارات وتساوت من جميع الجهات فإن ثبت بقاء إعتبارها في تلك الحال ولزوم العمل ببعضها في ذلك المجال حكم العقل بالتخيير ، لامتناع الترجيح من غير مرجّح ، ومنافاة رفع اليد عن الجميع للفرض المذكور ، وإنّما الخلاف في التخيير والتساقط يرجع إلى تسليم الفرض المذكور ومنعه ، فلا خلاف بعد تسليمه وإلاّ لزم رفع اليد عن جميعها والرجوع إلى الاُصول المقرّرة في مواردها ، إذ كما أنّ الأصل في كلّ طريق يشكّ في اعتباره من أصله عدم حجيّته بما تقدّم من الأدلّة الدالّة عليه ، كذلك الأصل في كلّ طريق ثبت حجيّته في الجملة أن يقتصر في الحكم باعتباره على القدر الثابت منه ، ولا يكفي استصحاب بقائه على الحجيّة الثابتة له قبل حصول المعارض ، لعدم الدليل على حجيّة الإستصحاب في أمثال ذلك على ما تقرّر في محلّه .

ص: 510

وأمّا إذا ترجّحت الأدلّة بعضها على البعض فلاشكّ في بقائها على الحجيّة ، وعدم سقوطها عنها بمجرّد المعارضة ، فإن حصل الظنّ أيضاً بلزوم العمل بمطلق الراجح منها وتحريم اختيار المرجوح مطلقاً لزم الرجوع إليه ، وقطع العقل بقبح ترجيح المرجوح عليه ، لأنّ العدول عن الراجح إليه حينئذٍ يوجب الظنّ بترتّب العقاب عليه ، ولاشكّ في استقلال العقل بلزوم التحرّز عنه .

وإن لم يحصل الظنّ بذلك رجع الأمر بعد ثبوت الحجيّة في الجملة إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل فيه أيضاً اختيار المعيّن حتّى يقوم الدليل على التخيير ، للقطع بجوازه وحصول البرائة بالعمل به والشكّ في غيره المانع من حصول الأمن من ترتّب العقاب عليه ، فيحصل الخوف الموجب لحكم العقل بالتحرّز عنه ، فثبت بذلك الاكتفاء في الترجيح بجميع المرجّحات المذكورة في كتب القوم من الداخليّة والخارجيّة والمنصوص عليها في النصوص وغيرها .

نعم ، لو حصل الشكّ عند بعض المرجّحات في بقاء الدليل على اعتباره في تلك الحال وعدمه امتنع الاستناد إليه حينئذٍ ، لتوقّف حكم العقل في ذلك على إثبات بقائه على الحجيّة .

وبه يظهر وجه آخر للمنع من العمل بالمرجوح ، لحصول الشكّ في حجيّته وبقاء اعتباره عند معارضته بأقوى منه ، فيندرج في أصالة المنع من العمل به ، ويخرج بذلك عن فرض المعارضة بين الدليلين ، إنّما يدور الأمر إذن بين العمل بالحجّة المعلومة والمجهولة ، فيرجع إلى القسم الثاني من الأقسام الثلاثة المفروضة .

وأمّا الأدلّة النقليّة في المقام ، فهي بعد الإجماع المعلوم في الجملة

ص: 511

والمنقول في عبارات جماعة من العامّة والخاصّة الأخبار العلاجيّة المستجمعة لشرايط الحجيّة على حسب ما تقدّم في إثبات الأدلّة ، إلّا أنّ الاستناد إليها في موارد تعارضها لا يسلم من محذور الدور في الجملة ، فاللاّزم حينئذٍ هو الاقتصار على القدر السالم من ذلك .

وإنّما يتمّ ذلك في مقامين ؛

أحدهما : أن يحصل هناك واحد من المرجّحات الواردة في الأخبار المعتبرة أو المذكورة في موارد الإجماعات المنقولة المعتضدة بقرائن الصحّة ، أو المتعدّد منها مع توافقها وتعاضدها ، لا مع تعارضها وتناقضها .

والآخر : أن يترجّح بعض المرجّحات المتعارضة ببعض المرجّحات الثابتة ، فيتعيّن الأخذ بالراجح منها ، نظراً إلى ثبوت الترجيح بها ، لا لتلك الأخبار بعينها حتّى يدور الاحتجاج ، فيلزم التوقّف عن الترجيح في مقام الشّك ودوران الأمر بين المرجّحين ويحكم بالتخيير أو التساقط على اختلاف الوجهين .

المعارضة بين الأدلّة الظاهرية يتصوّر على وجوه أربعة

اشارة

وتوضيح المقام أنّ فرض المعارضة بين الأدلّة الظاهريّة يتصوّر على وجوه أربعة ؛

الوجه الأوّل : تعارض الظنيين

اشارة

[الوجه] الأوّل : تعارض الظنيّين من حيث السند مع تساويهما بحسب الدلالة ، قطعيّة كانت أو ظنيّة ، وهذا مورد الأخبار العلاجية ، إذ لا نظر فيها إلى اختلاف مراتب الدلالة بحسب الضعف والقوّة ، والوارد في النصوص المعتبرة منها اُمور مخصوصة منها الترجيح بالأعدلية والأفقهيّة والأصدقيّة في الحديث والأورعيّة عند معارضة الخبر الموصوف بها على الموصوف بمقابلاتها ، كما

ص: 512

دلّت عليه المقبولة المشهورة الّتي اتّفق المشايخ الثلاثة وغيرهم على روايتها(1) واستقرّ عمل الأصحاب عليها ، واستفاض نقل الإجماع على مضمونها ، وقد أغنى اشتهارها واستقرار العمل على مضمونها عن النظر في سندها ، حتّى اشتهرت من بين الأخبار بإسم المقبولة ، وقد قدّم الترجيح بذلك على ساير المرجّحات بحسب الذكر لا بحسب الاعتبار ، إذ التّقديم الذكري لا يدلّ على التقديم بحسب الحجيّة إلاّ من حيث الإطلاق الدالّ على اعتباره مع وجود المرجّحات المتأخّرة وعدمها ، إلّا أنّ شموله لصورة معارضته بها محلّ منع ظاهر ، لخروجه عن سياقها وعدم وروده في مقام بيانها . على أنّا نقطع بأنّ المرجّح المذكور بعد ذلك المعلّل بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه لا يتأخّر عن الأوّل بحسب الاعتبار ، وهو أدلّ دليل على أنّ الترتيب الحكمي غير مقصود في تلك الرواية وغيرها .

وقد ورد عكس هذا الترتيب في مرفوعة زرارة المرويّة في كتاب عوالي اللئالي عن العلّامّة(2) وهي وإن لم يكن مستجمعة لشرايط الاعتبار من حيث السند إلاّ أنّ مضمونها متأيّد بالاشتهار ، فلا يقدح فيه ضعف السند ، والوارد فيها : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » .

وروى الأئمّة الثلاثة بأسانيدهم عن داود بن الحصين في اختلاف العدلين في حكمهما : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا

ص: 513


1- انظر : الكافي 1 / 67 ، ح 10 - الفقيه 3 / 8 ، ح 3233 التهذيب 6 / 301 ، ح 845 - الاحتجاج 2 / 106 .
2- عوالي اللئالي 4 / 133 ، ح 229 - مستدرك الوسائل 17 / 303 ، ح 2 .

يتلفت إلى الآخر »(1) .

والترجيح بما ذكر معروف بين الأصحاب ، مسلّم بينهم وإن لم يصرّح به الكليني في أوّل الكافي عند ذكر المرجّحات ، إذ ليس غرضه هناك استيفاء الكلام في المرجّحات ، وإنّما غرضه التنبيه عليها في الجملة .

كلام صاحب الحدائق في المقام

وأعجب شي ء في المقام ما ذكره بعض المحدّثين في وجه ذلك ، من أنّه لمّا كانت أحاديث كتابه كلّها صحيحة عنده - كما صرّح به في غير موضع من ديباجة كتابه - فلا وجه للترجيح بعدالة الراوي . واحتمله صاحب الحدائق(2) ، واحتمل أيضاً أن يكون غرضه أنّ في الترجيح بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة فيه غنية عن الترجيح بعدالة الراوي .

وفساد الوجهين غنيّ عن البيان ، لأنّه إن أراد بصحّة أخبار الكتاب القطع بصدورها أجمع عنهم عليهم السلام - كما زعمه بعض القاصرين - كان مخالفاً لضرورة الوجدان ، وإن أراد القطع بوجوب العمل عليها لم يمنع ذلك من الترجيح بها ، وأمّا الاكتفاء بساير المرجّحات فلا معنى له عند فرض انتفائها وانحصار المرجّح فيما ذكر .

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المستفاد من المرجّح المذكور ترجيح أوثق الخبرين من الجهة الراجعة إلى صفات الراوي ، وبه يجمع بين التعبيرات المختلفة في الروايات الثلاث ، ولا دلالة فيها على الوثاقة الحاصلة من القرائن الخارجيّة ، وإلاّ لاندرجت فيه المرجّحات الباقية ، إذ المراد بالأوثق في المرفوعة أوثق

ص: 514


1- انظر : الفقيه 3 / 5 ، ح 3233 - التهذيب 6 / 301 ، ح 843 .
2- احتمله صاحب الحدائق ونقله عن بعض مشايخه في الحدائق 1 / 97 .

الراويين لا أوثق الروايتين ، وكذا المراد بالأصدق أصدق المخبرين دون الخبرين .

نعم ، ربّما يمكن استنباط المناط من ذلك على حسب ما فهمه الأصحاب منها ، وذلك أمر آخر . ولا فرق في استنباط ذلك لو صحّ بين الألفاظ المذكورة في تلك الأخبار .

مناقشة الشيخ الأنصاري فيه

وزعم بعض أفاضل المعاصرين(1) أنّ إناطة الترجيح بأحد الوصفين المذكورين يدلّ على أنّ المناط في ذلك كون أحد الخبرين بحسب المضمون أقرب إلى مطابقة الواقع من مضمون الآخر ، سواء كان لمرجّح داخلي أو خارجي ، قال :

جواب المصنّف عن الشيخ الأعظم

« فإنّا نعلم أنّ وجه الترجيح بصفة الأصدقيّة في الحديث ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقرب إلى الواقع من خبر غيره ، وليست هذه الصفة مثل الأعدليّة وشبهها في احتمال كون العبرة بالظنّ الحاصل من جهتها بالخصوص ، ولذا اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق وثاقته ، لأنّ صفة الصدق ليست إلاّ المطابقة للواقع ، فمعنى الأصدق هو الأقرب إلى الواقع ، فالترجيح بها يدلّ على أنّ العبرة بالأقربيّة من أيّ سبب حصلت ، - وكذا - معنى الأوثقيّة شدة الإعتماد ، فإذا حصل هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجّح خارجىّ اتّبع » .

هذا كلامه ، وفيه نظر ظاهر ، فإنّه إن أراد أنّ الأصدقيّة الأوثقيّة وظاهران في اعتبارهما بالنظر إلى ذلك الخبر المخصوص فمتى اعتضد الخبر بالمرجّح

ص: 515


1- وهو الشيخ الاعظم الأنصاري قدس سره في فرائد الاصول 1 / 610 و611 .

الخارجي تحقّق موضوعهما بالنّسبة إليه وإن لم يتّصف الراوي بهما من حيث نفسه فهو بعيد جدّاً ، بل يكاد يقطع بخلافه ، إنّما يتمّ ذلك بإرجاع الضمير فيهما إلى الخبرين ، وهو مع ما فيه من التفكيك بين الضماير كما ترى .

وإن أراد أنّ الترجيح بهما يدلّ على إناطة الحكم بأقربيّة المضمون إلى الواقع ، نظراً إلى عدم ورود التعبّد بهما في الشرع ، بخلاف الأعدل و الأفقه والأورع - لورود إناطة الحكم بموادّها في الشرع - فلا يخفى ضعفه ، فإنّ تعليق الترجيح على تلك المفاهيم لا ربط له بساير الأحكام المعلّقة على موضوع العدل والفقه من باب التّعبّد ، لإمكان توقّفه على حصول مصداقها في الراوي تعبّداً .

وإن أراد استنباط المناط من سوق العبارة أو من القرائن الخارجة فالعبارات المذكورة مشتركة في ذلك ، فلا وجه للتفرقة بينهما .

ثمّ لا يخفى أنّه لا يلزم في الترجيح بما ذكر اجتماع الصفات المذكورة ، لأنّ سياق الأخبار يعطي جواز الترجيح بكلّ واحدة منها ، ولذا فهم الراوي من الكلام المذكور مطلق التفاضل حيث قال ثانياً : فإنّهما عدلان مرضيّان لا يفضل واحد منهما على الآخر . فيدلّ بفحواه على اعتبار ساير الصفات الحاصلة في الراوي الموجبة لزيادة الوثوق بأحد الخبرين من حيث نوعها ، مع ترتّب الأثر المذكور عليها بالفعل من حيث شخصها ، فلو حصلت الصفات المذكورة للراوي من غير أن تفيد زيادة الوثوق بروايته لانضمامها إلى صفة اُخرى فيه مانعة بحسب النوع ، أو لانضمام الخبر إلى خصوصيّة مانعة من ترتّب الأثر المذكور على تلك الصفات بحسب الشّخص لم يثبت الترجيح بها ، لعدم انصراف تلك الأخبار إلى ملاحظة تلك الصفات من باب التعبّد المحض ، واعتبارها من حيث شأنيّتها لإفادة الترجيح وإن لم يحصل لمانع غير ظاهر منها أيضاً ، إنّما المتيقّن

ص: 516

منها الترجيح بها مع إفادتها لزيادة الوثوق فعلاً ، كما فهمه الأصحاب منها ، أمّا مع تعارض الصفات في راوي الخبرين - كأن يكون أحدهما أعدل والآخر أفقه - فالمدار على ما يوجب زيادة الوثوق نوعاً وشخصاً ، ومع تساويهما في النوع فالمدار على الشخص ، بناء على استنباط المناط المذكورة ولا عكس ، ومع تساويهما فيها فلا ترجيح .

الترجيح باشتهار أحدهما بين الأصحاب وشذوذ الآخر

ومنها : الترجيح باشتهار أحدهما بين الأصحاب وشذوذ الآخر ، نصّ عليه في المرفوعة ، وفي المقبولة : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ، [ و ] « وإنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللَّه ورسوله ، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم »(1) .

وليس المراد بالإجماع فيه اتّفاق الكلّ ، بل المراد ما يصدق عليه اشتهاره بين الأصحاب(2) ولذا سئل الراوي ثالثاً فقال : « فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » .

وليس المقصود أنّ المشهور هناك بالمعنى المصطلح عليه(3) ليندفع بحدوث الاصطلاح وكونه في اللغة بمعني الظاهر من قولهم : شهر السيف ،

ص: 517


1- الكافي 1 / 67 ، ح 10 ، وسائل الشيعة 27/157 ، ح 9 .
2- انظر : الوافي 1 / 294 - 290 .
3- انظر : الوافي 1 / 294 - 290 .

وموافقته للفظ الإجماع لأنّه أصرح منه فلا يتّجه العكس ، وتعلّقه بالجمع المضاف المفيد للعموم ، وتعليله بنفي الريب ، وإدراجه في بيّن الرشد وفي الحلال البيّن ؛ بل المقصود صدق الاشتهار بين الأصحاب على الخبر الظاهر المعروف بينهم بشيوعه واشتهاره بين الأكثر منهم .

فليس المقصود من لفظ المشهور ولا من لفظ الإجماع استيعاب أقاويل كافّة الأصحاب من المشرق إلى المغرب ، فإنّ سوق الكلام ومقامه يأبى عن ذلك ، وقد عرفت أنّ الراوي أيضاً إنّما فهم من ذلك رواية الثقات له وشيوعه بين الأصحاب .

نعم ، لابدّ من صدق البيّن عليه ونفي الرّيب عنه ، لظهور إدراجه في البيّن في الكلامين ، وإدراج الشاذّ في الأمر المشكل والشبهة المذكورين فيهما ، وهو الّذي لا يرفع الريب ، ويختصّ بروايته بعض الأصحاب خاصّة ، بحيث لا يصدق عليه البيّن الظاهر ، والترجيح بما ذكر ممّا لاشكّ فيه ، بل هو حينئذٍ أقوى من ساير المرجّحات ، لظهور ترجيح ما لا ريب فيه على ما فيه الريب وإن استجمع ساير المرجّحات ، ففي التعليل المذكور أوضح دلالة على تقديمه على غيره ، ولذا اشتهر أن الشهرة من أقوى المرجّحات ، لكن ظاهر الخبر الشهرة في الرواية ، ويستلزمها شهرة الفتوى إذا علم استنادها إلى تلك الرواية بخصوصها ، وإلّا لم يندرج في المقبولة إلاّ من حيث المناط والعلّة المنصوصة وإن اندرجت في المرفوعة .

وقد يتوهّم من المقابلة أنّ الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ، ومن الأمر البيّن غيّه ، ومن الحرام البيّن ، وهو ضعيف ، إذ لا معنى لفرض المعارضة والتحيّر في الأمر حينئذٍ ، بل المراد أنّ فيه الريب ، أمّا المشهور فليس فيه الريب الّذي يوجد

ص: 518

في الشاذّ ، لا مطلق الريب من جميع الجهات ، ولا مطلق الاحتمال ولوموهوماً ، لحصولها فيه أيضاً . فالمقصود أنّ المشهور ليس فيه ريب ظاهر ، إذ احتمال الخلاف فيه ضعيف ، وأمّا غير المشهور فالاحتمال فيه قويّ يوجب الريب في صحّته ، كالمساوي لغيره .

فإن قلت : ظاهر الخبر أنّ المشهور هو المقطوع به ، لأنّه الظاهر من الشهرة بالمعنى اللّغوي ، ومن نفى الريب عنه ، ومن توصيفه بالمجمع عليه .

قلت : لو كان المقصود من المشهور المجمع عليه الّذي لا يتطرّق إليه احتمال الخلاف لما سأل السائل عن حكم التحيّر فيه أوّلاً ، ولا سأل ثانياً بقوله : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم . وفي المرفوعة : إنّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم . ولا أجاب عليه السلام بالترجيح بالأعدليّة كما في الثانية ، أو بموافقة الكتاب والسنّة كما في الاُولى ، وحينئذٍ فيكون العلّة المنصوصة دليلاً على رجحان كلّ خبر يكون نسبته إلى معارضه مثل نسبة المشهور إلى غيره ، فيدلّ على تقديم الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقة مدلوله للواقع على غيره ، لكون مضمونه كمضمون الخبر المشهور ممّا لا ريب فيه في مقابلة خلافه .

فإن قلت : تطرّق الاحتمال إلى المشهور لا ينافي القطع ببطلان الشاذّ واندراجه في بيّن الغيّ ، لإمكان الواسطة .

قلت : توصيف الشاذّ في الخبر بالّذي ليس بمشهور عند الأصحاب ظاهر في دوران الأمر بين المشهور وغيره ، فلا يعقل الواسطة بينهما . على أنّه إذا اندرج المشهور مع قيام احتمال الخلاف فيه في بيّن الرّشد أمكن اندراج الشاذّ مع احتمال صحّته في بيّن الغيّ ، غير أنّ سياق الرواية يعطي اندراجه في المشكل

ص: 519

والشبهة ، ودخول البيّن بقسميه في المشهور لتقارن مفهوميهما بحسب اللّغة ، فالشّاذّ هو الّذي يقوّى فيه احتمال الخلاف بحيث يوجب الإشكال والشبهة ، فكلّ خبر يكون بهذه المثابة لا عبرة به وإن صحّ طريقه وسلم عن المعارض ، وكلّ خبر أفاد الوثوق الحاصل في المشهور يجوز العمل به وإن انتفى الوصفان ، وقد عرفت فيما مرّ إستقرار العمل على هذا الميزان ، فتأمّل .

هذا ، ولكن في التمسّك بالمقبولة في المقام نوع كلام من حيث ورودها في مقام اختلاف الحاكمين فيما حكما به من أمر المتنازعين في دين أو ميراث ، وفيها : وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال عليه السلام : الحكم ما حكم به أعدلهما . ثمّ عدل عليه السلام في المرجّحات الباقية إلى ترجيح الخبرين ، كما وقع السّؤال عن تعارضهما أيضاً .

اشكال في المقام
اشارة

ووجه الإشكال أوّلاً : أنّ وظيفة المتداعيين الرجوع إلى الحاكم ، دون النظر في دليله .

وثانياً : أنّ العامي لا طريق له إلى معرفة تلك المرجّحات غالباً .

وثالثاً : أنّ حكم القاضي الأوّل يمضى عليها ، سواء وافقه القاضي الثاني في الاعتقاد أو خالفه ، بل وإن تأيّد الثاني بالمرجّحات المذكورة ، فلا وجه للرجوع إلى الثاني وحكمه بعد فصل الخصومة بالأوّل فضلاً عن ترجيح الثاني ببعض المرجّحات ، وإلّا لم ينقطع الخصومة لإمكان اختلافهما في المرجّحات أيضاً .

ورابعاً : أنّ الفحص عن ساير الأخبار ومرجّحاتها لازم على كلّ من الحاكمين ، فكيف جاز لهما المسامحة في ذلك وصار الرجوع إلى ذلك وظيفة المتداعيين ؟

جوابه

وقد يجاب بأنّ مورد الحديث ليس مجرّد القضاء وفصل الخصومة ، بل

ص: 520

الغرض الاستفتاء في حكم الواقعة ، فقدّم عليه السلام فتوى أوثقهما ، ثمّ طرح فتواهما جميعاً والأمر بالنظر في حديثهما .

فما يقال : إنّ الرجوع إلى تلك الوجوه بين الفتاوى أيضاً غير معهود بين الأصحاب(1) واضح الجواب ، إذ الترجيح الأوّل مشهور بينهم ، والباقي ترجيح بين الأخبار المعمول عليها بين العوامّ أيضاً في الصدر الأوّل ، إنّما لا يمكن رجوع العوامّ إليها في الأعصار المتأخّرة ، والغالب في العصر السابق هو الروايات ؛ وربّما يحمل القاضي هناك على قاضي التحكيم ، فلا يلزم المتحاكمين حكمه في الجملة ، وهو كما ترى ، كيف وقد ورد ذلك بعد التصريح بنصب الحاكم العامّ !

ويمكن إبقاء الرواية على ظاهرها ، إذ كما يجب الترجيح بين الخبرين كذا يجب بين الحكمين المتناقضين إذا صدر كلّ منهما من أهله في محلّه ، والترجيح في المقام وظيفة المتخاصمين إن أمكنهما ذلك وارتفع الخصومة به ، وإلّا لزمهما الرّجوع إلى الثالث ويكون النظر في الترجيح بين الحكمين موكولاً إليه ، وبه يفصل الخصومة ويرتفع الخلاف الحادث ، فيدلّ بسياقه وفحواه على جواز الترجيح بين الخبرين في غير ذلك المقام أيضاً .

ويمكن أن يقال أيضاً : إنّه عليه السلام قد بيّن الوجوه المعتبرة في ترجيح الخبرين المتعارضين ليفهم منها الوجه في ترجيح الحكمين المستندين إليهما ، إلّا أنّه في الوجه الأوّل منها ذكر ترجيح الحكمين على وجه دلّ على ترجيح الخبرين به . وبالجملة ، فدلالته على ثبوت الترجيح بتلك الوجوه بين الأخبار واضحة ، وقد فهمه الأصحاب أيضاً ، وذلك كاف فيما قصدناه .

ص: 521


1- لمزيد البيان اُنظر : نهاية الدراية 3 / 476 - 475 .
الترجيح بموافقة الكتاب

ومنها : الترجيح بموافقة الكتاب الكريم ، وقد تواترت الأخبار في الدلالة على هذا المعنى ، ومن المعلوم أنّه ليس المقصود الموافقة لما يفيد القطع بالواقع وإن اشتمل جملة منها على أنّ ما يخالفه باطل وزخرف ومردود ، ولا يكون ذلك إلاّ مع المخالفة الواقعيّة ، إلّا أنّ ذلك تنبيه على حكمة الحكم ، وإلاّ فقلّ ما يتّفق إفادة اللفظ لليقين ، غاية الأمر أن يكون نصّاً في المطلوب ، فيقوم فيه احتمال النسخ ، فكيف يحمل عليه تلك الأخبار المتكثرة ؟ فهي أدلّ دليل على حجيّة ظواهر الكتاب كالسنّة على ما عرفت ، ولا شكّ أنّ موافقة أحد الخبرين لظاهر الكتاب يقتضى مخالفة الآخر له في محلّ المعارضة ، ولا ريب في الترجيح به عند تعادل المتعارضين من ساير الجهات ، لترجّح الموافق حينئذٍ على غيره ، ولو فرض بقاء التعادل مع الملاحظة المذكورة فلا أقلّ حينئذٍ من تساقطهما الموجب لسلامة الكتاب عن المعارض السليم ، إذ التخيير حينئذٍ ممّا لم يدلّ عليه عقل ولا نقل سوى إطلاق بعض أخباره المعارض بأقوى منه من جهات عديدة .

هذا إذا دلّ الكتاب على حكم المسألة في نفس الأمر ، أمّا إذا دلّ على بعض الاُصول المقرّرة عند الجهل بالواقع كأصل البرائة فالموافقة له لا يوجب الترجيح .

نعم ، إن قلنا بتساقطها وبطلان التخيير تعيّن الرجوع إليه كساير الاُصول العمليّة في مواردها ، كما لا يخفى .

الترجيح بموافقة السنّة

ومنها : الترجيح بموافقة السنّة ، ومن المعلوم عندنا عدم الفرق فيها بين النبويّة والإماميّة ، وفي الأخبار تصريح بكلّ منهما ، وكان المراد به السنّة المعلومة ، والترجيح بها كالترجيح بالكتاب فيما ذكر .

أمّا السنّة المرويّة ، فإن أفاد اعتضاد أحد المتعارضين بها قوّة في الظنّ

ص: 522

الحاصل منه فلا شكّ في الترجيح به ، لكون مقابله حينئذٍ موهوماً ، أمّا مع المساوات وبقاء التعادل فلا وجه للترجيح ، إذ المفروض حصول المعارضة بين جنس الخبرين ، فلا وجه لترجيح أحدهما بالتعدّد إلاّ من حيث إفادته لقوّة الظنّ في جانبه ، كما هو الغالب في الفرض المذكور ، فإنّا إذا وجدنا الخبرين متعادلين من جميع الجهات ثمّ وجدنا لأحدهما موافقاً تكون للآخر مخالفاً فلا محالة يتقوّى الظنّ في جانبه ، إلاّ أن يعارضه بعض الخصوصيّات الحاصلة في المقام ، فالمدار في ذلك على التقوية ، بخلاف الموافقة للكتاب والسنّة المعلومة ، لثبوت الترجيح بها مع بقاء المعادلة على ما عرفت .

وفي رواية الحسن بن الجهم عن مولانا الرضا عليه السلام « قلت : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، قال : ما جائك عنّا فقسه على كتاب اللَّه عزّوجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبهما فهو منّا ، وإن لم يشبههما فليس منّا »(1)(2) .

وقد يستفاد منه الترجيح بموافقة القياس ، فإنّ عدم حجيّته لا يمنع من الترجيح به بعد حصول القوّة في الموافق له ، كما حكاه المحقّق في المعارج(3) معلّلاً بحصول الترجيح به ، فيكون رافعاً للعمل بالمرجوح ، فيعود الراجح كالسليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بالقياس .

ثم تنظّر فيه ، وهو في محلّه ، لاستمرار سيرة الأصحاب في استنباط الأحكام على عدم الاعتناء بالقياسات العاميّة وغيرها ، وإلاّ لاحتاجوا إليها في

ص: 523


1- الإحتجاج 2 / 108 ، وسائل الشيعة 27 / 121 ، ح 40 .
2- صححناها من المصدر وفي المطبوعة الحجرية هكذا « فان كان يشبهها فهو منّا وان كان لا يشهها فليس منّا » .
3- معارج الاُصول / 187 - 186 .

كثير من المقامات ، وتمسّكوا وذكروا شرطها . وأمّا الخبر المذكور فظاهره موافقة أحدهما لظاهر الكتاب والسنّة ، كما في غيره من الأخبار ، فالمراد المشابهة في الدلالة .

الترجيح بمخالفة العامّة

ومنها : الترجيح بمخالفة العامّة ، و قد تكثّرت الأخبار في ذلك ، وإطلاقها يقتضي الترجيح بها ولو مع بقاء المساواة والمعادلة مع تلك الملاحظة ، وظاهر القوم إناطة الترجيح بذلك بحصول التقوية ، تنزيلاً للأخبار على ما هو الغالب من حصول القوّة في جانب المخالف بعد فرض تعادل المتعارضين من ساير الجهات ، ولذا علّل بأنّ الرشاد في مخالفتهم ، وأنّ الحقّ فيما خالفهم .

وذلك إمّا لقرب الخبر الموافق لهم إلى التقيّة أو الاتّقاء ، أو لأنّهم بذواتهم المنكوسة وقلوبهم المعكوسة لا يرتضون غالباً إلاّ الباطل .

وعلى الأوّل ، فالمدار على وجود القول بذلك حال صدور الخبر ، فإذا اختلفت العامّة بحسب اختلاف الخبرين فالمدار على مخالفة الراجح للأكثر أو الأعرف الأشهر أو الحاضر في البلد مع تحقّقها حال صدورهما ، إذ لا فائدة في الشهرة الحاصلة بعد ذلك أو ما أشبهها .

وعلى الثاني ، لا فرق بين الشهرة المقارنة والمتأخّرة ، لأنّه إذن من باب « شاور وهنّ وخالفوهنّ »(1) .

وفي بعض الأخبار(2) عرض الخبرين على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه .

ص: 524


1- رواها الاحسائي في عوالي اللآلي 1 / 289 ح 148 وروى نظيرها في الكافي 5 / 518 ح 11 - اُنظر وسائل الشيعة 27 / 116 وموسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام 11 / 325 .
2- وسائل الشيعة 27 / 118 ح 29 .

وفي رواية اُخرى : « إئت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بالشي ء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه »(1) .

وفي صحيحة إبن بزيع : « إذا رأيت الناس يقبلون على شي ء فأجتنبه »(2) .

وفي رواية اُخرى : « ما أنتم واللَّه على شي ء ممّا هم فيه ، ولا هم على شي ء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم ، فما هم من الحنيفيّة على شي ء »(3) .

وفي اُخرى : « واللَّه لم يبق في أيديهم إلاّ استقبال القبلة »(4) .

وفي اُخرى : « إنّ عليّاً عليه السلام لم يكن يدين اللَّه بدين إلاّ خالف عليه الاُمّة إلى غيره ، إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه عن الشي ء الّذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم شي ء جعلوا له من عند أنفسهم ضدّاً ، ليلبسوا على الناس »(5) .

وعن أبي حنيفة قال : « خالفت جعفراً في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكن لا أدري هل يغمض عينيه في الركوع أو يفتحهما ؟ »(6) .

ولأجل هذه الأخبار زعم بعضهم لزوم الأخذ بخلافهم وإن لم يكن في مقام التعارض ، وهو كما ترى .

الترجيح على الخبر الذي حكّامهم وقضاتهم إليه أميل

ومنها : الترجيح على الخبر الّذي حكّامهم وقضاتهم إليه أميل ، وظاهره

ص: 525


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 / 248 ، ح 10 - علل الشرائع 2 / 531 ، ح 2 ، وسائل الشيعة 27 / 115 ، ح 23 .
2- الإستبصار 2 / 237 ، ح 7 - التهذيب 5 / 142 ، ح 142 ، وسائل الشيعة ، 12 / 436 ، ح 10 .
3- الوسائل 27 / 119 ، ح 32 .
4- رواها المحدث البحراني في الحدائق 23 / 353 .
5- علل الشرائع 2 / 531 ، ح 1 ، وسائل الشيعة 27 / 116 ، ح 24 .
6- لم نجد له مصدراً إلّا ما حكاه المحدث الجزائري في زهرالربيع / 522 .

أيضاً ما ذكرناه .

الترجيح بتأخّر التاريخ

ومنها : الترجيح بتأخّر التاريخ ، رواه في الكافي عن أبي عبداللَّه عليه السلام « قال : أرأيت لو حدّثتك بحديث العامّ ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير ، فقال : رحمك اللَّه »(1) .

وهذا مخصوص بمورده ، لكون الثاني إذن مبنيّاً على ملاحظة المصالح الّتي من أعظمها التقية أو الاتّقاء التابعة لموردها ، فلا يجوز للمخاطب العدول عنها ، بخلاف غيره من المكلّفين بعد القطع بعدم تطرّق النسخ إلى الأحكام بعد إكمال الدّين وإتمام الإنعام ، فلا فرق بين المتقدّم والمتأخّر في الكشف عن الحكم الواقعي ، نعم ، يتمّ الترجيح بذلك في الأخبار النبويّة .

ويرشد إلى ما ذكرناه الخبر الآخر المرويّ فيه عن المعلّى بن خنيس ، قال : « قلت له عليه السلام إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ ؟ قال : خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ ، فخذوا بقوله . ثمّ قال عليه السلام : إنّا واللَّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم »(2) .

ألا ترى أنّه لم يفرّق بين الخبرين وإنّما خصّ الترجيح بخبر الحيّ وعللّه بما ذكر نعم ، في الكافي : وفي حديث آخر : خذوا بالأحدث .

قال الصدوق في باب الرجل يوصى إلى رجلين عند ذكر خبرين مختلفين : « لو صّح الخبران جميعاً لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه السلام وذلك لأنّ الأخبار لها وجوه ومعانٍ ، وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه

ص: 526


1- الكافي 1 / 67 ، ح 8 ، وسائل الشيعة 27 / 109 ، ح 7 .
2- الكافي 1 / 67 ، ح 9 ، وسائل الشيعة 27 / 109 ، ح 8 .

من غيره من الناس »(1) .

الترجيح بموافقة الاحتياط في الدين

ومنها : الترجيح بموافقة الاحتياط في الدين ، فيترك ما خالفه .

ورد ذلك في المرفوعة ، ويعضدها أوامر الاحتياط إن حملت على الإيجاب ، وبها يخصّ عموم ما دلّ على التخيير كما خصّ بالمرجّحات السابقة ، وليس ذلك من باب تساقط المتعارضين بعد تعادلهما ، فإنّ ذلك لا يقتضي الرجوع إلى قاعدة الاحتياط على الاطلاق ، لاختلافه في الوجوب والاستحباب بحسب اختلاف المقامات ، بل هو من باب ترجيح الموافق على المخالف .

لكن لا يخفى أنّ موافقة الاحتياط لايوجب قوّة الموافق بحسب الحكم الواقعي ، لأنّ أصل الاحتياط لا نظر له إلى الواقع بالكلّيّة ، فالأولى تقييده بما يقيّد به أوامر الاحتياط من الموارد الّتي يجب العمل عليه فيها ، أو حمله على ما تحمل عليه من الاستحباب ، ترجيحاً له على تخصيصها بالأكثر ، إذ المرفوعة لا تستجمع شرايط الحجيّة ، وأوامر التوقّف و الإرجاء والردّ إلى الإمام عليه السلام لاتدلّ على وجوب الاحتياط في مقام العمل ، فالصواب الرجوع في ذلك إلى مقتضى الأصل المقرّر في محلّه المختلف باختلاف موارده ، فيقدّم الخبر الموافق له على ما يخالفه ، إمّا من حيث الترجيح به ، وإمّا من جهة التساقط الموجب للرجوع إليه .

والأكثر أثبتوا الترجيح بذلك ، واختلفوا في ترجيح الناقل على المقرّر ، لرجحان التأسيس على التأكيد ، وبالعكس لغلبة المقرّر وتعاضده .

ص: 527


1- الفقيه 4 / 203 ، ذيل حديث 5472 .

والفرق بينه وبين الوجه الآخر أنّ المعتضد بالأصل على هذا دليل اجتهاديّ ، وعلى التساقط يكون المستند مجرّد الأصل العملي ، وحيث إنّ المرجّح المذكور لا يمنع من تعادل الدليلين أمكن القول بالتخيير ، وهو رابع الوجوه في المقام ، كما يأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه تعالى .

التخيير

ومنها : التخيير ، وإنّما يتمّ ذلك مع استجماع كلّ منهما لشرايط الحجيّة ، وانتفاء مطلق المرجّح ، وعدم منافاته لإجماع وشبهه .

ففي رواية الحسن بن الجهم عن مولانا الرضا عليه السلام المرويّة في الاحتجاج : قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيّهما الحقّ ؟ فقال : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت »(1) .

وفي المرفوعة(2) في الموافقين للاحتياط أو المخالفين : « إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به وتدع الآخر » .

وفي موثّقة سماعة المروية في الكافي عن أبي عبداللَّه عليه السلام [ قال : « سألته ]عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه والآخر ينهاه ، كيف يصنع ؟ قال : يرجئه حتّى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتّى يلقاه »(3) .

قال في الكافي بعد ذلك : وفي رواية : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » .

ص: 528


1- الإحتجاج 2 / 108 ، وسائل الشيعة 27 / 121 ، ح 40 .
2- مرفوعةالعلّامة المذكورة في عوالي اللئالي 4 / 133 ، ح 229 ، مستدرك الوسائل 17 / 303 ، ح 2 .
3- الكافي 1 / 66 ، ح 7 ، وسائل الشيعة 27 / 108 ، ح 5 .

وروي الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار قال : « قرأت في كتاب لعبداللَّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في روايتهم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم : أن لاتصلّهما إلاّ على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك ؟ فوقّع عليه السلام : موسّع عليك بأيّة عملت »(1) .

وروى في الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ؟ « الجواب في ذلك حديثان : أمّا أحدهما فإنّه : إذا انتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير ، وأمّا الحديث الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر وجلس [ثمّ قام] فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً »(2) .

وظاهر الخبر عموم التخيير فيما شابه موردهما من المتعارضين المتكافئين .

وفي رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم ، فترد عليه »(3) .

قال شيخنا الكليني قدس سره في اوّل الكافي : « وأعلم يا أخي أرشدك اللَّه تعالى أنّه لا يسع أحداً تمييز شي ء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه ، إلّا

ص: 529


1- التهذيب 3 / 228 ، ح 92 ، وسائل الشيعة 27 / 122 ، ح 39 .
2- الإحتجاج 2 / 304 - 303 ، وسائل الشيعة 27 / 121 ، ح 39 .
3- الإحتجاج 2 / 109 - 108 ، وسائل الشيعة 27 / 122 ، ح 41 .

على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله : أعرضوهما على كتاب اللَّه ، فما وافق كتاب اللَّه عزّوجلّ فخذوا به ، وما خالف كتاب اللَّه فردّوه ؛ وقوله عليه السلام : دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم ؛ وقوله عليه السلام : خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه .

ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ ذلك كلّه إلى العالم وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله : بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم(1) ، انتهى .

هناك روايات تدلّ على خلاف التخيير

فإن قلت : إنّ هناك روايات آخر تدلّ على خلاف ما ذكر من التخيير ، كرواية سماعة ، قال : « سألت أبا عبداللَّه عليه السلام [قلت :] يرد علينا حديثان ، واحد يأمر بالعمل به ، والآخر ينهانا عن العمل به ، قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تأتي صاحبك فتسأله عنه . قلت : لابدّ أن نعمل بأحدهما ، قال : اعمل بما فيه خلاف العامّة »(2) .

وفي ذيل المقبولة عند تعادل الخبرين : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات »(3) .

وروى الصدوق في العيون عن أحمد بن الحسن الميثمي « أنّه سأل الرضا عليه السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وكانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الشي ء الواحد ، فقال عليه السلام : ما ورد عليكم من حديثين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللَّه ، فما كان في كتاب اللَّه موجوداً

ص: 530


1- الكافي 1 / 9 - 8 .
2- الإحتجاج 2 / 109 - 108 باختلاف - وسائل الشيعة 27 / 122 ، ح 42 .
3- الكافى 1 / 67 ، ح 10 - الفقيه 3 / 8 ، ح 3233 - وسائل الشيعة 27 / 106 ، ح 1 .

حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهى حرام أو مأموراً به عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أمر التزام(1) فاتّبعوا ما وافق نهي النبي وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الّذي يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأيّهما شئت ، ويسعك(2) الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وما لم تجدوه في شي ء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا »(3) .

ففي هذا الخبر بيان معنى أحاديث التخيير ، ومرجعه إلى استظهار الحكم فيه من الخارج ، فيجب التوقّف بدونه .

وروى في الكافي عن إبن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من يوثق به ومنهم من لا يوثق به ، قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وإلاّ فالّذي جائكم أولى به »(4) .

وفيه دلالة على طرح المختلفين وإن اختلفا في الوثوق وعدمه ، بل على

ص: 531


1- في المصدر : إلزام .
2- في المصدر : وسعك .
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 / 24 - 20 ، ح 45 ، وسائل الشيعة 27 / 113 ، ح 20 .
4- الكافي 1 / 69 ، ح 2 ، وفيه « يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ... » - وسائل الشيعة 27 / 110 ، ح 11 .

طرح مطلق الخبر الّذي لا شاهد له ، وإذا اختلفت الأخبار المذكورة فكيف يمكن التمسّك بها في علاج الأخبار المتعارضة مع مشاركتها لها في العلّة ؟

جواب تلك الروايات

قلت أوّلاً : إنّ غاية ما في الباب عدم التمسّك بها عند تعادل المتعارضين ، ووقوع مثله في أدلّة الأحكام نادر ، فلا مانع من الرجوع إلى الاحتياط في مثله كما هو مفاد الروايات الأخيرة ، لأنّه طريق اليقين ؛ وأما مع حصول المرجّح بأحد الوجوه السابقة فلا مانع من العمل عليه ، إذ لا يعارضه إلاّ إطلاق بعض الأخبار المذكورة ، كإطلاق الأخبار الّتي لم يرد فيها جملة من المرجّحات ، ومن المعلوم أنّ المطلق لا يصلح لمعارضة المقيّد ، والعامّ لا يعارض الخاصّ ، بل يتعيّن العمل بالخاصّ ، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى .

وأمّا الخبر الأخير فمطروح أو مأوّل ، لما عرفت من حجيّة خبر من يوثق به وعدم اعتبار غيره فلا يصلح المعارضة .

ثمّ المرجّحات السابقة وغيرها من المرجّحات المستنبطة من فحواها وعللها إمّا أن يتحقّق أحدها وينتفي الباقي فيعمل بمقتضاه ، أو يتحقّق المتعدّد منها مع توافقها فيعمل بمقتضاه بطريق أولى ، أو يختلف مقتضاها مع تعادلها فيرجع فيه إلى حكم التعادل ، وهو نادر أيضاً ، فإن ترجّح بعضها على بعض لزم الأخذ بالأقوى لما مرّ ، إذ قد عرفت عدم اعتبار الترتيب بين المرجّحات وإن ورد الترتيب الذكري في عدّة من الأخبار ، لعدم دلالته على الترتيب في الرتبة ، كما يرشد إليه اختلافها في الترتيب ، ويظهر ذلك من التعليلات الواردة فيها الدالّة على إناطة الحكم بالرجحان والأوثقيّة في نفس الفقيه بعد بذل وسعه في ذلك ، ألا ترى أنّه عليه السلام علّل ترجيح المشهور بأنّه لا ريب فيه ، مع ذكره في المرتبة الثانية في المقبولة وظهور أرجحيّته من الأعدليّة والأفقهيّة .

ص: 532

وثانياً : أنّ رواية سماعة إنّما تدلّ على التوقّف عند دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، ومن المعلوم أنّ التوقّف في مثله إنّما يتصوّر في مقام الاجتهاد ، وأمّا في مقام العمل فلا محيص عن اختيار أحد الأمرين من الفعل أو الترك ، فيرجع إلى التخيير في ذلك ، وحيث إنّ المفروض فيها إمكان الرجوع إلى الإمام عليه السلام لوقوع المخاطبة فيها مع من يتمكّن من ذلك ، ودلالته على الأمر باتيانه عليه السلام وسؤاله عنه ، فلا يدلّ على حال أمثالنا ممّن يتعذّر عليه ذلك ، ولذا أجاب عليه السلام بعد السؤال عن تعيّن العمل بالرجوع إلى بعض المرجّحات ، وسكت عن الباقي وعن حكم التعادل ، فالمقصود وجوب الفحص أوّلاً ، والترجيح مع تعيّن العمل ثانياً .

وكذلك الحال في الخبرين الآخرين ، فإنّ التوقّف المأمور به فيهما مع إمكان الفحص بالرجوع إليهم عليهم السلام كما هو المفروض خارج عمّا نحن فيه .

فإن قلت : إنّ أخبار التخيير أيضاً إنّما جائت في تلك الحال ، فكيف التوفيق ؟

قلت : إنّ التوقّف في مقام الاجتهاد عند التحيّر ممّا لا محيص عنه ، وأمّا في مقام العمل فلابدّ من البناء على وجه معيّن ، فغاية الأمر عدم دلالة الأخبار الأخيرة على طريق ذلك ، فيرجع في ذلك إلى الاُصول العمليّة المقرّرة في مواردها ، سواء وافقها أحد الخبرين كما مرّ ، أو خالفها جميعاً .

ويختلف الحال فيها باختلاف المقامات ، فإنّه إن كان الاختلاف في التكليف وعدمه ففي الجمع بين أدلّة أصل البرائة ورجحان الاحتياط كفاية في إثبات التخيير العملي ؛ وإن كان الاختلاف في تعيين المكلّف به بعد العلم بالتكليف فإن تعذّر الاحتياط بالجمع بينهما في العمل تعيّن التخيير أيضاً ، وإلاّ

ص: 533

ففي العمل بأخبار التخيير أو أوامر الاحتياط كلام معروف .

ومن المتأخّرين(1) من قطع ببطلان التخيير مع التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه السلام وهو مناف لأخبار التخيير ، لورودها في زمان الحضور ، ولا أقلّ من إطلاقها ، ولا قاطع على تخصيصها ، فتأمّل .

وثالثاً : أنّ أخبار التخيير مع تعادل الدليلين كما قيّدناها به أقوى ، فهى بالتقديم أحقّ وأحرى ، لاشتهارها بين الأصحاب حتّى قال في المعالم : « لا نعرف في ذلك مخالفاً من أصحابنا »(2) . وبذلك انجبر قصور أسانيدها ، وقد ثبت ترجيح الخبر المشهور على غيره ، فيجري ذلك في المقام أيضاً .

اختلاف القوم في طريق الجمع بين الخبرين المذكورين

وقد اختلفت القوم في طريق الجمع بين الخبرين المذكورين(3) ؛

فمنهم : من حمل حديث التوقّف والإرجاء على التوقّف في الحكم الواقعي ، وخبر التخيير على بيان الحكم الظاهري .

ومنهم : من نزّل الأوّل على مقام الإفتاء ، والثاني على مقام العمل(4) ، وكأنّه راجع إلى الأوّل ، لوضوح أنّ طريق العمل أيضاً ممّا يتعلّق به الفتوى ، إلّا أنّه حكم ظاهري لا يثبت به الواقع .

ومنهم : من خصّ الأوّل بصورة التمكّن من الرّجوع إلى الإمام عليه السلام لدلالته

ص: 534


1- انظر : الفرائد 4 / 158 .
2- المعالم / 94 .
3- انظر : الحدائق الناضرة 1 / 100 - 99 ، مرأة العقول 1 / 220 - 218 وراجع : « الاُصول الأصليّة » [للفيض الكاشاني] / 88 ، « رسالة الجمع بين الاخبار » المطبوع في ضمن « الرسائل الاُصوليه » /447 .
4- نقله المحدّث البحراني عن بعض مشايخه (الحدائق 1 / 100) .

على الانتهاء إليه والسؤال عنه ، لوجوب الفحص عن الحكم الشرعيّ في مقام التحيّر مع الإمكان ، وتحريم القول والعمل بغير العلم حينئذٍ ، والثاني بصورة التعذّر ، تقييداً له بالأوّل إذ لا محيص عن العمل(1) .

ومنهم : من حمل الأوّل على المنع من القول والعمل بمجرّد الرأي والهوى ، والثاني على الأخذ بأحدهما من باب التسليم والردّ إلى أئمة الهدى عليه السلام ، ولا محصّل لهذا الفرق إلّا باختلاف النيّة والقصد .

ومنهم : من حمل الأوّل على صورة التمكّن من الاحتياط فيتعيّن ذلك لرجوعه إلى اليقين ، والثاني على ما يتعذّر فيه ذلك فلا يمكن التوقّف فيه ، فيقيّد الأوّل بما يقيّد به جميع الأوامر ، والثاني بالأوّل .

ومنهم من حمل الأوّل على الاستحباب والثاني على الجواز ، بناء على أنّ ذلك طريق الجمع بين نظائر المقام(2) .

ومنهم(3) من حمل الأوّل على الأخبار المتعلّقة بحقوق الناس - كالزكاة والنكاح والدين والميراث - نظراً إلى اختصاص مورد المقبولة بها ، فقال : يجب التوقّف فيها عن الأفعال الوجودية المبنيّة على أحد الطرفين [بعينه] والثاني على

ص: 535


1- الطبرسي في الإحتجاج 2 / 108 - 106 ونقل عنه المحقّق المجلسي في مرأة العقول 1 / 219 ، المحدث البحراني في الحدائق 1 / 100 .
2- نقله المحدث الجزائري عن العلّامة المجلسي ، وذكر صاحب الحدائق في هذا المقام « يمكن أن يكون مشافهة سمعه من العلّامة المجلسي » . الحدائق 1 / 102 .
3- نحو المحدّث الاسترآبادي في الفوائد المدنية 390 ، الفائدة الرابعة وكذا في ص 526 ، الفائدة الثالثة ، ونقل عنه في الفصول / 446 والحدائق 1 / 101 - ونحو المحدّث العاملي في الوسائل 27 / 109 - 108 .

الأخبار الواردة في العبادات المحضة - كالصوم والصلاة - لاختصاص بعض أخباره بما يتعلّق بذلك ، والأولى حينئذٍ تقييد الأوّل بصورة دوران الأمر بين المحذورين ، سواء كان من حقوق اللَّه تعالى أو من حقوق الناس ، وإلاّ كان الفرق تحكّماً محضاً .

ومنهم(1) من خصّ الأوّل بما لم يضطرّ إلى العمل بأحدهما ، والثاني بصورة الاضطرار ، اقتصاراً فيه على موضع اليقين ، أمّا الأوّل فجار على الأصل .

ومنهم من نزّل الأوّل على غير الخبرين المتناقضين ، والثاني على المتناقضين(2) ولعلّه رجوع إلى سابقه ، لحصول الاضطرار في الثاني دون الأوّل ، وقد يقال بتنزيل الأوّل على صورة تعذّر الجمع والثاني على إمكانه .

التحقيق في المقام

والتحقيق في المقام أنّ التخيير المذكور يتصوّر على وجهين ؛

أحدهما : التخيير في التمسّك بما شاء من الخبرين المفروضين ، والفتوى بمقتضاه على نحو تخيير المقلّد في الرجوع إلى المجتهدين المختلفين .

ومع اختيار أحدهما فهل يتعيّن البقاء عليه فلا يجوز له العدول عنه إلى الآخر ؟ وجهان مبنيّان على ثبوته في الابتداء أو على الاستدامة ، كما ذكروا مثل ذلك في الرجوع إلى المجتهدين ، وحينئذٍ فمتى اختار أحدهما كان مقتضاه حكماً ظاهريّاً في حقّه وحقّ مقلّده ويأثم بمخالفته حال اختياره ، وإن وافق الآخر ، فإن دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم فإن اختار الأوّل لزمه الإفتاء بالوجوب وأتى به على وجه الوجوب ، فلا يجوز له حينئذٍ تركه ، أو الثاني

ص: 536


1- صاحب عوالي اللئالي ونقل عنه المحدث البحراني في الحدائق 1 / 101 .
2- نقل صاحب الحدائق عن بعض شرّاح الكافي ، الحدائق 1 / 102 .

انعكس الأمر ، ويلحق كلّاً منهما حال اختياره جميع لوازمه وأحكامه من التكليفيّة والوضعيّة .

والثاني : التخيير في مقام العمل ، فله أن يعمل بما شاء من الخبرين ويأخذ بمضمونه ، فلا يجوز له الإفتاء بتعيّن أحدهما ولو بعد اختياره ، إنّما يفتى بإثبات التوسعة في العمل .

أمّا الوجه الأوّل فالظّاهر فساد الالتزام به لوجوه ؛

منها : إنّا نقطع ببطلان أحد الخبرين المختلفين في محلّ الاختلاف ، ومخالفته لما أنزل اللَّه سبحانه على رسوله وحكم به على خلقه ، فالحكم به في حقوق الناس جور وعدوان ، وفي حقوق اللَّه سبحانه تحليل للحرام وتحريم للحلال ، فإذا دار الأمر فيه بين الأمرين امتنع تجويز الفتوى بكلّ منهما ، بل وجب الاجتناب عنهما من باب المقدمّة كالمشتبه بالمحصور ، ولذا قال عليه السلام : « لا تعمل بواحدٍ منهما » وأمر بالتوقّف والإرجاء .

ومنها : أنّ الحكم بتعيّن مدلول أحد الخبرين بمجرّد اختياره والإلزام بمقتضاه وترتيب آثاره ترجيح من غير مرجّح ، وإلزام بغير ملزم ، وراجع إلى تبعيّة حكم الشرع لاختيار المكلّف ، وجميع ما جاء في النهي عن القول والعمل بغير العلم والمنع من متابعة الرأي والهوى في أحكام اللَّه تعالى يمنع عنه ، بل هو أشدّ من متابعة الرأي ، فإنّ تابع الرأي لا يتبعه إلاّ بعد رجحانه في نظره ، وهذا يفتي ويحكم بمجرد الاقتراح .

ومنها : أنّ القول بالتخيير المذكور وإن اشتهر بين علماء الاُصول إلاّ أنّا لم نجد من فقهائنا من عمل به في الفروع ، فإنّ من تتبّع كلمات الأصحاب في جميع أبواب الفقه لا يكاد يقف على موضع يبتني حكمهم فيه على مجرّد الاقتراح ،

ص: 537

غاية ما يوجد في كلمات البعض هو التخيير في العمل والفتوى على حسبه ، وفيه أقوى شهادة على أنّهم لا يريدون من القول بالتخيير في المقام المعني الأوّل .

ونحوه ما ذكروه في الأدلّة العقليّة من أصل التخيير عند دوران الأمر فيما لا نصّ فيه بين احتمالي الوجوب والتحريم ، فإنّه عندهم من جملة الاُصول العقليّة مع أنّه لا سبيل للعقل إلى إدراك التخيير بالمعنى الأوّل .

وما قد يوجّه به ذلك من تقديم الامتثال الاحتمالي على الإعراض عن التكليف المعلوم وتوقّفه على الاختيار ظاهر الفساد ، إذ الامتثال لا يصدق بمجرّد الاحتمال ، والموافقة الاحتماليّة يتحقّق بالتخيير على الوجه الثاني .

وبالجملة ، فلم يعهد من فقهائنا في أبواب الفقه إسناد الفتوى إلى مجرّد الميل والاختيار ، لا في الابتداء ولا على الاستمرار ، أمّا إثبات التوسعة في العمل نظراً إلى العجز عن تعيين أحدهما فهو ممّا لا محيص عنه ، ولذا قال عليه السلام بعد الأمر بالإرجاء : « فهو في سعة حتّى يلقاه » وقد تكرّر في كلامهم إثبات التخيير العملي بين الحديثين المختلفين .

فما دلّ على التوقّف والإرجاء إن كان في مقام الحكم بالواقع والكشف عنه فذلك ممّا لا شبهة فيه ، وإن كان في مقام العمل فلا شكّ أنّ ذلك إنّما يتمّ حيث يمكن تأخير العمل ، وهو إنّما يكون حيث يمكن الفحص ، والظاهر أنّ القائلين بالتخيير لا ينكرون وجوب الفحص على المجتهد في تحقيق الحقّ منهما على حسب وسعه وطاقته ، إذ الاجتهاد عندهم استفراغ الوسع بقدر الطاقة ، أمّا بعد العجز عن الفحص فلا يعقل تأخير العمل ، إذ لابدّ من بنائه على وجه معيّن .

فغاية الأمر عدم دلالة أخبار الإرجاء على طريق عمل المكلّف في ذلك ، فيبقى ما دلّ على التخيير حينئذٍ سالماً عن المعارض ، لكن مورده ظاهر في بقاء

ص: 538

الوثوق بصدور الخبرين معاً والجهل بوجهه وعلّة وروده ، لوروده في أخبار الثقات ، والأخذ بما شاء منها من باب التسليم والانقياد والردّ إلى أئمة الهدى عليهم السلام وهو إنّما يتمّ في الصورة المذكورة ، أمّا مع القطع بكذب بعضها أو الظنّ به فلا معنى للتسليم والانقياد في مثله ، إنّما يتحقّق ذلك فيما ثبت وروده عنهم عليهم السلام ولم يعلم الوجه فيه من تقيّة أو غيرها .

فحيث يرتفع الوثوق بصدور الخبرين أو أحدهما لابدّ من الحكم بتساقطهما أو خروجهما عن الاعتبار من حيث انتفاء شرط الحجيّة فيهما والرجوع إلى الأصل المقرّر في موردهما من برائة أو اشتغال أو استصحاب أو غيرها ، سواء وافقه أحدهما أو خالفه كلّ منهما .

أمّا مع بقاء الوثوق بهما على وجه واحد وتعادلهما من حيث الدلالة وساير المرجّحات فالعمل بأخبار التخيير المعتضدة بعمل القوم مقدّم على العمل بالأصل المقرّر في موردهما لورودها عليه .

نعم ، لو وافق أحدهما الأصل وخالفه الآخر فقد مرّ الخلاف في تقديم الناقل أو المقرّر ، أو الحكم بالتساقط الموجب للرجوع إلى الأصل المقرّر في ذلك المورد ، وحيث إنّ أخبار التخيير مطلقة لم يفصل فيها بين النّاقل والمقرّر فالمتّجه على ما ذكر الحكم بالتخيير بينهما على ما هو الحال في الناقلين ، لما عرفت من أنّ موافقة الأصل المقرّر في موردهما لا يوجب رجحان المقرّر على الناقل ، إذ الأصل العملي لا نظر له إلى الواقع أصلاً ، وحينئذٍ فكيف يفرق بين المقامين مع اشتراكهما في تعادل المتعارضين والاندراج تحت دليل التخيير ؟ فما ذكره الشيخ في التهذيب(1) وجماعة من أنّ أحد المتعارضين لو كان موافقاً

ص: 539


1- تهذيب الأحكام 1 / 3 .

للأصل لابدّ من ترجيحه على المخالف خروج عن ظواهر أدلّة التخيير .

نعم ، قد يقال : إنّ القول بتساقطهما والرجوع إلى الأصل مطلقاً أقرب إلى طريقة الأصحاب في الفروع ، إذ العدول عن مقتضى الأصل إلى الدليل المعارض بمثله غير معهود من أكثرهم ، لاقتصارهم في العدول على موضع الدليل السالم عن المعارض ، أو مع ضعف معارضه عن المقاومة له ، نظراً إلى عدم جواز العدول عن الأصل إلاّ في محلّ اليقين ، ولا يقين مع التعادل ، سواء كان مقتضى الأصل في ذلك الحكم بالبرائة أو الاشتغال أو الاحتياط أو الاستصحاب أو العدم ، على حسب اختلاف المقامات ، إنّما يتمّ التخيير مع العلم بلزوم البناء على أحد المتعارضين وانتفاء المرجّح في البين ، وهو محلّ منع ، إلّا أن يقال : إنّ ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الروات العمل بأخبار الثقات ، على سبيل ما دلّ على رجوع العوام إلى الفقهاء الكرام ، فكما أنّ الثاني يدلّ على التخيير عن الاختلاف من غير فرق بين الناقل والمقرّر كذا الأوّل ، ويبقى ما دلّ على التخيير شاهداً على ذلك ومؤيّداً لمقتضاه .

وقدحكى شيخنا الطبرسي قدس سره في الاحتجاج(1) الإجماع عليه في حال غيبة الإمام عليه السلام إذا لم يكن هناك رجحان لروات أحدهما على الآخر بالكثرة والعدالة ، قائلاً : « إنّ الأصحاب كلّهم مجمعون حينئذٍ على أنّ الحكم بها من باب التخيير » ، واستدلّ عليه بعدّة من الأخبار السابقة ، ومرّ كلام ثقة الإسلام .

لكن لا يخفى أنّ الحكم بالتخيير في المقام ليس على عمومه ، لأنّه في أكثر المقامات على خلاف الطّريقة المعهودة فيختصّ ببعضها ، وحينئذٍ فلا مانع من

ص: 540


1- الإحتجاج 2 / 108 .

القول والعمل بمقتضاه على الوجه السابق ، دون الإلتزام بالمختار منهما بمجرّد الاختيار ، إلاّ مع دوران الأمر بين المحذورين .

ولعلّ ما ذكر هو الوجه في عدم شيوع العمل بالتخيير ، الحكمي بين الفقهاء ، لندرة موارده بين المسائل ، بخلاف التخيير العملي لشيوعه في تضاعيف أبواب الفقه ، فإنّه راجع إلى الجمع بين الدليلين حيث لا محذور في البين .

فتلخّص ممّا فصلّناه

فتلخّص ممّا فصّلناه أنّ ما تقدّم من الأدلّة الدالّة على لزوم العمل بالأخبار الموثوق بها يعمّ المتعارضين ، إلّا أنّه لمّا تعذّر العمل بهما معاً بقي العمل بأحدهما على حاله ، فإن تساويا من جميع الجهات تخيّر المكلّف في العمل بهما على الوجه المتقدّم ، لامتناع الترجيح من غير مرجّح ، ما لم يمنع عنه مانع ، وإن ترجّح أحدهما على الآخر بملاحظة جميع الخصوصيات المنضمّة إليهما - داخليّة كانت أو خارجيّة - تعيّن العمل بالراجح تحرّزاً عن ترجيح المرجوح الموهوم حينئذٍ عليه ، وعملاً بالاحتياط اللازم عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بعد ظهور فساد القول باعتبار المرجّح من باب التّعبّد ، ولا يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة إذا وافق المرجوح بعد سقوط الالتزام به مع التساوي فهنا أولى ، وتمسّكاً بالتعليلات الواردة في المرجّحات السّابقة من أنّ الرشد والحقّ في مخالفه العامّة ، وأنّ الصواب في موافقة السنّة والكتاب ، وأنّ المشهور ينتفى فيه الارتياب ، مضافاً إلى الإجماعات المنقولة في الباب ، المعتضدة بظهور اتّفاق الأصحاب عليه في الاُصول ، واستمرار السيرة عليه في الفروع ، وإن كان القدر المتيقّن منها هو المرجّحات الداخليّة دون الخارجيّة ، إلّا إذا كشفت عن مزيّة داخليّة ، ففرّق بين كون أحد الدليلين أقوى ، وكون مضمونه بالاتّباع أحرى ، ومورد الاتّفاق هو الأوّل ، إلّا أنّ في كلماتهم كالأخبار شواهد كثيرة على اناطة

ص: 541

الترجيح بالثاني وأنّ الأوّل إنّما يطلب لأجل الثاني ، ولذا استظهر بعض المحقّقين الاتّفاق عليه(1) .

وبما ذكرنا يظهر ضعف الاقتصار على المرجّحات المنصوص عليها في الأخبار ، كفساد البناء على اعتبارها من باب التعبّد ، كما زعمته طائفة من الأخبارييّن(2) حتّى طعنوا على العلّامة وغيره بمتابعتهم في التعميم واستنباط العلّة لطريقة العامّة ، وهو من بعض الظنّ الّذي يجب الاحتراز عنه بالنسبة إلى أداني المسلمين ، فكيف بأساطين المجتهدين ؟!

وليس ذلك إلاّ من جهة الجمود على ما يترائى بادي الرأي من ظواهر الأخبار قبل استعمال النظر الصحيح فيها والاعتبار وعدم اعطاء التأمّل حقّه في كلمات علمائنا الأبرار ، وقد كشف الإمام عليه السلام عن حقيقة ما هو المقصود في المقام بقوله : « إنّ لكلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللَّه فخذوه »(3) .

هذا كلّه في الظنّيين من حيث السند ، المتساويين من حيث الدلالة ، قطعيّة كانت أو ظنّية .

الوجه الثاني : تعارض القطعيين من حيث السند

اشارة

الوجه الثاني : تعارض القطعيّين من حيث السند ، كتعارض الآيتين أو

ص: 542


1- وهو السيّد المجاهد في مفاتيح الاُصول / 686 و 688 .
2- نحو المحدّث الاسترآبادي في فوائد المدنية / 30 ، والمحدّث البحراني في الحدائق 1 / 90 .
3- الكافي 1 / 69 ، ح 1 .

الخبرين المتواترين ، أو المحفوفين بقرائن اليقين ، أو الآية والروايّة القطعيّة .

والحكم فيه أنّه إن اختلف الحال فيهما بحسب الدلالة ، بأن يكون أحدهما نصّاً والآخر ظاهراً ، أو كانت الدّلالة في أحدهما أظهر من الآخر ، تعيّن العمل بالأظهر ، فيحمل عليه الآخر ، كالعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ، والمعتبر أن يلاحظ الظهور في ذلك بحسب مجموع القرائن الداخلة والخارجة ، فلو تأيّد العام بالشهرة ، أو اعتضد المطلق بالعمل ، فقد يترجّح بذلك على الخاصّ والمقيّد فيعمل عليه ، ولذا تكثّر في كلمات الأصحاب طرح النصّ بمخالفته للقاعدة .

وقد يكافئه إذن في الظهور ، فيلزم التوقّف في الحكم ، فإنّ العمل بالخاصّ والمقيّد لم يرد في الشرع من باب التعبّد المحض ، بل لقوّة دلالتهما ، وحكم العرف وقضاء العادة وجريان طريقة كافّة العقلاء وأهل اللّسان و خصوص الفقهاء على تقييد العامّ والمطلق بهما ، ولا يتمّ ذلك إلاّ مع بقاء الرجحان الحاصل لهما ، وظاهر أنّ المراد بالخاصّ والمقيّد ما كان منهما منافياً للعموم والاطلاق مضادّاً لهما ، لا مجرّد إثبات الحكم فيهما ، لوضوح أنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه .

وإن تساويا في الدلالة ، لزم التوقّف في مقام الاجتهاد ، والرجوع إلى الاُصول العمليّة في مقام العمل ، لأنّه الأصل في هذا الباب ، نظراً إلى اختصاص أخبار التخيير بالقسم الأوّل .

ويمكن أن يقال : إذا وجب العمل بالمتعارضين مع الظنّ بصدورهما من باب التخّيير نظراً إلى ما دلّ على وجوب العمل بالأخبار المعتبرة فوجوبه حال القطع بصدورهما معاً أولى ، وما دلّ على التوسعة في العمل بما شاء منهما على وجه التسليم شامل للخبرين القطعيين أيضاً ، بل الحكم به فيهما أتمّ وأقوى .

ويشكل بأنّ العمل بالكتاب والسنّة متفرّع على فهم مدلولهما ، وأقلّ مراتبه

ص: 543

الظنّ به ، ومع التعارض والتعادل لا يبقى إلاّ مجرّد الشكّ والاحتمال ، فيرجع كلّ منهما إلى الإجمال المانع من الاستدلال ، بخلاف الظنيّين لإمكان حملهما معاً على ظاهرهما ، فالفارق إمكان بقاء التنافي فيهما وامتناعه في القطعيّين .

وفيه نظر ، لإشتراط الوثوق بالسند والدلالة معاً ، فإذا كان التعارض مانعاً جرى في المقامين .

موارد التعارض

والّذي يقتضيه التحقيق في المقام وما أشبهه أن يقال : إنّ مورد التعارض إمّا أن يكون في الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ؛

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يقع التعارض بين إثبات التكليف ونفيه ، أو في تعيين المكلّف به .

ففي الأوّل يتّجه الحكم بالبرائة وجواز العمل من باب الاحتياط ، لما عرفت من رجوع الحكم بالتخيير فيه إلى ذلك ، لا جواز الحكم بالوجوب أو التحريم وترتيب الأثر عليهما بمجرّد الاحتمال والاختيار .

وفي الثاني يتّجه الاكتفاء بالأقلّ في المتداخلين مع تجويز الأكثر فيرجع إلى التخيير المذكور ، والجمع بينهما في المتباينين تحصيلاً للعلم بالبرائة بعد القطع بالاشتغال ما لم يمنع عنه مانع شرعيّ أو عاديّ ، وإلّا فلا محيص عن التخيير العملي أيضاً على الوجه السابق .

وعلى الثاني فالحكم بالشرطيّة والجزئيّة والمانعيّة في مهيّات العبادات عند دوران الأمر بين إثباتها ونفيها يتفرّع على إرجاعه إلى الأوّل أو الثاني ، وعند دوران متعلّقها بين أمرين أو اُمور يرجع إلى الثاني ، وفي المعاملات يرجع إلى الشكّ في السببيّة ، وفي الأسباب الشرعيّة عند دوران الأمر بين إثباتها ونفيها يرجع إلى الحالة السابقة ، وفي تعيينها يقتصر على موضع اليقين ، وكذا في مقام

ص: 544

التصرّف ، في الدماء والأموال والفروج ، للقطع بمنع الشارع عن التهجّم عليها بمجرّد الاحتمال .

وليت شعري كيف يعمل القائل بالتخيير المطلق لو دلّ أحدهما على وجوب قتل شخص بعينه والآخر على آخر عند دوران الأمر بينهما ؟ أو دلّ على أنّ المال أو الزوجة لزيد والآخر على أنّه لعمرو ، فهل يتخيّر المكلّف في قتل من شاء من الرجلين ؟ أو دفع المال أو الزّوجة إلى من شاء من الشخصين من دون قيام مرجّح في البين ؟! وقس على ذلك ساير المقامات .

فالظاهر أنّ القائل بالتخيير لا يقول به في أمثال ذلك أيضاً ، ولذا لم يعمل عليه الأصحاب في الفروع ، إنّما يأخذون بذلك فيما لا يترتّب عليه محذور كما في التكاليف الابتدائيّة الوجوبيّة أو التحريميّة عند التردّد بين إثباتها ونفيها ، أو الأحكام المتعلّقة بالسنن والآداب ، أو حيث لا محيص عن اختيار أحد الوجهين كما ذكروه أيضاً في دوران الأمر بين القولين أو الاحتمالين المجرّدين عن الدّليل .

ومحصّل ما ذكر هو العمل بما يقتضيه القاعدة الشرعيّة في مورد التعارض والقول بالتخيير العملي مهما كان إليه سبيل ، سواء وقعت المعارضة بين الظنييّن والقطعيّين من حيث السند ، وهو الّذي يستفاد من « خبر الميثمي »(1) وغيره ، وعليه جرت طريقة الأصحاب في أبواب الفقه ، وبه يجمع بين الأخبار السابقة .

هذا كلّه إذا لم يقم هناك احتمال النسخ ، كما في الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ، ومع قيامه كما في أدلّة الكتاب والسنّة النبويّة فقد مرّ الترجيح

ص: 545


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 / 24 - 23 ، ح 45 .

بالأحدث ، ومع دوران الأمر بين النسخ أو التخصيص أو المجاز أو غيرها يتعيّن الرجوع إلى ما قرّر في تعارض الأحوال ، واللَّه سبحانه هو العالم بحقيقة الحال .

الوجه الثالث : تعارض الظنيين المتساويين من حيث السند المختلفين في ظهور الأدلّة

الوجه الثالث : تعارض الظنّيّين المتساويين من حيث السند المختلفين في ظهور الدلالة ، فمتى استجمع كلّ منهما لشرايط الحجيّة تعيّن العمل بالأظهر عند معارضته للظّاهر ، فضلاً عن النصّ الوارد في مقابل الظاهر ، بعد ملاحظة المرجّحات الخارجيّة أيضاً ، إذ يكون الآخر حينئذٍ موهوماً فيرجع إلى الأوّل .

وما اشتهر بينهم من أنّ الجمع معهما أمكن أولى من الطرح محمول على ذلك ، إذ مع تساويهما في الدلالة يتساوي الاحتمالان أو الاحتمالات ، فلا معنى لترجيح بعضها من غير مرجّح ، اللّهم إلاّ أن يراد بذلك مجرّد رفع التنافي بين الأخبار ، كما صنعه الشيخ قدس سره في كتابي الحديث لعذر اعتذر به في أوّل التهذيب ، لا لتأسيس الحكم الشرعيّ عليه ، وإلّا فارتكاب التأويل ليس جمعاً بين الأدلّة ، بل هو في الحقيقة طرح للدليل والحجّة ، وعمل بالخرص والتخمين ، وتقوّل على اللَّه عزّوجلّ بما لا يعلم ، وخروج عن القاعدة المقرّرة في مورده ، ومخالفة للأخبار العلاجيّة والطريقة الجارية بين علماء الفرقة الناجية ، إلّا أن يكون هناك شاهد من نفس الدليلين ، بأن يكون ذلك هو المفهوم من المجموع من قرينة متّصلة أو منفصلة ، أو من شاهد خارجيّ علميّ أو ظنيّ وارد في مقام الجمع بينهما أو في بيان الحكم على وجه يكون دلالته أظهر وأقوى منهما .

فما اشتهر في ألسنة جمع من المتأخّرين من حمل الأمر في مقام الجمع

ص: 546

على الاستحباب أو النهي على الكراهة(1) تصرّف في كلام الشارع من غير دليل ، بل تحريف وتبديل ، وإنّما المتّبع هو الترجيح .

نعم ، ما دلّ على نفي الوجوب أو التحريم من حيث هو أقوى وأصرح من الأمر والنهي الظاهرين فيهما في الأغلب ، فإن أراد القائل به هذا المعنى فلا بأس به ، لأنّ الترجيح بين الأدلّة المتعارضة كما يعتبر من حيث السند كذا يعتبر من حيث الدلالة ، كغيرها من المرجّحات الخارجيّة ، فيلزم النظر في جميع المرجّحات والخصوصيات المنضمّة إلى كلّ واحد منهما والأخذ بالأرجح منهما بالنظر إلى مجموع تلك الجهات ، إلّا أنّ الترجيح بالسند لا يعتبر في معارضة النصّ وشبهه بالظاهر بعد استجماعهماً معاً لشرائط الحجيّة ، إذ المفهوم من مجموعهما هو الجمع وحمل الظاهر على النصّ إلاّ مع اعتضاد الظاهر بما يقتضي رجحانه على النصّ ، كما عرفت .

الوجه الرابع : معارضة القطعي من حيث السند للظنّي

اشارة

الوجه الرابع : معارضة القطعيّ من حيث السند للظنّي ، فإن تساويا في الدلالة قدّم الأوّل ، لأنّ تقديم الأرجح من الظنّييّن يستلزم ذلك بالأولوية القطعيّة ، وأولى من ذلك لو كانت دلالته أيضاً أقوى ، أمّا لو كان الظنّي بحسب الدلالة أقوى فإن كانت الدلالة فيه قطعيّة فقد يقال بتكافؤ القطعين ، فيرجع إلى أقوى الظنّيين ، بخلاف ما لو كانت ظنيّة لقوّة القطعي عليه .

وفيه : أنّ الظنّي سنداً بعد استجماعه لشرايط الحجيّة كالقطعي ، فإذا إجتمعا

ص: 547


1- ومنهم العلّامة المجلسي قدس سره على ما نقل في الفصول / 446 .

كانت العبرة بما يستفاد من مجموعهما من حمل الظاهر على النصّ ، عملاً بهما معاً ، حيث لا يكون هناك مرجّح خارجي .

و قد اختلف الاُصوليّون(1) في تخصيص الكتاب بخبر الواحد على أقوال ، ثالثها ورابعها : التّفصيل بين المخصّص بدليل قطعي متصّل أو منفصل وغيره ، أو بين المخصّص بدليل منفصل قطعي أو ظنّي وغيره ، والأكثر على جوازه مطلقاً ، لأنّ المخصّص بعد استجماعه لشرايط الحجيّة يعود قطعيّاً فيؤثّر أثره ، فإن لم يمكن الجمع بغير التخصيص تعيّن ، وإلّا فالتخصيص أقرب من غيره ، لغلبته وشيوعه ، ما لم يعتضد غيره ، بقرينة اُخرى داخليّة أو خارجيّة .

ومن تتّبع كتب الفقه وتعرّف طريقة الأصحاب في ذلك وجد ذلك سيرة مستمرّة منهم على قديم الدهر إلى يومنا هذا ، كالحكم بحرمة كثير من المطاعم والمشارب ، مع دلالة قوله تعالى : «قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ»(2) الآية على إباحتها وكذا الحكم بحرمة كثير من وجوه الانتفاع مع قوله سبحانه : «خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(3) .

والحكم ببطلان كثير من العقود أو عدم لزومها ولو لاختلال بعض الشرايط الثابتة بأخبار الآحاد مع عموم قوله تعالى : «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(4) ونحو ذلك .

والحكم بتحريم عدّة من المحرّمات مع قوله سبحانه «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء

ص: 548


1- انظر ، الوافية / 135 .
2- سورة الأنعام / 145 .
3- سورة البقرة / 29 .
4- سورة المائدة / 1 .

ذَلِكُمْ»(1) إلى غير ذلك .

ومقتضى كلام المانع المنع من الخروج عن ظاهر الكتاب بخبر الواحد مطلقاً ، واستمرار الطريقة على خلافه ظاهر ، وعمدة ما استندوا إليه في ذلك أنّ الظنّي يعارض القطعي ، ومقتضاه تعميم الحكم لكلّ مقطوع الصدور ، لكنّه مغالطة ، إذ الكتاب بمجرّد صدوره لا يتمّ دليلاً ، بل به وبدلالته ، فقطعيّته موقوفة على القطع بهما معاً ، فإذا كان أحدهما ظنيّاً كان الدليل ظنيّاً ، فيكون المعارضة بين الظنّين ، والجمع بينهما بالتّخصيص أولى من طرح الخاصّ .

والمناقشة في حجيّة خبر الواحد حال المعارضة المذكورة نظراً إلى الخلاف المذكور معارضة بالمنع من حجيّة عموم الكتاب حال وجود المعارض المذكور لذلك بعينه ، وكان الأولى استنادهم في ذلك إلى عموم ما دلّ من الأخبار الكثيرة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب ، وهي معارضة بعموم ما دلّ على حجيّة أخبار الآحاد ، وإن كان أكثرها واردة عليها مخصّصة لها إلاّ أنّ الثّاني لاعتضاده باستمرار السيرة واستقامة الطريقة على التمسّك بها في مقابل عمومات الكتاب ومطلقاته وظواهره أقوى ، وبالترجيح أحرى ، كيف وهو أيضاً موافق لما دلّ من الكتاب على حجيّة أخبار الثقات ؟! فتخصيصه بالأخبار المذكورة الّتي هي من الآحاد يستلزم عدمه ، وهو باطل . مع أنّه نقيض عرض المخالف ، فيحمل الأوّل على المخالفة التامّة الّتي لا يتيسّر معها الجمع ، لا بمجرّد العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ، إذ التخصيص والتقييد لا يعدّان في العرف مخالفة .

ص: 549


1- سورة النساء / 24 .

ويرشد إلى ذلك قولهم عليهم السلام : « إنّ ما خالف الكتاب باطل وزخرف ، يضرب به عرض الجدار »(1) ونحو ذلك ، مع أنّ في عدّة منها طرح ما لا يوافق الكتاب ، مع أنّ معظم الأحكام إنّما يستفاد من الأخبار ، وقد قال اللَّه سبحانه : «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ»(2) ومفاده مستفاد من آيات كثيرة ، فإذا ثبت بنقل الآحاد قول الرسول صلى الله عليه وآله وجب إتّباعه .

وأمّا قياس التخصيص على النسخ ، فعلى تقدير تسليم المنع في النسخ قياس مع الفارق ، وليس في قوله تعالى «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»(3) دلالة على تقديم ظاهر الكتاب بمجرّد كونه أحسن من الخبر ، لعدم وروده في المقام بقرينة السياق وإلّا لمنع من تخصيصه بالمتواتر أيضاً ، كيف والخاص لقوّة دلالته أحسن من العام من حيث المعنى والمفاد .

هذا ملخّص الكلام في بيان أدلّة الأحكام ، وتفصيل الكلام فيها موكول إلى مظانّها ، وإنّما المقصود في المقام الإشارة الإجماليّة إلى أدلّة الظنون المخصوصة ، ليتمّ بذلك ما قصده المحقّق المصنّف - طاب ثراه - في الدليل الثامن من جواز الاكتفاء بها في امتثال القدر اللازم من الأحكام ، وهناك قواعد كلّيّة اُصوليّة وفقهيّة مستفادة من الأدلّة المذكورة وغيرها يتفرّع عليها ما لا يحصى من الأحكام ، كحجيّة خبر العدل الشامل لنقل الإجماع وساير الأدلّة وشهادة العدلين وغير ذلك ومن جملتها الاُصول العمليّة الّتي لا يخلو منها مسألة

ص: 550


1- تفسير أبي الفتوح الرازي 3 / 392 ، (تصحيح وتعليق العلّامة الميرزا أبي الحسن الشعراني قدس سره ) ومن ( طبع الآستانة المقدّسة الرضوية ) 5 / 368 .
2- سورة الحشر / 7 .
3- سورة الزمر / 18 .

من المسائل الفرعيّة ، كأصل البرائة والإباحة والعدم والصحّة والاحتياط والاشتغال والتخيير والاستصحاب ونحوها ، فإنّها مستفادة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل .

الإشارة الإجمالية إلى أدلّة الظنون المخصوصة

فنقول : اللازم على المجتهد في كلّ مسألة فرعيّة أوّلاً هو الفحص عن الأدلّة الاجتهاديّة الدالّة على الحكم الثابت لها في نفسها ، مع قطع النظر عن علم المكلّف وجهله به ، سواء أفادت العلم به أو الظنّ أو لم يفد شيئاً منهما ، على ما تقدّم في أوائل الرسالة .

ومنها القواعد الكليّة المستبطة منها أحكام الفروع الجزئية

ومنها : القواعد الكلّيّة المستفادة منها ، فيستنبط أحكام الفروع الجزئيّة منها كما ورد الأمر به في الأخبار ، فإن لم يقف في ذلك بعد الفحص على دليل مقطوع الاعتبار لزمه الرجوع إلى الأصل المقرّر في مقام العمل ، ففي مقام الشكّ في التكليف بعد العلم بالبرائة يحكم بالبرائة الأصليّة ، لدلالة العقل وانعقاد الإجماع ممّن يعتبر قوله ويعتدّ بوفاقه وخلافه عليها ، وتظافر الآيات وتواتر الروايات بالدّلالة عليها ، واستمرار سيرة المسلمين من لدن زمان النبي صلى الله عليه وآله إلى زماننا هذا على الأخذ بها حتّى يثبت التكليف ، من غير فرق في ذلك بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة الموضوعيّة والحكميّة ، على ما تقرّر في محلّه .

فلا يعبأ بخلاف الأخباريّين في الثاني ، ونادر منهم في الأوّل ، بعد قيام الأدلّة الأربعة فيها ، بل ولا يعتدّ بقول من زعم إناطة الأمر في ذلك بحصول الظنّ ، كيف والأدلّة المذكورة ناطقة بلزوم البناء عليها حتّى يحصل القطع بالتكليف ؛

وفي مقام الشكّ في البرائة بعد القطع بالاشتغال والتصرّف في النفوس والفروج والأموال يرجع إلى أصل الاحتياط والاشتغال ، لحكم العقل به ، ودلالة أوامر الاحتياط عليه ؛ وكذا في مقام الشّك في المكلّف به مع دوران الأمر بين

ص: 551

المتباينين ، ويرجع الأمر في المتداخلين بالنسبة إلى الزايد إلى الأوّل ، وفي الشكوك المتعلّقة بمهيّات العبادات يبني الأمر ، على ما ذكر من دوران الشكّ بين المتباينين أو المتداخلين ، وفي مقام دوران الأمر بين المحذورين يرجع إلى أصل التخيير ، وفي موارد الاستصحاب يحكم بمقتضاه ، لدلالة النصّ والإجماع واستمرار طريقة العقلاء عليه ، إلى غير ذلك من الاُصول والقواعد المقرّرة في مواردها .

وعلى ما ذكر جرت طريقة كافّة الأصحاب من لدن أعصار الأئمّة عليهم السلام إلى هذا العصر ، فمن أين جائت الضرورة والحاجة إلى التعدّي عن الأدلّة المعتبرة والعمل بالأمارات الظنيّة الّتي استقامت طريقة الطائفة على الإعراض عنها والامتناع من الرجوع إليها والتعويل عليها ؟ وهل فيما ذكرناه خروج عن هذا الدين إلى دين آخر ؟ كلاّ ، بل هو الدين ، ولئن اتّفق لنا في نادر من المسائل أو لبعض المكلّفين أو في بعض الأزمنة انسداد باب العلم بطريق الفتوى والعمل فيها وامتنع التوقّف فيهما تعيّن الرجوع إلى الظنّ بما هو الطريق في ذلك ، على ما فصّله وحقّقه المصّنف - طاب ثراه - وأين ذلك ممّا زعمه القائل بالظنّ المطلق ؟ فالقول به عدول عن الصواب ، وخروج عن طريقة الأصحاب ، واللَّه سبحانه هو الهادي في كلّ باب .

قال - طاب ثراه - :

حجّة القائلين بحجيّة مطلق الظنّ

اشارة

حجّة القائلين(1) بحجيّة مطلق الظنّ وجوه :

الأوّل : وهو أقواها وأظهرها ما أشار إليه جماعة

ص: 552


1- في المطبوعة الحديثة : « القول » .

منهم ، تقريره على ما ذكره بعض المحقّقين منهم : أنّ باب العلم بالأحكام الشرعيّة منسدّ في أمثال زماننا إلا في نادر من الأحكام ممّا قضت به الضّرورة ، أو قام عليه إجماع الاُمّة أو الفرقة ، أو ثبت بالتواتر المعنوي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمّة عليهم السلام ولا يوجد ذلك إلاّ في قليل من الأحكام ، ومع ذلك فلا يثبت بها في الغالب إلاّ الأُمور الإجماليّة ولابدّ في معرفة التّفصيل من الرجوع إلى ساير الأدلّة ، وشي ء منها لا يفيد العلم غالباً ، لعدم خلوّها عن الظنّ من جهة أو جهات ، وحينئذٍ فيتعيّن العمل بالظنّ لقيام الإجماع ، بل الضرورة على مشاركتنا مع الحاضرين في التّكاليف وكونه أقرب إلى العلم .

قلت : وتوضيح ذلك أنّ هناك مقدّمات يتفرّع عليها حجيّة مطلق الظنّ :

الأولى : أنّ التكاليف الشرعيّة ثابتة بالنّسبة إلينا ولم يسقط العمل بالأحكام الشرعيّة عنّا ، فنحن مكلّفون بالأحكام مشاركون للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام ، وهذه المقدّمة قد قام عليها إجماع الأُمّة بل قد قضت به الضّرورة الدّينيّة .

الثّانية : أنّ الطريق إلى معرفة تلك الأحكام هو العلم مع إمكان تحصيله ، ولا يجوز الأخذ بمجرّد الظنّ والتخمين وساير الوجوه ما عدا اليقين كما عرفت أوّلاً من أنّه مقتضى

ص: 553

العقل والنّقل .

والثالثة : أنّ طريق العلم بالأحكام الشرعيّة منسدّ في أمثال هذه الأزمنة إلاّ في نادر منها ، لوضوح أنّ معظم أدلّة الأحكام ظنيّة ، وما يفيد القطع منها إنّما يدلّ غالباً على اُمور إجماليّة يفتقر تفاصيلها إلى إعمال الأدلّة الظنيّة ، وقد فرضنا أصل المسألة في هذه الصّورة .

الرابعة : أنّه لا ترجيح عند العقل بين الظّنون من حيث المدرك والمستند ولو بعد الرّجوع إلى الأدلّة الشرعيّة ، إذ لم يقم دليل قاطع على حجيّة شي ء منها بالخصوص ، ولو سلّم قيام الدليل القاطع على حجيّة البعض كنصوص الكتاب وبعض أقسام أخبار الآحاد فليس ذلك ممّا يكتفى به في معرفة الأحكام بحيث لا يلزم مع الإقتصار عليه الخروج عن الدّين ، فلابدّ إذن من الرجوع إلى غيرها ، وليس هناك دليل قاطع على حجيّة البعض بالخصوص فيتساوى بقيّة الظّنون في ذلك .

إذا تمهّدت هذه المقدّمات . فنقول : قضيّة المقدّمة الأوّلى والثالثة انتقال التكليف إلى العمل بغير العلم وإلّا لزم التكليف بغير المقدور ، وقضيّة المقدّمة الثانية كون المرجع حينئذٍ هو الظنّ ، إذ هو الأقرب إلى العلم في تحصيل الواقع ، بل نقول : إنّه بمنزلة بعض منه ، إذ الاعتقاد يتكامل إلى أن ينتهي إلى حدّ اليقين ، فإذا تعذّر القدر الزائد وجب مراعاة

ص: 554

مادونه وهكذا . ولذا يجب مراعاة أقوى الظنون ، فالأقوى من غير فرق بين الظنون المخصوصة وغيرها ، إذ تخصيص البعض بالحجيّة دون الباقي ترجيح من غير مرجّح ، فيتساوى الجميع إلّا أن يقوم دليل على المنع من العمل ببعضها .

فإن قلت : إنّ قضيّة الدليل المذكور حجيّة أقوى الظنون ممّا يمكن تحصيل أكثر الأحكام به بحيث لا يلزم من الاقتصار عليه الخروج عن الدين لكونه الأقرب إلى العلم ، فلا يثبت به حجيّة مادونه من مراتب الظنون ، فإنّ نسبتها إلى ذلك الظنّ كنسبة الظنّ إلى العلم ، فالقائم مقام العلم هو تلك المرتبة من الظنّ دون مادونه من المراتب ، وعدم حصول تلك المرتبة في خصوص بعض المسائل لا يقضي بحجيّة مادونها ، إذ ليس في ترك العمل بها إذن خروج عن الدين ، وأيضاً بعد بطلان احتمال الترجيح بين الظنون نظراً إلى انتفاء المرجّح لا يتعيّن الأخذ بالجميع ، لاحتمال البناء على التخيير ، وأيضاً الأخذ بالجميع أيضاً ترجيح لأحد المحتملات من غير مرجّح ، إذ كما يحتمل حجيّة البعض دون البعض كذا يحتمل حجيّة الجميع ، فكما انّه لا مرجّح لحجيّة البعض كذا لا مرجّح لحجيّة الكلّ .

قلت : أمّا الأوّل فمدفوع لوضوح بطلان الاحتمال المذكور ، لإطباق العلماء على خلافه ولذا لم يؤخذ بطلانه

ص: 555

في الاحتجاج ، لكونه مفروغاً عنه في المقام ومع ملاحظة ذلك يتمّ ما ذكر من التفريع .

وأمّا الثاني فبأنّ احتمال التخيير بين الظنون مدفوع باستحالته ، فإنّ تعارض الظنّين كتعارض العلمين غير ممكن ، إذ مع رجحان أحد الجانبين يكون الآخر وهماً . وإنّما يعقل التعارض بين الظنّين ، وهو غير محلّ الكلام .

ومع الغضّ عن ذلك فالبناء على التخيير بين الظنون ممّا لم يقل به أحد في المقام ، فهو مدفوع أيضاً بالإجماع . ولو اُريد به التخيير في القول بحجيّة أنواع الظنون المتعلّقة بالمسائل المختلفة بأن يكتفى ببعضها ممّا يتمّ به نظام الأحكام بحيث لا يلزم معه الخروج عن الدين فيتخيّر حينئذٍ في تعيين ذلك البعض وترك غيره ، فهو وإن أمكن تصويره في الخارج إلّا أنّه بيّن الفساد أيضاً بالإجماع ، بل بالضرورة .

وأمّا الثالث : فبأنّ الثابت من الدليل المذكور مع قطع النظر عن المقدّمة الأخيرة هو حجيّة الظنّ في الجملة ، وحيث لا دليل على اعتبار خصوص بعض الظنون دون غيره وكانت الطرق الظنيّة متساوية في نظر العقل مع قيام الضرورة على الأخذ بالظنّ لزم مراعاة نفس المظنّة من غير اعتبار لخصوص مأخذه ، لعدم إمكان اعتباره من جهة بطلان الترجيح من غير مرجّح ، ولزم اعتبار كلّ ظنّ

ص: 556

حسبما أوردنا ، وليس ذلك ترجيحاً لحجيّة الجميع عند دوران الأمر بينها وبين حجيّة البعض من غير مرجّح ، بل قوله به من جهة قيام الدليل عليه ، كما عرفت [3 / 391 - 388] .

أقول : وباللَّه التوفيق ومنه الهداية إلى سواء الطّريق :

المقدّمة الاُولى : محصّلها امتناع نفي التكاليف المجهولة بأصلى العدم والبرائة والمناقشة

التعرّض لكلام صاحب القوانين

أمّا المقدّمة الاُولى فمحصّلها امتناع نفي التكاليف المجهولة بأصلى العدم والبرائة ، وإهمال الوقايع المشتبهة بترك التعرّض لامتثالها بالكليّة ، إمّا بأن يكون حال المكلّفين بالنسبة إليها كحال الأطفال والمجانين ، أو يكون حكمهم فيها البرائة والإباحة ، ويكفي في إثبات ذلك أنّ الشكّ في المسألة إن تعلّق بالمهيّات المجعولة أو الأسباب الشرعيّة ، فالأصل عدم تحققّها وعدم ترتّب الآثار عليها ، فلا يمكن الحكم بحصولها مع الشكّ فيها .

وإن تعلّق بالتكاليف الابتدائيّة ، فالعلم الإجمالي بثبوتها في الجملة يوجب إلحاقها بالمشتبه المحصور ، فإنّ مواردها وإن كانت غير محصورة إلّا أنّ القدر المعلوم على الإجمال منها أيضاً اُمور كثيرة مشتبهة بينها ، فيكون من قبيل اشتباه الكثير بين الكثير ، وهو من المحصور ، وقد تقرّر في محلّه عدم جريان أصل البرائة في مثله ، لاختصاص أدلّتها بغير هذه الصورة ، إنّما موردها الشكّ في أصل التكليف دون الشكّ في تعيينه .

وما قيل(1) من أنّ اعتبارها من باب الظنّ ، فينتفي مع وجود أمارات الظنّ المطلق ليس بشى ء ، بل هي مبنيّة على حكم العقل بقبح التكليف قبل البيان ،

ص: 557


1- القائل هو المحقّق القمّي في القوانين 1/422 .

مضافاً إلى الإجماع والأخبار الدّالة على هذا المعنى .

مناقشة من الشيخ الأعظم وجوابها

وكذا ما قيل(1) من منع كونها أمراً قطعيّا ؛ ولو سلّم فإنّما هو قبل ورود الشرع ، أمّا بعد العلم بأنّ فيه أحكاماً على التعيين فلاقطع بجواز العمل عليها ، ولو سلّم أيضاً فإنّما هو قبل ورود الخبر على خلافه ، فلا يخرج العمل عليها عن الظنّ المطلق ، وذلك لاتّفاق العقلاء كافّة والعلماء منهم خاصّة على الرجوع إليها مع عدم ثبوت التكليف بالدليل العامّ أو الخاصّ ؛ وقد دلّت على ذلك الآيات والروايات المتواترة من غير اختصاص له بحال دون حال ، وإنّما ذهب من ذهب إلى الاحتياط لزعمه ورود النصّ به ، فلا شبهة في العمل عليها مع عدمه .

وبه يظهر فساد ما قيل من « أنّ المستند فيها إن كان هو الإجماع فهو مفقود في محلّ النزاع ، وإن كان [ هو ] العقل فمورده عدم الدليل ، ولا نسلّم عدمه مع الخبر »(2) وذلك لأنّ عدم ثبوت حجيّة الخبر أو غيره يكفي في تحقّق حصول الجهل بالحكم الّذي هو مجرى البرائة ، فلا يحتاج فيها إلى إثبات عدم حجيّته .

وأمّا الاستدلال على المقدّمة المذكورة بالإجماع والضرورة الدالّين على قاعدة الاشتراك في التكاليف فهو وإن كان صحيحاً لكنّه بنفسه لا يكفى في إثبات المنع من العمل بأصل البرائة في المقام كساير الموارد الّتي يجري فيها الأصل عندنا ، إذ لا دلالة لتلك القاعدة على حكم الموارد المشتبهة .

نعم ، هي من مقدّمات إثبات الحكم المذكور فيها ، لتوقّف حكم العقل به عليها ، فمن ذهب إلى إجراء الأصل في تلك الموارد وعدم العبرة بالعلم الإجمالي

ص: 558


1- القائل هو المحقّق القمّي في القوانين 1/422 .
2- انظر الفرائد 1 / 400 - 399 .

فيها كما يظهر من الفاضل القمّي قدس سره الّذي هو من عمدة القائلين بالظنّ المطلق لا ينبغي له أن يستدلّ على المقدمّة المذكورة بقاعدة الاشتراك ، لأنّه عنده لا ينافي إجراء الأصل عند الشبهة ، لكنّه خلاف الصواب ، كما ثبت في محلّه .

ويمكن أن يكون المراد من التمسّك بها في المقام دعوى الإجماع والضرورة على عدم سقوط التكاليف الواقعيّة عنّا باشتباهها وتعذّر العلم بتفصيلها ، وعدم جواز التمسّك في نفيها بأصل البرائة وإن قلنا بجوازه في المورد الجزئيّة ، فليس الفارق بين المقامين مجرّد العلم الإجمالي ، بل الفارق لزوم الخروج عن الدين ، بمعنى أنّ الاقتصار على المعلومات التفصيلية على قلّتها والإعراض عن جميع المجهولات على كثرتها يعدّ خروجاً عن الدين ، وإعراضاً عن الشرع المبين ، على ما هو الحال فيما لو فرض انتفاء المعلوم على التفصيل من رأس .

والتصريح بالمنع من ذلك وإن لم يقع في كلام الأكثر ، إلّا أنّ ذلك أمر بيّن لمن تعرف طريقة الأصحاب وتأمّل في حال علماء الإسلام في هذا الباب ، وقد تكرّر في كلماتهم أنّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّره ، وحكى العلّامة وغيره الإجماع عليه(1) . ويظهر من المرتضى قدس سره تسليم الأمر في ذلك ، وإنّما ينكر تعذّر العلم بمعظم الأحكام(2) .

نقل كلام الأعلام في المقام

وقد قال الشيخ قدس سره : « إنّ من قال : إنّي متى عدمت شيئاً من القرآن حكمت بما كان يقتضيه العقل يلزمه أن يترك الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشي ء

ص: 559


1- انظر : مختلف الشيعة 3 / 26 ، معالم الدين 197 - 196 .
2- انظر : رسائل الشريف المرتضى 3 / 39 .

ورد الشرع به ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه »(1) ، انتهى .

وقد صرّح كثير من أصحابنا في إبطال التمسّك بالبرائة الأصليّة في مطلق الأحكام المشتبهة بأنّها ترفع جميع الأحكام ، وفي ردّ من أنكر حجيّة خبر الواحد أنّه يوجب خلوّ أكثر الأحكام عن الدليل ، ويوجب خروج حقايق الصلاة والصوم والحجّ والمتاجر والانكحة وغيرها عن كونها هذه الأُمور ، وأنّه لو لم يعمل به بطل التكليف ، وأنّه يوجب الخروج عن هذا الدين إلى دين آخر ، وما أشبه ذلك من العبارات الدّالة على أنّ بطلان الرجوع إلى الأصل في معظم الأحكام من جملة الضروريّات ، كالرجوع إليه في جميعها لو فرض اشتباهها أجمع بالنسبة إلى شخص معيّن .

ألا ترى أنّك لو فرضت مقلّداً دخل عليه وقت الصلاة ، ولم يعلم منها عدا ما تعلم من أبويه بظنّ الصحّة ، ولم يتمكّن من أكثر من ذلك ، فهل يلتزم بسقوط التكليف بالصلاة عنه في تلك الحال ؟ أو يقال بوجوب إتيانه بذلك على حسب ظنّه الحاصل له من قول أبويه ؟ أو نحوه ممّا لا يدلّ عليه دليل شرعّي ، فإذا لم تجد من نفسك احتمال الرخصة في ترك الصلاة في حقّه فكيف يمكن ترخيص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشي ء منها عدا القليل المعلوم وإن كان مظنوناً بالظنّ المطلق ؟ بل الإنصاف أنّه لو فرض - والعياذ باللَّه تعالى - فَقْد الظنّ المطلق في معظم الأحكام كان الواجب الرجوع إلى الإمتثال الإحتمالي بإلتزام ما لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة فتأمّل فيه .

ص: 560


1- عدّة الاُصول 1 / 136 .

المقدّمة الثانية والمناقشة فيها

وأمّا المقدمّة الثّانية ، فهي غير مأخوذة في التقرير المشهور للدليل المذكور ، وإنّما اعتبرها المصنّف قدس سره في الاستدلال لإثبات الانتقال إلى الظنّ نظراً إلى كونه أقرب إلى العلم الواجب ، أو بمنزلة الجزء منه فلا يسقط بتعذّر كلّه ، فالحكم بلزوم العمل بالظنّ عنده قدس سره إنّما يتفّرع على تلك المقدمّة ، إذ بدونها لا يفرّق العقل بين الظنّ والشّك ، إذ الفرق بينهما إنّما يظهر في قرب الأوّل إلى العلم ، فإذا فرضنا عدم وجوب تحصيل العلم حال الانفتاح لم يحكم العقل بلزوم العمل بالظنّ عند الانسداد .

ومنهم من أبدل تلك المقدمّة بإبطال الرجوع إلى ساير الطرق المقرّرة في حقّ الجاهل في الجملة ، من الأخذ بالاحتياط الموجب للعلم الإجمالي بحصول الامتثال ، أو الرجوع إلى الأصل المقرّر في الشرع في نفس المسألة المفروضة مع قطع النظر عن انضمامها إلى ساير المجهولات ، أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها وإبطال الرجوع عن الامتثال الظنيّ إلى الموافقة الوهميّة الحاصلة في اختيار الطرف المرجوح المقابل للطرف المظنون ، أو الموافقة الاحتماليّة والامتثال المشكوك فيه بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظنّ فيها ، أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقاً شرعيّاً في ذلك دون حصول الظنّ به ، وهذا أولى ، لأنّ إبطال تلك الوجوه لا يتفرّع على وجوب تحصيل العلم مع الإمكان ، ومجرّد قرب الظنّ إلى العلم وتنزيله منزلة البعض منه لا يستلزم وجوبه وحجيّته بعد تعذّر العلم ، لوضوح أنّ سقوط الواجب بمجرّده لا يستلزم وجوب تحصيل الأقرب إليه ، بل سقوط الكلّ لايستلزم بقاء الجزء على وجوبه ، فضلاً عمّا يكون بمنزلته ، على أنّ الرجوع إلى الاحتياط موجب لحصول العلم الإجمالي بالامتثال ، ولا شكّ في تقديمه على العمل بالظنّ أو الاحتمال ، بل

ص: 561

لا يفرّق العقل بين العلم التفصيلي والإجمالي في أداء التكاليف المعلومة على الإجمال ، بل يحكم بوجوبه في تلك الحال ، فلابدّ في إتمام الدليل من إبطاله بمعنى فساد القول بالالتزام به .

وأمّا إبطال ساير الطّرق الممكنة ، وإبطال الاكتفاء بالإطاعة المحتملة المشكوكة أو الموهومة مع إمكان العمل بالمظنّة فذلك أمر لا يشكّ فيه العقل ، من غير أن يتوقّف ذلك على إثبات المقدمّة المذكورة ، بمعنى أنّ الحكم بذلك لا يترتّب على تلك المقدمّة ؛ غاية الأمر أن يكون العلّة في إثباتهما واحدة ، وهي لزوم التحرّز عن الضرر المخوف ، وقبح العدول عن الراجح إلى المرجوح أو المساوي .

والحاصل : أنّ إثبات وجوب تحصيل العلم مع إمكانه ليس بأهون من إثبات لزوم تحصيل الظنّ مع تعذّره حتّى يعتبر الأوّل مقدمّة للدليل ، ويضمّ إليها تفرّع الثاني وترتّبه عليها ، فيكون تلك مقدّمة اُخرى لثبوت حكم العقل فيهما على وجه واحد ، فأخذ الثاني في الدليل أولى .

المقدّمة الثالثة والمناقشة فيها

وأمّا المقدمّة الثالثة ، فظاهرها مجرّد دعوى انسداد باب العلم بمعظم الأحكام الواقعيّة ، نظراً إلى ندرة الأسباب الباعثة على حصول العلم التفصيلي بها على وجه لا يحتاج معها إلى إعمال أمارة غير علميّة ، لانحصارها في حكم العقل والإجماع القطعيّين والتواتر المعنويّ والنصّ الموجب لليقين من الكتاب والسنّة القطعيّة والسّيرة الفعليّة الكاشفة وساير القرائن المفيدة للقطع بالحكم الواقعي ، ولا يخفى ندرة مواردها في مسائل الفروع ، وأكثرها اُمور مجملة لا يمكن القطع بتفاصيلها ، فلا يجدي العلم بها في مقام العمل .

ويظهر من السّيد المرتضى قدس سره وجماعة إنكار هذه المقدمّة ، ودعوى انفتاح

ص: 562

سبيل القطع بأكثر الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّ الّذي يستفاد من تتبّع كلماته وطريق احتجاجاته في أكثر المسائل الشرعيّة هو العلم بالحكم الظاهري الّذي هو مدلول الأدلّة الشرعيّة ، لاستناده في أكثر المقامات إلى الظواهر اللفظيّة والاُصول العلميّة .

المقدّمة المذكورة غير كافية في هذا الباب ، بل لابدّ من إثبات أمرين

اشارة

ومن الأخباريين(1) من زعم قطعيّة الأخبار المودّعة في الكتب الأربعة ونحوها ، وربّما توهّم بعضهم قطعيّة مطلق الأخبار(2) ، ولعمري إنّ تكلّف ذكر احتجاجهم والردّ عليه تضييع للعمر في ذكر الأُمور البديهيّة الوجدانيّة ، وليتهم حيث أساؤا النظر في الأمور المحسوسة لم ينسبوا ذلك إلى الشيخ ومثله من علمائنا المحقّقين ، وكفّوا عن إسائة الأدب بالنسبة إلى ساير الأصحاب الّذين هم أركان الدين واُمناء اللَّه تعالى ربّ العالمين ، ولو لاهم لأندرست آثار سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم فترك التعرّض لذكر كلماتهم في الكتب العلميّة أولى وأجدر ، ولايذهب عليك أنّ المقدّمة المذكورة بمجرّدها غير كافية في هذا الباب ، بل لابدّ معها من إثبات أمرين آخرين :

أحدهما : انسداد باب العلم بالطرق المعتبرة والظنّون المخصوصة الّتي اُقيمت مقام العلم بالواقع في الشريعة بالنسبة إلى أغلب الأحكام المشتبهة ،

ص: 563


1- منهم المحدث العاملي في الوسائل 27 / الشيخ حسين الكركي العاملي في هداية الأبرار / 17 ، المحدث البحراني في الحدائق 9 / 356 ، 358 ، وانظر ، الفوائد الحائريه / 35 ، مجمع الأفكار 3 / 187 - 185 .
2- نحو المحدّث الاسترآبادي في الفوائد المدنية / 371 ، الفصل التاسع وانظر : الفصول / 403 ، اوثق الوسائل / 123 ، الاصول الاصلية / 60 ، وقاية الأذهان 507 - 503 وتحريرات في الاصول 6 / 415 .

بحيث يتعذّر الاقتصار على القدر الثابت من ذلك على نحو تعذّر الاقتصار على القدر المعلوم من الأحكام الواقعية ، إذ مع انفتاح باب العلم إليها بقدر الكفاية الّتي بها تندفع الضرورة يمتنع الانتقال إلى مطلق الظنّ باتّفاق الفريقين ، فلابدّ من النظر في الأدلّة الدالّة على اعتبار الظنون المخصوصة ، وأنّه هل يثبت بها حجيّة القدر الكافي في استنباط الأحكام الوافي بإثبات القدر المتيقّن منها أو لا ؟

وقد استراح القائلون بالظنّ المطلق عن تكلّف إثبات هذه المقدمّة بمجرّد المنع وإبداء الشكوك والشبهات في تلك الأدلّة ، إذ ليس على المنكر وراء ذلك من حجّة ، فعلى القائل بالظنون المخصوصة إقامة الحجّة على اعتبار كلّ واحد منها بخصوصها في الشريعة على وجه لا يبقى للمنع من ذلك مجال بالكلّيّة .

نعم ، يلزمهم إثبات عدم إمكان الاكتفاء بالقدر المسلّم من ذلك وتعذّر الاقتصار عليه ، وذلك موقوف على استقراء الأحكام الفقهيّة بحسب موارد تلك الأدلّة .

الثاني : انسداد باب العلم الإجمالي بتحصيل الامتثال ، وأداء القدر المعلوم على الإجمال بسلوك سبيل الاحتياط ، فإنّ المطلوب من العلم بالأحكام إنّما هو تحصيل الامتثال ، فإذا أمكن العلم به ولو على الإجمال امتنع الرجوع إلى الظنّ ، فانفتاح سبيل الاحتياط بقدر الكفاية راجع إلى انفتاح باب العلم بالامتثال الّذي هو المطلوب في تلك الحال .

والحاصل : أنّ المعتبر في المقدّمة المذكورة إثبات الانسداد على الوجوه الثلاثة ، وهذه هي العمدة في هذا الباب ، وبعد تسليمها لا توقّف للعقل في تقديم العمل بالظنّ على الشك ، والوهم ، سواء تعلّقت بالواقع أو الطريق ، فلا يحتاج إذن إلى إبطال الرجوع إلى كلّ طريق محتمل ، لوضوح عدم الفرق بين العمل بالطرق

ص: 564

المحتملة والأخذ بالوجوه المحتملة ، واعتبار بعض الطرق المتصورة في المقامات الخاصّة لا ربط له بما نحن فيه ، فلا يحتاج إلى تكلّف إبطالها بوجه آخر .

نعم ، لا ريب في توقّف المدّعى على اثبات التّعميم في الحكم بالحجّيّة ، لوضوح أنّ اعتبار الظنّ على سبيل الإجمال والإهمال لا يجدي شيئاً في تلك الحال ، وحيث إنّ التعميم عند المصنّف قدس سره موقوف على بطلان الترجيح المتفرّع على نفي المرجّح بين الظنون لزم اعتباره مقدمّة اُخرى لإتمام الدليل ، وهي الرّابعة المذكورة في كلام المصنّف قدس سره وحاصلها إثبات المساواة بين الظنون في احتمال النصب والمنع والقوّة والضعف ، أو عدم العبرة باختلافها في ذلك ونفي اختصاص بعضها بالدليل المخصوص ولو من باب القدر المتيقنّ .

والحاصل : أنّه لابدّ في الدليل من إثبات التعميم بأيّ طريق حصل ، فإسقاط تلك المقدمّة في تقرير بعضهم ليس في محلّه .

نعم ، لابدّ مع ذلك أيضاً من سدّ باب احتمال التخيير ، لأنّ الحكم التابع للضرورة ينتفي بانتفائها ، فمع قيام ذلك الاحتمال يتعيّن الاقتصار على أقلّ ما تندفع به ، فحيث يتعذّر الترجيح يتعيّن القول بالتخيير ، فليس القول به حينئذٍ ترجيحاً من غير مرجّح ، كما أنّه بعد إثبات بطلانه لا يكون الحكم باعتبار الجميع ترجيحاً من غير مرجّح ، كما أفاده المصنّف - طاب ثراه - .

قال قدس سره :

وهذا ويمكن الإيراد على الدليل المذكور بوجوه :

الوجه الأوّل الإيراد على الدليل المذكور بوجوه

اشارة

الاوّل : منع المقدمّة الاُولى ، بأن يقال : المراد ببقاء التكليف والمشاركة مع الحاضرين في التكليف إمّا

ص: 565

التكاليف الواقعيّة الأوّليّة أو التكاليف الظاهريّة المتعلّقة بالمكلّفين بالفعل في ظاهر الشريعة بأن يكونوا مخاطبين فعلاً على نحو خطاباتهم ، والأوّل مسلّم ، إلّا أنّه لا يفيد كوننا مكلّفين بها فعلاً وإنّما يفيد تعلّقها بناءً على فرض اطّلاعنا عليها وعلمنا بها ، إذ ليست التكاليف الواقعيّة إلّا خطابات شأنيّة وإنّما يتعلّق بالمكلّفين فعلاً إذا استجمعوا شرائط التّكليف حسب ما فصّل في محلّه . والثاني ممنوع ، بل فاسد ، ضرورة اختلاف تلك التكاليف باختلاف الآراء ، ألا ترى أنّ كلّ مجتهد ومقلّديه مكلّف بما أدّى إليه اجتهاده مع ما بين المجتهدين من الاختلافات الشديدة في المسائل ؟! فلسنا مكلّفين فعلاً بجميع ما كلّفوا به كذلك قطعاً .

والحاصل : أنّ المشاركة في التكاليف الواقعيّة الأوليّة لا يفيد تكليفنا بها فعلاً حتى نتدرج بعد انسداد باب العلم بها إلى الظنّ ، والمشاركة في التكاليف الظاهريّة الفعليّة ممنوعة ، بل باطلة ، فكونهم مكلّفين ظاهراً بالتكاليف الواقعيّة لتمكّنهم من تحصيل العلم لا يقضي بكوننا مكلّفين بتلك الأحكام حتى يتنزّل بعد انسداد باب العلم بها إلى ظنّها ، إذ قد يكون تكليفنا الظاهري حينئذٍ أمراً آخر .

وفيه : أنّ الحكم الظاهري التكليفي هو الحكم الواقعي في نظر المكلّف وبحسب اعتقاده ، وليس حكماً آخر متعلّقاً بالمكلّف مع قطع النظر عن انطباقه مع الواقع ليقابل

ص: 566

بسقوط الأوّل وثبوت الثاني ، بل إنّما يثبت الحكم الظاهري من جهة ثبوت التكليف بالواقع وعدم سقوطه عن المكلّف فيضطرّ إلى تحصيل الواقع ، فيكون ما حصّله حكماً ظاهريّاً متعلّقاً به فعلاً ، فإن طابق الواقع بحسب الواقع كان واقعيّاً أيضاً ، وإلّا كان ظاهريّاً محضاً قائماً مقام الواقع ، وبه يسقط تكليفه بالواقع بالنظر إلى الواقع وإن كان مكلّفاً به في الظاهر معتقداً كون ما يأتي به هو الواقع فليس الحكم الظاهري أمراً ثابتاً استقلالاً مع القطع النظر عن ثبوت التكليف بالواقع وكونه هو الواقع ، وإلّا لكان ذلك أيضاً حكماً واقعيّاً مستقلّاً .

نعم قد يكون الحكم الظاهري بالنسبة إلى المكلّف أمراً مخالفاً للواقع مع العلم بمخالفته ، كما إذا لم يتمكّن من استعلام المجمل ولم يكن له طريق في الخروج عن عهدة التكليف به ، فإنّه يرتفع عنه ذلك التكليف في الظاهر ، ويحكم ببرائة ذمّته مع علمه بخلافه ، وقد يكون مع الظنّ أو الشكّ في المخالفة كما إذا دار العمل بين الوجوب والندّب وظنّ كونه واجباً من غير طريق شرعي أو شكّ فيه ، فانّه ينفى الوجوب بالأصل ويحكم بالاستحباب مع عدم الظنّ بكونه واقعيّاً ، لكن ذلك كلّه في مقام رفع الحكم والتكليف لا في مقام إثبات الحكم ، وإن لزمه ثبوت حكم شرعي ظاهراً في الأخيرين ، وذلك في الحقيقة طريق شرعي

ص: 567

للحكم بكونه الواقع بالنسبة إلى ذلك المكلّف وإن لم يثبت به الواقع لا علماً ولا ظنّاً ، فإنّ الطريق إلى الحكم بالشي ء شرعاً غير الطريق إلى نفس ذلك الشي ء ، يعرف ذلك بملاحظة الطرق المقرّرة للموضوعات ، فانّه إنّما يستفاد منها الحكم شرعاً بثبوتها لا أنّه يحصل هناك اعتقاد بحصولها في الواقع ، والمقصود هو الأوّل ، وهو المراد بكون شي ء طريقاً إلى الواقع ، وإنّما يتفرّع عليه الحكم المنوط بالواقع من جهة الحكم بثبوت ذلك في الواقع .

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه لمّا كانت التكاليف الواقعيّة ثابتة على المكلّفين بالنظر إلى الواقع ولم يمكن القول بسقوطها عنّا بالمرّة كان الواجب حصول طريق لنا إليها ، ولمّا لم يكن هناك طريق قطعي ثابت عن الشارع وجب الأخذ بالظنّ بمقتضى العقل إلى آخر ما ذكرنا . فإن كان المظنون مطابقاً للواقع فلا كلام ، وإلّا كان التكليف بالواقع ساقطاً عنّا بحسب الواقع ، وكان ذلك حكماً ثانويّاً قائماً مقام الأوّل بالنظر إلى الواقع أيضاً وإن كان مكلّفاً به في الظاهر من حيث أنّه الواقع .

فالقول بأنّ الاشتراك في التكاليف الواقعيّة لا يقتضي ثبوتها بالنسبة إلينا وتعلّقها بنا إن اُريد به عدم اقتضائه لحكمنا باشتغال ذمّتنا بالواقع ولزوم تفريغها عنه فهو بيّن الفساد ، كيف ؟ والمفروض قضاء الإجماع والضرورة به ،

ص: 568

وإن اُريد به عدم اقتضائه تعيّن تلك التكاليف علينا بحسب الواقع مع عدم ايصال الطريق المقرّر في الظاهر للإيصال إليها بالنظر إلى الواقع فمسلّم ، لا منافاة فيه لما نحن بصدده .

وربّما يورد في المقام بأنّ الانتقال من العلم إلى غيره من جهة انسداد سبيل العلم إنّما يلزم في حكم العقل إذا سلّم بقاء تلك التكاليف بعد فرض انسداد سبيل العلم بها ، وهو في محلّ المنع ، لاحتمال القول بسقوطها مع عدم التمكّن من العلم بها لانتفاء الطريق إلى الوصول إليها ، وعدم ثبوت كون الظنّ(1) طريقاً شرعيّاً قاضياً بثبوتها ، وهو بمكان من الوهن والسقوط ، إذ المقدمّة القائلة ببقاء التكاليف الشرعيّة في الجملة وعدم سقوطها عن المكلّفين بالمرّة قد دلّ عليها إجماع الاُمّة بل الضرورة ، والاقتصار على القدر المعلوم من التكاليف يوجب هدم الشريعة وسقوط معظم التكاليف عن الاُمّة .

ويمكن أن يقرّر المقدمّة المذكورة ببيان أوضح لا مجال فيها للمنع المذكور ويقوم مقام المقدّمتين المفروضتين بأن يقال : إنّه قد دلّ إجماع الفرقة ، بل الاُمّة ، بل الضرورة الدينيّة على ثبوت أحكام بالنسبة إلينا يزيد تفصيلها عمّا قامت عليها الأدلّة القطعيّة التفصيليّة على

ص: 569


1- في المطبوعة الحديثة : « الطريق » بدل « الظنّ » .

خصوصها بحيث لو اقتصرنا على مقدار المقطوع به من التفاصيل وتركنا العمل بالباقي لتركنا كثيراً ممّا كلّفنا به قطعاً ، إذ ليس المقطوع به من الأحكام على سبيل التفصيل إلاّ أقلّ قليل ، وثبوت هذا القدر من التكليف كافٍ في إثبات المقصود وإن منع مانع من توجّه جميع الأحكام الواقعيّة الثابتة في أصل الشريعة إلينا ، فلا حاجة إلى أخذها مقدّمة في الدليل ليتمسّك في دفعه بالوجه المتقدّم [ج 3 / 394 - 391] .

اللازم في المقدّمة الاُولى بيان أمرين

أقول : لا يخفى أنّ اللازم في المقدمّة الاُولى بيان أمرين بهما يتمّ المقصود منها ؛

الأوّل : إنّ الأحكام الشرعيّة بمجموعها الّذي يعبّر عنه بالدين والشريعة ثابتة بحسب الواقع والحقيقة بالنسبة إلى عامّة المكلّفين إلى يوم القيامة ، من دون اختصاص لها بزمان دون زمان ، ولا بطائفة دون اُخرى ، وهذا معنى اشتراك الغائبين مع الحاضرين المعلوم بضرورة الدين ، وان قلنا باختصاص الخطابات الشفاهيّة بالحاضرين ، نظراً إلى قبح مخاطبة المعدومين ، لكنّ الضرورة قائمة على عدم اختصاص الأحكام بالموجودين ، وإنّما حكم اللَّه سبحانه بها على كافّة المكلّفين وإن اختلفوا في استجماع الشرايط وفقدها ، فإنّ المقصود بثبوت الأحكام بحدودها وشرايطها على كافّة الأنام ومن الأُمور الضرورية عند أصحابنا الإماميّة أنّ تلك الأحكام تجري مجرى اُصول العقايد في كونها مضبوطة محدودة معيّنة لا اختلاف فيها ولا تضادّ بحسب الواقع والحقيقة ، محفوظة مخزونة عند صاحب الشريعة ، وإنّما يجري اختلاف الناس فيها مجرى

ص: 570

اختلافهم في ساير الحوادث الواقعة والوقايع الاتّفاقيّة والأشباح المرئيّة من بعيد ، حيث يقع الاختلاف بين الناظرين في تعيينها وتشخيصها .

لكن قد يكون المكلّف معذوراً في مخالفة تلك الأحكام ، نظراً إلى جهله بها ، أو فقد الطريق له إلى امتثالها ولو مع فرض علمه بها - كما فرضه المصنّف قدس سره في المجمل الّذي لا سبيل له إلى استعلام حقيقته والخروج عن عهدة التكليف به أو ظنّه بها ، حيث لم يقم هناك دليل على اعتباره .

والعذر في ذلك قد يكون شرعيّاً ، كما في الطرق الشرعيّة المقرّرة لمعرفة الأحكام أو الموضوعات حيث لا توصل إليها ؛ وقد يكون عقليّاً ، كما في الطرق العقلية فيهما ، كقطع المكلّف مع إمكانه ، وظنّه مع تعذّره ، مع فرض تخلّفهما عن الواقع ، وكذا ساير الأعذار الشرعيّة والعقليّة ، كالجهل البسيط والسهو والنسيان والتعذّر والتعسّر ونحوها .

وتلك المعاذير هي الّتي يناط بها الأحكام الظاهريّة المختلفة باختلاف المكلّفين ، نظراً إلى شدّة اختلافهم في تلك المعاذير ، فليست أحكاماً مستقلّة واقعة في عرض الأحكام الواقعيّة ، إنّما هي مداليل الطرق الظاهريّة من الأدلّة الاجتهاديّة والاُصول العمليّة ، فإن وافقت الواقع ، وإلّا كان المكلّف معذوراً في مخالفته ، كساير الأعذار الشرعيّة أو العقليّة .

نعم ، فيها كلام آخر ، وهو أنّها هل هي أحكام عذريّة راجعة إلى أعذار المكلّف في مخالفة الواقع وإلزامه بالعمل بمؤدّى نظره احترازاً عن التجرّي ؟ أو واقعيّة ثانويّة قائمة مقام الأحكام الواقعيّة عند سقوطها ؟ إذ لابدّ بعد سقوط الواقع من حكم للشارع في حقّ المكلّف ليترتّب عليه عمدة الفائدة المقصودة من التكليف من الابتلاء والإختبار وتميز الأخيار من الأشرار ، ولو لا ذلك لزم خلّو

ص: 571

أكثرا الناس عن أكثر الطاعات ، لندرة مصادفتها للواقع بحسب الحكم والموضوع من جميع الجهات وجهان(1) ، أظهرهما الأوّل في الشبهة الحكميّة ، لترتّب الفائدة المذكورة عليه أيضاً ، بل يترتّب على تلك الطاعات ما أعدّ لها من المثوبات وإن خالفت الواقع ، ما لم ينكشف في حال الحياة مع بقاء وقت التدارك والتلافي لما قدفات .

والثّاني في الشبهة الموضوعيّة ، فيكون الفرق بين الشرايط والأجزاء العمليّة والواقعيّة هو الفرق بين الأوّليّة والثانويّة ، وذلك حيث لم ينكشف الواقع ، ومع انكشافه فكالأوّل .

وكيف كان فالأحكام الصادرة عن الشارع بالحقيقة هي الأحكام الواقعيّة ، وهي الّتي أمر الناس بتحصيلها والأخذ بمقتضاها ، أصابها مَن أصابها وأخطأها مَن أخطأها ، وليست مشروطة على الحقيقة ، وإن اُوهم ذلك كثير من العبارات ، بل ربّما سبق إلى بعض الأوهام ، وإلّا لزم انتفاؤها في حقّ من أخطأها على سبيل الحقيقة ، فيلزم الحكم باصابتهم لما هو الثابت في حقّهم كإصابة الحائض والمسافر لترك الصلاة والصيام والإتمام ، وإصابة فاقد الماء والنصاب والاستطاعة وغيرها لترك الطهارة والزكاة والحجّ وساير الأحكام ، فيرجع إلى القول بالتصويب الّذي أجمعت الإماميّة على بطلانه ، إنّما المشروط في المقام هو فعليّة تلك الأحكام وتنجّزها في حقّ المكلّفين على وجه يترتّب على الإخلال بها استحقاق العقاب .

وهذا معنى يعبّر المصنّف قدس سره عنها بأنّها خطابات شأنيّة وإنّما تتعلّق

ص: 572


1- جواب لقوله : هل هي أحكام ...

بالمكلّفين فعلاً إذا استجمعوا شرايط التكليف ... إلى آخر كلامه ، فهي أحكام ثابتة على وجه الإطلاق ، غير مختصّة في نفسها بحال العلم ، ولا منتفية على الحقيقة في حال الجهل ، وإلّا لزم عدم وجوب تحصيل العلم بها ، لوضوح عدم وجوب مقدمّة الواجب المشروط ، ولزم تقييد العلم بها في جعلها مع كونه مسبوقاً بوجود المعلوم .

ودعوى لزوم اللغو والعبث في تعميم الحكم للجاهل المعذور بحسب الجعل الأوّل ، بل لزوم التكليف بالمحال حيث يتعذّر عليه الامتثال ، بل التكليف المحال نظراً إلى مناقضة الأعذار للإلزام والإيجاب ، وقيام الإجماع وغيره على أنّ العلم من شرايط التكليف والخطاب ، وأنّ الواجب والحرام ما يترتّب على مخالفته العقاب مدفوعة بما سبق في أوايل الرسالة ، وقد فصلّنا القول في ذلك في باب إبطال التصويب وإثبات التخطئة ، فظهر أنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة بحسب الواقع والحقيقة في حقّ الموجودين في هذا العصر كغيره من الأعصار ، وإن كانوا معذورين في مخالفتها ببعض الأعذار .

الثاني : أنّ المكلّفين في أمثال هذه الأزمنة كأزمنة ظهور الحجّة ليسوا بمعذورين في مخالفة تلك الأحكام المعلومة على الإجمال ، ولم يسقط عنهم ما عدا القدر المعلوم على التفصيل في تلك الحال ، بل يتعيّن التعرّض فيها للامتثال ، ويترتّب العقاب على تعمّد الإخلال ، فليس الجهل الحاصل في المقام من الأعذار الشرعيّة أو العقليّة الّتي ينتفي بها فعليّتها وتبقى معها على مجرّد الشأنيّة ، وقد سبق التنبيه على عدّة من الوجوه الدالّة على ذلك ، نظراً إلى استغناء الأمر الأوّل عن بيانه ، واثباته بقيام الضرورة عليه ، إلّا أنّه لابدّ من إدراج المقدمّة الثالثة في هذه المقدمّة أو تقديمها عليها لتوقّفها على تحققّها ، إذ لو لا انسداد باب العلم

ص: 573

بمعظم الأحكام لم يمتنع إسقاط ما عدا القدر المعلوم منها بالأصل الثابت في المقام .

وكان المصنّف قدس سره في التقرير الأوّل إنّما أدرج الأمر الثاني في المقدّمات الباقية ، وأحاله على وضوح عدم كون الانسداد من الأعذار المسموعة ، وبنى المقدمّة الاولى على مجرّد الاشتراك في الأحكام الواقعيّة ، ولذاكتفى في الاستدلال عليها بالضرورة الدينيّة ، إلّا أنّه في هذا المقام أدرج الأمرين في المقدمّة الاُولى وجمع بينهما في التقرير الأخير بإثبات الأحكام الفعليّة زيادة على ما قامت عليه الأدلّة القطعيّة التفّصيلية ، لاستلزام الاقتصار عليها لهدم الشريعة وسقوط معظم التكاليف عن الاُمّة ، وقد عبّر القوم عن ذلك بلزوم الخروج عن الدّين .

وكيف كان ، فالمقصود في الأمر الثاني إبطال التمسّك بأصالة النفي والبرائة في إسقاط الأحكام المجهولة ، ولزوم التعرّض لامتثالها في الجملة ، ويكفي فيه الإجماع المعلوم من ملاحظة طريقة الإماميّة والسيرة القاطعة المستمرّة بين الاُمّة ، والقاعدة المقرّرة في باب الشبهة المحصورة ، وإن كان القدر المعلوم على الإجمال أحكاماً يسيرة ، حيث لا يكون ذلك من قبيل المشتبه بغير المحصور ، فإنّ المعتبر فيه أن يكون أفراد الحلال إذا وزّعت على أفراد الحرام لم ينحصر ما يقابل فرداً منها ، أمّا مع انسداد العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة ففي ملاحظة الضرورة الدينيّة غنية وكفاية .

ومن المحقّقين من استند فيما ذكر إلى أنّ اعتبار تلك الاُصول إنّما ثبت من باب الظنّ ، فينتفي في مقابله ساير الأمارات الظنيّة ، وقد تقرّر فساده في محلّه ، وسيأتي تتمّة الكلام في هذا المقام إن شاء اللَّه .

ص: 574

ما أفاده صاحب الفصول والمناقشة فيه

ومن غريب الكلام ما قد يعترض به في المقام من « أنّ ما عدا القطعيّات ولا سيّما الخلافيّات منها - كما هو الأكثر - ممّا يمكن أن يؤدّى فيه نظر العامل بخبر الواحد أو بمطلق الظن إلى القول بالبرائة ، لا للأصل بل للأدلّة الخاصّة ، والظاهر جواز التعويل على نظره حينئذٍ ، إمّا لعدم القطع بمخالفة شي ء منها للواقع ، وإمّا لأنّ القطع الإجمالي لا يجدي في رفع ما قام عليه حجّة في الظاهر لا سيّما إذا خرج عن حدّ الحصر ، وحينئذٍ فيبقى العدول عن العمل بالأصل أو لا بلا فائدة(1) .

وأنت خبير بأنّ الفرض المذكور إنّما يتصوّر مع الغفلة عمّا ذكر من العلم الإجمالي ولزوم التعرض لامتثال القدر المعلوم على الإجمال ، لوضوح أنّ الظنّ بالسالبة الكلّيّة يناقض العلم بالموجبة الجزئية ، على أنّ معظم الأمارات الّتي يحصل منها الظنّ في الوقايع الاتّفاقيّة يتضمّن كثير منها لإثبات التكليف وجوباً أو تحريماً أو وضعاً راجعاً إليهما ، فكيف يحصل الظنّ بنفيه في جميع الوقايع ؟ فلا تغفل .

إيراد آخر في المقام ( منع الوجه الثاني من وجهى المقدّمة الاُولى )

قال قدس سره :

هذا ويمكن الإيراد في المقام بأنّه كما قرّر الشارع أحكاماً واقعيّة كذا قرّر طريقاً للوصول إليها عند انسداد باب العلم بها أو قيام الحرج في التكليف بتحصيل اليقين بخصوصيّاتها ، فيكون مؤدّاها هو المكلّف به في الظاهر ، سواء حصل به الإيصال إلى الواقع أو لا وتقريره للطريق

ص: 575


1- المراد من المعترض في المقام هو عمّ المؤلّف العلّامة الاُصولى الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الحائري ، الفصول الغرويّة /282 .

المذكور ممّا لايدانيه ريب بعد الحكم ببقاء التكليف ، سواء كان ذلك هو مطلق الظنّ كما يقوله المستدلّ أو الظنّ الخاصّ كما ذهب إليه غيره .

وحينئذٍ فلابدّ من تحصيل العلم بذلك الطريق مع الإمكان كما هو الشأن في غيره من الأحكام المقرّرة ، فاذا انسدّ سبيل العلم - بما قرّره حسب ما يدّعيه المستدلّ من عدم قيام دليل قاطع على حجّية شي ءٍ من الظنيّات الخاصّة ، وعدم إفادة شي ء من الأدلّة المنصوبة له - لزم الرجوع إلى الظنّ بتحصيله أخذاً بما هو الأقرب إلى العلم حسب ما قرّره المستدلّ ، فيجب الأخذ بما يظنّ كونه طريقاً منصوباً من الشارع لاستنباط الواقع ، ويكون مؤدّاه هو الحكم المطلوب هنا في الظاهر ، فالواجب علينا أوّلاً تحصيل العلم بما جعله طريقاً عند انسداد باب العلم ، وبعد انسداد سبيل العلم به يجب علينا الانتقال إلى الظنّ به ، وأين ذلك من الانتقال إلى الظنّ بالواقع في خصوصيّات المسائل كما رامه(1) المستدلّ ؟

فالحاصل أنّه لا تكليف بالأحكام الواقعيّة إلّا بالطريق الموصل إليها فنختار القول بتكليفنا بالأحكام الواقعيّة ، لكن من الطريق المقرّر عند صاحب الشريعة ، سواء كان هو العلم أو غيره . فالمكلّف به في الظاهر ليس سوى الطريق ، فإذا انسدّ سبيل العلم بالطريق كما اعترف به المستدلّ فلابدّ

ص: 576


1- في المطبوعة الحديثة : « دلّه » .

من الانتقال إلى الظنّ بما هو مؤدّاه دون الظنّ بالواقع كما هو مقصود المستدلّ ، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى .

فإن قلت : إنّ الانتقال إلى الظنّ بما جعله طريقاً إلى الواقع إنّما يلزم في حكم العقل إذا علم بقاء التكليف بالأخذ بالطريق المقرّر ولا دليل عليه بعد انسداد سبيل العلم به ، إذ لا ضرورة قاضية به كما قضت ببقاء التكليف في الجملة .

قلت : الأخذ حينئذٍ بطريق ما ممّا لامناصّ عنه في استنباط الأحكام فلابدّ من طريق مقرّر عند الشارع بحسب الواقع لمعرفة الأحكام والوصول إليها ولو مع انسداد باب العلم بنفس الطريق المقرّر للاستنباط ، إذ لا مناص عن العمل ولا عن الأخذ بطريق من الطرق ، وحينئذٍ فإذا لم يمكن العلم بذلك الطريق تعيّن الأخذ بظنّه ، حسب ما قرّر في الدليل المذكور .

والحاصل أنّ للشّارع حينئذٍ طريقاً لمعرفة الأحكام إذ المفروض عدم سقوط التكليف بها ، فإذا انسدّ سبيل العلم به تعيّن الأخذ بظنّه . فما ذكر في الإيراد من احتمال سقوط التكليف بالأخذ بالطريق المقرّر إن اُريد به سقوط الأخذ بالطريق المقرّر مطلقاً فهو واضح الفساد ، فإنّه لا يقوم ذلك الاحتمال إلّا إذا احتمل سقوط التكليف بغير المعلومات وأمّا مع بقائه فلا يعقل سقوط التكليف بالأخذ بطريق

ص: 577

موصل إليها في حكم الشارع ، إذ لابدّ حينئذٍ من طريق يوافق رضاه وهو المراد من الطريق المقرّر ، مضافاً إلى أنّه بعد تسليم طريق المقرّر من الشارع من أوّل الأمر وعلم المكلّف به إجمالاً لا يجوز عند العقل ترك الأخذ به مطلقاً مع عدم ثبوت سقوط الأخذ به ، بل يحكم حينئذٍ بتقديم الأخذ بالظنّ به عند انسداد سبيل العلم إليه على ترك الأخذ به(1) لمجرّد احتمال سقوطه مع ظنّ خلافه ، فيقدّم الظنّ به حينئذٍ عند انسداد باب العلم قطعاً أخذاً بما هو الأقوى والأحرى والأقرب إلى الواقع مع عدم إمكان العلم به [ج 3 : ص 396 - 394] .

أقول : قد تقّدم في الوجه الثاني من الاحتجاجات الّتي أفادها المصنّف - طاب ثراه - تفصيل الكلام في هذا المقام ، إلّا أنّ الغرض في المقام منع الوجه الثاني من وجهى المقدمّة الاُولى ، ومنه يظهر أنّ ذلك مأخوذ فيها وليست مقصورة على مجرّد بيان الوجه الأوّل خاصّة ، وإلّا لم يكن لهذا الكلام ربط بمنع المقدمّة الاُولى وإبداء المناقشة فيها ، فمحصّله دعوى سقوط الواقع حيث لا يساعد عليه ولا يوصل إليه الطريق المرضّى الثابت في حقّ المكلّف على حسب ما هو عليه من الخصوصيات والأحوال ، شرعيّاً كان أو عقليّاً أو عاديّاً فهيهنا مقدّمتان ضروريّتان ؛

هيهنا مقدّمتان ضروريتان

إحداهما : أنّ بقاء التكليف بالدين يستلزم وجود الطريق إليه والدليل عليه ،

ص: 578


1- كلمة « به » لم ترد في المطبوعة الحديثة .

من العلم أو الظنّ المطلق أو المخصوص ، أو الاُصول العمليّة وإن لم تكن ناظرة إليها بالكليّة أو غيرها ، ومن المعلوم أنّها لا يستلزم الإيصال ، حتّى أنّ العلم الّذي هو من الطرق الضروريّة كثيراً ما يتخلّف عن الواقع ولا يصادفه ، إذ المراد به في المقام مجرّد القطع بالشي ء لا خصوص المطابق منه للواقع .

والاُخرى : أنّ الأحكام الّتي لا توصل إليها تلك الطّرق وإن كانت اُموراً حقيقيّة ثابتة في حدّ ذاتها بحسب الواقع ونفس الأمر إلاّ أنّها حينئذٍ شأنيّة محضة لا تنجّز لها في حقّ المكلّف ، ولا يراد منه العمل عليها ، ولا يعاقب على تركها ومخالفتها ، وما هذا شأنه فليس على المكلّف تحصيله ، بل يكون ساقطاً عنه على نحو سقوط الواجبات المشروطة بانتفاء شرطها ، لا يعرف العقل فرقاً بين المقامين أصلاً ، وإنّما يظهر الفرق بينهما في اُمور آخر .

وإذا تمهّدت المقدّمتان المذكورتان ترتّب عليهما أنّ الواجب على المكلّف في حكم العقل أوّلاً وبالذات إنّما هو تحصيل العلم بالطرق المرضيّة والعمل عليها ، لإناطة الإطاعة والعصيان بها ، ودوران الثواب والعقاب مدارها ، فإذا تعذّر العلم بها قام الظنّ بها مقامها ، فالقول ببقاء التكليف الفعلي بالأحكام الواقعيّة على ما هي عليه ممنوع جدّاً ، بل فاسد قطعاً .

ويشهد بذلك ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام الشرعيّة مع وضوح توقّف امتثالها عليها ، فإنّا نقطع بأنّ لها طرق عقليّة أو شرعيّة أو عاديّة ، وكثيراً ما يخالف مقتضاها للواقع ، بل موارد المخالفة فيها أغلب من مواقع الإصابة ، بل كثير منها لا توصل إلى الواقع إلّا نادراً ، فلعلّ الموصل إليه من الآلاف واحد منها كأصالة الطهارة والإباحة فيما يوجد في أيدى الناس وهكذا ؛ ومن البيّن أنّ العقل لا يحكم بوجوب تحصيل الواقع من تلك الموضوعات أصلاً ولا بإناطة الثواب

ص: 579

والعقاب والطاعة والعصيان بها ، إنّما يقضى بوجوب تحصيل مؤدّى تلك الطرق والعمل عليها ، فإن أمكن العلم وإلاّ قام الظنّ مقامه ، فإنّ الشارع قد حدّ حدوداً وقرّر طرقاً لمعرفة الأحكام والموضوعات ، وتوعّد على من تعدّى عن حدوده بأبلغ التهديدات ، فهل يحكم العقل إلاّ بإحرازها والمنع عن التعدّي عنها ؟ وأيّ فرق في نظر العقل بين الأقسام الثلاثة المشار إليها من الطرق ؟ لاشتراكها في إناطة التكليف الفعلي بها ودوران الإطاعة والعصيان عليها ، ويجمعها الطرق المرضيّة ، فيجب تحصيلها بطريق اليقين ثمّ الظنّ ، من دون اختصاص للحكم بالطريق المنصوب ، حسب ما فصلّنا القول في ذلك فيما مرّ .

وجوه الفرق بين كلامى صاحب الفصول والهداية

وقد سلك نحو المسلك المذكور عمّي العلّامة قدس سره في فصوله في الجواب عن الدليل المذكور ، إلّا أنّك قد عرفت فيما قدّمناه وجوه الفرق بين المسلكين ، ومن جملتها أنّ كلام المصنّف قدس سره سيّما قوله « إذ لابدّ من طريق يوافق رضاه ، وهو المراد من الطريق المقرّر » صريح في إرادة القطع بمطلق الطريق المرضي ، فلا مجال لإنكاره أو إنكار بقاء التكليف بالعمل به ، لأنّه من لوازم بقاء التكليف . وصاحب الفصول قدس سره إنّما بنى كلامه على إثبات الطريق المجعول ، حيث أجاب في المقام عن الدليل المذكور بعلمنا بعد مراجعة السمع بأنّ الشارع قد نصب في حقّنا أدلّة مخصوصة ، وكلّفنا بالعمل بمقتضاها ، غاية ما في الباب أنّ تلك الأدلّة غير معلومة عندنا على التعيين والتفصيل ، فيجب علينا الاعتماد في معرفتها على الظنون الناشية منها ، قال : نعم يتمّ الدليل المذكور إن ثبت من السمع بقاء التكليف بالأحكام الفرعيّة بعد انسداد باب العلم إليها ، ولم يثبت منه نصب طريق مخصوص إلى معرفتها لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، أو ثبت ذلك ولم يثبت بقاء حكمه بعد انسداد باب العلم إليه ، والأوّل مخالف لما عرفت بيانه في الوجه الأوّل ،

ص: 580

والثاني مخالف لما أجمعوا عليه من بقاء التكليف بالأحكام الشرعيّة مطلقاً بعد انسداد باب العلم إليها ، مع أنّ التفصيل بين الأحكام في بقاء التكليف بها ممّا لا سترة بفساده .

كلام صاحب الفصول وما اُورد على نفسه

على إنّا نقول : لا علم لنا ببقاء التكليف بالأحكام الواقعيّة في حقّنا مطلقاً ، وإنّما المعلوم بقائه عند مساعدة بعض الطرق المخصوصة عليها ، فعلى من يدّعي بقائه في غير هذه الصور إقامة الدليل عليه ، ولا سبيل إلى التمسّك بإطلاق أدلّة الشركة في التكليف ، لأنّها لا تفيد العلم بالإطلاق ، لا سيّما في مقابلة ما أسلفناه .

وبالجملة ، فعلمنا بأنّا مكلّفون بالأحكام الفرعيّة المقرّرة في الشريعة عند تعذّر طريق العلم والطريق العلمي إليها لا يفتح لنا باب الظنّ إليها بعد علمنا بنصب طرق مخصوصة لمعرفتها ، ألا ترى أنّ علمنا بأنّا مكلّفون في المرافعات بإيصال كلّ حقّ إلى صاحبه لا يوجب في حقّنا فتح باب الظنّ في تعيين الحقوق ، لعلمنا بأنّ الشّارع كما كلّفنا بذلك كذلك جعل لنا إليها طرقاً مخصوصة وكلّفنا بالعمل بمقتضاها ، كاليد والشهادة واليمين ، فإذا انسدّ علينا معرفة تلك الطرق أيضاً لم نعمل بالظنّ في تعيين الحقوق ، بل في تعيين الطرق المقرّرة بها .

ثمّ أورد على نفسه بما إذا حصل الظنّ بجواز التعويل على مطلق الظنّ في مباحث الفقه ، وأجاب أوّلاً بأنّه لا سبيل إليه ، نظراً إلى استمرار طريقة أصحابنا قديماً وحديثاً على الاقتصار على حجيّة الظنون المخصوصة ، والتزامهم بأصالة عدم حجيّة كلّ ظنّ لا دليل على حجيّته ، فإنّا إن لم نقطع من إطباقهم على ذلك بفساد حجيّة مطلق الظنّ فلا أقلّ من حصول ظنّ قويّ لنا به .

وثانياً : بأنّه لا ينافي ما قرّرناه من التعويل على الظنّ في الاُصول ، فإنّما نريد التعويل عليه فيها على قدر الحاجة في الفقه ، فإذا قدّر حصول الظنّ بهذه

ص: 581

المسألة العامّة المورد حصل قدر الحاجة ، لإغنائها عن الظنّ في بقية مباحثها ، فيكون التعويل في الظنون الفقهيّة من حيث الظنّ في الاُصول ، وهو المقصود .

ثمّ أورد أيضاً بأنّا لا نعلم أنّه إذا انسدّ باب العلم إلى معرفة تلك الطرق وجب العمل بالظنّ ، لجواز أن يقتصر على وجوب العمل بمقتضى الطرق القطعيّة ويعوّل على أصل البرائة فيما عداها .

وأجاب بأنّه إن اُريد أنّ الأصل برائة الذمّة عن العمل بساير الأدلّة حتّى بالأصل فهو غير معقول ، إذ لابدّ في كلّ واقعة من حكم ولو في الظاهر ، ولابدّ له من دليل يتوصّل به إليه ولا أقلّ من الأصل ، وإن اُريد أنّ الأصل البرائة في غير ذلك المورد فهذا غير سديد ، إذ وجوب العمل بالأصل مشارك لوجوب العمل بساير الأدلّة في كونه مخالفاً للأصل ، فيبقى الترجيح من غير مرجّح(1) .

المناقشات الثمانية في ما افاده صاحب الفصول

قلت : في الكلام المذكور مواضع للنظر ؛

منها : إمكان المنع من القطع بنصب الطريق المجعول ، لإمكان أن يكون الطريق إلى معرفة الأحكام على نحوها هو الطريق عنده إلى معرفة ذلك الطريق ، لوضوح عدم تسلسل الطرق ، فلا بدّ من طريق لم ينصب إلى معرفته طريق آخر مع امتناع كونه طريقاً إلى نفسه أيضاً ؛

لكنّك قد عرفت فيما سبق إمكان إثبات تلك الدعوي بالتأمل في الأخبار وكلمات علمائنا الأبرار ، إلاّ أنّ ذلك على ما ذكرناه تكلّف مستغنى عنه ، إذ الطاعة والعصيان كما يدور مدار الطرق المنصوبة إذا وجدت كذا تدور مدار الطّرق العقليّة والعاديّة إذا فقدت غير أنّا إذا قطعنا بانتفاء الطرق المنصوبة كان

ص: 582


1- الفصول / 283 - 281 .

النظر في ساير الطرق المرضيّة إلى الواقع من العلم به أو الظنّ أو غيرهما ، فإن قطعنا بها فلا كلام ، وإلّا قام الظنّ بها مقامها على نحو الطرق المجعولة ، فلا فرق بينهما في ذلك فيما نحن بصدده .

ومنها : إمكان المنع من بقاء التكليف بها بعد تسليم أصلها .

قوله : إنّ ذلك مخالف لما أجمعوا عليه من بقاء التكليف بالأحكام الشرعيّة مطلقاً وبطلان التّفصيل بينها .

فيه أنّ ذلك إنّما يجدي مع بقاء موضوع الطريق المنصوب ، ومن المحتمل أن يكون المنصوب طريقاً مشروطاً بشرايط مفقودة في أمثال هذه الأزمنة ، فمجرّد قيام الإجماع على بقاء التكليف بمطلق الحكم الشرعي مع الشك ، في بقاء موضوعه لا يجدي شيئاً ، لوضوح أنّ الإجماع المذكور لا يدلّ على وجود الموضوع المطلوب ، فلابدّ من إثباته بدليل آخر ، وليس فيما ذكره دلالة عليه ، إلّا أن يقال بإمكان إثبات ذلك على الإجمال من الإجماع والأخبار إن لم يمكن إثبات ذلك على التفصيل على ما ندّعيه ، فإنّ ما قدّمناه من الأدلّة إن لم يف بإثبات التفصيل عن ذلك فلا أقلّ من إثبات الإجمال .

ومنها : أنّ اللازم من ذلك هو الاقتصار على القدر المتيقّن ولو بالإضافة ، والاحتياط بالجمع بين المتباينين ، حيث يدور الأمر بينهما ، وغير ذلك ممّا تقدّم الكلام فيه ، وشي ء من ذلك لاورود له على طريقة المصنّف قدس سره كما هو ظاهر .

ومنها : أنّ قوله : لا علم لنا ببقاء التكليف بالأحكام الواقعيّة ، وإنّما المعلوم بقائه عند مساعدة بعض الطرق المخصوصة عليها ، فعلى من يدّعي بقائه في غير هذه الصّورة إقامة دليل عليه واضح الفساد ، إذ بعد تسليم المنع من بقاء التكليف بتلك الطرق أو من أصلها لا مجال للتأمّل في وجوب امتثال الأحكام الواقعيّة بعد

ص: 583

العلم بها على الإجمال ، وليس على من يدّعي ذلك إقامة الدليل عليه بعد تسليم العلم الإجمالي بها ، لوضوح أنّ الحكم الشرعي الثابت في حقّ عامّة المكلّفين في نفس الأمر كما هو مفاد الأمر الأوّل من وجهي المقدمّة الاُولى يستدعى الامتثال ، فعلى من يدّعي سقوطه عنّا إقامة الدليل عليه ، فقوله : « إنّ إطلاق أدلّة الشركة لايفيد العلم بالإطلاق » غريب جدّاً ، للقطع باشتراك عامّة المكلّفين في جميع الأحكام الواقعيّة بحسب نفس الأمر ، إنّما الكلام في حصول العذر المسقط لها ، فيتوقّف على إثباته وإقامة الدليل عليه .

ومنها : أنّ ما ذكر من المثال في لزوم إثبات الطرق المقرّرة لقطع الخصومة خارج عمّا نحن فيه ، وإن أمكن تشبيهه به في الجملة على ما تقدّم الكلام فيه ، لما عرفت سابقاً من أنّ الواجب أوّلاً وبالذات في حقّ القاضي ليس إلاّ فصل الخصومة بتلك الطرق المخصوصة ، وذلك هو الواقع في حقّه دون إيصال الحقّ الواقعي إلى مستحقّه ، إنّما يكلّف بذلك من عليه الحقّ ، وقد تقدّم .

ومنها : أنّ ما ذكره في الجواب الأوّل عن الإيراد لا ربط له به ، إذ غايته أنّ ذلك ممّا لا ينبغي حصول الظنّ به ، لا أنّ الظنّ بذلك لا يحصل لبعض المجتهدين ، كيف وكثير منهم يدّعي القطع به ؟ ومن البيّن أنّه بعد قطعه أو ظنّه مكلّف بمؤدّى نظره ، لا يجوز له العدول عنه ، فالصواب هو الجواب الثاني ، لكونه من الظنّ بالطريق المعتبر عنده ، فلا يجوز له العدول عنه ، وإنّما نقول بخطائه في ذلك وعدم حصول الظنّ لنا به ، وكلّ مكلّف بفهمه ومؤدّى نظره .

ومنها : أنّ قوله في الجواب الثاني : « أنّه إذا قدّر حصول الظنّ بهذه المسألة العامّة المورد حصل قدر الحاجة ، لإغنائها عن الظنّ في بقيّة مباحثها » غريب جدّا ، إذ بعد إثبات حجيّة الظنّ في مباحث الاُصول وإبطال التخيير والترجيح لا

ص: 584

يتقدّر الحكم في ذلك بقدر الحاجة ولا يعقل الترجيح فيها ، وإن كان الحكم التابع للضرورة إنّما يتقدّر بقدرها ، فإنّه إنّما يتمّ حيث يمكن التخيير أو الترجيح ، فإذا بطل العمل بهما تعيّن الجمع ، لامتناع العمل بالقضيّة المهملة .

ومنها : أنّ ما ذكره في الإيراد الثاني متّجه على طريقته ، وارد عليه بعد فرض وجود القدر المتيقّن من الطرق المنصوبة والشكّ فيما زاد على ذلك ، ليتعيّن الرجوع إلى أصل العدم في غيره ، فإن كان القدر المتيقّن من ذلك وافياً بإثبات القدر اللازم من الأحكام امتنع التعدّي عنه ، وإلّا لزم الرجوع إلى مطلق الظنّ بالأحكام على ما يقوله القائل بحجيّة مطلق الظنّ ، من غير أن يؤثّر القدر المتيقّن من الطرق المنصوب في ذلك أصلاً .

ما ذكره قدس سره في الجواب عن ذلك فاسد من وجوه
الوجه الأوّل

الأوّل : أن الطرق الّتي أثبت العلم بها على الإجمال إنّما هي الطرق الاجتهاديّة الناظرة إلى الأحكام الواقعيّة ، كما يشهد به دعواه القطع بنصب الطرق إلى معرفة الأحكام الفرعيّة ، ومن البيّن أنّ الأصل ليس طريقاً إلى معرفة الحكم ، إنّما هو طريق لعمل المكلّف حين جهله بتلك الأحكام ، وإنّما يرجع إليه في غير موارد تلك الطرق المقرّرة .

نعم ، يتمّ التعميم على طريقة المصنّف قدس سره لأنّه قدس سره إنّما أراد الطريق إلى الفتوى والعمل كائناً ما كان ، وهو الّذي يجب البناء عليه في ظاهر الحال ، فيجب تحصيله بطريق اليقين أو الظنّ كما عرفت ، ولذا أشرنا سابقاً إلى أنّ ذلك من جملة وجوه الفرق بين المسلكين ، فعلى طريقة صاحب الفصول ينبغي القطع بلزوم البناء فيما زاد على القدر المتيقّن من الطرق على أصالة النفي حيث لا يكون هناك علم إجمالي بإثباته .

ص: 585

الوجه الثانية والثالثة والرابعة

الثاني : أنّه على تقدير تعميم الطرق للأصل المذكور يكون الأصل من جملة تلك الطرق ، حيث يكون من الاُصول المنصوبة المجعولة ، لا من الطرق العقلية والعاديّة ، لما عرفت من أنّ غرضه من الطرق إنّما هو الطرق المنصوبة المجعولة ، والمفروض في كلام المورد وجود القدر المتيقّن من الطرق والشكّ فيما يزيد عليه ، فلا يرتبط الجواب المذكور بكلامه .

الثالث : أنّ قوله : « لابدّ في كلّ واقعة من حكم ولو في الظاهر ، ولابدّ له من دليل يتوصّل به إليه ولا أقلّ من الأصل » إنّما يتمّ على طريقة المصنّف قدس سره من تعميم الطرق للطرق المجعولة وغيرها ، إذ الدليل والطريق بالمعنى الأعمّ هو الّذي لابدّ منه في كلّ واقعة ، أمّا خصوص الطريق المنصوب فليس بلازم في كلّ واقعة وإلاّ لزم التسلسل ، فإنّ من الوقايع معرفة الطريق وطريق الطريق وهكذا .

الرابع : أنّ قوله : « إنّ وجوب العمل بالأصل مشارك لوجوب العمل بساير الأدلّة في كونه مخالفاً للأصل ، فينبقي الترجيح من غير مرجّح » ، كما ترى ، فإنّ الأصل ليس بمثبت للتكليف حتّى ينتفي بالأصل ، غاية الأمر لزوم الأخذ بمقتضاه في مقام الإفتاء بحكم العقل ، فإنّ البناء على أصالة النفي في كلّ حادث مشكوك فيه ممّا استقرّ عليه طريقة العقلاء والعلماء وليس بمحل شكّ حتّى ينتفى بالأصل .

وبالجملة ، فالجواب المذكور إن تمّ فإنّما يلائم طريقة المصنّف قدس سره حيث يقول بوجوب البناء في مقام العمل والإفتاء على طريق معيّن مرضيّ للشارع كائناً ما كان ، فإذا انسدّ باب العلم به قام الظنّ مقامه .

وكيف كان ، فمحصّل الجواب عن المقدّمة الاُولى من الدليل المعروف أنّا نقطع بأنّ الأحكام الواقعيّة مع ثبوت اشتراك عامّة المكلّفين فيها تنقسم إلى

ص: 586

أحكام فعليّة يدور عليها الاطاعة والمعصية والثواب والعقوبة ، وأحكام شأنيّة محضة ساقطة عن المكلّفين في الحقيقة على اختلافهم في القدر الساقط من ذلك والثابت منه بحسب اختلاف أفهامهم وتباين أنظارهم ، إذ لا يكلّف أحد إلاّ بقدر ما أدّى إليه نظره ووصل إليه فهمه .

والاُولى هي الّتي يؤدّى إليها الطرق الموجودة بالفعل ، الظاهرة للمكلّف ، المرضيّة للشارع إذا تحقّق إيصالها إليها ، أو أمكن ذلك بحيث يكون عدم وصوله إليها ناشياً من تقصيره في تحصيلها على وجه لا يكون معذوراً في ذلك .

والثّانية هي كلّ حكم ثبت في الواقع وخرج عن مدلول تلك الطرق ، أو لم يصل إليه المكلّف بشي ء من تلك الطرق ، وإن دلّت عليه بحسب الواقع ونفس الأمر ، إذا لم يستند إلى تقصيره في المقام الّذي لايعذر فيه ، أو حصل له بعض المعاذير المسموعة في الشريعة من خطأ أو سهو أو نسيان أو غفلة أو غيرها .

ومن المعلوم أنّ العقل بعد ملاحظة هذين القسمين إنّما يقضي بلزوم تحصيل القسم الأوّل بتحصيل العلم بالطرق المرضيّة من اجتهادية أو عملية ، شرعية أو عقلية ، فإذا انسدّ باب العلم بها تعيّن الرجوع إلى الأمارات المفيدة للظنّ بها ، وأين ذلك ممّا يدّعيه القائل بحجيّة الظنّ بمطلق الأحكام الواقعيّة بقسميها ؟ فالمنع من بقاء التكليف بالعمل بالطرق المذكورة غير معقول على ما ذكر .

وما ذكره المصنّف قدس سره في الجواب عنه ثانياً من أنّه بعد العلم بالطريق إجمالاً والشكّ في سقوطه لا يجوز عند العقل ترك الأخذ به بمجرّد احتمال سقوطه إنّما يتمّ مع فرض وجود موضوعه وتحقّق اقتضائه للعمل به ووجوب اتّباعه ، والشكّ في سقوط التكليف بالأخذ به بعروض الاشتباه له أو غيره ، نظراً إلى العلم بوجود

ص: 587

المقتضي والشكّ ، في المانع ، وقضية حكم العقل في مثله هو العمل بالمقتضي حتّى يثبت المانع .

وأمّا التمسّك بالاستصحاب في ذلك فمحلّ نظر ظاهر ، ويمكن أن يريد بذلك ترجيح الظنّ به على مطلق الظنّ بالواقع ، لاستلزامه الظنّ بسقوط الواقع وإن لم يكن ظنّاً بأدائه ، والظنّ بأداء التكليف المتعلّق بالطريق الثابت من أوّل الأمر المستصحب في تلك الحال ، بخلاف الظنّ الحاصل من الطرق الّتي يشكّ في اعتبارها في نظر الشارع أو يظنّ بعدمه ، إلّا أنّه ألصق وأنسب بإنكار المقدّمة الرابعة ، ومع ذلك فالترجيح به غير موقوف على إثبات الطريق المذكور من أوّل الأمر واستصحابه في ثاني الحال ، بل يتحقّق الترجيح بذلك أيضاً بمجرّد قيام الاحتمال ، وإن كان الترجيح مع ذلك أقوى وأقرب إلى الامتثال ، واللَّه سبحانه هو العالم بحقيقة الحال .

قال - طاب ثراه - :

الوجه الثاني من وجوه الإيراد على دليل الانسداد

اشارة

الوجه الثاني : أنّ ما ذكر في المقدّمة الثانية « من أنّ الطريق إلى الوصول إلى الأحكام هو العلم مع الإمكان إن اُريد به أنّ الطريق أوّلاً إلى الواقع هو ما يعلم معه بأداء التّكليف في ظاهر الشريعة وحصول الفراغ عن الاشتغال في حكم الشرع فمسلّم ، ولا يلزم منه بعد انسداد طريق العلم به - ولو باعتبار العلم بأداء المكلّف به بحسب الواقع نظراً إلى توقّف اليقين بالفراغ عليه مع عدم قيام دليل على الاكتفاء بغيره من سائر الطرق - إلّا الرجوع إلى الظنّ بما جعله الشارع طريقاً إلى معرفة ما كلّف به ، فيقوم ذلك مقام

ص: 588

العلم به ، بل يحصل منه العلم أيضاً بعد ملاحظة ذلك وإن كان في المرتبة الثانية . ولا ربط لذلك بحجّية الظنّ المتعلّق بخصوصيّات الأحكام كما هو مقصود المستدلّ .

وإن اُريد به أنّ الطريق أوّلاً هو العلم بالأحكام الواقعيّة لينتقل بعد انسداد سبيله مع العلم ببقاء التكليف إلى الأخذ بالظنّ بها فهو ممنوع ، بل القدر اللازم منه أوّلاً هو ما عرفت من العلم بأداء التكليف شرعاً كما مرّ تفصيل القول فيه ، وكون الطريق المقرّر أوّلاً في الشريعة هو العلم بالأحكام الواقعيّة ممنوع ، وليس في الشرع ما يدلّ على لزوم تحصيل العلم بكلّ الأحكام الواقعيّة ، بل الظاهر أنّه ممّا لم يقع التكليف به مع انفتاح طريق العلم لما في إناطة التكليف به من الحرج التامّ بالنسبة إلى عامّة الأنام ، بل المقرّر من الشارع طرق خاصّة لأخذ الأحكام كما قرّر طرقاً خاصّة للحكم بالموضوعات الّتي اُنيط بها الأحكام ، ونزّلها منزلة العلم بها .

وقد مرّ تفصيل القول في تضعيف ما قد يقال من إناطة التكليف بالواقع وأنّه لابدّ من القطع بالواقع في خصوصيّات المسائل ، وعدم الاكتفاء بالطرق الظنيّة إلّا بعد انسداد سبيل العلم كما هو مبنى الاحتجاج المذكور .

ومحصّل الكلام : أنّ الطريق أوّلاً إلى الواقع هو ما قرّره الشّارع وجعله طريقاً إلى العلم بتفريغ الذمّة لانفس العلم

ص: 589

بأداء الواقع ، ولذا إذا علمنا ذلك صحّ البناء عليه قطعاً ولو مع انفتاح باب العلم بالواقع ، فعدم وجوب مراعاة القطع بالواقع إذا حصل القطع بتفريغ الذمّة في الشّريعة أقوى شاهد على ما قلناه .

نعم إذا انسدّ علينا الطريق المذكور تعيّن العمل بما يعلم معه بأداء الواقع مع إمكانه ، نظراً إلى عدم قيام دليل على حصول البرائة بغيره ، وقضاء اليقين بالشغل باليقين بالفراغ في حكم العقل لا لتعيّن ذلك بخصوصه ، بل لإيجابه ذلك من جهة الجهل بحصول الفراغ من حكم الشرع بغيره ، فإذا انسدّ علينا ذلك تعيّن الأخذ بالطريق الّذي يظنّ كونه طريقاً إلى تفريغ الذمّة ، ويرجّح في نظر العقل جعله الشارع سبيلاً إلى معرفة التكليف وثبوت الحكم في ظاهر الشريعة ، فيقّدم ذلك على مطلق الظنّ المتعلّق بالواقع الخالي عن الظنّ بكونه المكلّف به في الظاهر ، فكما أنّه لو علم هناك طريق مقرّر من الشرع في معرفة تفريغ الذمّة كان ذلك هو المتّبع في أداء التكليف وصحّ تقديمه على الأخذ بما فيه العلم بالبرائة الواقعيّة ، فكذا لو كان هناك ظنّ بالطريق المقرّر قدّم على ما يظنّ معه بالإتيان بما هو الواقع ، غير أنّ هناك فرقاً بينهما من حيث أنّ الأخذ بالطريق المعلوم جائز هناك أيضاً مع عدم منع الشرع من الأخذ به نظراً إلى استقلال العقل في الحكم برجحان الأخذ بالاحتياط ما لم

ص: 590

يمنع منه مانع ، وهنا لا يجوز الأخذ بمجرّد الظنّ المتعلّق بالواقع من دون ظنّ بكونه الطريق إلى تفريغ الذمّة ، لما عرفت من أنّ الملحوظ في نظر العقل أوّلاً هو المعرفة بفراغ الذمّة في ظاهر الشريعة ، وحيث تعذّر العلم به وكان باب الظنّ به مفتوحاً لا وجه لعدم الإتيان بمقتضاه والأخذ بالمشكوك أو الموهوم من حيث الأخذ وان كان هناك ظنّ بأداء الواقع .

والحاصل : أنّ الإتيان بما هو معلوم يقضي بالعلم بأداء تكليفه بحسب الشرع ولو مع العلم بما جعله الشارع طريقاً إلى الواقع ، بخلاف الإتيان بما يظنّ مطابقته للواقع بعد انسداد باب العلم ، إذ لا يستلزم ذلك الظنّ بأداء ما كلّف به في ظاهر الشريعة من الرجوع إلى الطريق المقرّر لكشف الواقع ، لما هو ظاهر من جواز حصول الظنّ بالواقع والقطع بعدم كونه طريقاً في الشريعة إلى الواقع كما في ظنّ القياس ، وقد يظنّ عدمه كما في ظنّ الشهرة لقيام الشهرة على عدم الاعتداد به في الشريعة ، وقد يشكّ فيه كما في بعض الظنون في المشكوك حجّيتها وجواز الأخذ بها ، ولا ترجيح في نظر العقل لجواز الاعتماد عليها في الشريعة على عدمه . فظهر أنّه لا ملازمة بين الظنّ بالواقع والظنّ بكون الأخذ بذلك المظنون هو المكلّف به في الشريعة والحجّة علينا في استنباط الحكم والمتّبع بمقتضى الدليل المذكور هو الظنّ

ص: 591

الثاني دون الأوّل ، وسيأتي تتمّة الكلام في ذلك إن شاء اللَّه تعالى [ج 3 ، ص 398 - 396] .

توضيح من الشارح في المقام

أقول : الكلام في ذلك قد تقدّم في المقدّمة الرابعة والوجه الأوّل من الاحتجاجات الّتي ذكرها المصنّف قدس سره ، وقد عرفت أنّ أكثر من تعرّض لتقرير دليل الانسداد قد أهملوا ذكر المقدّمة الثانية ، وأنّ المصنّف قدس سره بملاحظة أنّ اللازم في حكم العقل بعد الانسداد هو الأخذ بما هو الأقرب إلى الطريق المعتبر في حال الانفتاح اعتبر تعيين الطريق المعتبر من أقلّ الأمر في المقدّمات ليتفرّع عليه حجيّة ما هو الأقرب إليه حال انسداد العلم به ، فإن كان المعتبر أوّلاً وبالذات هو العلم بالواقع من حيث هو ترتّب عليه الأخذ بالظنّ به عند الانسداد ، أمّا إذا كان المعتبر هو العلم بتفريغ الذمّة وكان اعتبار العلم بالواقع من جهة استلزامه له وحصول المقصود به كان اللازم ثانياً هو الأخذ بالظنّ به ، لا مجرّد الظن بالواقع مع الشكّ في اعتباره في نظر الشارع أو الظنّ بعدمه .

وفيه - مضافاً إلى ما مرّ - أنّ التوسعة في أوّل الأمر لا يقتضي التضييق في ثاني الحال ، بل على تقدير تسليم القول بتعيّن تحصيل العلم بالواقع أوّلاً وبالذات لا يحصل الانتقال عند الانسداد إلى مطلق الظنّ بالواقع بعد فرض الشك في حصول البرائة به ، وقيام احتمال منع الشارع من الأخذ به مساوياً لاحتمال تجويزه فضلاً عن الظنّ به ، لرجوعه حينئذٍ في الحقيقة إلى الشكّ والوهم ، فمجرّد كونه ظنّاً بأداء الواقع حينئذٍ مع رجوعه إلى أحدهما لا يقضي برجحانه في نظر العقل .

فبناء المسألة على تعيين ما هو المرجع والمعتبر في زمان الانفتاح ، واعتباره في مقدّمات دليل الانسداد ليس في محلّه ، إنّما يحكم العقل حال

ص: 592

الانسداد باعتبار الظنّ الّذي لا يؤول إلى الشكّ والوهم ، وإنّما يتحقّق ذلك بالظنّ بالطريق دون الظنّ بالواقع ، لا من جهة قربه إلى الطريق المعتبر في زمان الانفتاح ، بل لوضوح تقديمه على الطريق الراجع إلى الشكّ والوهم في نظرالعقل وإن كان ظنّاً بأداء الواقع .

توجيه آخر لكلام الماتن

ويمكن توجيه الكلام المذكور بما مرّ توجيهه في المقدمّة الرابعة من بناء المسألة على كون المصالح والمفاسد الواقعية عللاً تامّة ثبوت الأحكام وعدمه ، إذ مع فرضه لا يجوّز العقل حال الانسداد العدول عن الظنّ بإدراك المصالح والاحتراز عن المفاسد المذكورة إلى الشكّ فيها إلاّ مع الظنّ بما يوجب تداركها .

وقد يقال : إنّه على الفرض المذكور يمكن أيضاً منع التسوية بين أقسام الظنون المتعلّقة بالواقع ، إذ فرض الظنّ باعتبار بعضها في نظر الشارع دون بعض ، بل يترجّح الأوّل على الثاني ، وكذا لا ينافيه التسوية بين الظنّ بالواقع وبالطريق وإن لم يفد ظنّاً بالواقع ، بل وإن اجتمع الظنّ بمخالفة الواقع أيضاً ، لاستلزام الظنّ باعتباره للظنّ بتدارك ما فات من المصالح الواقعيّة وجبران ما اتّفق من المفاسد النفس الأمرية .

وفيه : أنّ ذلك خلاف ما هو المفروض من كونها عللاً تامّة ، فعلى فرضه لا وجه للعدول عن الظنّ الواقع ولا للتفصيل بين أقسامه ، إلّا إذا كان بعضها أقرب إلى إصابة الواقع من بعض ، وحينئذٍ فيمكن أن يكون الحاصل من بعض الطرق المخصوصة مع الشّك أقرب إلى إصابة الواقع من الظنّ ، فيكون الظنّ بالطريق مطلقاً مستلزماً للظنّ بقربه إلى الواقع وإن كان الطريق المفروض موجباً للشكّ مع قطع النظر عن الملاحظة المذكورة ، والشك في حجيّة بعض الظنون موجباً للشّك في ذلك لمرجوحيّته بالنسبة إلى غيره في إصابة الواقع ، فيكون المدار على ذلك

ص: 593

مطلقاً ، فتأمّل .

قال قدس سره :

الوجه الثالث من وجوه الإيراد على دليل الانسداد

اشارة

الوجه الثّالث : المنع من المقدمّة الثالثة لإمكان المناقشة فيها بأنّه إن اُريد بانسداد سبيل العلم بالأحكام انسداد سبيل المعرفة بنفس الأحكام الشرعيّة على سبيل التفصيل فمسلّم ، ولا يقضي ذلك بالانتقال إلى الظنّ ، إذ الواجب على المكلّف حين الاشتغال بالأحكام الشرعيّة في الجملة هو تحصيل اليقين بالفراغ منها ، ولا يتوقّف ذلك على تحصيل اليقين بحكم المسألة ليتنزّل بعد انسداد سبيله إلى الظنّ به . وإن اُريد انسداد سبيل العلم بأداء التكاليف الشرعيّة والخروج عن عهدتها فممنوع ، فإنّه كما يمكن العلم بالفراغ بتحصيل العلم بحكم المسألة والجري على مقتضاه ، كذا يمكن تحصيله بمراعاة الحائطة في الغالب ولو بتكرار العمل ، وكثيراً ممّا لا يمكن فيه ذلك لا مانع من القول بسقوط التكليف بالنسبة إليه ، إذ لا يلزم من البناء عليه خروج عن الدين ، فإنّ معظم الواجبات والمحرّمات معلوم بالضرورة أو الإجماع .

غاية الأمر عدم قيام الدليل القاطع على تفاصيل تلك المجملات وتحصيل القطع بأداء الواجبات ممكن في الغالب بأداء فرد يقطع باندراجه في الطبيعة المطلوبة ، وفي ترك المحرّمات قد يبنى أيضاً على الاحتياط وقد يقتصر على

ص: 594

القدر المتيقّن على اختلاف المقامات ، ومع عدم جريان الاحتياط في بعض المقامات مع العلم ببقاء التكليف فلا أقلّ من لزوم مراعاته فيما يمكن فيه المراعاة لإمكان تحصيل اليقين بالنّسبة إليه ، فلا وجه للرجوع فيه إلى الظنّ ، لما عرفت من أنّ المناط في تحصيل اليقين هو اليقين بأداء التكاليف دون اليقين بحكم المسألة لينتقل إلى الظنّ به بعد انسداد سبيله ، فلا يتمّ القول بلزوم الرجوع إلى الظنّ بالحكم بعد انسداد سبيل العلم به كما هو المدّعى .

ولو سلّم توقّف الخروج عن عهدة التكليف على العلم بالحكم في بعض المقامات مع القطع ببقاء التكليف حينئذٍ فغاية الأمر حينئذٍ القول بحجّية الظنّ هناك وأين ذلك من المدّعى ؟ ودعوى عدم القول بالفصل بعد ثبوت حجّية الظنّ فيه مطلقاً محلّ تأمّل ، على أنّه غير مأخوذ في الاحتجاج ، مضافاً إلى أنّ مقتضى ما سلّمناه من لزوم تحصيل العلم بالفراغ هو الانتقال بعد انسداد سبيله إلى ما هو الأقرب إلى اليقين بالفراغ ، فيجب حينئذٍ مراعاة الأحرى في تحصيل الواقع ، ولا ملازمة بينه وبين الأخذ بما يظنّ من الأحكام .

فغاية الأمر أن يكون الواجب فيما لا يمكن فيه تحصيل العلم بعد الفراغ - من مراعات الاحتياط أو العلم بالحكم والجرى على مقتضاه - أن ينتقل إلى ما يكون الظنّ بالفراغ معه أقوى ، ويكون الحكم بتحصيل الواقع مع

ص: 595

مراعاته أحرى ، وهو غير الأخذ بما هو المظنون في حكم المسألة كما هو المدّعى وإن أمكن توقّف حصوله على مراعاته في بعض المقامات .

فغاية الأمر ثبوت حجّية الظنّ في ذلك المقام لو تحقّق حصوله في الخارج وثبت بقاء التكليف به حينئذٍ من ضرورة أو إجماع .

وما قد يقال : من عدم قيام دليل على وجوب الاحتياط مدفوع بأنّ هذا الدليل على فرض صحّته كافٍ فيه ، فإنّ مقتضاه كما عرفت وجوب تحصيل القطع بالفراغ مع الإمكان ، ولا ريب في حصوله بمراعاة الاحتياط .

وما قد يترائي من وقوع الخلاف في جواز الاحتياط ، لمخالفة الحلّي فيه حيث عزي إليه القول بكونه تشريعاً محرّماً ، فكيف يمكن القطع بحسنه مع مخالفته ؟ ومن أنّه لا يمكن مراعاته في معظم العبادات ، لوقوع الخلاف في وجوب كثير من أجزائها واستحبابه ، فلابدّ مع مراعاة القول باعتبار الوجه من تكرار العمل ، وهو يصل في الغالب إلى حدّ لا يمكن الفراغ منه موهونُ بأنّ طريق العلم غير مسدود في هاتين المسألتين لقطع العقل بحسن الاحتياط في تفريغ الذمّة بل والقطع به بملاحظة ما ورد في الشرع ، ومجرّد وقوع الخلاف في مسألة لا يقضي بعدم إمكان تحصيل القطع فيها ، على أنّ خلافه في محل الفرض - أعنى

ص: 596

ما إذا انسدّ باب العلم بالحكم وانحصر طريق العلم بتفريغ الذمّة في الاحتياط مع عدم قيام دليل على حجّية الظنّ - غير معلوم ، بل الظاهر خلافه .

وكذا الحال في المسألة الثانية ، فإنّ القول بوجوب نيّة الوجه في الأجزاء موهون جدّاً ، بل مقطوع بفساده سيّما بعد عدم إمكان تحصيل القطع وعدم قيام دليل على الاكتفاء بالظنّ ، ومع الغضّ عن ذلك فبعد وجوب تحصيل العلم بالفراغ وكون الاحتياط طريقاً إلى العلم ، بل وانحصار الطريق فيه يجب البناء عليه ، ومعه يكون الإتيان بالأجزاء الدائرة بين الوجوب والندب - مثلاً - واجباً فلابدّ على القول باعتبار نيّة الوجه من أدائها على وجه الوجوب فلا حاجة إلى التكرار .

وما قد يتخيّل : من اتّفاق الأصحاب على عدم وجوب الأخذ بالاحتياط في جميع المقامات - أعني في مقام الجهل بالتكليف الإيجابي أو التحريمي ، أو الشكّ في المكلّف به إيجاباً أو منعاً - فكيف يمكن الالتزام به في الجميع ؟ مدفوعٌ بالالتزام به في محلّ الإجماع ، فيتمسّك حينئذٍ فيه بالأصل .

والحاصل : أنّ الأمر دائر في المقام بين القول بسقوط التكليف من جهة الأصل والأخذ بالاحتياط وشي ء منهما لا ربط له بالعمل بالظنّ ، نعم ، قد يقال باتّفاقهم على عدم

ص: 597

وجوب العمل بالاحتياط فيما دلّ على خلافه الأدلّة الظنيّة في الجملة ، لاتّفاق القائل بأصالة الظنّ والقائل بالظنون المخصوصة عليه ، إلّا أنّ كون الاتّفاق المذكور حجّة شرعيّة محلّ تأمّل ، لوضوح المناقشة في كشفه عن قول الحجّة كما لا يخفى ، على أنّهم إنّما قالوا به من جهة قيام الأدلّة عندهم على حجّية ما سواه من وجوه الأدلّة . فإذا فرض عدم قيام دليل عليه عندنا وعدم صحّة ما ذكروه من الأدلّة ، فكيف يجعل الاتّفاق المذكور دليلاً على المنع مع اختلاف الحال ؟ إذ عدم حجّيته مع قيام الدليل غير عدمها مع عدم قيامه ، وهو ظاهر .

والقول بأنّ الأخذ بالاحتياط موجب للعسر والحرج محلّ منع ، كيف ؟ والعمل به متعيّن بالنسبة إلى من لم يتمكّن من الرجوع إلى الطرق المقرّرة للاستنباط ، ولا إلى عالم مستنبط للأحكام عن تلك الأدلّة إذا أمكنه تحصيل الاحتياط في المسألة ، كما فصّل القول فيه في مباحث الاجتهاد والتقليد ، فلو كان ذلك حرجاً منفيّاً في الشريعة لما وقع التكليف به حينئذٍ ، ومع تسليمه فالقول برفع العسر والحرج مطلقاً مبنيّ على العمل بإطلاق ما دلّ عليه من الأدلّة الشرعيّة ، وهو استناد إلى الظنّ .

وقد يقال : إنّ الرجوع إلى الأصل في غير ما يمكن فيه تحصيل القطع ولو بمراعاة الاحتياط رجوع إلى الظنّ أيضاً ،

ص: 598

فكيف يصحّ الرجوع إليه في التخلّص عن الأخذ بالظن ؟

ويدفعه : أنّ الأخذ بالأصل ليس من جهة حصول الظنّ به ، إذ قد لا يحصل منه الظنّ في المقام وإنّما الأخذ به من جهة انسداد طريق الوصول إلى التكليف - أعنى العلم - وعدم قيام دليل على الرجوع إلى غيره فيندفع التكليف ، لانتفاء السبيل إليه ، فهو في الحقيقة رفع للتكليف لا إثبات له ، ومع ذلك فهو رجوع إلى العلم نظراً إلى الوجه المذكور دون الظنّ ، وبعد الغضّ عن ذلك فالملحوظ في المقام هو الإيراد على الدليل المذكور ، والمأخوذ فيه إبطال الرجوع إلى الأصل من جهة أنّ فيه خروجاً ممّا علم ثبوته في الدين .

وقد قرّرنا أنّه لا يلزم ذلك . والقول بأنّه رجوع إلى الظنّ على بعد(1) تسليمه كلام آخر غير مأخوذ في الاحتجاج ، وبما قرّرنا يظهر الجواب عمّا قد يقال : من أنّا إن سلّمنا جريان الاحتياط في أعمال نفسه فلا يمكن جريانه بالنسبة إلى بيان الحكم لغيره ، إذ من البيّن وجوب ذلك أيضاً والاقتصار في ذلك على بيان الاحتياط من غير بيان للحكم مع طلب السائل له ، وظنّه بالحكم من الأدلّة الظنيّة مشكل ، على أنّه قد لا يتمكّن من ذلك أيضاً ، كما إذا دار مال بين يتيمين أو غائبين أو يتيم وغائب ، ونحو ذلك .

ص: 599


1- في المطبوعة الحديثة : « فرض » بدل « بعد » .
توضيح من الشارح

والسكوت عن الفتوى حينئذٍ وترك التعرّض له مشكل أيضاً ، إذ قد يكون محرّماً باعثاً على تلف مال اليتيم أو الغائب ، فإنّ الالتزام بجميع ذلك في خصوص تلك المقامات لا يوجب الخروج عمّا يقطع به من التكليف المتعلّق بنا في الشريعة ممّا دلّت عليه الضرورة ونحوها حسب ما بني عليه تقرير الدليل المذكور .

[نعم لو قرّر الإحتجاج بنحو آخر أمكن جريان الكلام المذكور وسنشير إليه إن شاء اللَّه تعالى(1)] [ج 3 ص 402 - 398] .

أقول : قد عرفت أنّ المطلوب في المقدمّة الثالثة إثبات تعذّر الخروج عن عهدة التكاليف الشرعيّة بطريق اليقين ، وأنّ ذلك موقوف على تحقّق الانسداد على الوجوه الثلاثة ، لا مجرّد تعذّر العلم بمعظم الأحكام ، لوضوح أنّ العلم في ذلك غير مطلوب بالذات وإنّما هو مقدمّة للعمل ، فإذا انسدّ سبيله كان مقتضى القاعدة هو الأخذ بالاحتياط بعد القطع بثبوتها على الإجمال ، تحصيلاً للعلم بالامتثال بعد القطع بالاشتغال ، فلابدّ من إثبات سقوط التكليف به في تلك الحال .

وغاية ما ذكروه في ذلك وجوه من الاستدلال
الأوّل : دعوى الإجماع والإيرادات الواردة عليه وأجوبتها

الأوّل : دعوى الإجماع في المقام المعلوم بعد التتبّع التامّ والنظر الصحيح في طريقة علمائنا الأعلام ، للقطع بعدم التزامهم بالاحتياط في معظم الأحكام ،

ص: 600


1- ليست في المطبوعة الحجرية ولكن اضفناها من المطبوعة الحديثة .

وعلّله المصنّف قدس سره بتوافق الفريقين عليه ، لكنّه تأمّل في كونه حجّة شرعيّة كاشفة عن قول الحجّة وهو كذلك ، كيف وقول أحدهما موقوف على إبطال الاحتياط ، فلو توقّف عليه لزم الدور ؛

واعترض عليه أيضاً بأنّهم إنّما قالوا به من جهة قيام الأدلّة عندهم على حجيّة ما سواه من ساير وجوه الأدلّة ، فإذا فرض عدم صحّة ما ذكروه من الأدلّة لم يكن اتّفاقهم دليلاً على المنع ، ويمكن الاكتفاء في المنع بمجرّد الاحتمال ، فيقال : إنّ عدم التزام القوم بالاحتياط يمكن أن يكون لوجود المدارك المعتبرة عندهم في أكثر الموارد ، لتمسّكهم غالباً بالأدلّة واعتقادهم أنّها حجّة ، شرعيّة ، فكيف يقاس بهم حال من انسدّ عليه باب العلم بها ؟ بل المعلوم من حالهم هو التمسّك بالاحتياط في الموارد المشتبهة إلاّ لمانع مخصوص .

ويمكن الجواب بأنّ المقصود من الإجماع المذكور إنّما هو الاتّفاق على نفي كون المرجع للمكلّفين عند تعذّر العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة هو الالتزام بالاحتياط بتحصيل الموافقة القطعيّة لعامّة التكاليف المجملة ، فلا ينافيه فرض انتفاء الانسداد المذكور في حقّهم ، لكنّ الكاشف عن الاتّفاق المذكور إنّما هو الحدس الحاصل من تعرّف طريقة القوم في ذلك دون العمل المستمرّ منهم ، ليمكن استناده إلى اعتقاد حجيّة الأدلّة ، وإنّما يستند إلى ذلك تمسّكهم بالاحتياط في الموارد الجزئيّة ، فلا ينافيه نفي الاحتياط في الموارد الكلّيّة على فرض تحقّق الانسداد بالنّسبة إليها .

ويمكن الاعتراض على ذلك بما أشار إليه المصنّف قدس سره وتوضيحه أنّا لا نقول بوجوب الاحتياط في جميع المقامات حتّى يندفع بالإجماع ، بل نفصّل بين التكاليف الابتدائيّة من الوجوبيّة والتحريميّة ، فلابدّ مع الجهل بها من البناء

ص: 601

على أصالة البرائة ، وبين التكاليف المتعلّقة بالماهيات المجملة من الأجزاء والشرايط والموانع المحتملة في العبادات والمعاملات ، فيحكم بالاحتياط فيها بأن يقتصر في الحكم بتحقّق تلك الماهيات على موضع اليقين ولو ببعض الظنون المخصوصة ، وإنّما القدر المسلّم من الإجماع المذكور هو عدم وجوب الاحتياط في المقام الأوّل ، فلا يدلّ على نفى الاحتياط في المقام الثاني ، كيف وكثير منهم قد صرّحوا بلزوم الاحتياط فيه ، وظاهر اطلاقهم عدم الفرق فيه بين صورة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام المتعلقّة بتلك الماهيات وعدمه ، كما أنّ ظاهرهم الإطباق على التمسّك بالبرائة في المقام الأوّل من غير فرق بين الصورتين أيضاً .

والقول بأنّ التّمسك بالبرائة فيه إنّما يتمّ مع عدم حصول العلم الإجمالي بثبوت بعض التكاليف المجهولة في تلك الجملة مدفوع بمنع حصول العلم الاجمالي في تلك الجملة المخصوصة أوّلاً ، ثمّ تسليمه في الموارد الغير المحصورة ثانياً ، ثمّ تسليمه في المحصور الّذي لا يتعلّق جميعه بعمل المكلّف الواحد أو لا يتّحد نوعه بل يدور بين أنواع عديدة ثالثاً ، ومن المعلوم من طريقة الأصحاب عدم الالتزام بالاحتياط في تلك الصور ، إذ لا يعتدّ بخلاف من خالف في بعض مواردها .

أمّا دعوى العلم الإجمالي في الموارد المحصورة على الوجه المذكور فممنوعة ، ومع تسليمها نمنع الإجماع على سقوط الاحتياط فيها ، بل الظاهر منهم إجراء حكم المشتبه بالمحصور فيه عند تحقّق شرايطه المقرّرة في محلّه ، فقد يطرح العلم الإجمالي في عدّة من المقامات ، وقد يراعي حكمه بالاحتياط ، فلابدّ من مراعات التفصيل المذكور في المقام .

ص: 602

وقد يجاب بأن العلم الإجمالي بوجود عدّة من التكاليف الحتميّة في أحد المقامين أو أبعاضهما كاف في المنع من التمسّك بالأصل في كلّ منهما ، فلابدّ من الأخذ بالاحتياط في الجميع أو تركه في الجميع ، إذ التفصيل مع ذلك تحكّم وترجيح من غير مرجّح .

وجوابه ظاهر ؛

أمّا أوّلاً : فلأنّ الشكّ الحاصل في المقام الثاني ليس من قبيل الشك في التكليف ، بل هو من الشكّ في المكلّف به ، إذ التكليف المتعلّق بالأجزاء والشرايط تكليف غيريّ تبعيّ ، والمعتبر في إجراء الأصل هو التكاليف المستقلّة عند الشّك فيها فيتخصّ بالمقام الأوّل .

وأمّا ثانياً : فلأنّ التفصيل بين المقامين لا يستلزم الترجيح من غير مرجّح ، لوضوح المرجّح في المقام ، إذ المستفاد من كلام معظم الأصحاب وطريقتهم في أبواب الفقه هو البناء على الأصل في المقام الأوّل والاحتياط في الثاني ، فالإجماع على نفي كلّ منهما على الاطلاق لا ينافي العمل بكلّ منهما في الجملة ، وذهاب الأكثر كاف في الترجيح ، لحصول الرجحان المطلوبة فيه بمجرّده من غير أن يتوقّف على إثبات متعلّقه بالدليل .

وأمّا ثالثاً : فلأنّه بعد البناء على الاحتياط في المقام الثاني على حسب ما يقتضيه الأصل المقرّر فيه من اقتضاء القطع بالاشتغال للقطع بالفراغ المتوقّف عليه لا يبقى هناك علم بالتكليف حتّى يقتضي الرجوع إلى الاحتياط في المقام الأوّل ، فهناك علم خاصّ بثبوت التكليف في المقام الثاني خاصّة ، وعلم بثبوت التكليف في القدر المشترك بين المقامين ، فإذا قضى الأوّل بالرجوع إلى الاحتياط في جميع موارد الثاني كان الأخذ به قاضياً بانتفاء الثاني ، فلا يبقى علّة

ص: 603

الحكم بالاحتياط في المقام الأوّل ، فيبقى على الأصل .

وقد يقال : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ على القول بجريان البرائة في المقام الأوّل وبالاحتياط في الثاني ، أمّا على القول بتساويهما في الحكم بالبرائة أو الاحتياط فلابدّ من الخروج عن أصل البرائة فيهما بالعلم الإجمالي ، وعن الاحتياط فيهما بالإجماع المذكور ، فيبقى ترجيح أحدهما من غير مرجّح ، فلابدّ من نفي الرجوع إليهما من رأس ، فينحصر الأمر في العمل بالظنّ .

ويمكن الجواب عنه بنحو ما ذكر من أنّ ذهاب كثير من الأصحاب إلى التفصيل بين المقامين كاف في حصول مسمّى الرجحان الّذي لا يبقي معه القول بامتناع الترجيح ، بل يكفي في ذلك احتمال التفصيل بينهما لذلك ، للقطع بعدم احتمال العكس في ذلك ، فلابدّ من الاقتصار في الحكم بسقوط الاحتياط على القدر المتيقّن ، وهو الشبهة الحاصلة في التكاليف المستقلّة .

ويرد عليه أنّه كما يمكن أن يقال : إنّ الشكّ في التكاليف الابتدائية بالنسبة إلى الشكّ الحاصل في المهيّات المجملة قدر متيقّن في الحكم بسقوط الاحتياط ، كذا يمكن أن يقال : إنّ الحكم بسقوط الاحتياط في التكاليف الموهومة متيقّن بالنسبة إلى المشكوكة ، كما أنّه فيها متيقّن بالنسبة إلى المظنونة ، فلابدّ من الاقتصار في الخروج عن أحد الأصلين المذكورين على القدر المتيقّن بكلّ من الاعتبارين ، فإن أمكن الاكتفاء به وانتفى المانع عن العمل بأحد الأصلين المذكورين في الباقي تعيّن ، وإلّا لزم من مساواة نسبة المانع المفروض إلى أبعاض الباقي المنع من العمل بالأصلين في جميعها ، فينحصر الأمر في الظنّ المطلق .

والوجه عندنا أن يقال : إنّ معظم الأحكام الحتميّة الّتي لا يجوز فيها

ص: 604

المسامحة ينقسم إلى التكاليف الإلزامية وتشخيص متعلّقاتها والأسباب الشرعيّة لمسبّباتها وتعيين الحقوق لأهلها .

ولابدّ في كلّ واحد من الأقسام الأربعة من النظر في القدر الخارج منه عن موارد الأدلّة القطعيّه وما يجرى مجراها ، فإن لم يحصل فيه علم إجمالي بثبوت ما يزيد على القدر المتيقنّ منه وما في حكمه لزم البناء في الأوّل على البرائة ، وفي الثاني على الاحتياط إن كان في الأُمور الارتباطيّة ، وإلّا فعلى التفصيل بين المتداخلين والمتباينين ، وفي الثالث على أصالة النفي ، وفي الرابع على الاحتياط عند دوران الأمر بين المحذورين مهما كان إليه سبيل ، وعلى البرائة في غيره ، وكذلك الحال إن حصل هناك علم إجمالي في اُمور غير محصورة أو محصورة لا تعلّق لجميعها بعمل المكلّف المخصوص .

وأمّا إذا حصل العلم الإجمالي في القسم الأوّل ودار الأمر فيه بين اُمور محصورة عرفاً مربوطة بعمل المكلّف بحسب العادة تعيّن الاحتياط في تلك الأُمور المخصوصة والبرائة فيما عداها وإن كان في القسم الثاني فأولى بالاحتياط ، وإن كان في القسم الثالث بنى على العدم في كلّ واحد من أطرافه إذا انفرد عن الباقي ، ومع اجتماعها يبني على القدر المتيقّن ، وأمّا القسم الرابع فالمفروض فيه ثبوت الحقّ إجمالاً ، فيقتصر في تعيين مستحقّه ومقداره على القدر المعلوم ، ويبنى على الأصل أو الاحتياط في غيره ، ودوران المعلوم بالإجماع بين الأقسام الأربعة لا حكم له .

ومع ملاحظة التفصيل المذكور لا مجال لدعوى الإجماع على بطلان الرجوع إلى الاحتياط على الإطلاق ، فالاستناد إلى الإجماع في المقام مبنيّ على الخلط بين الأقسام ، وتفصيل القول فيها موكول إلى مباحث الأدلّة العقليّة

ص: 605

فلا تغفل .

الثاني : التكليف بمراعاة الاحتياط ... يستلزم العسر والحرج والإشكالات الواردة عليه وأجوبتها

والثاني : أنّ التّكليف بمراعاة الاحتياط في جميع الموارد المشتبهة والإتيان بجميع المحتملات الممكنة ولو بتكرار العبادات مرّات متكثّرة يستلزم العسر والحرج الشديدين المنفيّين عن هذه الشريعة السّهلة في صريح الآيات والروايات المعتبرة ، كما يشهد به الرجوع إلى الوجدان ، بل لو بنى المكلّف يوماً واحداً على الالتزام بالاحتياط في جميع اُموره ممّا خرج عن موارد الأدلّة القطعيّة لوجد من نفسه حرجاً عظيماً ، فكيف لو بنى على ذلك في جميع أوقاته وأمر عامّة المكلّفين به حتّى النساء وأهل القرى والبوادي ؟ فإنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى حصول الخلل في نظام أحوال العباد ، والإضرار باُمور المعاش والمعاد ، بل في تعليم موارد الاحتياط وتعلّمها سيّما عند تعارضها بترجيح مراعات الاحتمالات القويّة على ما دونها في القوّة من الحرج ما لا يخفى .

مثلاً لا شكّ أنّ الأحوط ترك التطهير بالمستعمل في الطهارة الكبرى ، لكن قد ينحصر الماء المطلق فيه أو فيه وفي ماء آخر محتمل النجاسة بحسب الحكم ، ثمّ قد يجد المكلّف ماء مضافاً وقد لا يجد ، ثمّ قد يجد التراب وقد لا يجد ، وقد يسع الوقت للجمع وقد لا يسع ، وقد يزاحمه واجب آخر مرجوح بالنسبة إلى الاوّل أو محتمل الوجوب حكماً وقد يسلم من ذلك ، فيختلف الاحتياط بحسب تلك الموارد الجزئيّة ، وكذا في ساير المقامات والأحوال الشخصيّة الّتي يتعارض مقتضى الاحتياط على حسبها . ومن المعلوم أنّه لا يتيسّر للعامي الإحاطة بخوصيّاتها فلابدّ من رجوعه في أغلب الموارد الجزئيّة إلى العالم بها ، وهو متعسّر فضلاً عن العمل بمقتضاها .

ألا ترى أنّ الفقهاء في مسألة الحايض المتحيّرة قد نصّوا على موارد

ص: 606

الاحتياط فيها ، مع عدم استيفائهم لها ، ومع ذلك يتعسّر العمل بمجموعها مع اختصاصها بمسألة خاصة بالنسبة إلى مكلّف مخصوص ، فكيف لو بنى على ذلك فيما لا تحصى من مسائل الفروع الّتي تعمّ البلوى بها وتشتدّ الحاجة إليها بالنسبة إلى عموم المكلّفين ؟ بل هو ممّا يخلّ بنظام المكاسب الّتي يقوم بها معايش الخلايق ، فكيف يتحتّم الأمر به من الكريم الخالق ؟ مع ما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من بناء الشريعة المقدّسة على غاية اليسر والسهولة ونفي أقسام العسر والحرج والمشقّة . فثبت سقوط التكليف بالاحتياط في هذه الأزمنة ، وذلك ما أردناه من انسداد سبيله ، إذ المراد به تعذّر الالتزام به على وجه لا يخلّ بسهولة أمر الدين ، ولا يقضي بتعسّر القيام بأحكام الشرع المبين .

وقد يجاب عنه بوجوه :

أحدها : النقض بما لو أدىّ نظر المفتين إلى بعض الفتاوى المتضمّنة للحرج على المقلّدين ، كالقول بوجوب المبادرة إلى قضاء الفوائت وإن تكثّرت ، أو الغسل على المريض الذي تعمّد في جنابته وإن تضّرر به ، إلى غير ذلك . فالالتزام بالاحتياط فيما نحن فيه من هذا القبيل .

وهذا كلام ساقط جدّاً ، لأنّ ثبوت بعض الأحكام المستلزمة للحرج على المكلّف كالجهاد بدليل مخصوص وارد على أدلّة نفي الحرج ، لا ربط له بما نحن فيه ، لوضوح أنّ العمومات الشرعيّة لا تصلح لتخصيص أدلّة نفي الحرج ، فكيف بما ذكروه من قاعدة الاحتياط الّتي نسبتها إليها نسبة الأصل إلى الدليل ؟ إنّما يمكن تخصيصها بالدليل الّذي يكون أخصّ منها ، حيث يعتضد بما يوجب قوّته ورجحانه على تلك العمومات المتكثّرة القطعيّة ، وإلّا ففرض العلم الإجمالي بعدم اشتمال التكاليف الشرعيّة على ما يوجب المشقّة لا يجتمع مع الظنّ

ص: 607

بوجوب ما فيه الحرج .

على أنّ الحرج المفروض في تلك الأحكام المخصوصة لا يؤدّي إلى اختلال النظام ، بخلاف المقام .

وثانيها : أنّ الأدلّة النافية للحرج في الدين إنّما تدلّ على عدم اشتمال الأحكام الثابتة في أصل الشرع الّتي بنى عليه الدين على ما يوجب الحرج ، وذلك لا ينافي ما قصدناه ، فإنّا لا ندّعي أنّ شيئاً من الأحكام المجعولة في الشريعة يؤدّي إلى العسر والمشقّة ، بل هي بأسرها - كما ذكر - مجعولة على غاية اليسر والسهولة ، وإنّما نقول بأنّ تلك الأحكام المبنيّة على السهولة لمّا اشتبهت على المكلّف اشتباهاً مستنداً إلى تقصير الوسايط في حفظ الآثار الصادرة عن صاحب الشريعة لم يكن له بدّ من امتثالها بالجمع بين المحتملات وإن استلزم المشقّة ، لاستنادها إلى سوء اختيار بعض المكلّفين الموجب لحرمان الباقين من الألطاف الإلهيّة الّتي من جملتها نفي الحرج والمشقّة ، كحرمانهم بذلك من أعظم الألطاف الذي هو ظهور الحجّة - روحنا وروح العالمين له الفداء .

فانتفاء الحرج في الأحكام الشرعيّة لا ينافي عروض التعسّر في امتثالها لتقصير المقصّرين في المسألة عنها ، والمانعين من إظهارها ، والوسايط في ضبطها وتبليغها ، وليس حكم التّعسر في ذلك من الأحكام المجعولة ، وإنّما ترتّب على الحكم العقلي الحاصل من توقّف الامتثال عليه ، وينجبر ذلك حينئذٍ بتضاعف ثواب امتثالها في تلك الحال بقدر ما يتحمّله من المشقّة في تحصيلها وتحصيل مقدمّاتها ، كتعسّر الاجتهاد الواجب على الكفاية في أمثال هذه الأزمنة .

ألا ترى أنّه لو نذر المكلّف اُموراً متعسّرة - كالأخذ بالاحتياط في جميع

ص: 608

المقامات ، وصوم الدّهر عدا ما استثنى ، وإحياء عامّة الليالي ، والمشى إلى الحجّ والزيارات - أو آجر نفسه للقيام بأعمال شاقّة ونحو ذلك لم يمنع تعسّر تلك الأعمال من انعقاد نذره ووجوب الوفاء بعقده ، لأنّه هو الّذي أدخل ضرر المشقّة على نفسه باختياره ، فإنّ الصادر عن الشارع إنّما هو الإذن في الالتزام المذكور ، وليس في مجرّد الإذن في ذلك شي ء من الحرج ، فكذا في المقام بطريق أولى ، فإنّ المكلّفين هم الّذين أدخلوا ضرر تلك المشقّة على أبناء نوعهم من دون صدور إذن من الشارع في ذلك .

ويرد عليه : أنّ جميع ما دلّ على نفي الحرج وإرادة اليسر يعمّ الوجهين ، فإنّ إلزام المكلّف بأداء الواقع على ما هو عليه حال اشتباهه في اُمور كثيرة على وجه يستلزم الجمع بينها ولو بحكم العقل والعادة مع تعسّر الإتيان بجميعها جعل للحرج وإيقاع للمكلّف في المشقّة ، سواء استند الاشتباه إلى أسباب اختياريّة من غير ذلك المكلّف أو غير اختيارية ، بل وإن استند إلى ذلك المكلّف بنفسه ، فإنّ جعل اختيار المكلّف باعثاً على إلزامه بالمشقّة ينافي نفي الحرج على الإطلاق .

ولئن أمكن التأمّل في شمول ما دلّ على نفي جعل الحرج في الدين فلا شكّ في شمول قوله سبحانه : «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(1) ، وما أشبه ذلك للوجوه المذكورة ، ولا سيّما الحرج المؤدّي إلى اختلال النظام .

والقول بوجوب الأُمور المتعسّرة بالالتزام أو بغيره من الأسباب الإختياريّة في محلّ المنع ، مع إمكان التفصيل بينهما من حيث أنّ الأوّل إمضاء من الشّارع لما ألزمه المكلّف على نفسه ، والثاني تأسيس من الشارع للحكم

ص: 609


1- سورة البقرة / 185 .

المتعسّر ولو بعد الاختيار ، كإيجاب الغسل المتعسّر على من أجنب بالاختيار ، ولو سلّم ذلك لاقتصرنا على موضع الدليل وأخذنا بمقتضى العموم في غيره .

وأمّا الاجتهاد الواجب في هذه الأزمنة فلا حرج فيه ، لأنّ مزاولة العلوم لأهلها ليس بأشقّ من كثير من الصناعات الّتي يتحمّلها النّاس في معايشهم .

وثالثها : أنّ أدلّة نفي العسر معارضة بعموم الأدلّة المثبتة للتكاليف الشاملة لموارد الحرج كتعارض العامّين من وجه ، فلابدّ في تقديم أحدهما من مرجّح خارجي ، وعمدة الوجه في تقديم الأوّل في ساير المقامات اعتضاده بعمل الأصحاب ، وهو في المقام ممنوع ، إذ عدم التزام الأكثر بالاحتياط في كلّ مقام مستند إلى اعتقاد وجود الأدلّة الشرعيّة في أكثر الأحكام ، فلا يجري على ما هو المفروض من انتفائها في المقام .

وفيه أوّلاً : أنّ أدلّة نفي الحرج بمدلولها اللفظي حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف ، مقدمّة عليها بذاتها ، من دون توقّف لذلك على اعتضادها بما يوجب رجحانها ، ولذا لم يعتبر الأصحاب وجود المرجّح الخارجي في الاستناد إليها في كلّ باب ، بل يقدّمونها على الإطلاق من غير ارتياب .

ألا ترى إلى قوله عليه السلام فيمن انقطع ظفره : « يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» »(1) . فإنّ معرفة أمثال ذلك من الآية الشريفة موقوفة على تقديم عمومها على عموم وجوب غسل البشرة ونحو ذلك ، ففيه أقوى دلالة على كون الأوّل بنفسه حاكماً على الثاني من غير حاجة إلى ملاحظة التعادل والتراجيح ، كما لا يخفى .

ص: 610


1- اُنظر : الكافي 3 / 33 ، ح 4 ، والآية من سورة الحج /78 - وسائل الشيعة 1 / 464 ، ح 5 .

وثانياً : أنّ أدلّة نفي الحرج معتضدة بما هو معلوم من طريقة الأصحاب من عدم الالتزام بالاحتياط المؤدّي إلى الحرج في أكثر الأبواب ، فحصل في المقام ما هو المرجّح في ساير المقامات ، إذ لا فرق في الاعتضاد بالعمل بين العمل الفعلي والتقديري ، حيث يثبت من تعرف الطريقة بالحدس الصائب .

وثالثاً : أنّ فرض تساقط العامين من وجه لاينافي ما هو المقصود في المقام ، إذ التساقط إمّا يقتضي الرجوع إلى التخيير أو إلى الأصل ؛ وعلى الوجهين لا يتعيّن القول بوجوب الاحتياط في المقام ، لجواز العمل بدليل نفي الحرج وأصالة البرائة عن وجوب الاحتياط .

ورابعاً : أنّ وجوب الاحتياط في المقام ليس بحكم دلّ عليه اللفظ العامّ ، إنّما يقتضيه الأصل حيث لا دليل ، فلا يعقل معارضته بالدليل .

نعم ، قد يقال : إنّ أدلّة نفي الحرج معارضة بما دلّ على حرمة العمل بالظنّ من الكتاب والسنّة ، بناء على ثبوت دوران الأمر بينهما ، فيبقى أصالة الاحتياط الثابتة مع العلم الإجمالي سليمة عن المانع .

وفيه - مع ما عرفت - أنّ المنع عن العمل بالظنّ راجع إلى حكم الاحتياط وعدم الاكتفاء في الخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بمجرّد الظنّ ، أو إلى المنع من قصد التشريع به والالتزام بمؤدّاه من حيث هو كذلك شرعاً ، فليس ذلك من المحرّمات الذاتيّة ، وقد عرفت أنّ قاعدة الاحتياط ساقطة بأدلّة نفي الحرج ، ولا يفيد المنع من الظنّ أمراً زايداً على ذلك بعد عدم قصد التشريع به .

ورابعها : أنّ غاية ما يفيده عموم نفي الحرج حصول الظنّ بعدم وجوب الاحتياط ، وهو رجوع إلى الظنّ في طريق إثبات حجيّة الظنّ ، فيدور .

وفيه : أنّه مع قوّته من الظنون المخصوصة المسلّمة عند الفريقين ،

ص: 611

لاستناده إلى ظاهر الكتاب الموضوع لفهم عامّة المكلّفين ، فيكون فهمهم حجّة في حقّهم .

على أنّ اعتبار هذا الظّاهر ممّا يسلّمه عامّة القائلين بالظنون المخصوصة ، ووافقهم القائل بمطلق الظنّ أيضاً من حيث اندراجه فيه ، فلا كلام في لزوم العمل عليه ، فتأمّل .

وخامسها : بعدم حصول الظنّ منها كما يستفاد من بعض الأجلّة ممّا لايعقل وجهه . أنّ الحرج إنّما يلزم لو قلنا بلزوم الاحتياط فيما لا يقين بحكمه على الإطلاق ، أمّا لو فصّلنا بين المقامات ، وأوجبنا الاحتياط في الماهيات المجملة المخترعة وغيرها ، حيث يقع الشكّ في تعيين المكلّف به بعد ثبوت التكليف في الجملة ، ورجعنا إلى البرائة والطهارة والإباحة ونحوها في موارد الشكّ في أصل التكليف أو إلى الاستصحاب في موارده لم يلزم من ذلك حرج بالكليّة ، كيف وقد ذهب إلى ذلك كثير من الأصحاب من دون ترتّب حرج على ما صاروا إليه .

والقول بأنّهم إنّما صاروا إلى ذلك بعد إثبات الظنون المخصوصة والعمل بالظنون المطلقة مدفوع بأنّ المعلوم من طريقتهم هو ذلك في غير موارد الأدلّة الثابتة .

والحاصل : أنّ هذا التّفصيل لا يشتمل على الحرج ، ولا يخالف الإجماع ، ولا ينافي القدر المعلوم بالإجمال على نحو ما مرّ في الجواب عن الوجه الاوّل ، وكأنّ هذا هو الوجه الّذي أراد المصنف قدس سره في الجواب عن ذلك بالمنع من لزوم الحرج ، وأيّده بما تقرّر في محلّه من تعيّن الاحتياط على المجتهد العاجز عن الاستنباط والمقلّد العاجز عن التقليد .

ص: 612

وسادسها : أنّ الحرج إنّما يقضي بنفي الاحتياط على سبيل الموجبة الكلّية ، فلا يقتضي السالبة الكلّية إلاّ حيث يتعذّر الترجيح ويمتنع التخيير ، والترجيح بين المقامات ممكن بوجود المرجّح فيها ، إذ بعد الحكم بوجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات إذا دلّ الدليل على سقوط بعضها تعيّن مراعاة الاحتياط في الباقي ، ولم يسقط به وجوب الاحتياط رأساً ، كما أنّه لو تعذّر الصلاة إلى أربع جهات وأمكن الإتيان بها إلى جهتين أو ثلاث وجب التخيير في المقام وإن كان باطلاً بالإجماع .

لكن يتصوّر الترجيح بين المقامات بوجوه ؛

منها : أن يكون التّكليف في بعضها مظنوناً ، وفي بعضها مشكوكاً ، وفي بعضها موهوماً ، فيقتصر في الحكم بثبوت الاحتياط على الأخير إن اندفع الحرج به ، وإلّا حكمنا بسقوطه في الأخيرين ، إذ ليس في الالتزام بالاحتياط في القسم الأوّل خاصّة حرج قطعاً ، لكن ذلك غير حجيّة الظن في تلك الموارد ، للفرق الظاهر بين العمل بالظنّ من باب الاحتياط والعمل به من حيث كونه حجّة شرعيّة ، ويظهر الفرق بينهما في اُمور كثيرة .

ومنها : أن يكون سقوط الاحتياط في بعض الموارد قدراً متيقّناً بالنسبة إلى غيره ، كالشبهة التكليفيّة الوجوبيّة ، ثمّ هي والتحريميّة .

ومنها : أن يكون احتمال سقوط الاحتياط في بعضها أقوى من غيره ، كأن يحصل الظنّ بسقوطه في البعض المخصوص ولا يحصل الظنّ به في الباقي .

ومنها : أن يكون بعض الموارد ممّا يظنّ بوجود الطريق المعتبر فيه ويشكّ في الباقي ، أو يكون احتمال وجود الطريق فيه قويّاً وفي غيره أضعف منه ، إلى غير ذلك من مرجّحات الّتي يظهر من التّأمّل في المباحث السّابقة ، فلا يمكن

ص: 613

القول بسقوط الاحتياط من رأس من جهة لزوم الحرج به ، كيف والقول به ينافي العمل بالظن ؟ إذ ليس محصّل الدليل إلاّ قصر الاحتياط على موارد الظنّ ، فيكتفى به في امتثال الأحكام المشتبهة بعد سقوط الاحتياط في غيرها .

فيتوجّه عليه أوّلاً : أنّ مقتضى ذلك قصر الحكم بسقوط الاحتياط على موضع اليقين ، فلا وجه لتخصيصه بغير مورد الظن .

وثانياً : أنّ مقتضاه العمل بالظنّ من باب الاحتياط ، وأين ذلك من القول بحجيّته حتّى يخصّ به العمومات الثابتة ، ويقيّد به المطلقات المعلومة ، ويمكن التّصرف به في النفوس والفروج والأموال والحقوق ، ويرفع اليد به عن الاُصول الثابتة في مواردها إلى غير ذلك ؟ فلا تغفل .

الثالث : لا دليل على وجوب الاحتياط في المقام

ومن البيّن أنّ الأصل برائة الذمّة عمّا يشكّ فيه من التكليف ، سيّما التكليف الإيجابي ، غاية ما في الباب الحكم فيه بالاستحباب نظراً إلى حسن الاحتياط ورجحانه عند العقل والعقلاء ، ولا ربط له بما قصده المعترض .

وفيه أوّلاً : أنّ عدم قيام الدليل على وجوب الاحتياط لا يقضي بتعيّن العمل بالظنّ ، لعدم الدليل عليه أيضاً ، فإذا دار الأمر بينهما تعيّن الأوّل عملاً بأصالة المنع من الثاني ، فاللازم في إثبات وجوب العمل بالظنّ إقامة الدليل على سقوط الاحتياط لا الرجوع فيه إلى مجرّد الأصل المشترك بينهما ، فتبقى العمومات المانعة سالمة عن المعارض ، موجبة لتعيّن الرجوع إلى الاحتياط .

وثانياً : أنّه إن اُريد عدم الدليل على وجوبه في كلّ واقعة خاصّة مع قطع النظر عن غيرها من الوقايع فليس الجهل فيها بخصوصها موجباً للعمل بالاحتياط فيها فمسلّم .

ص: 614

وإن اُريد عدم وجوبه في مجموع الوقايع الّتي يدور التّكليف المعلوم بالإجمال بينها - كما هو المقصود في المقام - فممنوع ، لأنّ فيه طرحاً للتكليف المقطوع به ، فيؤدّى إلى المخالفة القطعيّة التي تطابقت الأدلّة الأربعة على المنع منها ، والقول به في بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجّح ، والتخيير في المقام باطل بالإجماع ، فتعيّن الاحتياط .

نعم ، ربّما استراح في ذلك من اختار في مثله القول بالبرائة وذهب إلى طرح المعلوم بالإجمال وعدم اقتضائه للامتثال ، أو زعم اشتراط العلم بتفصيل المكلّف به في التكليف فأنكر التكليف بالمجمل من رأس ، إلّا أنّ البناء على ذلك في المقام موجب للخروج عن الدين على ما قرّروه في الاحتجاج ، فلا يمكن المصير إليه .

والتحقيق أنّ العلم الإجمالي بتعلّق التكليف بأحد اُمور محصورة إنّما يوجب الاحتياط مع اتّحاد نوع التكليف وارتباط الجميع بعمل المكلّف المخصوص ، على ما تقرّر في مسألة المشتبه بالمحصور ، وإلّا كان كالشكّ في أصل التكليف ، فكلّما اتّفق في محلّ المسألة من هذا القبيل حكمنا فيه بالاحتياط ، وإلّا رجعنا إلى أصل البرائة ، كما مرّ التنبيه عليه .

الرابع : إنّ الغرض من الرجوع إلى الاحتياط هو الأخذ بالمتيقّن وهو متعذّر في المقام

أمّا أوّلاً ، فلقيام احتمال المنع من العمل بالاحتياط ، كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكونه تشريعاً محرّماً ، وصرّح بعضهم(1) بنفي الواسطة بين المسلكين

ص: 615


1- منهم : الشهيد في الألفية / 162 ( المطبوعة ضمن رسائل الشهيد الأوّل ) وثانيه في المقاصد العليّة / ( 55 - 52 ) وانظر : مفاتيح الاُصول / 347 .

أعني الاجتهاد والتقليد - وبطلان العبادة الواقعة على غير هذين الوجهين(1) .

وأمّا ثانياً ، فلاحتمال اعتبارية الوجه في صحّة العبادة ووجوب تميز الواجب من المستحبّ وإيقاع كلّ منهما على وجهه بحسب الاجتهاد والتقليد ، كما ذهب إليه جماعة من أصحابنا(2) ، بل ربّما نسب إلى المشهور ، فكيف يكون الاحتياط طريق اليقين ؟

غاية الأمر إمكان تحصيل الظنّ بجوازه والاكتفاء به ، وهو رجوع إلى الظنّ ، فيشترك مع ساير الظنون في الاعتبار إلى انتفاء المرجّح بينها .

وأجاب عنه المصنّف قدس سره تارة بدعوى القطع بجواز الاحتياط ، وفساد قول المخالف فيه على كلا الوجهين ، كما يظهر من النظر في إطلاقات العبادة وعمومات الاحتياط وملاحظة السيرة المستمرّة بين المسلمين وطريقة النبي والأئمة عليهم السلام مع الناس ، وقاعدة « عدم الدليل دليل العدم »(3) في مثله ، ونحو ذلك ممّا فصّل في محلّه .

وتارة بأنّ الظاهر اختصاص الخلاف في المسألتين بصورة إمكان تحصيل العلم بالواقع ، أمّا مع الانسداد - كما هو المفروض - فلا ، لامتناع التكليف بالمحال ، إذ غاية الممكن حينئذٍ تحصيل الظنّ ، فإذا لم يثبت حجيّته كان كالشكّ ، فلا يتأتّى به قصد الوجوب أو الندب ، إذ لابدّ من الجزم بالغاية .

وتوهّم تقديم الامتثال التفصيلي ولو بطريق الظنّ على الامتثال الإجمالي

ص: 616


1- اُنظر : المقاصد العليّه / 49 - 47 ، روض الجنان 2 / 663 .
2- اُنظر : إرشاد الأذهان 1 / 251 ، الوافية / 308 ، تحرير وسائل الشيعة / 263 - 249 .
3- الفصول / 51 ، وفيه : « قد تفحّصنا فلم يجد لهذا الأصل مستنداً يمكن التمسك به غير عموم . . . » .

ولو على وجه العلم وهم فاحش . غاية الأمر تقديم الأوّل مع إمكان العلم به على الثاني ، حيث يتوقّف على تكرار العبادة ، وأين ذلك ممّا نحن فيه ؟

واُخرى بأنّ الاحتياط بعد الحكم بوجوبه لا ينافي اشتراط نيّة الوجه ، لكونه إذن من جملة الواجبات الشرعيّة ، وإن كان الكاشف عنه حكم العقل من باب المقدّمة ، فلا فرق في ذلك بين الوجوب الواقعي والظاهري ، ولذا أجمعوا على جواز الاحتياط بالجمع بين الطّهارة المائيّة والترابيّة عند دوران الواجب بينهما ، والصلاة إلى أربع جهات حيث يدور القبلة بينها ، وهكذا لتحقّق معرفة وجه العبادة بعد ثبوت وجوب الاحتياط ، إذ لا يعتبر فيه سوى الوجه الظاهري ، وإلّا لانتفى الاحتياط رأساً .

على أنّه يمكن الجمع بتحصيل الظنّ بالوجه الواقعي والجمع بين الوجهين ، فإنّ ذلك غاية الممكن في حقّ المكلّف عند الانسداد ، وإلّا لزم ارتفاع التكليف رأساً ، وقد ثبت بطلانه(1) .

الخامس : أنّ الاحتياط ممّا لا سبيل إليه في كثير المقامات لدوران الأمر بين المحذورين أو لمانع خارجي

الخامس : أنّ الاحتياط ممّا لا سبيل إليه في كثير من المقامات ، لدوران الأمر فيها بين المحذورين ، وكثيراً ما يتعذّر مراعاة الاحتياط لمانع خارجي ، فالرجوع إلى الاحتياط على الإطلاق ممّا لا وجه له .

وأجاب المصنّف قدس سره عنه بأنّه حينئذٍ لا مانع من القول بسقوط التكليف في تلك الموارد ، إذ لا يلزم من البناء عليه خروج عن الدين ، ولو حصل العلم ببقاء التكليف في بعض تلك المقامات وتوقّف الخروج عن عهدته على تعيين حكمه ، فغاية الأمر القول بحجيّة الظن حينئذٍ ، ولا يلزم منه حجيّة الظنّ في ساير

ص: 617


1- اُنظر : الرسائل التسع / 317 ، مدارك الأحكام 1 / 189 - 188 .

المقامات .

ودعوى عدم القول بالفصل في محلّ المنع إذ الحكم المستند إلى الضرورة إنّما يدور مدارها ، وليس ذلك أمراً مجعولاً معنوناً في كلام الأصحاب ليمكن الاستناد فيه إلى مثله ، ثمّ اللاّزم في ذلك المورد بخصوصه الأخذ بما يكون الظنّ بالفراغ معه أقوى ، وهو غير مطلق الظنّ على ما تقدّم تفصيل القول فيه إلّا حيث يتوقّف على مراعاة مطلق الظنّ في بعض المقامات ، فغايته أن يكون حجّة في ذلك المورد بخصوصه .

السادس : بيان الاحتياط غير بيان الحكم

السادس : أنّ المكلّف لو تمكّن من الاحتياط في أعمال نفسه وأمكن القول بالالتزام فلا يمكن جريانه بالنسبة إلى بيان الأحكام لغيره مع وجوبه في مقام التعليم والتعلم ، إذ بيان الاحتياط غير بيان الحكم ، وكثيراً ما يتعذّر الاحتياط كما في مسألة دوران المال بين اليتيمين ونحوها ، فإنّ السكوت عن الفتوى موجب لتعطيل المال ، بل ربّما يؤدّي إلى إتلاف مال اليتيم ، بل كثير من أبواب المعاملات والأحكام من هذا القبيل ، إذ التوقّف فيها يؤدّي إلى تلف الأموال وتضييع الحقوق ، وربّما يقضي بإثارة العداوة والبغضاء وبقاء الاختلاف والتنازع ، فلا محيص عن العمل بالظنّ ، ومتى جاز العمل في حقّ غيره جاز في حقّ نفسه .

وجوابه : أنّ عمل المستفتي تابع لعمل المجتهد المفتي ، فإنّ الفقيه متى تعذّر عليه الطرق الاجتهادية تعيّن عليه الأخذ بالاُصول العملّية الّتي من جملتها الاحتياط ، ومتى وجب عليه الاحتياط في ظاهر الحال وجب على من يتّبعه من المقلّدين ، فيحكم عليهم بما يعتقده من لزوم الاحتياط في تلك الحال ، وبيان الحكم الواقعي مع فقد الطريق إليه لا معنى له ، ومطالبة المستفتي ببيان حكم

ص: 618

الواقعة لا يقضي بلزوم الجواب مع عدم العلم به ، بل الأخبار المتواترة بل الأدلّة الأربعة حينئذٍ متطابقة على المنع من الإفتاء .

نعم ، قد عرفت أنّه قد يتعذّر الاحتياط ولا يمكن التوقّف ، فيلزمه حينئذٍ مع تعذّر الطريق القطعي العمل بمقتضى الطريق الظنّي ، وهو غير الظنّ بالواقع ، إلّا إذا حصل الظنّ بكونه طريقاً له في تلك الحال على حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، وذلك ممّا لا يؤدّي إلى حجيّة الظنّ في ساير المقامات ، كما لا يخفى .

قال قدس سره :

إيراد المحقّق جمال الدين الخوانساري قدس سره على الدليل المذكور وجوابه من الماتن

وقد ذكر في المقام أيضاً إيراداً على الدليل المذكور بأنّ تسليم انسداد باب العلم غير مفيد في ثبوت المرام والانتقال إلى الظنّ في تحصيل الأحكام ، لإمكان الاقتصار على المعلوم ممّا دلّ عليه الضرورة والإجماع ، وينفى ما عداه بالأصل لا لإفادته الظنّ ، بل لحكم العقل بأنّه لا يثبت علينا تكليف إلّا بالعلم أو بظنّ قام عليه دليل علمي وفي ما ينتفي الأمران يحكم العقل بفراغ الذمّة قال : ويؤكّد ذلك ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ .

وعلى هذا فإذا لم يحصل العلم به على أحد الوجوه وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة فالأمر سهل للحكم إذن بجواز تركه ، وإن لم يكن كذلك كالجهر بالتسمية أو الإخفات بها في الصلاة الإخفاتية فإنّه مع وجوب أصل التسمية بالإجماع ووقوع الخلاف في تعيين إحدى الكيفيتين لا يمكننا ترك الكيفيتين ، وحينئذٍ نقول : إنّ قضيّة حكم العقل هو البناء على التخيير ، لعدم ثبوت

ص: 619

الخصوصيّة عندنا فلاحرج علينا في فعل شي ء منهما إلى أن يقوم دليل على التعيين .

قلت : وأنت خبير بأنّه ليس مبنى الاستدلال على الاستناد إلى مجرّد انسداد باب العلم حتّى يورد عليه بأنّ انسداد طريق العلم لا يوجب العمل بالظنّ ، بل اعتبر معه قيام الإجماع والضرورة على بقاء الدين والشريعة ، والمفروض في المقدمّة القائلة بانسداد باب العلم بأنّ باب العلم بالأحكام على نحوٍ يحصل به نظام الشريعة ويرتفع به القطع الحاصل من الإجماع والضرورة المفروضة مسدود قطعاً . وحينئذٍ بعد تسليم الانسداد وعدم التعرّض لدفعه في المقام كيف يقابل ذلك بالاكتفاء بما دلّ عليه الضرورة والإجماع ، والرجوع فيما عداه إلى الأصل ، مع أنّ المفروض لزوم انهدام الشريعة مع الاقتصار على ذلك كما عرفت .

ويمكن أن يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ إذا قلنا بعدم جريان الأصل المذكور في العبادات المجملة مطلقاً ، أو فيما إذا كان الإجزاء بعضها منوطاً بالبعض مع عدم تعيّن أجزائها وشرايطها على سبيل التفصيل ، إذ لا يصحّ الاقتصار على القدر المتيقّن من الأجزاء ، لعدم العلم بكونه هو المكلّف به ، ولا الحكم بسقوط الكلّ من جهة عدم تعيّن المكلّف به ، لما فيه من الخروج عن ضرورة الدين . وأمّا إن قلنا

ص: 620

بجريان الأصل فيها - كما هو مختار البعض(1) - بناءً على أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالمكلّف بمقدار علمه ، ولا يتعلّق بنا التكليف بالمجملات إلّا بمقدار ما وصل إلينا من البيان ، فلا يجب علينا إلّا الإتيان بما يفي به الأدلّة القاطعة من الأجزاء والشرائط ، إذ المفروض كون القطع هو الطريق في البيان وعدم ثبوت حصول البيان بغيره ولا قطع لنا بعد الاقتصار على ذلك بوجوب جزء أو شرط آخر ، إذ لم يقم ضرورة ولا إجماع ونحوهما من الأدلّة القاطعة على اعتبار شي ء ممّا وقع الخلاف فيه من الأجزاء والشرائط ولو في الجملة .

وما قد يقال من حصول القطع إجمالاً بوجوب أجزاء اُخر غير ما دلّت عليه الأدلّة القاطعة بيّن السقوط بعد ملاحظة الحال في العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة وغيرها ، ومع الغضّ عن ذلك وتسليم حصول علم إجمالي بذلك فإنّما المعلوم اعتبار جزء أو شرط كذلك بحسب الواقع . وأمّا تعلّق ذلك بنا مع عدم ظهور طريق إليه فممّا لم يقم عليه إجماع ولا غيره ، فأيّ مانع من نفيه بالقاعدة المذكورة وإن علم كون الحكم الواقعي الأوّلي خلافه ، لوضوح جريان أصالة البرائة مع العلم الإجمالي

ص: 621


1- وهو المحقّق الآقا جمال الخوانساري في حاشيته على شرح مختصر الاُصول / مخطوطة .

باشتغال الذمّة بحسب الواقع إذا لم يكن هناك طريق إليه .

وقد يشكل الحال في المقام في القضاء والإفتاء ، سيّما في مسائل المعاملات ، لدوران الأمر حينئذٍ بين المحذورين ، لكن الّذي يقتضيه القاعدة المذكورة هو الحكم بعدم تعلّق وجوب القضاء والإفتاء بنا ، إلّا فيما ثبت وجوبه علينا بالدليل القاطع أخذاً بمقتضي القاعدة العقليّة المذكورة ، وليس في الالتزام به خروج عن مقتضي الأدلّة القاطعة القاضيّة بكوننا مكلّفين فعلاً بأحكام الشريعة في الجملة ، فإنّها لا تفيد كوننا مكلّفين بالفعل بجميع التكاليف الواقعيّة وإن كانت معلومة إجمالا حسب ما مرّت الإشارة إليه .

فظهر ممّا قرّرنا اندفاع ما يقال : من أنّ الاقتصار على القدر المتيقَّن من التكاليف لا يكتفى به في الخروج عن عهدة التكليف ، للقطع الإجمالي ببقاء تكاليف اُخر غير ما يقطع به على جهة التفصيل .

نعم قد يشكل الحال في الطوارى ء الواردة كأحكام الشكوك ونحوها ممّا يقطع بتعلّق التكليف هناك على أحد وجهين أو وجوه .

ويمكن دفعه بناءً على الوجه المذكورة بالتزام التخيير فيها بعد العلم بتعلّق التكليف في الجملة وعدم قيام دليل على التعيين ، حيث إنّ المقطوع به حينئذٍ هو أحد

ص: 622

الوجهين أو الوجوه ، فيقتصر في ثبوت التكليف بذلك المقدار ويتخيّر في أدائه بين ذينك الوجهين أو الوجوه ، وبمثله يقال : إذا دار الواجب من أصله بين أمرين لا قطع بأحدهما مع القطع بتعلّق التكليف بأحدهما كدوران الصلاة يوم الجمعة بين الظهر والجمعة ، لكن البناء على جريان الأصل في مثل ذلك بعيد جدّاً ، إذ كون الإتيان بكلّ منهما أداء للمأمور به غير ظاهر بعد دوران التكليف هناك بين الأمرين وكون القدر المعلوم من المكلّف به هو أحد الأمرين ، لا أنّه تعلّق هناك أمر بالقدر الجامع بين الأمرين ليكون الشكّ في الخصوصيّة قاضياً بدفعها بالأصل ، فيبقى التكليف بالمطلق هو القدر الثابت من المكلّف به ، فالموافق للقاعدة حينئذٍ هو البناء على تحصيل اليقين فيجب الإتيان بالفعلين ، ولا مانع من الالتزام بالاحتياط في مثل الصورة المفروضة ، ولا يقع ذلك إلّا في صورة نادرة .

ثمّ إنّى أقول : إنّه قرّر الاستدلال بنحوٍ آخر بأن يكون الاستناد فيه إلى مجرّد انسداد باب العلم بعد ثبوت التكليف في الجملة كان ما أورده من قيام ما ذكر من الاحتمال غير ناهض في هدم الاستدلال ، إذ نقول حينئذٍ : إنّ قضيّة حكم العقل بعد العلم بحصول التكليف في الجملة ولزوم الإتيان بالواجبات وترك المحرمّات هو التخيير بين متعلّق الوجوب وغيره ومتعلّق المنع والإباحة ليتمكّن من

ص: 623

الامتثال بالفعل أو الترك ، لتوقّف دفع الخوف من الضرر عليه كما أنّه يجب النظر إلى المعجزة بمجرّد ادّعاء النبوّة لاحتمال كونه نبياً في الواقع ، وترتّب الضرر على مخالفته في الآجل . وحينئذٍ فكما أنّ ثبوت الحكم يحتاج إلى الدليل القطع فكذلك نفيه أيضاً .

فنقول : إنّ قضيّة انسداد باب العلم في المقام هو الرجوع إلى الظنّ ، إذ هو الأقرب إلى العلم ، فما ذكره من جواز أن يكون المرجع في الإثبات هو العلم ويحكم فيما عدا المعلوم وان كان مظنوناً بالنفي لا وجه له ، إذ هو أخذ بالوهم وتنزّل من العلم إلى ما دونه بدرجات .

نعم إن قام الدليل عليه كذلك صحّ الإيراد المذكور حينئذٍ ، فإبراز مجرّد الاحتمال كما هو ظاهر كلام المورد غير كافٍ في المقام .

وإن ادّعى قيام الدّليل عليه كذلك كما يومى إليه آخر كلامه فممنوع ، سيّما فيما إذا حصل الظنّ بخلافه إذ قضيّة التنزّل عن العلم هو الأخذ بما هو أقرب إليه في الإثبات والنفي من غير فرق .

وإن ادّعى الإجماع على أصالة البرائة حتى يعلم الشغل فهو أيضاً ممّا لا وجه له ، سيّما في نحو ما ذكره من مسألة الجهر والإخفات بعد العلم بوجوب إحدى الكيفيّتين ، إذ لا يبعد في مثله الحكم حينئذٍ بوجوب التكرار كما نصّوا عليه

ص: 624

في صورة اشتباه الموضوع كالصلاة في الثوبين المشتبهين . ودعوى الإجماع في مثله على السقوط وعدم الرجوع إلى الاحتياط مجازفة بيّنة .

ما أفاده المحقّق القمّي في المقام

اشارة

ومن غريب الكلام ما صدر في المقام عن بعض الأعلام(1) حيث إنّه أورد على المورد المذكور في فرقه بين مسألة غسل الجمعة ، ووجوب الجهر والاخفات في جريان الأصل : « بأنّه إن أراد نفى الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فهو لا يلائم ما ثبت يقيناً من الشرع ، وإن أراد إثبات الاستحباب فهو ليس إلّا معنى ترجيح أحاديث الاستحباب على أحاديث الوجوب بسبب الأصل ، وأنّ الرجحان الثابت بالإجماع والضرورة لابدّ أن يكون هو الرجحان الاستحبابي دون الوجوبي ، فهو لا يتمّ إلّا بترجيح أصل البرائة على الاحتياط ، وهو موقوف على حجّية هذا الظنّ .

وبالجملة الجنس لا بقاء له بدون الفصل والثابت من الشرع أحد الأمرين وأصل البرائة لا ينفي إلّا المنع من الترك ، وعلى فرض أن يكون الرجحان الثابت بالإجماع هو الحاصل في ضمن الوجوب فقط في نفس الأمر ، فمع نفي المنع من الترك بأصل البرائة لا يبقى رجحان أصلاً ، لانتفاء

ص: 625


1- وهو الفاضل القمّي قدس سره في القوانين .

الجنس بانتفاء فصله . وأصل البرائة من المنع عن الترك لا يوجب كون الثابت بالإجماع في نفس الأمر هو الاستحباب ، فكيف يحكم بالاستحباب ؟ فلم يصحّ ترجيح الحديث الدالّ على الاستحباب على الحديث الدالّ على الوجوب بسبب اعتضاده بأصل البرائة ، وهذا ليس مراده ، وإنّما المناسب لما رامه من المثال هو أن يقال في نجاسة عرق الجنب من الحرام مثلاً : إنّ خبر الواحد الوارد في ذلك أو الإجماع المنقول الدالّ على ذلك لا حجّية فيه ، والأصل برائة الذمّة عن وجوب الاجتناب .

جواب المحقّق القمّي من الماتن

وحينئذٍ فالجواب عن ذلك يظهر ممّا قدّمنا من منع حصول الجزم أو الظنّ بأصل البرائة مع ورود الخبر الصحيح . وممّا ذكرنا ظهر أنّ حكم غسل الجمعة نظير الجهر بالتسمية والإخفات على ما فهمه .

والحاصل : أنّ الكلام فيما كان خبر الواحد الظنّي في مقابل أصل البرائة وفي غسل الجمعة الحكم بمطلق الرجحان القطعي الحاصل من الإجماع والنوعين من الأخبار الواردة فيه في مقابل أصل البرائة » انتهى(1) .

وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّلاً : فبأنّ إثبات الاستحباب حينئذٍ بضميمة

ص: 626


1- القوانين / 443 و 442 .

الأصل ممّا لا غبار عليه ، فإنّ مطلق الرجحان - أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب - معلوم بالإجماع والمنع من الترك منفيّ بأصل البرائة فيلزم من الأمرين ثبوت الاستحباب في ظاهر الشرع ، وليس ذلك من ترجيح أحاديث الاستحباب بوجه ، لوضوح جريانه بعينه مع فرض انتفاء الحديث من الجانبين ، أو من جهة الاستحباب خاصّة ، مع عدم نهوض ما دلّ على الوجوب حجّة في المقام ، كما هو المفروض .

والحاصل : أنّه مع اليقين بثبوت الرجحان والحكم بعدم المنع من الترك من جهة أصالة البرائة لا يبقى مجال لإنكار الاستحباب . ودعوى كونه مبنيّاً على ترجيح أصل البرائة على الاحتياط وهو موقوف على حجّية هذا الظنّ غير واضحة .

كيف ؟ وقد نصّ المستدلّ أوّلاً بكون البناء على أصل البرائة ليس من جهة الظنّ ، بل من جهة قطع العقل بأنّه لا تكليف إلّا بعد البيان وقيام طريق للمكلّف إلى الوصول إلى التكليف ، ومنع ذلك كلام آخر أشار إليه المورد أيضاً . وسيجى ء الكلام فيه انشاءاللَّه .

وما يتخيّل من : أنّ الجنس لا بقاء له بدون الفصل فقد يكون الرجحان في ضمن الوجوب بحسب الواقع فلا يعقل بقاؤه بعد انتفاء فصله مدفوع بالفرق البيّن بين رفع الفصل

ص: 627

في الواقع وفسخ الحكم كما في نسخ الوجوب والحكم بعدمه في الظاهر ، لعدم قيام دليل عليه كما في المقام ، لوضوح قضاء الأوّل برفع الجنس الثابت به بخلاف الثاني ضرورة عدم الحكم هنا برفع حكم ثابت ، وإنّما المقصود عدم حصول المنع من الترك من أوّل الأمر الّذي هو فصل للنوع الآخر أعني الاستحباب ، فبعد ثبوت الجنس بالإجماع والفصل المذكور بالأصل يثبت خصوص الاستحباب في الظاهر ، وليس رفع الفصل بالأصل في الظاهر قاضياً بانتفاء الجنس الثابت بالدليل ، بل أقصاه ما ذكرناه من الحكم ببقاء الجنس في الظاهر بالفصل الآخر ، فيكون المستفاد منهما حصول النوع الآخر في الظاهر .

نعم لو لم يكن هناك دليل على حصول الجنس أمكن القول بنفيه أيضاً من جهة الأصل أوّلاً ، لا لقضاء انتفاء الفصل المفروض بنفيه ظاهراً ، والمفروض في المقام خلاف ذلك ، لقيام الدليل القاطع على ثبوت الجنس ، فقوله : أنّ أصل البرائة عن المنع من الترك لا يوجب كون الثابت بالاجماع . . . إلى آخره غير متّجه ، إذ ليس ذلك ممّا ادّعاه المورد أصلاً ، بل مراده إثبات الاستحباب في الظاهر ، وبيان كون الرجحان الثابت بالإجماع حاصلاً مع عدم المنع من الترك بحسب تكليفنا ، فالرجحان معلوم والمنع من الترك في الظاهر منفيّ بحكم الأصل فيثبت بذلك

ص: 628

الاستحباب في الظاهر ، فكيف يعقل القول بقضاء أصل البرائة بكون الرجحان الثابت بالإجماع حاصلاً في الواقع مع عدم المنع عن الترك ، ومن المعلوم عدم ارتباط أصل البرائة بالدلالة على الواقع ، وقد نصّ عليه المورد في كلامه .

فإن قلت : إنّ مقصود المورد هو العمل بالعلم وترك الأخذ بالظنّ ، والوجه المذكور لا يفيد ظنّاً بثبوت الاستحباب فضلاً عن العلم به فكيف يصحّ الحكم بثبوته ؟!

قلت : ليس مراد المورد إلّا البناء على العلم في إثبات الحكم ودفع غير المقطوع به بالأصل ، لإنتفاء الطريق إليه ، ولمّا كان الرجحان مقطوعاً به في المقام حكم به ، ودفع الزايد بالأصل ، لعدم قيام دليل عليه . فيكون الثابت على المكلّف في الظاهر الاستحباب قطعاً وإن لم يظنّ بحصوله واقعاً ، فإنّ رفع الحكم في الظاهر لانتفاء الطريق إليه لا يفيد نفي الحكم بحسب الواقع ، وإذا كانت إحدى المقدّمات مفيدة لثبوت الحكم في الظاهر كان الحكم الثابت من الجميع ظاهريّاً .

ومع الغضّ عمّا ذكر ، فلو سلّم كون نفي الفصل في الظاهر بمنزلة رفعه بحسب الواقع تمّ المقصود أيضاً ، فإنّه مع ارتفاعه كذلك وقيام الدليل على حصول الجنس بحسب الواقع - كما هو الواقع في المقام - لا مجال للتأمّل في تحقّق النوع المتقوّم بعدم ذلك الفصل كما في نسخ الوجوب إذا قام

ص: 629

دليل على تحقّق الرجحان إذ لا إشكال بل لا خلاف في الحكم بالاستحباب ، فغاية الأمر أن يكون المقام من قبيل ذلك .

والحاصل : أنّ أصل البرائة بالنسبة إلى الظاهر حجّة نافية للحكم فحاله حال الخبر النافي للحكم إذا قام الدليل على حجيته ووجوب العمل به في الظاهر ، فكما أنّا إذا علمنا بالإجماع ونحوه رجحان الفعل ودلّت الرواية المفروضة على عدم المنع من الترك حكمنا بحصول الاستحباب فكذا في المقام من غير فرق فيما نحن بصدده من ثبوت الحكم بالنسبة إلى الظاهر ، وليس ذلك إثباتاً للحكم بالأصل ، إذ ليس قضيّة الأصل هنا سوى عدم المنع من الترك وبملاحظته مع الرجحان المعلوم الثبوت من الخارج يثبت الاستحباب ، ولا يعدّ ذلك من قبيل الاُصول المثبتة قطعاً ، كما لا يخفى .

ومن ذلك ظهر ما في قوله : أنّ حكم غسل الجمعة نظير الجهر والإخفات في التسمية ، إذ بعد صحّة جريان الأصل في غسل الجمعة حسب ما قرّرناه وعدم صحّة جريانه بالنسبة إلى الجهر والإخفات للعلم بثبوت أحد التكليفين ومخالفة كلّ منهما للأصل من غير تفاوت بينهما في ذلك يتّضح الفرق بينهما كمال الوضوح ومع الغضّ عمّا ذكرنا وتسليم دوران الأمر هناك أيضاً بين حكمين

ص: 630

وجوديّين فجعلهما من قبيلٍ واحدٍ غير متجّه ، مع كون أحد الحكمين في مسألة الغسل أقلّ مخالفة للأصل ، والآخر أكثر على خلاف مسألة الجهر والإخفات ، إذ لا فرق بينهما في مخالفة الأصل بوجهٍ من الوجوه .

وأمّا ثانياً : فبأنّ ما ذكره من أنّ المثال المناسب لما رامه نجاسة عرق الجنب من الحرام محلّ مناقشة ، إذ رفع وجوب الاجتناب في المقام بالأصل حسب ما ذكره قاضٍ بارتفاع جواز الاجتناب الحاصل في ضمنه على ما قرّره من ارتفاع الجنس بارتفاع فصله . وأصل البرائة من المنع من ترك الاجتناب لا يقضي بكون جواز الاجتناب الثابت بالإجماع حاصلاً في نفس الأمر في ضمن الكراهة أو الإباحة ، فإن اُريد بالأصل المذكور ورفع المنع من ترك الاجتناب مع عدم الحكم بجواز الاجتناب فهو مخالف لما دلّ الإجماع عليه ، وإن اُريد معه الحكم بجواز الاجتناب أيضاً فأيّ دليل قضى ببقائه على نحو ما ذكره في مسألة غسل الجمعة ، غاية الأمر دوران الاحتمال هناك بين الحكمين وهنا بين أحكام ثلاثة .

وأمّا ثالثاً فبأنّ ما ذكره : من أنّ الحكم بالرجحان القطعي . . . إلى آخره غير مستقيم ، إذ لا وجه لاعتبار الحكم القطعي في مقابلة أصالة البرائة ، وليس في كلام المورد ما يوهم ذلك أصلاً ، وكيف يعقل مقابلة الأصل بما

ص: 631

وقع الإجماع على ثبوته والحكم برجحانه عليه ورفعه له ؟! وإنّما المقصود رفعه المنع من الترك . وإن قام عليه دليل ظنّي فيكون أصل البرائة في مقابلة ذلك الدليل الظنّي ، كيف ؟ وعبارة المورد صريحة في رفع أصالة البرائة للمنع من الترك . والظاهر أنّ ما ذكره مبنيّ على ما زعمه من كون رفع المنع من الترك بالأصل قاضياً برفع رجحان الفعل فيؤول الأمر إلى مزاحمة أصالة البرائة للرجحان المقطوع به .

وقد عرفت ضعفه ، ولو صحّ ما ذكره لجرى ذلك بعينه في المثال الّذي أورده أيضاً .

غاية الأمر أنّ الجنس الحاصل في المقام رجحان الفعل ، والحاصل هناك جوازه ، فيكون رفع المنع من الترك هناك في معنى رفع الجواز المعلوم الثبوت أيضاً ، ويكون ما دلّ على الجواز من الدليل القطعي مقابلاً بأصالة البرائة دون الدليل الظنيّ القاضي بوجوب الاجتناب ، وهو كلام ساقط جدّاً ، ولو تمّ لقضى بعدم جريان أصالة البرائة والإباحة في شي ء من المقامات .

إيرادات آخر للمحقّق الخوانساري على هذا الإيراد

ثم إنّ للفاضل المذكور(1) إيرادات اُخر على هذا الإيراد أحببنا إيراد جملة منها في المقام ، ونشير إلى ما

ص: 632


1- وهو المحقّق جمال الدين الخوانساري قدس سره في حاشيته على شرح المختصر ، مخطوطة ، ونقل عنه في فرائد الاصول 1 / 401 - 400 .

يرد عليها من الكلام حتّى يتّضح به حقيقة المرام .

منها : منع جواز الاستناد في رفع التكليف إلى أصل البرائة وقوله : « إنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف . . . إلى آخره » إن أراد به الحكم القطعي فهو أوّل الكلام كما يعرف من ملاحظة أدلّة أصالة البرائة ، سيّما بعد ورود الشريعة والعلم الإجمالي بثبوت الأحكام الشرعيّة خصوصاً بعد ورود مثل الخبر الصحيح في خلافه ، وإن أراد الحكم الظنّي كما يشعر به كلامه سواء كان بذاته مفيداً للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة فهو ظنّ مستفاد من ظواهر الأخبار والآيات الّتي لم يثبت حجيتها بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشّرع ثمّ بعد ورود الخبر الواحد إذا حصل منه ظنّ أقوى .

ومنها : أنّ قوله « ويؤكّد ذلك . . . إلى آخره » فيه أنّها عمومات لا تفيد إلّا الظنّ ، بل هى ظاهرة في غير الفروع ، وشمول عموم ما دلّ على حجّية ظواهر القران لما نحن فيه ممنوع ، لأنّه إن كان هو الإجماع ففيما نحن فيه أوّل الكلام ، وإن كان غيرها فليس إلّا الظنون الحاصلة من الأخبار ، وقد مرّ الكلام في الاستدلال بها .

ومنها : أنّ قوله « وأمّا فيما لم يكن مندوحة عنه . . . إلى آخره » إن أراد به أنّ التخيير المفروض هو مفاد أصل البرائة فيقدّم على الدليل الظنيّ فهو فاسد ، إذ بعد تعارض

ص: 633

دليلي القولين لا شي ء في مقابلة أصل البرائة حتّى يقال : إنّه ظنّ لا يعمل به ، بل يرجع الكلام إلى جريان أصل البرائة فيما لا نصّ فيه ، فقابله حينئذٍ أدلّة التوقّف والاحتياط ، والمورِدُ أيضاً لا يقول بذلك ، فإنّه لا يقول ببرائة الذمّة عن مقتضى القولين جميعاً لعدّه ذلك ممّا لا مندوحة عنه ، والمستدلّ أيضاً لا يقول به لذهابه إلى ترجيح الظنّ ، وإن أراد أنّ هذا التخيير إنّما هو في العمل بما اختاره من القولين ، ومع اختيار أيّ منهما يكون العمل به واجباً عليه وذلك ممّا لا ربط له بأصل البرائة . انتهى ملخّصاً .

جواب المحقّق القمّي من الماتن

ويتوجّه عليها ، أمّا على الأوّل : فأوّلاً بأنّ منظور المورد هو المنع من قضاء انسداد باب العلم بالرجوع إلى الظنّ ووجوب الأخذ به باحتمال الرجوع إلى أصل البرائة وترك العمل بالظنّ نظراً إلى حكم العقل . . . إلى آخره . وصحّة المنع لا يتوقّف على قطع العقل بانتفاء التّكليف مع انتفاء العلم بالواقع .

كيف ؟ ولو أراد ذلك لما أبدى الإيراد المذكور بصورة المنع ولو ادّعى العلم بذلك ، فإن ادّعى كونه ضروريّاً عند العقل لزم أن يكون القول بحجّية الظنّ عنده مصادماً للضرورة ، وهو واضح الفساد .

وإن ادّعى كونه نظريّاً كان الدليل الموصل إليه معارضاً للدليل المذكور ، وهو خلاف ما يعطيه كلام المورد ، إذ ليس

ص: 634

بصدد المعارضة ولو أراد ذلك لكان اللازم عليه حينئذٍ بيان ذلك حتّى يتمّ المعارضة ، مع أنّه لم يشر إليه في الإيراد .

وثانياً : نختار أنّ المراد بحكم العقل قطعه بانتفاء التكليف مع انتفاء العلم ، لكن لا يريد به خصوص العلم بالواقع ، بل ما يعمّه والعلم به من الطريق المقرّر للوصول إلى الحكم وإن لم يكن مفيداً للعلم بالواقع بل ولا الظنّ به أيضاً . وقطع العقل حينئذٍ بانتفاء التكليف ظاهر ، لوضوح قبح التكليف مع انتفاء طريق موصل إليه من العلم ، وما يقوم مقامه من الطرق المقرّرة . ومحصّل الإيراد حينئذٍ المنع من قضاء انسداد باب العلم بالرجوع إلى الظنّ ، لاحتمال الحكم بسقوط التكليف نظراً إلى ما قطع به العقل من انتفاء التكليف مع انتفاء السبيل إلى الوصول إليه ، فكما أنّ انسداد باب سبيل العلم بالواقع الّذي هو الطريق المقرّر أوّلاً للوصول إليه قد يكون قاضياً بانفتاح سبيل آخر إلى الواقع - كما هو مقصود المستدلّ ، وذلك فيما إذا علم بقاء التكليف بعد حصول الانسداد - كذا قد يكون قاضياً بسقوط التكليف مع عدم العلم ببقائه ، نظراً إلى انسداد الطريق إليه وقطع العقل بانتفاء التكليف إليه .

فظهر بما قرّرنا أنّ قطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء الطريق إنما يقتضي قطع العقل في المقام بانتفاء التكليف ، إذ كون الظنّ حينئذٍ طريقاً إلى الواقع كما هو

ص: 635

المبحوث عنه في المقام ، فما ذكره من أنّ حكم العقل ببقاء التكليف حينئذٍ أوّل الكلام مشيراً به إلى أنّ ذلك نفي لعين المدّعى كما ترى ، والظاهر أنّ ما ذكر غير قابل للمنع فإنّه من الواضحات حسب ما مرّ الكلام فيه .

كيف ؟ ولو لم يتمّ ما ذكره القائل بحجّية الظنون من الدليل المذكور وغيره ممّا احتجّوا به على ذلك لما قال بحجّية الظنّ ، فمنع ذلك في المقام ليس في محلّه . وكذا لا فرق في ذلك بعد ورود الشرع وقبله ، فانّ عدم ثبوت التكليف من غير طريق للمكلّف إلى الوصول إليه أمر عقلي لا يختلف الحال فيه قبل ورود الشرع وبعده .

وثالثاً : أنّ تسليم كون نفى التكليف حينئذٍ مظنوناً كاف في مقام رفع الحجّية وليس من قبيل الاستدلال بالظنّ على الظنّ ليدور بل دفع الظنّ بالظنّ ، وهو ممّا لا مانع منه ، فإنّه لو كان حجّة لم يكن حجّة ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل ، وقد مرّ الكلام فيه .

وأمّا على الثاني : فبأنّ كونها عمومات لا تفيد إلّا الظنّ على فرض تسليمه كافٍ فيما هو مقصود المعترض من رفع حجّية الظنّ ، لما عرفت من جواز رفع الظنّ بالظنّ وأيضاً لم يستند إليها المورد في مقام الاستدلال حتّى يورد عليه بذلك ، وإنّما ذكره في مقام التأييد والاستشهاد ليتبيّن اعتضاد ما ادّعاه من حكم العقل بالشواهد الشرعيّة .

ص: 636

ومن الواضح كفاية الدلالة الظنّية في ذلك ، فلا وجه للإيراد عليه بكونه ظنيّاً . ودعوى كونها ظاهرة في غير الفروع ممّا لا وجه لها كما مرّت الإشارة إليه . وما ذكره من منع شمول عموم ما دلّ على حجّية القرآن لمحلّ الكلام غير متّجه أيضاً ، وكأنّه أراد به منع شمول ما دلّ على حجّية الكتاب بالنسبة إلى هذه الأعصار حسب ما أشار إليه في محل آخر وهو مدفوع بما قرّر في محلّه ، حتّى أنّ الإجماع القائم على حجّيته شامل لذلك أيضاً كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه ، ولو أراد بذلك المنع من الحجّية بالنسبة إلى خصوص محلّ الكلام نظراً إلى حصول الخلاف المانع من قيام الإجماع على حجّيته بحيث يشمل المقام فهو موهون جدّاً ، لوضوح أنّ الإجماع القائم على حجّية الكتاب لاينافي الخلاف الواقع في المسائل الّتي دلّ الكتاب على حكمها ، فلا وجه للقول بكون شمول الإجماع لما نحن فيه أوّل الكلام .

وامّا على الثالث فبأنّ القول بكون التخيير المذكور مفاد أصالة البرائة إنّما يصحّ بدفع خصوص كلّ من الوجهين بالأصل ، حيث لم يقم عليه دليل قاطع ، ولمّا لم يكن هناك مندوحة عن الأخذ بأحدهما لقيام الدليل القاطع على وجوب أحدهما نظراً إلى اتّفاق الفريقين عليه لزم البناء على التخيير ، وحينئذٍ فليس التخيير المذكور مفاد أصل البرائة

ص: 637

خاصّة ، بل إنّما يجي ء من جهة العلم بوجوب أحدهما مع عدم ثبوت كلّ من الخصوصيّتين لعدم قيام دليل قاطع عليه ، فأصالة البرائة هنا رافعة لكلّ من الدليلين الظنّيين ، سواء كانا متعادلين أو كان أحدهما راجحاً على الآخر . وانتفاء المندوحة إنّما يجي ء من جهة قيام الدليل القاطع على وجوب أحدهما ، فلا مناص عن الأخذ بأحدهما ، هذا على أحد الوجهين في بيان مراده كما مرّت الإشارة إليه .

والوجه الآخر أن يراد به دفع وجوب كلّ من الجهر والإخفات بالأصل ، وإن لم يمكن تركهما معاً لعدم المندوحة عن فعل أحدهما فلا يحكم إذن بوجوب شي ء منهما ، والعلم الإجمالي بوجوب أحدهما غير مفيد ، لسقوطه عن المكلّف بعد انتفاء التعيين ، فيكون مختاراً في أداء أيٍّ من الكيفيّتين ، ولا يرتبط ما أورده في المقام بالإيراد المذكور على شي ء من التفسيرين ، وقد بنى إيراده على أنّ مراد المورد بيان الحال في خصوص ما إذا تعارض دليل القولين وتعادلا من غير ظهور مرجّح في البين ، حيث جعل ذلك ممّا لا مندوحة عنه ، ولو كان دليل أحدهما راجحاً على الآخر لكان هو المظنون واللائق بمقابلة أصالة البرائة دون الآخر ، وإن كان هناك مندوحة عنه فإنّه يرجع إلى أصالة البرائة عمّا دلّ عليه الدليل الراجح فأورد عليه بما ذكره .

ص: 638

وأنت خبير بأنّ حمل العبارة المذكورة على ذلك بعيد جدّاً ، بل لا إشارة فيها بذلك أصلاً ، إذ لا إشعار في كلامه لفرض المسألة في خصوص صورة المعارضة بين الدليلين فضلاً عن اعتبار المكافئة بينهما ، وإنّما ذكر في كلامه المعارضة بين القولين وعدم إمكان ترك مقتضى الاحتمالين ، حيث إنّه لا مندوحة للمكلّف عن اختيار أحد الوجهين ، كيف ؟ وقد بنى المورد كلامه على نفى حجّية الظن ، وحينئذٍ فلا تفاوت بين حصول المعادلة بينهما في القوّة والضعف وعدمها ، فإنّه إنّما يفرّق بين الأمرين في الأدلّة المعتبرة في الجملة دون ما لا عبرة بها مع الانفراد فضلاً عن المعارضة .

ثمّ إنّه لو سلّم فرض مسألة في صورة المعادلة بين دليلي القولين وعدم حصول مرجّح لأحد الجانبين لم يقض ذلك بانتفاء المندوحة في المقام بوجه من الوجوه ، إذ المفروض عدم حجّية شي ء من الظنّين وكون وجودهما كعدمها ، فكيف ترتفع المندوحة من جهتها ؟ وما ذكره من أنّه « لو كان أحدهما راجحاً . . . إلى آخره » غير متّجه ، إذ مع كون الأصل رافعاً للمظنون يكون رافعاً لغيره بالاُولى فكيف يجعل المرفوع بالأصل حينئذٍ خصوص المظنون ؟ حتّى يكون المندوحة في المقام بأخذ مقابله وإن كان هو أيضاً مخالفاً للأصل كما هو المفروض في المثال .

وبالجملة : أنّ بناء المورد على الأخذ بمقتضى الأصل

ص: 639

في غير ما حصل اليقين به سواء كان ما يقابله مظنوناً أو لا ، وإنّما فرض في المقام كونه رافعاً للأدلّة الظنيّة حيث إنّ الكلام وقع في ذلك ، فلا يعقل أن يكون قوّة أحد الظنّين في المقام وضعف الآخر قاضياً بحصول المندوحة في الصورة المفروضة حتّى يكون المدفوع بالأصل خصوص المظنون دون الآخر [ج 3 ص 415 - 402] .

نقل بيان المحقّق الخوانساري من الشارح

أقول : الإيراد المذكور للمحقّق جمال الدين الخوانساري قدس سره حيث قال : « يرد على الدليل المذكور أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالباً لا يوجب جواز العمل بالظنّ حتّى يتّجه ما ذكروه ، لجواز أن لا يجوز العمل بالظنّ ، فكلّ حكم حصل العمل به من ضرورة أو إجماع نحكم به ، وما لم يحصل العلم به نحكم بأصالة البرائة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ، ولا للاجماع على وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم ، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببرائة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّاً بمقتضاها حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من إخبار الأخبار بخلافها ، بل لما ذكرناه من حكم العقل بعدم لزوم شي ء علينا ما يحصل العلم لنا ، ولا يكفي الظنّ به ، ويؤكّده ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ .

وعلى هذا ففيما ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة فالخطب سهل ، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور .

وأمّا فيما لم يكن مندوحة عنه - كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصلاة

ص: 640

الاخفاتيّة الّتي قال بوجوب كلّ منهما قوم ، ولا يمكن لنا ترك التسمية - فلا محيص لنا من الإتيان بأحدهما ، فنحكم فيها بالتخيير ، لثبوت وجوب أصل التسمية ، وعدم ثبوت وجوب الجهر والإخفات ، فلا حرج لنا في شي ء منهما ؛ وعلى هذا فلا يتمّ الدليل المذكور ، لأنّا لا نعمل بالظنّ أصلاً »(1) .

وأنت خبير بأنّ هذا الإيراد ألصق بمنع المقدّمة الاُولى ، كما عرفت في بيانها ووجه إرتباطه بالمقدمّة الثالثة دعوى انفتاح باب العلم بطريق التخلّص عن التكليف المجهولة ، فإنّ أصل البرائة من جملة الأدلّة العقليّة ، وكان الأولى تبديله بأصالة النفي ليكون أعمّ من حيث المورد .

اعتراض المحقّق القمّي على الخوانساري

واعترض عليه المحقّق القمّي قدس سره بوجوه ؛

« الأوّل : أنّه إن أراد بقوله : « وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البرائة » عدم حصول العلم إجمالاً وتفصيلاً فهو كذلك لكنّه خلاف المفروض ، وإن أراد منه عدم حصول العلم التفصيلى خاصّة ، ففيه أنّ عدم حصول العلم التفصيلي لا يوجب البرائة مع ثبوت التكليف بالمجمل ، سيّما مع التمكّن بالإتيان به بأن يأتي بالمحتملات بحسب القدرة والاستطاعة ، وذلك أنّ التكليف بغير الضروريات يقينيّ ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ في الصلاة واجبات كثيرة علينا غير ما علم منها ضرورة - مثل وجوبها أو وجوب مسمّى الركوع والسّجود أيضاً - مع أنّا لا يمكننا معرفة تلك التّفصيلات إلاّ بالظّنون .

وأيضاً الضروريات اُمور إجمالية غالباً لا يمكن الامتثال بها إلاّ بما يفصّلها

ص: 641


1- حاشية شرح مختصر الاُصول ، للمحقق جمال الدين الخوانساري - مخطوطة - نقل عنه في فرائد الاُصول 1 / 401 .

في الحكم بين المسلمين وقطع الدعاوي ، ثبت وجوبه مثلاً بالضرورة أو بالإجماع ، لكن معرفة كيفية ذلك يحتاج إلى الظنون الّتي يشتمل عليها كتب الفقهاء .

غاية الأمر حصول القطع في كيفيّته بأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، لكن معرفة حقيقة المدّعي والمنكر والتميز بينهما ومعرفة معنى البيّنة أنّه رجل أو إمراة ؟ أو واحد أو متعدّد ؟ أو يشترط فيه العدالة أم لا ؟ وأنّ العدالة أيّ شي ء وبأيّ شي ء يثبت ؟ وأنّ الحكم أيّ شي ء ؟ إلى غير ذلك ممّا لا يحصل للفقيه إلاّ باستعمال الظنون ، كما لا يخفى على من ارتبط بالفقه قليلاً فضلاً عن المتدرّب فيه ، وهكذا جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام .

فمن قال : إنّه يمكن الاعتماد على ما علم ضرورة أو بالإجماع في تحصيل الفقه فقد تغافل ، ولعلّه قدس سره هنا في مقام المجادلة والتدقيق في نفس الدليل ، وأنت خبير بأنّه لا وجه له »(1) ، انتهى .

توضيح اعتراض الماتن على المحقّق القمّي

واعترض عليه المحقّق المصنّف قدس سره أمّا بالنّسبة إلى ما ذكره في العبادات المجملة فبأنّ ما ذكر إنّما يتمّ إذا قلنا بعدم جريان الأصل المذكور فيها مطلقاً أو حيث يكون الأجزاء بعضها منوطاً بالبعض ، وحينئذٍ فيمكن الحكم بلزوم تحصيل القطع بأدائها بالإتيان بفرد يقطع باندراجه في الطبيعة المطلوبة ، ومع عدم جريان الاحتياط في بعض المقامات فلا أقلّ من لزوم مراعاته فيما يمكن فيه المراعات ، لإمكان تحصيل اليقين بالنسبة إليه ، فلا وجه للرجوع فيه إلى الظنّ .

ولو سلّم توقّف الخروج عن عهدة التكليف على معرفة الحكم في بعض

ص: 642


1- القوانين / 423 و 422 .

المقامات فغاية الأمر حينئذٍ القول بحجيّة الظنّ فيه ، وأين ذلك من المدّعى ؟

وأمّا إن قلنا بجريان الأصل فيها - كما هو مختار البعض - فلا يجب علينا إلاّ الإتيان بما يفي به الأدلّة القاطعة من الأجزاء والشرايط ، إذ المفروض حينئذٍ كون القطع هو الطريق في البيان وعدم ثبوت حصول البيان بغيره .

ودعوى القطع إجمالاً بوجوب أجزاء وشرايط آخر غير ما دلّت عليه الأدلّة القاطعة ممنوعة ، إذ لم يقم ضرورة ولا إجماع ونحوهما من الأدلّة القاطعة على اعتبار شي ء ممّا وقع الخلاف فيه ولو في الجملة .

ولو سلّم العلم الإجمالي بذلك فإنّما المعلوم ثبوته في الواقع ، وأمّا تعلّق ذلك بنامع عدم ظهور طريق إليه فممّا لم يقم عليه إجماع ولا غيره ، فأيّ مانع من نفيه بالقاعدة المذكورة وإن علم كون الحكم الواقعي الأوّلى خلافه ؟ لوضوح جريان أصالة البرائة مع العلم الإجمالي باشتغال الذمّة بحسب الواقع إذا لم يكن هناك طريق إليه .

وفيه نظر ظاهر ، إذ القطع بوجوب جزء أو شرط في العبادة على الإجمال في معنى القطع بكون الاقتصار على القدر المعلوم بالتفصيل موجباً لخروج المأتيّ به عن الطبيعة المطلوبة فتبقى في ذمّة المكلّف ، بل يكون المأتيّ به حينئذٍ بدعة محرّمة ، وعدم الطريق إلى معرفة الواقع لا يفيد جواز الاقتصار على مثله مع إمكان الإتيان بالواقع بالجمع بين المحتملات ، بل ادّعى في الوافية(1) القطع بخروج تلك المهيّات عن حقايقها بالاقتصار المذكور ، كما مرّ التّنبيه عليه سابقاً .

والحاصل : أنّ القول بإجراء الأصل إنّما يمكن البناء عليه مع عدم العلم

ص: 643


1- الوافية / 159 .

الإجمالي أيضاً ، أمّا معه فلابدّ من الاحتياط بالجمع بين الوجوه الممكنة على كلا القولين .

وقوله : « بجريان الأصل معه عند فقد الطريق إليه » غريب ، لأنّه إن أراد به فقد الطريق إلى امتثاله بأن يتعذّر الاحتياط فيه فالوجه الاستناد في سقوط الواقع حينئذٍ إلى امتناع التكليف بالمحال ، لكن مع إمكان الامتثال الظنّي يتعيّن القول بوجوبه ، غير أنّه حينئذٍ لا يتعدّي إلى ساير الظنون ، بل يمكن القول بلزوم الامتثال الاحتمالي مع تعذّر الظنّي أيضاً .

وإن أراد به فقد الطريق إلى معرفته على التفصيل فذلك لا يقضي بسقوط الواقع ، لجواز التكليف بالمجمل مع إمكان امتثاله .

وبالجملة ، فالعلم الإجمالي بوجوب بعض الأجزاء أو الشرايط المحصورة على الإجمال يستدعي الامتثال لا محالة ، ولا يكفي المنع من تعلّقه بنا في الظاهر ، إذ لا يحكم بسقوط التكليف المعلوم إلّا بالمسقط المعلوم ، فذلك خارج عن مورد أصل البرائة ، كما لا يخفى .

وكأنّ المصنّف قدس سره إنّما بنى ذلك على طريقة المعترض المشار إليه حيث زعم جواز الاستناد إلى أصل البرائة مع وجود العلم الإجمالي ، إمّا لدعوى انصراف التكاليف إلى المعلومات ، أو ثبوت اشتراط العلم فيها ، أو شمول أدلّة البرائة لمثله ، فالكلام المذكور مبنيّ على القول المذكور ، للقطع بأنّه قدس سره لا يعتمد عليه كما فصّله في مباحث أصل البرائة .

وأمّا بالنسبة إلى ما ذكره في الحكم بين المسلمين وفصل الخصومة ومثله الإفتاء فبأنّ الذي يقتضيه القاعدة المذكورة هو الحكم بعدم تعلّق وجوب القضاء والإفتاء بنا إلاّ فيما يثبت وجوبه علينا بالدليل القاطع ، فيعمل في ساير الموارد

ص: 644

بما يعمل عليه في موارد الشك والتردّد ، إذ كيف يمكن الإقدام عليهما من غير علم مع ما ورد في ذلك من التهديدات البالغة إلى أقصى الغايات ؟ وليس في الالتزام به خروج عن مقتضي الأدلّة القاضية بكوننا مكلّفين فعلاً بأحكام الشريعة في الجملة .

لكن لا يخفى أنّ الاقتصار في القضاء والإفتاء على موارد اليقين قاض بتعطيل أغلب الخصومات ، وإهمال أكثر اُمور العوام . فغاية الأمر عند تعذّر الاقتصار على موضع اليقين جواز الاعتماد في القضاء على الظنّ في بعض الموارد المخصوصة في الجملة من غير أن يتعدّى إلى غيرها ، وفي الإفتاء على بيان طريق العمل على حسب ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة .

وامّا بالنسبة إلى الطوارى ء الواردة كأحكام الشكوك ونحوها ممّا يقطع بتعلّق التّكليف هناك على أحد وجهين أو وجوه فبالتزام التخيير فيها بعد العلم بتعلّق التكليف في الجملة ، وكذا لو دار الواجب من أصله بين أمرين لا قطع بأحدهما ، لكنّ الوجه فيهما كما أفاده قدس سره هو البناء على تحصيل اليقين مع إمكانه وإلاّ فبالقدر الممكن .

وأمّا بالنسبة إلى التكاليف المجهولة من أصلها فيما يستفاد من فحوى كلامه من أنّ الرجوع فيها إلى أصل البرائة ممّا لا محذور فيه ، بل العقل والنقل متطابقان في الدلالة عليه ، إلّا إذا دار التكليف المعلوم على الإجمال بين أمرين أو أُمور محصورة واقعة في محلّ ابتلاء ذلك المكلّف ، فيلتزم بالاحتياط في ذلك المقام بخصوصه دون غيره .

وأمّا مجرّد العلم الإجمالي بوجود التكليف إجمالاً بين مجموع الوقايع المشتبهة فليس ذلك ممّا يوجب الامتثال ، كما تقرّر في فروع مسألة المشتبه

ص: 645

بالمحصور .

نعم ، قد يترّدد الأمر بين كون المال لأحد شخصين كما في العقود المشتبهة ، فلا معنى حينئذٍ للبرائة ، لحرمة تصرّف غير المالك في الثمن والمثمن ؛ ولا للتخيير ، لأنّ كلاّ منهما إنّما يختار ما فيه صلاحه ، وتخيير الحاكم لا دليل عليه مع أنّ الكلام في حكم الواقعة لا في علاج الخصومة ، إلّا أن يتمسّك في مثل ذلك بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناء على أنّ أصل العدم من الاُصول الثابتة ، ولذا قلنا : إنّه لو أبدل أصل البرائة بأصل العدم كان أشمل .

وقد يقال باندراجه عنده فيما استثناه من الظنّ الّذي قام على اعتباره دليل علمي ، بناء على أنّ أصل العدم منه ، نظراً إلى قيام الإجماع والسيرة على العمل به ، وحينئذٍ فيكون أصل البرائة أيضاً من هذا القبيل إلاّ أن يمنع قيامهما على الأصلين المذكورين مع الظنّ بخلافهما ، أو يبنى على اعتبارهما من باب الاستصحاب فيبتني على حجيّته في الحكم الشرعي ، وهو رجوع إلى الظنّ به أو إلى الأخبار الواردة فيه المفيدة للظنّ بحكمه ، إلّا أن يدّعى تواترها في الجملة ، وهو ممنوع .

لكن يمكن القول باندراج الاُصول الثلاثه في الاُصول العقليّة الإجماعية المدلول عليها بالكتاب والسنّة القطعيّة في الجملة ، على ما فصّل في محلّه . نعم ، كثيراً ما يقع الاشتباه في الحقوق بحيث لا يجري فيها تلك الاُصول ، فلابدّ مع انسداد باب العلم ولزوم تعيين المستحقّ من العمل بالظنّ ، وذلك أمر يختصّ بمورده ، فلا يمكن التعدّي عنه إلى غيره ، وكأنّه خارج عن مقصود المورد ، فلا تغفل .

ثم إنّ المصنّف قدس سره قرّر الاعتراض عن المورد بأنّه إن تمسّك باحتمال كون

ص: 646

المرجع أصل البرائة كما يشعر به أوّل كلامه فهو ممّا لا يجدي شيئاً ، للزوم التحرّز عن الضرر المخوف ، فكلّ من إثبات الحكم ونفيه يحتاج إلى الدليل ، ولا يكتفى فيه بمجرّد الاحتمال ، إذ كلّ منهما تصرّف في أحكام الشريعة ، فلا يجوز إلاّ بدليل ، وإن تمسّك بدليل أصل البرائة فممنوع ، سيّما إذا حصل الظنّ بخلافه ، وخصوصًا في مثل مسألة الجهر والإخفات بعد فرض القطع بوجوب أحدهما بالفعل وعدم سقوطه بالجهل ، فإنّ مقتضي الأصل فيه تكرار العمل .

ولا يذهب عليك أنّ هذا الكلام إنّما أورده المصنّف قدس سره إيراداً في المقام ، وإلّا فقد صرّح بالجواب عنه في غير مقام كما يأتي .

الثاني : أنّ قوله : « بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا » أوّل الكلام ، لأنّ حكم العقل إمّا أن يريد به القطعي ، أو الظنّى فإن كان الأوّل فدعوى كون مقتضي أصل البرائة قطعيّاً أوّل الكلام كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل .

سلّمنا كونه قطعيّاً في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاماً إجمالية بعنوان التعيين يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعاً كما لا يخفى .

سلّمنا ذلك أيضاً ، ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل خبر الواحد الصحيح في خلافه .

وإن أراد الحكم الظني كما يشعر به كلامه أيضاً سواء كان بسبب كونه بذاته مفيداً للظن أو من جهة استصحاب الحالة السّابقة فهو أيضاً ظنّ مستفاد من ظواهر الأخبار والآيات الّتي لم يثبت حجيّتها بالخصوص مع أنّه ممنوع بعد ورود الشّرع ثمّ وبعد ورود خبر الواحد إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه .

ص: 647

واعترض عليه المصنّف قدس سره تارة بأنّ المانع يكفيه الاحتمال في هدم الاستدلال ، فلابدّ للمستدلّ من إثبات تقديم العمل بالظنّ على الأصل .

بيان حول ما أفاده صاحب الفصول في المقام

وتارة بوضوح حكم العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء الطريق ، إليه بل القائل بالظنّ لا يبني عليه أيضاً إلاّ بعد اقامة الدليل عليه .

واُخرى بإمكان الاكتفاء بالظنّ في دفع الظنّ ، فإنّه غير الاستدلال به عليه ليشبه الدور في امتناعه ، بل هو بيان لامتناع القول بحجيّته على الإطلاق من حيث استلزام وجوده لعدمه . وقد تقدّم طريق الاستدلال بذلك وتوجيهه وما أورد عليه .

واكتفى في الفصول بالاعتراض الثاني حيث قال : « إنّ التحقيق عندنا أنّ أصل البرائة من الأدلّة القطعيّة المستفادةمن العقل والنقل على الأحكام الظاهرية في حقّ من لم يقم عنده دليل على خلافه ، من غير فرق بين ما قبل ورود الشرع وما بعده ، ولابين وجود خبر صحيح على خلافه لم يثبت عنده حجّيته وبين عدمه »(1) ، انتهى .

ولو تمسّك الفاضل المذكور بحصول العلم الإجمالي بالتكاليف الحتميّة لا بمطلق الأحكام - كما ذكرناه عند تقرير الدليل في بيان المقدمّة الاُولى - لسلم كلامه عن توجّه الإيرادات المذكورة عليه ، لانتفاء الطريق القطعي بل الظنّي بل الاحتمالي في العمل بالأصل حينئذٍ ، فلابدّ في الجواب من منع العلم الإجمالي على وجه يقضي بلزوم الامتثال إلاّ في موارد مخصوصة ، فيلزم الاقتصار في الحكم بحجيّة الظنّ في الجملة عليها على فرض تعذّر مطلق الطريق الشرعي

ص: 648


1- الفصول الغروية / 282 .

والاحتياط العملي فيها ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي الحاصل بالنسبة إلى مجموع المسائل الشرعيّة لو سلّم حصوله زيادة على القدر الثابت بالأدلّة المعتبرة ودوران الأمر فيه بعد الاجتهاد بين الأمور المتباينة المحصورة لا يوجب الامتثال ، نظراً إلى اختلاف أجناسها وعدم ابتلاء المكلّف الواحد في الزمان الواحد بجميعها ، على ما فصّل في مسألة المشتبه بالمحصور ، فوجود العلم الإجمالي كعدمه ، فيرجع إلى الشكّ في أصل التكليف ، وقد تطابقت الأدلّة الأربعة فيه على الحكم بالبرائة .

والمنع من الإجماع عليه مع كثرة الخلاف في تعيين الأدلّة المعتبرة مغالطة محضة ، إذ المراد قيام الإجماع على الحكم بالبرائة مع عدم ثبوت التكليف ، فلا ينافيه الخلاف في طريق إثباته ، لوضوح أنّ القائل بحجيّة خبر الواحد مثلاً قائل بلزوم العمل بأصل البرائة عند عدم ثبوت حجيّته ، إنّما يمنعه من البناء عليه اعتقاد حجيّته في مقابلته ، وكذا الحال في ساير الأدلّة العقليّة والنقليّة المقرّرة في محلّها الدالّة على الحكم بالبرائة عند عدم العلم بالتكليف المتحقّق مع الشكّ في حجيّة الأدلّة الدالّة عليه ، ومع العلم الإجمالي الحاصل في الأُمور الغير المحصورة أو الغير المربوطة بعمل المكلّف المخصوص ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى مسألة أصل البرائة .

الثالث : أنّ قوله : « ويؤكّد ذلك ... » يرد عليه أنّها عمومات لا يفيد إلاّ الظنّ وإن كان سندها قطعيّاً ، بل هي ظاهرة في غير الفروع ، وشمول عموم ما دلّ على حجيّة ظاهر القرآن لما نحن فيه ممنوع ، لأنّه إن كان هو الإجماع ففيما نحن فيه أوّل الكلام ، وإن كان غيره فهو ليس إلاّ الظّنون الحاصلة من الأخبار وإن فرض التواتر في تلك الأخبار ، فقد مرّ الكلام في الاستدلال بها مشيراً بذلك إلى ما ذكره

ص: 649

في مبحث الكتاب من أنّها كالكتاب بنفسه من باب الخطابات الشفاهيّة ، فكون دلالتها على حجيّة الكتاب معلوم الحجيّة إنّما هو للمشافهين بتلك الأخبار ، وطرد حكمها بالنسبة إلينا أيضاً لم يعلم دليل عليه بالخصوص ، فيدخل حينئذٍ في القسم الآخر الّذي إنّما يثبت حجيّته وقت الانسداد وانحصار الأمر في الظنّ .

واعترض عليه المصنّف قدس سره أوّلاً : بجوار دفع الظنّ بالظنّ كما ذكر .

وثانياً : بأنّ المورد إنّما ذكر ذلك في مقام التأييد ، فيكفي الظهور .

وثالثاً : بأنّه لا وجه لدعوى ظهور تلك الآيات في غير الفروع .

ورابعاً : بأنّه قد تقرّر في محلّه شمول أدلّة حجيّة الكتاب لهذه الأعصار ، وأنّ الإجماع على حجيّة الكتاب لاينافي الخلاف في المسائل الّتي دلّ الكتاب على حكمها ، فلا وجه للقول بكون شمول الإجماع لما نحن فيه أوّل الكلام ، وإنّ الظنون الحاصلة من الأخبار ثابتة الاعتبار ولو في هذه الأعصار ، مع أنّ تركها ربّما يفضي إلى القطع سيّما مع اعتضادها بغيرها .

وبالجملة ، فتوهّم اختصاص حجيّة ظواهر الكتاب والسنّة بالمشافهين وهم فاحش ، بل الغائبين أولى بهذا الحكم المبين .

الرابع : أنّ قوله : « إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل » فيه أنّ ذلك لا ينطبق على مدّعاه ، إذ المفروض أنّ رجحان غسل الجمعة يقيني ولكنّه مردّد بين الوجوب والاستحباب لا ثالث لهما .

وما ذكره من الحكم بجواز الترك وأصل البرائة إن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فهو لا يلايم ما ثبت يقيناً من الشرع ... إلى آخر ما حكاه المصنّف قدس سره بألفاظه ، وردّه بما فصّله من الوجوه الثلاثة .

وردّه عمّي قدس سره في فصوله « بأنّه لاخفاء في مسألة غسل الجمعة في ثبوت

ص: 650

الجنس متقوّماً بأحد الفصلين في الواقع ، وإنّما وقع الشكّ في تعيينه المعتبر وفعليّته وتعلّقه ، فنفي أحدهما بالأصل الّذي هو في معنى إثبات الأمر به طريق إلى تعيين ما يتقوّم به الجنس ، لا رفع لما تقوّم به في الواقع .

قال : « ومن هذا البيان يظهر أنّ الاستحباب الثابت في المقام حكم ظاهري لا مفلّق منه ومن الواقعي ، وفيه نظر ، فإنّ كلّاً من الوجوب والاستحباب تكليف خاصّ بسيط مشكوك فيه مدفوع بالأصل وإن انحلّ إلى جزئين أو أجزاء ، فنفي المنع من الترك بالأصل لا يفيد ثبوت الثاني إلاّ بطريق الأصل المثبت »(1) .

وقد تقرّر في محلّه عدم حجيّته ، فالصواب في ذلك ما أفاده المصنّف قدس سره من إثبات القدر المشترك بالإجماع وغيره ونفي المنع من الترك بالأصل فيتمّ بذلك معنى الاستحباب ، ويشكل بأنّ المأخوذ في معنى الاستحباب تجويز الترك ، وأصل البرائة لا يفيد ثبوته ، إنّما يفيد نفي المؤاخذه والعقاب عليه ، ومجرّد ذلك لا يقضي بتحقّق معنى الاستحباب ، وذلك أنّ الأصل ليس بناظر إلى الواقع أصلاً ، ولا يفيد تعيين الحكم الحاصل في نفس الأمر حتّى يدلّ على ثبوت الفصل الآخر الّذي يتقوّم به الجنس ، إنّما مفاده أنّه على تقدير وجوب الفعل بحسب الواقع لا يعاقب عليه قبل إقامة الدليل عليه ، وذلك بمجرّده ليس فصلاً لحكم الاستحباب على الحقيقة وإن جرى مجراه وآثر أثره ، إذ الحكم الاستحبابي أيضاً تكليف مخصوص مشكوك فيه مندفع بالأصل ، فالحكمان المذكوران أمران وجوديّان مخالفان للأصل ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي بثبوت أحدهما مانع من إجراء الأصل فيهما معاً ، وإثبات أحدهما بنفي الآخر معارض

ص: 651


1- الفصول / 283 .

بالمثل ، ومدفوع بإندفاع الأصل المثبت ، إنّما الثابت في المقام هو القدر المشترك بينهما ، والمنفي بالأصل هو العقاب على الترك ، فإذا انضمّ أحدهما إلى الآخر قام مقام الاستحباب ، وقد شاع التسامح بإطلاقه على ذلك كثيراً ، والأمر في ذلك سهل . فظهر أنّ الحكم في ذلك ملفّق من الواقعي وهو الرجحان ، والظاهري وهو نفي المؤاخذة على الترك .

وقد نبّه المصنّف قدس سره على ما ذكر بقوله : « ولا يعدّ ذلك من قبيل الاُصول المثبتة » إلاّ أنّ قوله قدس سره بجريان أصل البرائة في المقام مجرى الخبر النافي للحكم إذا قام الدليل على حجيّته ووجوب العمل عليه به في الظاهر محلّ تأمّل ظاهر ، إذ الخبر دليل اجتهادىّ مثبت للحكم الواقعي ولو بحسب الظاهر ، والأصل لا نظر له إلى الواقع بالمرّة ، ولا يدلّ على إثبات الواقع بوجه من الوجوه ، إنّما هو طريق لعمل المكلّف حين جهله بالواقع وانتفاء الدليل عليه ، فيصلح الأوّل لتقوّم الجنس به وتعيينه في ضمن الاستحباب دون الثاني ، فلا يحكم بشي ء من الوجوب والاستحباب على الحقيقة ، إنّما يحكم بالرجحان وعدم العقاب على الترك ، وهو غير الطلب الاستحبابي الّذي قسم خاصّ من الطلب بسيط في الظاهر وإن أمكن تحليله في العقل إلى جزئين ، لكن قد عرفت قيامه مقامه واشتراكه معه في الفائدة في الجملة ، ولعلّ المصنّف قدس سره إنّما عنى هذا المعنى ، والأمر فيه سهل إلاّ أنّه يظهر التميز بين الأمرين في مقامات ؛

مقامات يظهر منها التمييز بين الأمرين

اشارة

منها : أنّا لو قلنا باشتراط نيّة الوجه في العبادة لم يمكن القول باشتراط نيّة الاستحباب في المقام ، لعدم العلم بالوجه الّذي عليه العبادة في الواقع ، فيلحق بالعبادات المشتبهة في سقوط التكليف بقصد الوجه فيها ، بل لا يمكن قصده إلاّ بالمعنى الأعمّ الشامل لما ذكر .

ص: 652

ومنها : أنّه لو لزم الاستحباب لوازم وجوديّة على خلاف الأصل من طهارة أو نجاسة أو إباحة أو حرمة أو تذكية أو ملكيّة أو انتقال أو زوجيّة أو بينونة أو رقيّة أو حريّة أو تعيين ماهيّة أو إبراء ذمّة أو غيرها من الآثار المتفرّعة على الأسباب الشرعيّة لم يمكن الحكم بترتّبها بمجرّد أصالة البرائة وأصل العدم ، كيف وهي معارضة بأصالة عدم ترتّب تلك الآثار واستصحاب بقاء الحالة السابقة فيها ، بخلاف ما لو دلّ الخبر على جواز الترك ، فيترتّب عليه جميع لوازمه الشرعيّة والعاديّة ، فلا يترتّب على أصالة البرائة عن القدر المشكوك فيه من عدد المنزوحات والغسلات والشرايط ونحوها الحكم بحصول الطّهارة وزوال النجاسة المعلومة بالقدر الثابت منها .

وكذا لا يترتّب على أصالة البرائة عن الأجزاء والشرايط المشكوكة في المهيّات المجملة الحكم بتعيين تلك المهيّات والاكتفاء في تحقّقها بالأجزاء والشرايط المعلومة على خلاف في ذلك وكذا الحال فيما يشكّ فيه من أجزاء العقود والايقاعات ونحوها من الأسباب وشرايطها وموانعها ، فإنّ نفيه بأصل العدم لا يقضي بتحقّق تلك المهيّات وترتّب الآثار عليها ، بخلاف نفيها بالخبر .

ومنها : أنّه لو أجمعت الاُمّة على المساواة بين عملين أو اعمال معينّة في الحكم بالوجوب والاستحباب ، فإن ثبت استحباب أحدهما بالخبر ثبت استحباب الآخر بالإجماع المركّب ، أمّا لو ثبت بالأصل فلا ، لجواز التفكيك بين الأحكام المتلازمة بالاُصول العمليّة ، فلو كان الأصل في الآخر على خلافه كما في موارد أصل الاشتغال عملنا بكلّ من الأصلين في مورده .

ومنها : أنهّ لو نذر الإتيان بالمستحبّ ، أو لمن أتى به شيئاً ، أو على نفسه لو أتى بالمستحبّ شيئاً ، أو في إتيانه بالمستحبّات عدداً معيّناً أو نحو ذلك أشكل

ص: 653

الاكتفاء بمحلّ المسألة ، لعدم إمكان الحكم فيه بالاستحباب الشرعي الّذي هو الطلب المخصوص ، إلّا أن ينصرف النذر بقرينة العادة أو الحال إلى ما يعمّ هذا المثال كما هو الغالب ، وذلك لأنّ الحكم الاستحبابي المذكور الّذي علّق عليه تلك الأحكام الوجودية أيضاً مخالف للأصل ، فالأصل عدمه وعدمها ، فيشترك مع الحكم الوجوبي في أصالة النفي ، فلا وجه لتقديم الأصل فيه على الآخر لو لا الانصراف المذكور .

ومنها : أنّه لو ترتّب على الوجوب والاستحباب جواز الاستنابة فيه وأخذ الاُجرة عليه وعدمه ونحو ذلك رجعنا إلى مقتضى الأصل فيهما ، فإن كان الأصل عدم دخول النيابة في العمل المطلق إلاّ ما خرج بالدليل منعنا من ترتّبه بمجرّد أصل البرائة ، أمّا أخذ الاُجرة فإنّما يتفرّع المنع منه على بقاء الفعل على تحتّمه وعدم الرخصة في تركه ، فينتفى في المقام .

وبالجملة ، فلابدّ في محلّ المسألة من الأخذ بالقدر المشترك بين الوجهين ، وإلغاء ما يختصّ بأحدهما من الأحكام المخالفة للأصل عدا ما يترتّب على مجرّد الرخصة في الترك ولو بحسب الأصل ، فتأمّل .

الخامس : أنّ قوله : « وأمّا فيما لم يكن مندوحة عنه ... » . إن أراد أنّ هذا التخيير في معنى أصل البرائة في مقابل الدّليل الظنّي وهو مقدّم فهو فاسد ، إذ بعد ملاحظة تعارض دليلي القولين لا شي ء في مقابل أصل البرائة حتى يقال : إنّه ظنّي ولا يعمل به ، بل يرجع الكلام فيه إلى مسألة جريان أصل البرائة فيما لا نصّ فيه ، ومقابله حينئذٍ هو أدلّة التوقّف والاحتياط ، وهو لا يقول به ، والمستدلّ أيضاً لا يقول به .

وإن أراد أنّ هذا التخيير إنّما هو في العمل بأيّهما اختار من القولين وعلى

ص: 654

فرض اختيار كلّ منهما يصير واجباً عليه فلا معنى لأصل البرائة ، نظير التخيير حينئذٍ بين الرجوع إلى المجتهدين كما مرّ ، فإنّ المفروض أنّ القول منحصر في وجوب الجهر أو وجوب الإخفات وأنّ أحدهما ثابت في نفس الأمر جزماً ، لا أنّ الأصل عدم وجوب شي ء والدليل الظنّي دلّ على وجوب أحدهما فينفيه بأصل البرائة ، فبعد ثبوت التخيير أيضاً يثبت حكم جزماً ، والتخيير في الرجوع إلى الدليلين أو القولين غير التخيير في اختيار أحد المدلولين ليكون تخييراً في أصل المسألة ، كما مرّ الإشارة إليه مراراً ، وأجاب عنه المصنّف قدس سره بما فصّله .

لكن فيه أنّه لا دلالة في كلام المورد على التمسّك بأصل البرائة في الحكم بالتخيير ، إنّما يدّعي حكم العقل به بعد عدم ثبوت الخصوصيّة لأحدهما وامتناع تركهما معاً ، ومن المعلوم أنّ حكم العقل بذلك إنّما يبتني على بطلان الترجيح من غير مرجّح ثابت لا على أصل البرائة ، وكيف يمكن التمسّك بأصل البرائة في دفع كلّ من الخصوصيتين أو دفع كلّ من الدليلين مع الحكم بوجوب إحداهما ؟ إذ لا مجرى للأصل مع العلم الإجمالي ، ولو جرى معه لم يبق للحكم بوجوب إحداهما معنى ، إذ لا يعدّ وجوبها شيئاً وخصوصيتها شيئاً آخر حتّى يمكن إبقاء الأوّل ودفع الثاني بالأصل ، بل الحكم بوجوب إحداهما لا وجه له بعد تعذّر تركهما معاً إلاّ لمجرّد النيّة ، فإنّه من قبيل التخيير بين فعل الشي ء وتركه ، والتكليف بذلك ممّا لا محصّل له ، وليس في كلام المورد أيضاً دلالة عليه ، إنّما احتمله المعترض احتمالاً .

وغاية ما يوجّه أنّه بعد تعذّر الامتثال القطعي يتعيّن الامتثال الاحتمالي ، وإنّما يتحقّق مع اختيار أحد الوجهين وقصد التقرّب به ، ففائدة التكليف يظهر في القصد والنيّة ، وأنت خبير بأنّه لا دليل عليه ، إذ لا يدلّ عليه عقل ولا نقل ، فلا

ص: 655

وجه للالتزام ، به فيتعيّن الوجه الثاني .

فالمقصود أنّه بعد تصادم الاحتمالين وتعذّر الترجيح بالمرجّح الثابت بينهما يحكم العقل بسقوط التكليف بهما ، فيبقى التخيير العقلي حيث لا مندوحة عن أحدهما ، فليس سقوط التكليف بذلك أيضاً من جهة أصل البرائة ، لعدم جريانه مع العلم الإجمالي بالتكليف ، بل لعدم المندوحة عن أحدهما ، لتعذّر الامتثال وتصادم الاحتمال وعدم المحصّل لإثباته في تلك الحال ، فالمراد الاستناد إلى عدم المندوحة في سقوط التكليف .

نعم ، لو قلنا بجريان أصل البرائة مع العلم الإجمالي بالتكليف أمكن دفعه به أيضاً ، لكنّه ضعيف ، ولا يقول به المورد أيضاً ، ولا وجه للاستناد معه إلى عدم المندوحة ، ولا الفرق بين الصورتين ، ولا دلالة في كلامه عليه ، فلا وجه هنا للاستناد إليه على كلّ من الوجهين .

وكأنّه قدس سره لمّا نظر إلى استناده أوّلاً إلى حكم العقل بفراغ الذمّة ثمّ فرع عليه الكلام المذكور حمل كلامه على الاستناد إلى أصل البرائة ، مع أنّ حكم العقل بفراغ الذمّة أعمّ منه ، وغرضه هنا دفع كلّ من الخصوصيتين بحكم العقل ، وهو ظاهر .

لكن لا يخفى أنّ العمل بالظنّ في المقام كساير موارد دوران الأمر بين المحذورين طريق اليقين ، لدوران الأمر فيه بين التخيير والتعيين ، فالترجيح به قويّ متين ، اقتصاراً على ما يوجب القطع بالبرائة بعد القطع بالاشتغال ، لكنّ المعترض إنّما حمل كلامه على صورة تعادل الدليلين ، لزعمه أنّه الذي يصدق فيه عدم المندوحة ، كما حكاه المصنّف قدس سره فأورد عليه بالوجوه الّتي ذكرها في الاعتراض عليه .

ص: 656

وأشار فيما ذكره من بيان مرامه إلى ما ذكره قدس سره في بعض الحواشي المتعلّقة بالكلام المذكور حيث قال : إنّما استفدنا ملاحظة تعارض الدليلين من كلّ كلام المورد حيث جعل ذلك ممّا لا مندوحة فيه مستنداً إلى قول قوم فيه بوجوب الجهر ، وآخرين بوجوب الإخفات ، وفرض القولين متساويين في الاقتضاء ، فلو كان دليل أحدهما راجحاً على الآخر لكان هو المظنون واللائق بمقابلة أصل البرائة لا الآخر ، ولكان ممّا فيه مندوحة ، كما لا يخفى ، فإنّه يرجع إلى أصل البرائة حينئذٍ عمّا دلّ عليه دليل القائل الرّاجح .

ثمّ إن قلت : لعلّ المورد فرض كون أحدهما لا على التعيين ظنيّاً أو أحدهما لا على التّعيين علميّاً ، فتمسّك بأصل البرائة في دفع وجوب أحدهما .

قلت : لا يصدق على الصورة الاُولى أنّها ممّا لا مندوحة فيه ، إذ يمكن ترك كليهما ، فإنّ المحال ترك الجهر والإخفات جميعاً في القرائة لعدم انفكاكها عن أحدهما بالذات ، لا ترك الإتيان بهما عمداً على سبيل الوجوب والاستحباب ، فيحصل المندوحة بالإتيان بكلّ منهما لا بنيّة الوجوب .

وأمّا الصورة الثانية ، فيشكل الحكم بالتخيير فيه بمعنى أصل البرائة عنهما جميعاً مع حصول العلم بوجوب أحدهما ، وإن امكن رفع اليد عن هذا العلم الإجمالي والعمل بالأصل ، فهو أيضاً يصير ممّا فيه مندوحة والمفروض خلافه .

ثمّ ذكر في قوله : « وهو لا يقول به » يعني لا يقول : الأصل برائة الذمّة عن مقتضى القولين جميعاً ، لأنّه جعل ممّا لا مندوحة فيه ، والمستدلّ أيضاً لا يقول بوجوب الاحتياط ، بل يتّبع ما أدّى إليه دليله الظنّي .

وبالجملة ، إن كان مختار المورد وجوب أحد الأمرين من الجهر والإخفات في نفس الأمر فلا يمكنه القول بالتخيير بمعنى أصالة البرائة عن

ص: 657

وجوبهما ، وإن لم يثبت عنده وجوب شي ء منهما ، ولا يعتمد على ما تمسّك به كلّ واحد من أصحاب القولين وإن أفاد عند صاحبه الظنّ بمختاره ، فيمكنه القول بالتخيير بمعنى أصالة البرائة عن كليهما ، لكن ينافي ما ذكره من كون ذلك ممّا لا مندوحة فيه ، ووجه هذا الاشتباه الغفلة عن أنّ ما لا يمكن المحيد عنه هو نفس الجهر والإخفات لا وجوبهما ، فما لا يمكن تركه هما بنفسهما معاً ، لا ، هما بنيّة وجوبهما ، فالمحيد يحصل بإتيان كلّ منهما لا بنيّة الوجوب ، فتأمّل انتهى(1) .

نقل كلام صاحب الفصول

وقال في الفصول : إنّ للمورد أن يختار الشّق الأوّل ويدفع الإشكال المورد عليه بأنّ كلّاً من الدّليلين وإن أمكن اعتباره في مقابلة الآخر فيتساقطان ويبقى الأصل سليماً عن المعارض ، لكن يمكن اعتباره في مقابلة الأصل أيضاً ، فيسقط ويتعيّن العمل بالأصل .

وبالجملة ، فكلّ من الدليلين ساقط عن درجة الاعتبار من معارضته بمثله ومخالفته للأصل ، وتمثيل المورد به مبنيّ على الاعتبار الثاني ، مع أنّ الدليلين المتعارضين قد يكون الظنّ مع أحدهما أقوى ، فلا يلزم تساقطهما بالنظر إلى نفسهما .

فإن قلت : العمل بالأصل هنا ينافي العلم الإجمالي بالتكليف .

قلت : للمورد أن يمنع من التكليف الفعلي مع عدم التمكّن من الوصول ، وله أن يختار الشقّ الثاني ويدفع الإشكال المورد عليه بأنّ الغرض من البيان المذكور ليس طرح ما يقابل الأصل من الدليل الظنّي والعمل به ، بل المقصود بيان كيفيّة التخلّص بناء على عدم التعويل على الظنّ في مثل المورد المذكور ، وهذا

ص: 658


1- أي انتهى كلام المصنّف في الحاشية .

ظاهر »(1) ، إنتهى .

وكأنّه قدس سره لم يقف على الحاشية المذكورة ، ويظهر ما فيه ممّا عرفت ، فلا تغفل .

قال - طاب ثراه :

الإيراد على المقدّمة الرابعة من مقدّمات الانسداد

اشارة

وأمّا الرابعة فبوجوه ؛

أوّلها : أنّه يمكن ترجيح البعض لكونه المتيقّن(2) بعد فرض حجيّة الظنّ في الجملة ، ودوران الأمر بينه وبين الأخذ بمطلق الظنّ .

وتوضيح ذلك أنّه بعد ما ثبت بالمقدّمات الثلاث المذكورة حجيّة الظنّ في الجملة لم يلزم من ذلك إلاّ حجيّة بعض الظنون ممّا يكتفى به في معرفة الأحكام بالقدر المذكور ، لأنّ المهملة في قوّة الجزئيّة فإن كانت الظنون متساوية في نظر العقل من جميع الجهات لزم القول بحجيّة الجميع ، لامتناع الحكم بحجيّة بعض معيّن منها من دون مرجّح باعث على التعيين ، أو الحكم بحجيّة بعض غير معيّن منها ، إذ لا يعقل الرجوع إليه في ما هو الواجب من استنباط الأحكام .

وأمّا إذا كان البعض من تلك الظنون مقطوعاً بحجيّته

ص: 659


1- الفصول / 283 .
2- في المطبوعة الحديثة : « المتعيّن » .

على فرض حجيّة الظنّ في الجملة دون البعض الآخر تعيّن ذلك البعض للحكم بالحجيّة دون الباقي ، فإنّه هو القدر اللاّزم من المقدّمات المذكورة دون ما عداه ، إذ حكم العقل بحجيّة الكلّ على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجّح بينها بحسب الواقع حتّى يجب الحكم بحجيّة الجميع كذلك ، بل إنّما هو من جهة عدم علمه بالمرجّح ، فلا يصحّ له تعيين البعض للحجيّة دون البعض من غير ظهور مرجّح عنده ، فيتعيّن عليه الحكم بحجيّة الكل ، بعد القطع بعدم المناص عن الرجوع إليه في الجملة ، فعموم الحكم المذكور إنّما يجي ء من جهة جهل العقل بالواقع .

وأنت خبير بأنّ قضيّة الجهل المذكور هي ترجيح الأخصّ في المقام عند دوران الأمر حينئذٍ بينه وبين الأعمّ ، لثبوت حجيّته على التقديرين ، فبعد ثبوت حجيّة الظنّ في الجملة لا كلام في حجيّة ظنون خاصّة ، لدوران الأمر حينئذٍ بين الأخذ بها وبغيرها ، فكيف يسوغ حينئذٍ للعقل تجويز الرجوع إلى غير الظنون الخاصّة مع كون تلك الظّنون كافية في استنباط الأحكام .

فإن قلت : إنّ القائل بحجيّة كلّ الظّنون إنّما يقول بحجيّة الظّنون الخاصّة من حيث إنّها ظنّ لا لأجل خصوصيّتها ، وتلك الحيثيّة جارية في جميع الظنون ، والقائل بحجيّة خصوص تلك الظنون [الخاصة من حيث إنّها

ص: 660

ظنّ] لم يقم على ذلك حجّة قاطعة ، فلم يثبت إذن خصوصيّة في تلك الظنون حتّى يقال بترجيحها على غيرها .

قلت : ليس المقصود في المقام الاستناد في مقام الترجيح إلى الدّليل الدالّ على حجيّة الظنون الخاصّة حتّى يقال بعدم ثبوت مرجّح قطعىّ قاضٍ بحجيّتها بخصوصها وعدم اتّفاق الأقوال عليها كذلك ، بل المراد أنّه لمّا دار الأمر في نظر العقل بعد العلم بحجيّة الظنّ على جهة الإهمال بمقتضى المقدمّات الثلاث المذكورة « بين حجيّة كلّ الظنون أو الظنون الخاصّة ولم يقم عنده حجّة على شي ء من الأمرين كان ذلك حجّة له في الرّجوع إلى الظنون الخاصّة »(1) ، حيث أنّه لا يحتمل هناك وجهاً ثالثاً ، وكان حجيّة الظّنون الخاصّة ثابتة على كلّ من الوجهين المذكورين ، فحكم العقل بحجيّتها ليس من أجل قيام الحجّة على حجيّتها ابتداءً حتّى يقابل ذلك بعدم نهوض دليل عليها كذلك ، بل من جهة جهله بعموم الحجيّة واختصاصها بالبعض بعد علمه بحجيّة الظنّ في الجملة ، فانّ قضيّة ذلك عدم ثبوت حجيّة ما يزيد على ذلك فليس له الحكم إلّا بالقدر الثابت على التقديرين أخذاً باليقين ، وإن احتمل أن يكون حجيّة ذلك البعض واقعاً من جهة كونه ظنّاً مطلقاً لتعمّ الجميع أو بملاحظة

ص: 661


1- السطرين لم يكن في المطبوعة الحجرية .

الخصوصيّة ، إذ مجرّد الاحتمال لا يثمر شيئاً في المقام ، ولا يجوز تعدّى العقل في الحكم عن المقدار المذكور .

والحاصل : أنّ جهله بالترجيح في المقام قاضٍ بحكمه بترجيح ذلك البعض عند الدوران بينه وبين الكلّ دون حكمه بحجيّة الكلّ من جهة الترجيح بلا مرجّح كما هو المدّعى .

فظهر بما قرّرنا أنّ الحكم بترجيح البعض المذكور ليس من جهة الاتّفاق عليه بخصوصه حتّى يقابل ذلك بمنع حصول الاتّفاق على خصوص ظنّ خاصّ وانّه لو سلّم ذلك فالقدر المتّفق عليه ما(1) لا يكفى في استعلام الأحكام كما هو الحال في العلم ، فالإيراد في المقام بأحد الوجهين المذكورين بيّن الاندفاع .

فإن قلت : إنّ الظّنون الخاصّة لا ميعار لها حتّى يؤخذ منها حينئذٍ على مقتضى اليقين لحصول الاختلاف في خصوصيّاتها أيضاً .

قلت : يؤخذ حينئذٍ بأخصّ وجوهها ممّا اتّفق عليها القائلون بالظّنون الخاصّة بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونها بناءً على ذلك ، فإن اكتفى به في دفع الضّرورة فلا كلام ، والأخذ بالأخصّ بعده أخذاً بمقتضى المقدمّات

ص: 662


1- كلمة « ما » ليست في المطبوعة الحديثة .

المذكورة إلى أن يدفع به الضّرورة ويترك الباقي بعد ذلك ، ولو فرض دوران الأمر بين ظنّين أو ظنون في مرتبة واحدة حكم بحجيّة الكلّ ، لانتفاء الترجيح ولا يقضي ذلك بحجيّة ما بعده من المراتب .

فإن قلت : إنّه لو تمّ ما ذكر فإنّما يتم مع عدم معارضة الظنّ الخاصّ بغيره من الظنون ، وأمّا مع المعارضة ورجحان الظنّ الآخر عليه أو مساواته له فلا يتمّ لدوران الأمر حينئذٍ بين الظّنين ، فيتوقّف الرّجحان على ثبوت المرجّح بالدّليل ، ولا يجري فيه الوجه المذكور ، بل يقضي الدّليل المذكور حينئذٍ بحجيّة الجميع ، لانتفاء الترجيح حينئذٍ حسب ما قرّر في الاحتجاج فيعمل حينئذٍ بما يقتضيه قاعدة التّعارض .

قلت : لمّا لم يكن تلك الظّنون حجّة مع الخلوّ من المعارض على ما قرّرنا فمع وجود المعارض لا تكون حجّة بطريق أولى ، فلا يعقل معارضتها لما هو حجّة عندنا .

وأنت خبير بأنّه يمكن أن يقلب ذلك ويقال : إنّه مع التساوي أو الترجيح يحكم بحجيّة الكلّ نظراً إلى بطلان الترجيح بلا مرجّح حسب ما قرّر في الدّليل ، فيلزم القول بحجيّته مع انتفاء المعارض بالأولى ، بل يتعيّن الأخذ بالوجه المذكور دون عكسه فإنّ قضيّة الدليل المذكور ثبوت الحجيّة في الصّورة المفروضة بخلاف دفع الحجيّة في

ص: 663

الصّورة الاُخرى ، فإنّه إنّما يقال به من جهة الأصل وانتفاء الدّليل على الحجيّة ، فيكون الثبوت هنا حاكماً على النّفى هناك ، فينبغي القول بحجيّة الكلّ كما هو مقصود المستدلّ ، فتأمّل .

ثانيها : أنّ عدم قيام الدّليل القاطع على حجيّة بعض الظّنون لا يمنع من حصول الترجيح للاكتفاء فيه بالأدلّة الظنيّة من غير أن يكون ذلك استناداً إلى الظنّ في إثبات الظنّ كما قد يتوّهم .

توضيح ذلك : أنّه بعد قطع العقل بحجيّة الظنّ في الجملة ودوران الحجّة بين بعض الظّنون وكلّها إن تساوى الكلّ بحسب الحجيّة في نظر العقل أمكن الحكم بحجيّة الجميع ، لما عرفت من امتناع الحكم بعدم حجيّة شي ء منها وانتفاء الفائدة في الحكم بحجيّة بعض غير معيّن منها ، وحكمه بحجيّة بعض(1) منها ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن الحكم بحجيّة الجميع .

وأمّا لو اختلفت الظّنون بحسب القرب من الحجيّة والبعد عنها في نظر العقل ودار الأمر بين حكمه بحجيّة القريب أو البعيد أو هما معاً ، فلا ريب أنّ الّذي يقطع به العقل حينئذٍ هو الحكم بالأوّل وإبقاء الباقي على ما يقتضيه

ص: 664


1- في المطبوعة الحديثة زيادة كلمة : « معيّن » .

حكم العقل قبل ذلك ، فهو في الحقيقة استناد إلى القطع دون الظنّ .

والحاصل أنّ الّذي يحكم العقل بحجيّته هو القدر المذكور ويبقى الباقي على مقتضي حكم الأصل .

ثالثها : أنّ مقتضى الدّليل المذكور حجيّة كلّ ظنّ عدا ما قام دليل قطعي أو منتهٍ إلى القطع على عدم جواز الرّجوع إليه .

وبالجملة ما قام دليل معتبر شرعاً على عدم جواز الأخذ به ، وحينئذٍ نقول : إنّه إذا قام دليل ظنّي على تعيّن الرّجوع إلى ظنون مخصوصة وعدم جواز الرجوع إلى غيرها تعيّن الأخذ بها ولم يجز الرجوع إلى ما عداها ، إذ مع قيام الظنّ مقام العلم يكون الدليل الظنّي القائم على ذلك منزّلاً منزلة العلم بعدم جواز الرجوع إلى ساير الظّنون .

فمقتضي ما أفاده الدّليل المذكور - من حجيّة كلّ ظنّ عدا ما دلّ الدليل المعتبر شرعاً على عدم جواز الرجوع إليه - عدم جواز الرجوع حينئذٍ إلى ساير الظنون ممّا عدا الظنون الخاصّة وليس ذلك حينئذٍ من قبيل إثبات الظنّ بالظنّ فلا يعتدّ به ، بل إنّما يكون كلّ من الإثبات والنّفي بالعلم ، إذ المفروض العلم بقيام الظنّ مقام العلم عدا ما قام الدّليل على خلافه .

فإن قلت : إنّه يقع التعارض حينئذٍ بين الظنّ المتعلّق

ص: 665

بالحكم والظنّ المتعلّق بعدم حجيّة ذلك الظنّ لقضاء الأوّل بصحّة الرّجوع إليه ودفع الثّاني له ، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى أقوى الظنّين المذكورين المفروضين لا القول بسقوط الأوّل رأساً .

قلت : من البيّن أنّه لا مصادمة بين الظّنين المفروضين لاختلاف متعلّقيهما لما هو ظاهر من صحّة تعلّق الظنّ بالحكم ، والظنّ بكونه مكلّفاً بعدم الاعتداد بذلك الظنّ والأخذ به في إثبات الحكم ، فلا يعقل المعارضة بينهما ليحتاج إلى الترجيح .

نعم قد يقال : بوقوع التّعارض بين الدليل الدالّ على حجيّة الظنّ والظنّ القاضي بعدم حجيّة الظنّ المفروض .

ويدفعه : أنّ قضيّة الدليل الدال على حجيّة الظنّ هو حجيّة كلّ ظنّ لم يقم على عدم جواز الأخذ به دليل شرعي ، فإذا قام عليه دليل شرعي كما هو المفروض لم يعارضه الدّليل المذكور أصلاً .

فإن قلت : إن قام هناك دليل علمي على عدم حجيّة بعض الظنون كان الحال على ما ذكرت ، وأمّا مع قيام الدّليل الظنيّ فإنّما يصحّ جعله مخرجاً عن مقتضي القاعدة المذكورة إذا كانت حجيّته معلومة ، وهو إنّما يبتني على القاعدة المذكورة وهي غير صالحة لتخصيص نفسها ، إذ نسبتها إلى الظنّين على نحوٍ سواء ، فكما يكون الظنّ بعدم

ص: 666

حجّية ذلك الظن قاضياً بعدم جواز الأخذ به كذا يكون الظنّ المتعلّق بثبوت الحكم في الواقع أيضاً قاضياً بوجوب العمل بمؤدّاه ، ومقتضى القاعدة المذكورة حجيّة الظنّين معاً ولمّا كانا متعارضين ولم يمكن الجمع بينهما كان اللازم مراعات أقواهما والأخذ به في المقام على ما هو شأن الأدلّة المتعارضة من غير أن يكون ترك أحد الظنّين مستنداً إلى القاعدة المذكورة - كما زعمه المجيب - إذ لا يتصوّر تخصيصها لنفسها .

والحاصل : أنّ المخرج عن حكم تلك القاعدة في الحقيقة هو الدليل الدّالّ على حجيّة الظنّ المفروض ، إذ الظنّ بنفسه لا ينهض حجّة قاضية بتخصيص القاعدة الثابتة ، والمفروض أنّ الدليل عليه هو القاعدة المفروضة فلا يصحّ جعلها مخصّصة لنفسها ، أقصى الأمر مراعات أقوى الظنّين المفروضين في المقام .

قلت : الحجّة عندنا حينئذٍ كلّ واحد من الظنون الحاصلة وإن كان المستند في حجيّتها شيئاً واحداً وحينئذٍ فالحكم بحجيّة كلّ واحد منها مقيّد بعدم قيام دليل على خلافه .

ومن البيّن حينئذٍ كون الظنّ المتعلّق بعدم حجيّة الظنّ المفروض دليلاً قائماً على عدم حجيّة ذلك الظنّ فلابدّ من تركه .

ص: 667

والحاصل : أنّ العقل قد دلّ على حجيّة كلّ ظنّ حتّى يقوم دليل شرعي على عدم حجيّته ، فاذا تعلّق ظنّ بالواقع وظنّ آخر بعدم حجيّة ذلك الظنّ كان الثاني حجّة على عدم جواز الرّجوع إلى الأوّل وخرج بذلك عن الاندراج تحت الدّليل المذكور ، فليس ذلك مخصّصاً لتلك القاعدة أصلاً .

فإن قلت : إنّ العقل كما يحكم بحجيّة الظنّ الأوّل إلى أن يقوم دليل على خلافه كذا يحكم بحجيّة الأخير كذلك ، وكما يجعل الثاني باعتبار كونه حجّة دليلاً على عدم حجيّة الأوّل فليجعل الأوّل باعتبار حجيّته دليلاً على عدم حجيّة الثّاني ، إذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجيّة فأيّ مرجّح للحكم بتقديم الثّاني على الأوّل .

قلت : نسبة الدّليل المذكور إلى الظنّين بأنفسهما على نحو سواء ، لكن يتعلّق الظنّ الأوّل بحكم المسألة في الواقع والظنّ الثاني بعدم حجّية الأوّل ، فإن كان مؤدّى الدّليل حجيّة الظنّ مطلقاً لزم ترك أحد الظنّين ، ولا ريب إذن في لزوم ترك الثاني ، فإنّه في الحقيقة معارض للدّليل القاطع القائم على حجيّة الظنّ مطلقاً لا للظنّ المفروض ، وحينئذٍ فلا ظنّ بحسب الحقيقة بعد ملاحظة الدّليل القاطع المفروض .

وأمّا إن كان مؤدّاه حجيّة الظنّ إلاّ ما دلّ الدليل على عدم حجيته ، فلامناص من الحكم بترك الأخذ بالظنّ

ص: 668

الأوّل ، إذ قضيّة الدليل المفروض حجيّة الظنّ الثّاني ، فيكون دليلاً على عدم حجيّة الأوّل ولا معارضة فيه للدّليل القاضي بحجيّة الظنّ ، لكون الحكم بالحجيّة هناك مقيّداً بعدم قيام الدّليل على خلافه ولا للظنّ الأوّل ، لاختلاف متعلّقيهما . ولو أُريد الأخذ بمقتضى الظنّ الأوّل لم يمكن جعل ذلك الحكم دليلاً على عدم حجيّة الظنّ الثّاني ، لوضوح عدم ارتباطه به ، وإنّما يعارضه ظاهراً نفس الحكم بحجيّته ، وقد عرفت أنّه لا معارضة بينهما بحسب الحقيقة ، ولا يصحّ أن يجعل حجيّة الظنّ الأوّل دليلاً على عدم حجيّة الثاني ، إذ الحجّة في المقام هى نفس الظنّين ، والدّليل المذكور في المقام دالّ على حجيّتهما ، وهو أمر واحد نسبته إليهما بأنفسهما على نحوٍ سواء كما عرفت ، وليست حجيّة الظنّ حجّة في المقام ، بل الحجّة نفس الظنّ .

وقد عرفت أنّه بعد ملاحظة الظنّين وملاحظة حجيّتهما على الوجه المذكور ينهض الثاني دليلاً على عدم حجيّة الأوّل دون العكس ، فيكون قضيّة الدّليل القائم على حجيّة الظنّ - إلاّ ما قام الدّليل على عدم حجيّته بعد ملاحظة الظنّين المفروضين - حجيّة الثاني وعدم حجيّة الأوّل ، من غير حصول تعارض بين الظنّين حتّى يؤخذ بأقواهما ، كما لا يخفى على المتأمّل .

رابعها : أنّ هناك أدلّة خاصّة قائمة على حجيّة الظنون

ص: 669

المخصوصة على قدر ما يحصل به الكفاية في استنباط الأحكام الشرعيّة ، وهي إمّا قطعيّة أو منتهية إلى القطع حسب ما فصّل القول فيها في الأبواب المعدة لبيانها ، ونحن نحقّق القول في ذلك في تلك المقامات إن شاء اللَّه تعالى ، ولعلّنا نشير إلى بعض منها في طيّ هذه المسألة أيضاً . وحينئذٍ فلا إشكال في كونها مرجّحة بين الظنون فلا يثبت بالمقدّمات الثلاث المتقدّمة ما يزيد على ذلك ، فطريق العلم بالأحكام الواقعيّة وإن كان مسدوداً في الغالب ، إلّا أنّ طريق العلم بتفريغ الذمّة والمعرفة بالطّرق المقرّرة في الشريعة للوصول إلى الأحكام الشرعيّة غير مسدود ، فيتعيّن الأخذ به [ج 3 ص 422 - 415] .

بيان الشارح حول ما أفاده الماتن

أقول : ما أفاده المصنّف قدس سره في المقام هو الّذي فصّله في الأدلّة السابقة ، فكان عليه في المقام الاكتفاء بالإشارة والحوالة على التفصيلات السابقة ، لا تكرارها واعادتها بعينها كما صنعه في تقرير غير واحد من الوجوه المذكورة ، وكأنّ هذا التكرار مبنيّ على اختلاف الرأي في ترتيب مطالب الرسالة ، فبنائه قدس سره إنّما كان على الاقتصار في بيان ذلك المطلب على أحد المقامين وحوالة المقام الآخر عليه ، إلّا أنّه لمّا يتمّ له ما أراده من إتمام الرسالة على الوضع الّذي قصده لم يكن على جامعها إلاّ ذكر جميع ما أفاده قدس سره كما وجده ، والأمر في ذلك سهل .

وحاصل كلامه المناقشة في المقدّمة الأخيرة بالوجوه الأربعة المذكورة ، وهي الّتي قدّم الكلام فيها في الوجه الثالث والرابع والخامس والثامن ، وقد مرّ تفصيل القول فيها ، ولو أبدل الوجه الأخير بالوجه السادس والسابع كان أولى ،

ص: 670

لأنّ فيهما أيضاً دلالة على ترجيح بعض الظّنون على بعض ؛ بل في الوجهين الأوّلين أيضاً دلالة على ذلك وإن اعترض بهما ساير المقدّمات ، وذلك لأنّ الوجه الأخير ألصق بمنع المقدّمة الثالثة ، لما عرفت من أنّ المطلوب فيها إثبات الانسداد على الوجوه الثلاثة الّتي منها تعذّر القطع بحجيّة الظنون المخصوصة بقدر الكفاية ، وإلّا فالعمل بها على تقدير إثباتها ليس من باب ترجيح الظّنون المطلقة بعضها على بعض ، بل معه لا يبقى لدليل الانسداد موضع أصلاً ، ولا حكم للعقل بحجيّة ظنّ من الظّنون أبداً ، إذ الظّنون المخصوصة بعد القطع بحجيّتها راجعة إلى اليقين ، فلا معنى لصرف القضية المهملة الثابتة بدليل الانسداد إليها ، إذ لا تثبت حينئذٍ من أصلها ، ولا يستند حجيّة تلك الظنون إلى الانسداد أصلاً ، بل هي ثابتة مع الانفتاح أيضاً ، كما مرّ تفصيل القول فيه ، وبيّنا هناك اتّحاد الحالين وعدم الفرق بين الزمانين في طريق استنباط الأحكام أصلاً ، والأمر في ذلك أيضاً سهل .

فكأنّ غرض المصنّف قدس سره من المقدّمة الثالثة إثبات مجرّد انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة وتعيّن الرجوع بمقتضاه إلى الظنّ في الجملة ، أعني القدر المشترك بين الظنون المخصوصة والمطلقة ، وإن كانت الاُولى مستغنية عن هذا الدليل إلاّ أنّه لا بأس بانضمامه إلى الأدلّة الدالّة على حجيّتها ، فلابدّ من رجوع المناقشة حينئذٍ إلى منع المقدمّة الرابعة ، لوضوح المرجّح القطعي في الاُولى وإمكان الاكتفاء بها وعدم حصول الاضطرار إلى العمل بالثانية .

وبالجملة ، فجميع ما أفاده المصنّف قدس سره في هذا المقام راجع إلى التفصيلات السابقة ، فينبغي الرجوع إلى ما علّقنا عليها في إثباتها ورفع الاعتراضات المذكورة فيهاو الذبّ عنها وتحليلها إلى وجوه كثيرة يصلح كلّ منهما للقدح في

ص: 671

المقدمّة الرابعة ، وإن زعم جماعة إلغائها من أصلها وعدم الحاجة في تعميم الحجيّة إلى ضمّها وإمكان إثبات ذلك بغيرها ، وقد تقدّم القول فيه وفي ردّه ووجوه الاعتراض عليه ، فتذكرّ .

قال قدس سره :

تقرير آخر للدليل الانسداد

اشارة

هذا وقد يقرّر الدّليل المذكور بنحوٍ آخر بأن يقال : إنّه لو لم يكن مطلق الظنّ بعد انسداد باب العلم حجّة لزم أحد اُمور ثلاثة : من التكليف بما لا يطاق ، والخروج من الدين ، والترجيح بلا مرجّح ، وكلّ من اللوازم الثلاثة بيّن البطلان .

وأمّا الملازمة فلأنّه لا يخلو الحال بعد انسداد باب العلم من وجوب تحصيل العلم ولو بسلوك سبيل الاحتياط أو ترك العمل بما لا علم به رأساً ، أو العمل ببعض الظنون دون بعض ، أو الرجوع إلى مطلق الظنّ عدا ما ثبت المنع منه من الظنون الخاصّة فعلى الأوّل يلزم الأوّل ، إذ المفروض انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم إمكان مراعاة الاحتياط في كثير منها مضافاً إلى ذهاب المعظم إلى عدم وجوب الاحتياط مع ما في القول بوجوبه من العسر العظيم والحرج الشديد ... وعلى الثاني يلزم الثاني لخلوّ معظم الأحكام عن الأدلّة القطعيّة . وعلى الثالث يلزم الثالث ، إذ لا ترجيح بين الظنون ، لعدم قيام دليل قطعيّ على حجّية ما يكتفى به من الظنون في معرفة الأحكام . والرجوع إلى

ص: 672

المرجّح الظنّي في إثبات الظنّ ممتنع ، فيتعيّن الرابع ، وهو المدّعى .

ويمكن الإيراد عليه على نحو ما مرّت الإشارة إليه تارةً : بأنّا نلتزم وجوب تحصيل العلم بالواقع أو بطريق دلّ الدليل القاطع على حجّيته ، وفيما عدا ذلك يبنى على الاحتياط على حسب ما مرّتفصيل القول فيه ، وفيما لا يمكن الاحتياط فيه إن لم يعلم تعلّق التكليف بنا في خصوص تلك المسألة من إجماع أو ضرورة وكان لنا مندوحة عنه يبنى على سقوط التكليف ، لعدم ثبوت طريق موصل إليه بحسب الشرع . وإن علم ثبوت التكليف بالنسبة إلينا أيضاً يبنى فيه على التخيير بين الوجهين أو الوجوه المحتملة في تعلّق التكليف ، يعني أنّه يؤخذ بالقدر المتيقّن ويدفع اعتبار ما يزيد عليه ، لانتفاء الطريق إليه . كما أنّا مع القول بقيام الدليل القاطع على طريق يعلم معه بتفريغ الذمّة نلتزم به بالنسبة إلى من يكون في أطراف بلاد الإسلام إذا لم يتمكّن من الوصول إلى الطريق المقرّر في الشريعة وتمكّن من تحصيل طريق الاحتياط ، فإنّه يلزمه البناء على نحو ما أشرنا إليه .

وتارةً بالتزام سقوط التكليف فيما لا سبيل إلى العلم به . قوله : « إنّه يلزم الخروج عن الدّين » ، قلنا : ممنوع ، على حسب ما مرّ تفصيل القول فيه .

ص: 673

واُخرى بالتزام البناء على العمل ببعض الظنون . قوله : « يلزم الترجيح بغير مرجّح » قلنا : ممنوع ، وإنّما يلزم ذلك إذا لم يقم عندنا دليل قطعي أو منتهٍ إلى القطع على حجّية جملة من الظنون كافية في حصول المطلوب .

ومع الغضّ عنه فإنّما يلزم ذلك مع عدم الاكتفاء بالمرجّح الظنّي إن قلنا بعدم حجّية الظنّ المتعلّق بحجّية بعض الظنون دون بعض ، وكلا الدعويين محلّ منع ، بل فاسد حسب ما مرّ القول فيهما .

وأيضاً نقول : إنّه إن اُريد بالشرطيّة المذكورة لزوم أحد الأُمور الثلاثة على تقدير عدم حجّية مطلق الظنّ بالواقع بعد انسداد طريق العلم به فالملازمة ممنوعة ، وما ذكر في بيانها غير كافٍ في إثباتها ، لإمكان الرجوع إلى الظنّ بما كلّفنا به من غير أن يلزم شي ء من المفاسد الثلاثة ، وهو غير المدّعى كما عرفت . وإن اُريد به الأعمّ من الوجهين ، فهو مسلّم ولا يفيد حجّية الظنّ المتعلّق بالواقع كما هو المدّعى ، على أنّ التقرير المذكور لا يفي بوجوب الرجوع إلى الظنّ به .

غاية الأمر دلالته على وجوب(1) الرجوع إلى ما عدا العلم ولو كان بالرجوع إلى تقليد الأموات مثلاً ، فلابدّ من

ص: 674


1- في المطبوعة الحديثة : « لزوم » .

أخذه فيه ما يفيد وجوب الأخذ بالظنّ حسبما أخذناه في التقرير المتقدّم [ج 3 ص 424 - 422] .

أقول : لا يخفى أنّ الدليل المذكور عين الأوّل ، وإنّما يختلفان بحسب التعبير والتقدير ، وقد تقدّم الجواب عنه بوجوه عشرة هي الثمانية المذكورة في الاحتجاج مع وجهين آخرين ؛

بيان من الشارح

أحدهما : أنّ اللازم حال اشتباه الحكم هو العمل بالاُصول العقلية أو الثابتة بالنصّ والإجماع على اختلافها بحسب اختلاف مواردها ، ففي مقام الشكّ في أصل التكليف وشمول أدلّة البرائة الدالّة عليها ، وكذا مع حصول العلم الإجمالي إذا خرج بعض أطرافه عن التعلّق الفعلي بالمكلّف الواحد ، لرجوعه في حقّه إلى الشكّ في أصل التكليف وشمول أدلّة البرائة لمثله .

وبهذا يظهر الجواب عن شبهة القوم في جعل العلم الإجمالي مانعاً من إجراء الأصل وخصوصاً على طريقة المحقّق القمّي قدس سره في هذا الباب .

وفي مقام الشكّ في تعيين المكلّف به عند دورانه بين اُمور محصورة مربوطة بعمل المكلّف بعدم العلم بتعلّق نوع واحد من التكليف به يبنى على الاحتياط مع إمكانه وإلّا فعلي التخيير ، لتطابق العقل والنقل عليه ، وفي مهيّات العبادات المجملة يدور الأمر فيها بين الوجهين المذكورين .

فإن قلنا بجريان أدلّة البرائة فيها حكمنا بنفي الأجزاء والشرائط المشكوكة إلّا حيث يحصل القطع باعتبار أحد الأمرين أو الأُمور المحصورة فيها أو حيث يدور الأمر في أصل الكيفيّة بينها ، فيتعيّن الاحتياط بالجمع مع الإمكان ، وإلّا فالتخيير .

وإن قلنا بجريان الاحتياط حكمنا بعد تحقّق الإشتغال بها بلزوم الاقتصار

ص: 675

على القدر المتيقّن منها الذي يعلم باندراجه في الطبيعة المطلوبة ، لإمكانه وتيسّره في الغالب ، فإن فرض تعذّره أو تعسّره في موضع مخصوص فالتخيير .

وفي الأسباب الشرعيّة يبنى على القدر المتيقّن ، فلا يحكم بترتّب الأثر على المشكوك فيه ، لاستمرار طريقة العقلاء وخصوص العلماء منهم على عدم رفع اليد عن الأمر المعلوم بمجرّد الاحتمال ونصّ الشارع على تقريره ؛ وفي تشخيص الحقوق المتعلّقة بالدماء والأموال والفروج يقتصر على موضع اليقين ويرجع إلى الاحتياط في غيره إن أمكن ، وإلّا فالتخيير . غاية ما في الباب أنّ مقتضى الاحتياط في موارد التخيير تقديم الأرجح في النظر ، وذلك أمر آخر .

وبالجملة ، فليس الطريق في الجميع الاحتياط حتّى يقال بتعذّره أو تعسّره على وجه الإطلاق ، غاية الأمر أنّه قد يتّفق أحدهما في موارد الاحتياط - كما يتّفق عند الفريقين في غير موارد الظنون المخصوصة أو المطلقة أيضاً - فيقتصر في الحكم بسقوط الاحتياط حيث يجب على مواردهما من غير أن يتعدّى إلى غيرها .

ولا المرجع في الجميع أصل العدم حتّى يقال : إنّ فيه خروجاً عن الدين ، بل يفصّل بين الموارد على حسب ما يقتضيه حكم العقل فيها كما هو المعمول عليه عند كلّ من الفريقين بعد فقد الظنون المخصوصة أو المطلقة ، إذ ليس في التفصيل المذكور خروج عن الدين ، ولا التزام بالعسر والحرج على المكلّفين ، ولا منافاة للإجماع ، ولا عدول عن الطريقة الجارية بين العلماء في محلّ النزاع ، بل يجري على الاُصول المقرّرة والقواعد الممهّدة ، ولعلّ ما ذكره المصنّف قدس سره في المقام من الأخذ بالاحتياط تارة وبالبرائة اُخرى مبنيّ على اختلاف المقامات ، وإلّا ففي القول بأحدهما على الإطلاق ما ذكره من الكلام ، وحينئذٍ فكان اللازم

ص: 676

عدّ الأمرين معاً إيراداً واحداً في المقام .

الثاني أنّه على فرض كون العلم الإجمالي مانعاً من إجراء أصل العدم على الإطلاق وموجباً للاحتياط في غير محلّ الوفاق ، فمقتضى الأدلّة التي أقاموها لإبطال الرجوع إلى الاحتياط نفي الموجبة الكليّة ، فلا يدلّ على السالبة الكلّية إلاّ مع تعذّر الترجيح والتخيير ، وهو ممنوع ، لإمكان الاقتصار في الحكم بسقوطه على الاحتمالات الموهومة ، أو هي والمشكوكة ، فيكون وجوب العمل بمقتضى الاحتمالات القويّة مبنيّاً على الاحتياط . وأين ذلك من القول بالحجيّة ؟ لظهور الفرق بينهما في اُمور كثيرة ؛

وجوه الفرق بين وجوب العمل بمقتضى الاحتمالات القويّة مبنيّاً على الاحتياط والقول بالحجيّة

منها : تعذّر الأخذ بالظنّ في باب الدماء على الأوّل ، لامتناع الاحتياط بإهراقها ، دون الثاني .

ومنها : امتناع التصرّف به في الأموال والفروج وساير الحقوق ، للقطع بلزوم الاقتصار فيه على موضع اليقين ، بخلاف الثاني .

ومنها : امتناع نقض الأمر الثابت بالاحتياط ، للقطع بلزوم التمسّك به حتّى يثبت خلافه إلاّ مع العلم الإجمالي بانتفاض بعض الأُمور الثابتة ودوران الأمر فيه بين الأُمور المحصورة .

ومنها : أنّ العمل بالظنّ من باب الاحتياط لا يصلح لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصّة والخروج عن الظواهر المعتبرة من الكتاب والسنّة المتواترة إلاّ مع فرض العلم الإجمالي بمخالفة أكثرها لمراد المتكلم بحيث لا يبقى شي ء منها على حاله ، لكنّه خلاف الواقع ، لعدم العلم بمخالفة الظاهر في غير الخطابات المجملة بغير القدر الثابت من التخصيص وغيره في أغلب المقامات .

ص: 677

والحاصل : أنّ تلك المقدمّات لا يؤدّي إلى القول بحجيّة الظنون ليكون دليلاً وحجّة كساير الحجج الشرعيّة والأدلّة الثابتة ، فلا يفيد المطلوب ، وإنّما يثبت بها لو تمّت وجوب العمل بمقتضى الاحتمالات القويّة . ألا ترى أنّا لو فرضنا عدم لزوم الحرج في العمل بالمشكوكات لم يمكن فيه دلالة على حجيّة الشكّ ليكون من جملة الأدلّة المعتبرة ، وكذا الحال في الظنّ .

ويمكن الزيادة على الوجوه العشرة بوجهين آخرين بهما يتمّ العدد الميمون ؛

أحدهما : دعوى الإجماع على أنّ الظنّ المطلق ملحق بالقياس والاستحسان ونحوهما ممّا ثبت المنع منه في الشريعة ، كما يظهر ذلك من فحوى الأدلّة المانعة عن تلك الطرق ، واستمرار الطريقة على الأخذ بالظنون المخصوصة وترك الاعتماد على مطلق الظنّ في الشريعة ، وما يوهمه عدّة من العبارات الّتي ذكرها المحقّق القمىّ وغيره محمول على وجوه يظهر على المتأمّل فيها .

والآخر : أنّه على تقدير عدم حصول القطع من تلك الأدلّة فلا أقلّ من حصول الظنّ القويّ غاية القوّة بالمنع منه ، وهو أرجح من الظنّ المتعلّق بحكم الواقعة إن قلنا في مثله بلزوم الأخذ بأقوى الظنّين ، كما زعمه القائل بالظنّ المطلق ، مع أنّ الصواب في هذا الباب تعيّن الأخذ بالظنّ المانع لعين ما استدل به القائل بالظنّ المطلق من الوجوه الثلاثة ، لاستقلال العقل باعتبار الظنّ في هذا المقام ولزوم التحرّز عن الضرر المخوف المترتّب على العمل بالطريق المحرّم ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح لجريانها بعينها في المقام ، بل ينحصر مجراها في ذلك دون ما زعموه ، كما يظهر من التّأمل فيما مرّ وما يأتي .

ص: 678

ويشبه ذلك بتقديم الدليل الوارد على المورد ، والحاكم على المحكوم عليه ، فإنّ ذلك من القواعد المحكمة الجارية في جملة من الأدلّة المتعارضة ، فلا يرجع فيها إلى قواعد التعادل والتراجيح ، بل يقدّم الوارد وإن كان أضعف بمراتب شتّى من المورود ، فليتامّل في ذلك فإنّه من مزالّ الأقدام .

كلام الفاضل النراقي ونقده

واعلم : أنّ ما ذكره المصنّف قدس سره في آخر كلامه من أنّ الدليل المذكور إنّما يفيد الرجوع إلى ما عدا العلم لا إلى خصوص الظنّ مبنّي على ما ذكره سابقاً من توقّف الانتقال إلى الظنّ على إثبات لزوم العمل بالعلم مع إمكانه ، ولذا عدّه سابقاً من مقدّمات الدليل .

وقد عرفت أنّ الحكم المذكور ثابت بحكم العقل في نفسه ، لقطعه بتقديم الظنّ على الشكّ والوهم ، فلا عبرة إذن بالطرق المشكوكة والموهومة وإن ثبت اعتبارها في بعض المقامات الخاصّة .

فما قيل(1) من : أنّه لا يلزم من إبطال الأصلين البرائة والاحتياط وجوب العمل بالظنّ ، لجواز أن يكون المرجع شيئاً آخر لا نعلمه ، مثل القرعة والتقليد ونحوهما ، فعلى المستدلّ سدّ باب تلك المحتملات ، إذ المانع يكفيه الاحتمال واضح الفساد ، إذ مجرّد احتمال كون شي ء آخر غير الظنّ طريقاً شرعيّاً لا يوجب العدول عن الظنّ إليه ، فإنّ الأخذ بمقابل المظنون في مقام امتثال الواقع عدول عن الظنّ إلى الشكّ والوهم ، وهو قبيح .

وربّما يتوهّم التنافي بين القول ببقاء التكليف في الوقايع المشتبهة ولزوم العمل به وامتثاله والقول بعدم وجوب الاحتياط فيها وعدم تعيّن إحراز الواقع في

ص: 679


1- القائل به هو الفاضل النراقي في عوائد الأيام / 379 - 377 .

امتثالها ، وهو وهم فاحش ، ألا ترى أنّ الالتزام بالتكليف عند دوران المكلّف به بين الأمرين بحسب الحكم أو الموضوع مع تعذّر الجمع بينهما أو تعسّره أو سقوطه بالنصّ لا يفيد إلّا التخيير ولزوم الإتيان بأحدهما من دون تصوّر منافاة في ذلك أصلاً ، فإنّ المراد من بقاء التكليف عدم سقوطه رأساً ، وترتّب العقاب على ترك المحتملات جميعاً ، لا بقائه على تقدير عدم مصادفة المأتيّ به للواقع في نفس الأمر .

والحاصل : أنّ الامتثال الظنّي عند بقاء التكليف قائم مقام العلمي بعد تعذّره ، من غير أن يتوقّف ذلك على الجعل الشرعي كوجوب الامتثال العلمي مع إمكانه ، وكذا الامتثال الاحتمالي قائم مقام الظنّي عند تعذّره على تقدير بقاء التكليف وعدم سقوطه ، فالامتثال بعد العلم بوجوبه يتصوّر على وجوه أربعة ؛

أوّلها : الإتيان بنفس المطلوب من حيث إنّه مطلوب بعد تعيينه وتشخيصه ، وهو الامتثال التفصيلي .

وثانيها : الإتيان به في ضمن اُمور عديدة يتردّد المطلوب بينها ويقطع بعدم خروجه عنها ، وهو الامتثال الإجمالي الّذي لا يكتفى به في باب العبادات الخاصّة مع إمكان الأوّل وتيسّره .

وثالثها : الإتيان بما يظنّ كونه مطلوباً للأمر عند تعذّر الأوّلين .

ورابعها : التعبّد بأحد طرفي المسألة أو بعض محتملات المأمور به عند بقاء التكليف مع تعذّر الثلاثة .

فهذه مراتب مترتّبة ، لا يجوز العدول عن السابقة إلى اللاحقة إلّا بعد تعذّرها أو تعسّرها أو سقوطها ببعض الأُمور المسقطة ، وذلك بعد القطع بوجوب التعرّض لامتثال المجهولات في الجملة والمنع من إهمالها وفرضها كالمعدوم ،

ص: 680

وحينئذٍ فإذا تعذّر الأوّل أو سقط وامتنع الرجوع فيها إلى الاُصول الجارية في تلك المسائل تعيّن تحصيل الظنّ فيها ، ولا يجوز الاكتفاء قبله بالاحتمال المساوي مع إمكانه ولا اختيار الموهوم بعده ، لأنّ الاكتفاء بالشكّ والوهم مع التمكّن من الظنّ يجري في القبح مجرى الاكتفاء بالظنّ مع التمكّن من العلم ، وكذا لا يجوز ترتّب المؤاخذة على العمل بالظنّ مع كونه غاية الممكن ، كما لا يجوز ترتّبها على العمل بالعلم أو لا يجوز الاكتفاء بما يحتمل أن يكون طريقاً معتبراً في نظر الأمر مع عدم إفادته للظنّ ، لعدم خروجه عن الشكّ والوهم .

نعم ، لو قام على الموهوم ما يظنّ كونه طريقاً معتبراً في نظره ودار الأمر بينه وبين الظنّ بالواقع تساويا في حكم العقل عندهم ، بخلاف ما لو قام عليه ما يحتمل كونه كذلك ، ومع ذلك فلا يخفى أنّ الرجوع في المسألة إلى ما ذكر من تقليد الغير فيما يدّعيه من العلم بحكم المسألة باطل من وجهين أحدهما : الإجماع المعلوم ، والآخر : أنّ الجاهل الذي من شأنه الرجوع إلى العالم هو الجاهل المحض الّذي ليس من أهل العلم به ، أمّا العالم الذي استفرغ وسعه في تشخيص مستند الغير فليس له متابعة ذلك الغير ، إذ لا مزيّة له عليه ، فلا يجوز عند العقل ترجيح نظر الغير على نظره وتقديم فهمه على فهمه ، كما في سائر المقامات التي يرجع فيها إلى أهل الخبرة ، وكذلك الحال في الرجوع إلى القرعة ، لقيام الإجماع على عدم اعتبارها في محلّ المسألة .

وبالجملة ، فالمقدمّة المذكورة لوضوحها مستغنية عن تكلّف إثباتها بالوجوه المذكورة وغيرها .

قال قدس سره :

الثّاني من وجوه حجيّة مطلق الظن

اشارة

الثاني : أنّه لو لم يجب العمل بالظنّ لزم ترجيح

ص: 681

المرجوح على الراجح ، وهو غير جايز بديهة ، فالمقدّم مثله . بيان الملازمة : أنّه مع عدم الأخذ بالمظنون لابدّ من الأخذ بخلافه ، وهو الموهوم .

كلام الآمدي في الإحكام ونقده

ومن البيّن أنّ المظنون راجح والموهوم مرجوح لتقوّمهما بذلك ، وهو ما ذكرناه من اللازم .

فإن قلت : إنّه إنّما يلزم ذلك إذا وجب الحكم بأحد الجانبين ، وأمّا مع عدمه فلا ، إذ قد لا يحكم إذن بشى ء من الطرفين .

قلت فيه : أوّلاً : إنّ ترك الحكم مرجوح أيضاً في نظر العقل فإنّه مع رجحان جانب المظنون يكون الحكم به راجحاً على نحو رجحان المحكوم به ، فيكون ترك الحكم أيضاً مرجوحاً كالحكم بخلاف ما ترجّح عنده من المحكوم به .

وثانياً : أنّه إنّما يمكن التوقّف في الحكم والفتوى ، وأمّا في العمل فلا وجه للتوقّف ، إذ لابدّ من الأخذ بأحد الجانبين ، فإمّا أن يؤخذ بالجانب الراجح أو المرجوح ، ويتمّ الاستدلال .

وقد أشار إلى هذه الحجّة في الإحكام في حجج القائل بحجّية أخبار الآحاد وقال : « إنّه إمّا أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معاً ، أو تركهما معاً ، أو العمل بالمرجوح دون الراجح ، أو بالعكس . لا سبيل إلى

ص: 682

الأوّل والثاني والثالث فلم يبق سوى الرابع ، وهو المطلوب »(1) وأشار إليه في النهاية أيضاً في ذيل الحجّة الآتية .

والجواب عنه المنع من بطلان التالي . ودعوى البداهة فيه ممنوعة ، إذ قد يؤخذ فيه بالاحتياط ، وهو مع كونه عملاً بخلاف المظنون حسن عند العقل قطعاً ، فليس مجرّد العمل بخلاف المظنون مرجوحاً عند العقل ، وقد يؤخذ فيه بالأصل نظراً إلى توقّف تعلّق التكليف في نظر العقل بإعلام المكلّف ، وحيث لا علم فلا تكليف ، إلّا أن يثبت قيام غيره مقامه ، كيف ؟ ولو كان ترجيح المرجوح في العمل على الراجح المفروض بديهي البطلان لكانت المسألة المفروضة ضروريّة ، إذ المفروض فيها حصول الرجحان مع أنّها بالضرورة ليست كذلك ، بل مجرّد رجحان حصول التكليف في نظر العقل لا يقضي بوجوب الأخذ بمقتضاه والقطع بتحقّق التكليف على حسبه كما زعمه المستدلّ إذا لم يقم هناك دليل قاطع على وجوبه ، كيف ؟ وهو أوّل الدعوى ، بل نقول : إنّ رجحان حصول الحكم في الواقع لا يستلزم رجحان الحكم بمقتضاه ، لإمكان حصول الشكّ حينئذٍ في حسن الحكم أو الظنّ بخلافه ، بل والقطع به

ص: 683


1- الإحكام 1 / 55 .

أيضاً ، فلا ملازمة بين الأمرين فضلاً عن القول بوجوب الحكم بذلك والقطع به ، كيف ؟ ويحتمل عند العقل حينئذٍ حصول جهة الحظر في الإفتاء بمقتضاه ، ولحوق الضرر عليه من جهته ومعه لا يحكم العقل بجواز الإقدام عليه بمجرّد الرجحان المفروض .

فظهر بذلك : أنّ ما ذكر من كون الحكم بالراجح راجحاً على نحو رجحان المحكوم به غير ظاهر ، بل فاسد ، فلا مرجوحيّة إذن لترك الحكم ولا للحكم بجواز كلّ من الفعل والترك فيما يصحّ فيه الأمران ، نظراً إلى عدم قيام دليل قاطع للعذر عليه ، وكأنّه إلى ذلك أشار في الإحكام مشيراً إلى دفع الحجّة المذكورة قائلاً بأنّه لا مانع من القول بأنّه لا يجب العمل ولا يجب الترك ، بل هو جايز الترك ، على أنّه لو تمّ الاحتجاج المذكور لقضى بحجّية الظنّ مطلقاً من غير أن يصحّ إخراج شي ء من الظنون عنها ، لعدم جواز الاستثناء من القواعد العقليّة ، إذ بعد كون الأخذ بالمظنون راجحاً وعدمه مرجوحاً وكون ترجيح المرجوح قبيحاً لا وجه للقول بعدم جواز الأخذ ببعض الظنون ، لصدق المقدّمات المذكورة بالنسبة إليه قطعاً فلا وجه لتخلّف النتيجة ، مع أنّ من الظنون ما لا يجوز الأخذ به إجماعاً ، بل ضرورةً .

إلّا أن يقال : إنّ قضيّة رجحان الشى ء أن يكون الحكم

ص: 684

به راجحاً إلّا أن يقوم دليلاً على خلافه وهو مع عدم كونه بيّناً ولا مبنيّاً غير ما بنى عليه الاحتجاج المذكور أو يقال : إنّه بعد قيام الدليل على عدم حجّية ذلك الظنّ لا يبقى هناك رجحان في نظر العقل ، وهو أيضاً بيّن الفساد ، لوضوح عدم المنافاة بين الظنّ بحصول الشي ء والعلم بعدم جواز الحكم بمقتضاه .

تقرير آخر للاحتجاج المذكور ونقد الماتن عليه

وقد يقرّر الاحتجاج المذكور بنحوٍ آخر بأن يقال : إنّ الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح ، أي قبيح قاضٍ باستحقاق الذمّ عند العقل ، والفتوى والعمل بالمظنون راجح ، أي حسن يستحقّ به المدح عند العقل فلو لم يجب العمل بالظنّ لزم ترجيح القبيح على الحسن ، وهو قبيح ضرورة . أمّا كون الفتوى والعمل بالموهوم قبيحاً فلأنّه يشبه الكذب ، بل هو هو بخلاف الحكم بالراجح والعمل به .

وأنت خبير بأنّ ما ذكر من كون الحكم والعمل بمطلق المظنون حسناً عند العقل هو عين المدّعى ، فأخذه دليلاً في المقام مصادرة ، إلّا أن يجعل المدّعى حسنه في حكم الشرع ، والدليل على حسنه حكم العقل نظراً إلى ثبوت الملازمة بين حكم العقل والشرع .

وفيه : أنّ الدعوى المذكورة أيضاً في مرتبة المدّعى في الخفاء ، لوضوح أنّ القائل بالملازمة بين الحكمين - كما هو مبنى الاحتجاج بالعقل - إذا لم يثبت عنده حسن العمل

ص: 685

بالظنّ شرعاً فلا يسلّم استقلال العقل بإدراك حسنه ، فكان اللازم أن يجعل الدليل الدالّ على ذلك دليلاً على المطلوب ، وليس في التقرير المذكور ما يفيد الاحتجاج عليه ، إذ ليس فيه سوى دعوى قبح الأوّل وحسن الثاني .

نعم علّل قبح الأوّل بأنّه يشبه الكذب ، بل هو هو وهو على فرض تسليمه لايستلزم حسن الحكم بالمظنون والعمل به ، لإمكان قبح الأمرين ، مع أنّ الوجه المذكور قاض بقبح الحكم بالمظنون أيضاً ، لأنّه أيضاً يشبه الكذب نظراً إلى توقّف الإخبار بالعلم بالمطابقة ، فغاية الفرق بين الأمرين قوّة احتمال عدم المطابقة في الأوّل وضعفه في الثاني ، وذلك لا يقضي بخروجه عن دائرة الكذب على تقدير عدم المطابقة ولا التجرّي عن الكذب بالإتيان بما يحتمله ، لما فيه من انتفاء العلم بالحقيقة ، فالتقرير المذكور ليس على ما ينبغي ، وكأنّه مبنيّ على وجوب الحكم والعمل بأحد الجانبين حال انسداد باب العلم وإن لم يؤخذ ذلك في الاحتجاج .

وقد اُشير إلى ذلك في الإيرد الآتي في كلام المستدلّ فيضمّ إليه حينئذٍ قبح الأخذ بالموهوم في العمل والفتوى دون المظنون ، والوجه فيه ما مرّ في الدليل المتقدّم من كون تحصيل الواقع هو المناط في العمل والفتوى ، وحيث إنّ الطريق إليه هو العلم فبعد انسداد ذلك الطريق وبقاء وجوب

ص: 686

الحكم والعمل لابدّ من الأخذ بما هو الأقرب إليه ، اعنى الطرف الراجح دون المرجوح ، فلذا يحكم العقل بحسن الأوّل وقبح الثاني . فيكون الدليل على الدعوي المذكورة هي المقدّمات الثلاث المتقدمّة من غير حاجة إلى ضمّ الرابعة نظراً إلى استقلال العقل بقبح ترك الراجح وأخذ المرجوح . ويجري ذلك بالنسبة إلى سائر الظنون ، وهذا كماترى تقرير آخر للاحتجاج المذكور بحذف المقدّمة الرابعة ، فإنّ الموصل إلى الحكم بحجّية مطلق الظنّ بناءً على التقرير المذكور هو المقدّمات المذكورة . وأمّا الحكم بقبح ترك الراجح وأخذ المرجوح الحاصل بملاحظة تلك المقدمّات فهو مساوق للمدّعى أو عينه ، كما عرفت .

وأنت بعد ملاحظة ما بيّناه تعرف أنّ المتّجه في تقرير الاحتجاج هو ما ذكرنا دون التقرير المذكور ، فإنّ الرجحانيّة والمرجوحيّة بالمعنى الذي ذكرناه بعد ضمّ المقدّمات الثالث هو الموصل إلى الرجحانيّة والمرجوحيّة بالمعنى الّذي ذكره . وأيضاً إذا ثبت ما ادّعاه من حكم العقل بالحسن والقبح في المقام لكان مثبتاً للمقصود من غير حاجة إلى ضمّ قوله : « فلو لم يجب العمل بالظنّ . . . انتهى » فيكون أخذه في المقام لغواً ، وإنّما ضمّه إليه من جهة أنّ العلاّمة قدس سره(1) وغيره أخذوه في الاحتجاج المذكور فقرّر

ص: 687


1- ذكره في نهاية الوصول ونقل عنه المحقّق القمّي في القوانين / 443 .

الاستدلال على حسب ما قرّروه إلّا أنّهم لم يريدو بالراجح والمرجوح ما فسرّهما به ، بل أرادوا بهما ما قرّرناه فلابدّ لهم من ضمّ المقدّمة المذكورة بخلاف ما قرّره إذ لا يعقل حينئذٍ وجه لضمّ المقدّمة المذكورة أصلاً ، فهو قدس سره مع تفسيره الرجحانيّة بما مرّ اُورد الاحتجاج على نحو ما ذكروه ومنه نشأ الإيراد المذكور .

ما أفاده المحقّق القمّي في المقام ونقده

هذا وقد ذكر الفاضل المتقدّم(1) بعد ذكر الاحتجاج على الوجه المذكور إيراداً في المقام ، وهو : أنّه إنّما يتمّ ما ذكر إذا ثبت وجوب الإفتاء والعمل ، ولا دليل عليه من العقل ولا النقل ، إذ العقل إنّما يدلّ على أنّه لو وجب الإفتاء أو العمل يجب اختيار الراجح ، وأمّا وجوب الإفتاء فلا يحكم به العقل .

وأمّا النقل فلأنّه لا دليل على وجوب الإفتاء عند فقد ما يوجب القطع بالحكم ، والإجماع على وجوب الإفتاء ممنوع في المقام ، لمخالفة الأخباريين فيه حيث يذهبون إلى وجوب التوقّف والاحتياط عند فقد ما يوجب القطع .

وأجاب عنه(2) أوّلاً : بمنع وجوب العمل بالمقطوع به في الفروع وهو أوّل الكلام ، وما دلّ عليه من ظواهر الآيات

ص: 688


1- وهو المحقّق القمّي في القوانين / 444 .
2- راجع القوانين / 444 .

ليست إلّا ظنوناً لا حجّة فيها قبل إثبات حجّية الظنّ .

وثانياً : بعد تسليم وجوب القطع فإنّما يعتبر ذلك في حال إمكان تحصيله لابعد انسداد سبيله كما هو الحال عندنا .

وثالثاً : أنّ العمل بالتوقّف أو الفتوى بالتوقّف أيضاً يحتاج إلى دليل يفيد القطع ، ولو تمسّكوا في ذلك بالأخبار الدالّة عليه عند فقدان العلم ، فمع أنّ تلك الأخبار لا تفيد القطع لكونها من الآحاد معارضة بما دلّ على أصالة البرائة ولزوم العسر والحرج ، وعلى فرض ترجيح تلك الأخبار فلا ريب في كونه ترجيحاً ظنيّاً ، فلا يثمر في المقام .

ورابعاً : أنّه قد ينسدّ سبيل الاحتياط فلا يمكن الاحتياط في العمل ولا التوقّف في الفتوى ، كما لو دار المال بين شخصين سيّما إذا كانا يتيمين ، إذ لا يقتضي الاحتياط إعطاوه أحدهما دون الآخر ، ولا دليل قطعي أيضاً على جواز السكوت وترك التعرض ، للحال والإفتاء بأحد الوجهين بعد استفراغ الوسع وحصول الظنّ ، فلعلّ اللَّه سبحانه يؤاخذه على عدم الاعتناء وترك التعرّض للفتوى لعدم قيام دليل قطعي على حرمة العمل بالظنّ ، بل ليس ما دلّ على حرمة العمل به من الأدلّة الظنيّة معادلاً للضرر المظنون في إتلاف مال اليتيم وتعطيل اُمور المسلمين وإلزام العسر والحرج في الدّين ، فمع عدم قيام دليل قطعىّ من الجانبين ليس في حكم

ص: 689

العقل إلّا ملاحظة جانب الرجحان والمرجوحيّة من الطرفين والأخذ بما هو الأقوى منهما في نظر العقل والأبعد عن ترتّب الضرر حسب ما مرّت الإشارة إليه في الدليل المتقدّم .

فالعاقل البصير لابدّ أن يلاحظ مضارّ طرفي الفعل والترك في كلّ مقام ويأخذ بما هو الأقوى بعد ملاحظة الجهتين ، ولا يقتصر على ملاحظة أحد الجانبين ، فإنّ مجرّد كون الاحتياط حسناً في نفسه لا ينفع في مقابلة حفظ النظام ودفع المنكر وإقامة المعروف وإغاثة الملهوف ورفع العسر والحرج وحفظ النفوس والأموال عن التلف وعدم تعطيل الأحكام إلى غير ذلك من الفوائد المترتّبة على الفتوى ، فلا وجه لترجيح جانب الاحتياط بعد انسداد باب العلم في المسألة وترك العمل بالظنّ الحاصل من الطرق الظنيّة ، بل لابدّ في كلّ مقام من ملاحظة الترجيح والأخذ بالراجح ، غاية الأمر أن يكون في الاحتياط إحدى الجهات المحسنّة وهذا هو السرّ في القول بالأخذ بالظنّ بعد انسداد سبيل العلم .

قلت : ويرد عليه ، أمّا على ما ذكره أوّلاً : فبأنّه خارج عن قانون المناظرة ، لكونه منعاً للمنع ، فإنّ المورد المذكور بيَّنَ توقّفَ ما ذكره المستدلّ على ثبوت وجوب الإفتاء والعمل ، إذ مع البناء على عدمه لا قاضي بلزوم الأخذ

ص: 690

بالظنّ ، لإمكان البناء على التوقّف والاحتياط حسب ما ذهب إليه الأخباريّون في موارد الشبهة ، وانتفاء الدليل القاطع على حكم المسألة ، وحينئذٍ اُورد عليه بمنع المقدمّة المذكورة حيث لم يثبته المستدلّ ولم يقم عليها حجّة ، بل لم يأخذها في الاحتجاج . فمنع المنع المذكور ممّا لا وجه له ، لاكتفاء المورد في المقام بمجرّد الاحتمال الهادم للاستدلال .

وأمّا على ما ذكره ثانياً : فبأنّ القول بعدم وجوب تحصيل القطع بعد انسداد سبيل العلم لا يقتضي إثبات المقدّمة المذكورة لقيام الاحتمال المذكور فيما انسدّ فيه سبيل العلم ، كيف ؟ ومن البيّن أنّه بعد انسداد سبيل العلم لا يتصوّر التكليف بتحصيل العلم ، ومع ذلك ذهب الأخباريّون في غير المعلومات إلى وجوب التوقّف والاحتياط .

نعم قد يرد بذلك انسداد سبيل العلم في معظم المسائل مع القطع ببقاء التكليف بعده ، فيثبت بذلك المقدّمة الممنوعة حسبما ذكر ذلك في الدليل الأوّل حيث أثبت بهاتين المقدّمتين كون المكلّف به هو العمل بغير العلم فحينئذٍ يرد عليه ما مرّ في الدليل المتقدّم مع أنّ ذلك غير مأخوذ في هذا الاستدلال .

وأمّا على ما ذكره ثالثاً : فبأنّ عدم ثبوت دليل قاطع أو

ص: 691

منتهٍ إلى القطع كافٍ في التوقّف عن الفتوى ، فإنّ الحكم بالشي ء يحتاج إلى الدليل لا التوقّف عن الحكم ، سيّما بعد حكم العقل والنقل بقبح الحكم من غير دليل وحرمته في الشريعة ، فإذا لم يثبت حينئذٍ جواز العمل بمطلق الظنّ كان قضيّة ما ذكرناه التوقّف عن الفتوى قطعاً ، وحيث لم يقطع حينئذٍ بجواز البناء على نفي التكليف رأساً كان اللازم في حكم العقل من جهة حصول الاطمئنان بدفع الضرر هو الأخذ بالاحتياط .

نعم لو قام دليل قاطع على جواز الأخذ بغيره كان متّبعاً ولا كلام فيه ، وأمّا مع عدم قيامه فلا حاجة في إثبات وجوب الاحتياط إلى ما يزيد على ما قلناه .

وأمّا على ما ذكره رابعاً : فبأنّ ما يسندّ فيه سبيل الاحتياط لا يجب فيه الحكم بأحد الجانبين إلّا مع قيام الدليل على تعيين أحد الوجهين ، بل لابدّ مع عدم قيام الدليل كذلك من التوقّف عن الفتوى .

وما ذكره من أنّه « لا دليل قطعي أيضاً على جواز السكوت . . . إلى آخره » إمّا أن يريد به عدم قيام الدليل القطعي من أوّل الأمر على جواز السكوت وترك الحكم مع عدم قيام الدليل القاطع على أحد الجانبين ، أو عدم قيام الدليل القطعي عليه حينئذٍ ولو بعد ملاحظة عدم قيام الدليل القاطع على جواز الحكم بعد العلم ولا على عدم

ص: 692

جوازه ، فإن أراد الأوّل فمسلّم ولا يلزم منه عدم العلم بجواز السكوت وترك الحكم ، وإن أراد الثاني فهو مدفوع بما هو ظاهر عقلاً ونقلاً من عدم جواز الحكم بغير دليل ، فإذا فرض عدم قيام الدليل على جواز الحكم تعيّن البناء على المنع منه ، وكان ذلك حكماً قطعيّاً عند العقل بالنسبة إلى من لم يقم دليل عنده .

نعم لو قام دليل هناك على وجوب الحكم ودار الأمر بين الحكم بالمظنون وغيره فذلك كلام آخر لا ربط له بما هو بصدده إذ كلامه المذكور مبنّي على الغضّ عن ذلك ، فحكمه بالتساوي بين الحكم وتركه في التوقّف على قيام الدليل عليه ليس على ما ينبغي لوضوح الفرق بينهما بما عرفت فإنّ عدم قيام الدّليل على الحكم كافٍ في الحكم بالمنع منه حتّى يقوم دليل على جوازه وإن اشتركا في لزوم تحصيل القطع في الجملة في الإقدام والإحجام .

وقوله : « مع عدم قيام دليل قطعي من الجانبين ليس في حكم العقل . . . انتهى » إمّا أن يريد به ملاحظة حال الرجحان والمرجوحيّة بالنظر إلى الواقع ، أو من جهة التكليف الظاهري بالنسبة إلى جواز الإقدام على الفعل أو الترك .

فإن كان هو الأوّل فالأخذ بما هو الراجح غير لازم ، إذ قد يكون الراجح في نظر العقل حينئذٍ هو ترك الأخذ به

ص: 693

وعدم إثبات الحكم بمجرّد الرجحان الغير المانع من النقيض .

وإن أراد الثاني فلا ريب في أنّ ما يحكم به العقل بعد انسداد سبيل العلم وعدم قيام دليل على الأخذ بالظنّ هو التوقّف والترك الحكم ، كيف ! ومن البيّن على وجه الإجمال عدم جواز الحكم من غير دليل ، فإذا لم يقم دليل على جواز الركون إلى الظنّ كان الحكم بمقتضاه محظوراً ، وإنّما يصحّ الحكم به لو قام دليل على جواز الحكم بمقتضاه ، وهو حينئذٍ أوّل الكلام ، فمجرّد استحسان العقل وملاحظة الجهات المرجّحة للفعل أو التّرك لا يقطع عذر المكلّف في الإقدام على الحكم بعد ملاحظة ما هو معلوم إجمالاً من المنع من الحكم بغير دليل .

فظهر بما قرّرنا أنّه مع الغضّ عن ثبوت وجوب الحكم في الصورة المفروضة عند الدوران بين الوجهين لا وجه للاحتجاج المذكور أصلاً ، فما رامه من إتمام الدليل مع ترك أخذه في المقام فاسد [ج 3 ص 432 - 424] .

بيان الشارح حول ما أفاده الماتن في كلام المحقّق القمّي

أقول وباللَّه التوفيق : قيل : « المراد بالترجيح في عبارة الدليل هو الاختيار ، والمرجوح عبارة عن القول بأنّ الموهوم حكم اللَّه سبحانه أو العمل بمقتضاه ، والراجح عبارة عن القول بأنّ المظنون حكم اللَّه تعالى أو العمل بمقتضاه ، ومبدأ الاشتقاق في لفظي الراجح والمرجوح هو الرجحان بمعنى استحقاق فاعله للمدح والذمّ ، لا بمعنى كونه ذا المصلحة الداعية إلى الفعل - كما هو المصطلح

ص: 694

عليه في قولهم : إنّ الترجيح بلا مرجّح فضلاً عن ترجيح المرجوح محال - بل المراد أنّ الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح عند العقل وبالراجح حسن ، ووجهه أنّ الأوّل يشبه الكذب بل هو هو ، بخلاف الثاني ، ولا يجوز ترك الحسن واختيار القبيح »(1) .

وأعترض عليه(2) بأنّ تفسير الراجح والمرجوح بالقول والعمل ليس على ما ينبغي ، بل الوجه اعتباره بالترجيح ، فإنّ الاختيار كما يكون بالقول كذا يكون بالرأي والعمل .

ثمّ تفسير الرجحان الّذي هو مبدأ لاشتقاقهما باستحقاق المدح والذمّ غير سديد .

ثمّ عطف الذمّ على المدح في تفسيره لا يتمّ إلّا بتعسّف .

والتعليل بمشابهة الكذب مع اختصاصه بالقول مدفوع بأنّ المشابهة - على تقدير تسليمها - لا يقتضي المشاركة في الحكم ، والعينيّة ممنوعة ، فإنّ العبرة في الصدق والكذب بموافقة الواقع ومخالفته دون الاعتقاد .

ودعوى أنّ المدار في الاتّصاف بالحسن والقبح على الاعتقاد مدفوعة بالمنع من حسن القول المظنون الصدق ، إنّما المسلّم حسن القول المعلوم الصدق ، وأنت خبير بأنّ الراجح والمرجوح إنّما يلاحظان في المقام بحسب الاحتمال ، فإنّ الراجح هو الّذي يكون احتمال حقيقته راجحاً على احتمال

ص: 695


1- القائل والمعترض كلاهما واحدٌ وهو المحقّق القمّي في القوانين / 444 و 443 ، ولتوضيح ذلك فانظر : الفصول / 287 وبحر الفوائد 1 / 188 .
2- وهو المحقّق القمّي في القوانين / 444 و 443 .

عدمه ، والمرجوح بالعكس ؛ وأمّا رجحان نفس الحكم فإنّما يتبع الواقع ، ورجحان القول والعمل والاختيار يتوقّف على رجحان العمل بالاحتمال الراجح ، لوضوح أنّ مجرّد رجحان أحد الاحتمالين على الآخر لا يستلزم رجحان القول والعمل به على الآخر ، كما في العمل بالظنّ في الموضوعات ، بل في الأحكام أيضاً حال الانفتاح ، بل وحال الانسداد من غير المجتهد ، بل و من المجتهد أيضاً قبل استفراغ الوسع أو بعده إذا حصل من الطرق الممنوعة كالقياس وشبهه ، وإنّما يتبع الدليل الظنيّ الدالّ على حجيّته ولزوم القول والعمل بمقتضاه ، فيكون احتماله واختياره إذن راجحاً على خلافه ، فإن ثبت حجيّته ترتّب المدح على العمل به والذمّ على تركه وإلاّ فلا .

فالرجحان بمعنى حسن القول والعمل واستحقاق المدح عليه مع خروجه عن معنى اللفظ إنّما يتبع الدليل الدالّ على حجيّة الظنّ ، فكيف يكون مأخوذاً في موضوعه ؟ إذ بعد اعتباره بالمعنى المذكور لا معنى للاحتجاج على حجيّته ، فلا يكون المراد به إلّا رجحان أحد الاحتمالين على الآخر ، ومن المعلوم أنّ الحكم بقبح ترجيح المرجوح على الراجح لا يستلزم تعيّن العمل بالراجح ، لا من جهة وجود الواسطة فإنّ رجحان أحد النقيضين يستلزم مرجوحيّة الآخر فلا يقبل الواسطة ، بل لأنّ القبيح ترجيح المرجوح من حيث كونه مرجوحاً على الراجح ، أمّا العمل به من جهة عدم قيام الدليل المعتبر على خلافه فليس من القبيح في شي ء ، بل هو حسن في حكم العقل والنقل ، نظراً إلى ما دلّ منهما على عدم جواز الأخذ بالظنّ من غير دليل ، كما هو الحال في الظنون المذكورة الممنوعة عند الفريقين ، ولأنّ رجحان أحد الاحتمالين على الآخر في نفس الأمر لا يستلزم رجحان الحكم بمقتضاه والعمل به ، لأنّ أحدهما غير الآخر ، فلا يكون القول به

ص: 696

راجحاً إلاّ بأمارة اُخرى ، كما لا يخفى .

فالوجه المذكور بمجرّده لا يتمّ دليلاً على المطلوب إلّا بعد ضمّ مقدّمات الدليل الأوّل إليه ، لتوقّفه على جميعها ، فيرجع إليه ولا يكون دليلاً آخر .

وقد يفرّق بينهما حينئذٍ بحصول المغايرة في إحدى المقامات ، إذ المأخوذ في الأوّل وجوب الأخذ بالعلم أوّلاً وبالذات ، فإذا تعذّر فبالأقرب إليه ، فالمناط فيه قرب الظنّ إلى العلم وبُعد الشكّ والوهم عنه ، والمناط في الثاني هو قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فإذا حصل الظنّ بحكم من الأحكام كان خلافه موهوماً ، فلا يجوز في حكم العقل تقديمه على المظنون مع دوران الأمر بينهما .

وفيه : أنّ الانتقال إلى الظنّ عند التحقيق إنّما يبني بعد تسليم تلك المقدّمات على قصر الاحتياط على المظنونات - كما مرّ التنبيه عليه - وإن كان ذلك خلاف مقصود المستدلّ كما عرفت ، وليس الوجه فيه إلّا حكم العقل بتقديم العمل بالمظنون في امتثال القدر اللازم من الأحكام المجهولة على غيره عند دوران الأمر بينهما ، دون ما ذكر من قرب الظنّ إلى العلم ، فإنّ مجرّد قرب الشي ء إلى الحجّة لا يوجب انتقال الحجيّة إليه عند فقدها .

ودعوى كونه بعضاً من الحجّة فينتقل بعد تعذّر الكلّ إلى البعض كما يوهمه ما مرّ في كلام المصنّف قدس سره أوهن شي ء ، فإنّ كلّاً من الاعتقادين أمر بسيط لا يندرج أحدهما في الآخر ، ومجرّد تكامل الاعتقاد حتّى ينتهي إلى العلم لا يوجب اندراجه فيه ، وعلى فرض الاندراج فالانتقال عن الكلّ إلى البعض عند تعذّره ممّا لا دليل عليه إلّا من جهة تقديم المظنونات على الموهومات عند دوران الاحتياط بينهما ، نظراً إلى سقوط الجمع بينهما بما قرّروه من الأدلّة الدالّة عليه .

ص: 697

وحمل ما ذكر في المقام من قبح ترجيح المرجوح على الراجح على هذا المعنى يوجب رجوعه إلى الأوّل فلا يكون دليلاً آخر ، وليس كذلك ، إذ الأصل في ذلك ما ذكره جماعة من العامّة والخاصّة - كالعلّامة والآمدي وغيرهما - في مقامات عديدة - كمسائل خبر الواحد والشهرة والاستصحاب وغيرها - من الاستناد إلى مجرّد رجحان الطرف المظنون على مقابله وقبح ترجيح الطرف الآخر عليه ، فيكون الأوّل بمنزلة الصغرى والثاني بمنزلة الكبرى ، وبهما يتمّ صورة الاحتجاج فلا ربط له بالدليل السابق .

لكن يرد عليه مع إمكان الرجوع إلى أحد الأصلين البرائة والاحتياط ما ذكرناه في المقام ، من النقض بالظنون الممنوعة ، والحلّ باعتبار الحيثية في منع العقل من ذلك ، وبرجوع الطرف المظنون من حيث الشكّ في اعتباره والموهوم من حيث الشكّ في المنع منه إلى المشكوك ، فلا يمكن الحكم بأحدهما من غير دليل .

نعم ، يتمّ تقرير الدليل المذكور على طريقة المحقّق المصنّف قدس سره في مسألة الظنّ بالطريق بترتيب مقدمّتين بديهيّتين بهما يتمّ المقصود من إثبات حجيّته ؛

إحداهما : لزوم بناء العمل والفتوى في كلّ مسألة يتّفق ابتلاء المكلّف بها على وجه معيّن ، لوضوح امتناع التوقّف والتحيّر في الأفعال الاختيارية في اختيار الفعل والترك ، وامتناع البناء على الوجه المبهم .

والثانية : تعيّن البناء على المظنون من ذلك عند تعذّر المقطوع منه ، فإنّ ما عداه حينئذٍ مرجوح ، فيدور الأمر بين البناء على الراجح المرضيّ للشارع في تلك الحال والمرجوح الذي يظنّ من الشارع عنه حينئذٍ ، بمعنى كون البناء عليه

ص: 698

والفتوى بمقتضاه مبغوضاً له في تلك الحال على وجهٍ يظنّ بترتّب العقوبة على ترك الأوّل وعلى اختيار الثاني .

وجوه التفرقة بين القولين

وهذا هو الّذي يستقلّ العقل بلزوم ترجيح الأوّل على الثاني ، إذ لا يعقل الواسطة بينهما ، إذ غاية ما يتصوّر في ذلك السكوت عن الحكم أو البناء على البرائة فيه أو الاحتياط ، وشي ء من ذلك لا يخرج عن القسمين المذكورين .

نعم ، يمكن فرض تساوي الطريقين وعدم حصول الظنّ بشي ء من الوجهين ، وهو أمر خارج عمّا نحن فيه ، وإنّما يحكم العقل فيه بالتخيير ، فإن أراد المستدلّ هذا المعنى فهو ممّا لا غبار عليه ، وأين ذلك من القول بحجيّة الظنّ المطلق ؟ فإنّ مجرّد تعلّق الظنّ بحكم المسألة لا يستلزم الظنّ بجواز البناء عليه والفتوى بمقتضاه ، بل وذلك أيضاً لا يقتضي القول بحجيّة مطلق الظنّ بالطريق ، فإنّه أيضاً كالظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بجواز البناء عليه ، بل الظنّ به مع الشّك في اعتباره راجع إلى الشكّ ، وإنّما يقتضي القول بحجيّة الظنّ بالطريق الفعلي عند تعذّر العلم ، وإنّما يتحقّق حيث لا ينتهي إلى مقدمّة مشكوكة ، وإلّا لحقت النتيجة بأخسّ المقدّمات ، كما تقدّم تفصيل القول فيه في ذلك .

فجميع ما ذكره القائل بالظنّ المطلق مبنيّ على الخلط بين الوجهين المذكورين ، وعدم التميز بين المعنيين . وقد تبيّن ممّا أسلفناه وجوه التفرقة بين القولين ، وأنّه يرد على التقرير الأوّل وجوه من الاعتراض ، ولا ورود لشي ء منها على الثاني .

فمنها : أنّه لو صحّ ذلك لأدّى إلى وجوب العمل بالظنّ مطلقاً وإن عارضه دليل شرعيّ ، إذ القواعد العقليّة لا يقبل التخصيص ، وهو معلوم الفساد .

واُجيب : بأنّ حكم العقل بذلك ليس على الإطلاق ، بل مقصور على مورد

ص: 699

يقطع بثبوت التكليف فيه وينقطع عنه طريق العلم السمعي بالكلّيّة ، ومثل هذا لا يعقل فيه معارضته بدليل شرعىّ .

وفيه : أنّه رجوع إلى الدليل الأوّل ، وقد عرفت عدم بناء الدليل المذكور على تلك المقدّمات ، فيرد عليه أنّه لو استقلّ العقل بقبح اختيار المرجوح وترك الراجح بحسب احتمال الحكم الواقعي لامتنع تخلّفه في بعض الموارد ، والتالي باطل كما في الظنون الممنوعة أو المعارضة للأدلّة المعتبرة ، فالمقدّم مثله ، إلّا أن يكون حكمه بذلك ظاهريّاً منوطاً بعدم قيام الدليل على خلافه ، لكنّ الإيراد المذكور ساقط على ما ذكرناه من أصله ، لخروجها عن الطرق المظنونة .

ومنها : أنّه قد يشكّ في اعتبار بعض الظّنون في نظر الشارع أو منعه عنه ، وقد يظنّ بالمنع ، ومعه فلا يكون اختيار مقابله ترجيحاً للمرجوح بل للمساوي أو الراجح ، لما مرّ مراراً [من] أنّ رجحان ثبوت الحكم في الواقع لا يقتضي رجحان البناء عليه والفتوى على حسبه ، إذ النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه ، والمنع من الترجيح إنّما يتفرّع على ثبوت الثاني دون الأوّل ، إذ الترجيح بمعنى الاختيار فلابدّ في المنع المذكور أن يكون الاختيار مرجوحاً بحسب الاحتمال ، ولا يكفى مجرّد مرجوحيّة متعلّقه في الواقع ، فلو ظنّ بالوجوب وظنّ بلزوم البناء على البرائة والفتوى بها نظراً إلى أمارات المنع من العمل بالظنّ وجريان أصل البرائة فلا شكّ أنّ أرجح الاختيارين هو الثاني ، بل هو أرجح المختارين أيضاً في فتوى المسألة ، وهذا الإيراد أيضاً ساقط على ما ذكرناه بالضرورة ، بل هو مبنيّ عليه .

ومنها : أنّ اللازم في حكم العقل هو اختيار أرجح الأمرين بحسب الحكم الظاهري ، لأنّه الذي يتعلّق بالمكلّف فعلاً ويدور الثواب والعقاب مداره ، دون

ص: 700

الواقعي الذي له شأنيّة التعلّق بالمكلّف عند استجماعه لشرائطه ، والأوّل هو ما ذكرناه ، والثاني هو الذي ذكره القوم .

ومنها : المنع من قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، إنّما المسلم ، قبح ترجيح القبيح على الحسن على ما ذكره القائل المتقدّم ، وإنّما يندرج محلّ المسألة فيه بعد ثبوت حسن العمل بالظنّ وقبح تركه ، وهو عين المدّعى .

واُجيب : بأنّ المنع المذكور مكابرة ، فإنّ الضرورة قاضية برجحان العمل بالطرف الراجح من حيث كونه طرفاً راجحاً على العمل بالطرف المرجوح من حيث كونه مرجوحاً .

وفيه نظر ظاهر ، إذ من المعلوم أنّ تارك العمل بالظنّ لا يعمل بخلافه من حيث كونه مرجوحاً ، إذا الحيثيّة المذكورة غير ملحوظة عنده ، إنّما يعمل بخلافه من حيث عدم قيام الدليل المعتبر في نظره ، والحكم بقبح مثله مقطوع الفساد ، بل هو مقطوع الحسن .

وهذا بخلاف الحال في التقرير الذي ذكرناه ، إذ العمل بالطريق إنّما يتفرّع على إثبات اعتباره ، فإذا كان موهوماً كان العمل به ترجيحاً للمرجوح من حيث كونه مرجوحاً على الراجح من حيث كونه راجحاً ، بل لا يستريب ذو مسكة في لزوم تقديم الثاني عند انسداد باب العلم به ، وقطع العقل بلزوم البناء على أحد الطريقين ، ودوران الأمر بين الأمرين كما عرفت .

ومنها : أنّ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، ولا شكّ في حسن البناء عليه وترجيحه على العمل بالراجح ، فلا يكون مجرّد العمل بخلاف المظنون مرجوحاً في نظر العقل .

وفيه : أنّ الاحتياط سبيل اليقين ، ولا شكّ أنّه مع إمكانه مقدّم على العمل

ص: 701

بالظنّ ، وإنّما الكلام في صورة تعذّره ، على أنّه ليس ترجيحاً للمرجوح ، بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح ، لوضوح أنّ الاحتياط بالعمل بالوجوب المحتمل ليس طرحاً للراجح الذي هو عدم الوجوب إلّا إذا قصد الوجوب فيما فرض من الاحتياط .

وعلى ما ذكرناه فالكلام المذكور ساقط بالكليّة ، لأنّ الاحتياط أيضاً يندرج في الطرق المفروضة ، فإن حصل العلم بلزوم البناء عليه في تلك الحال فذاك وإلّا تعيّن العمل بالظنّ به ، فإن شكّ المكلّف في لزومه أو حصل الظن بعدمه امتنع البناء على وجوبه والفتوى به وإن كان طريق اليقين ، بل لو فرضنا انفتاح باب العلم ولم يقم عنده دليل على لزوم تحصيله من عقل أو نقل فرضاً لم يمكن الحكم بوجوبه وإنّما نقول بكونه فرضاً غير واقع إلّا في بعض المقامات ، كما إذا قلنا بعدم لزوم الفحص عن مخصّص العمومات ونحو ذلك .

ومنها : أنّ المرجوح قد يوافق أصل البرائة أو أصل العدم أو الاستصحاب أو نحوها من الاُصول المعتبرة ، فلا يكون اختيار العمل عليه قبيحاً ، بل هو حسن لا محالة ، نظراً إلى توقّف تعلّق التكليف في نظر العقل على إعلام المكلّف ، وحيث لا علم فلا تكليف إلّا أن يثبت قيام غيره مقامه .

وأمّا على ما ذكرناه فالاُصول المذكورة مندرجة في الطرق المفروضة ، فإن حصل العلم بلزوم البناء عليها فلا كلام وإلّا فلابدّ من العمل بما يظنّ به منها ، فإن لم يحصل العلم ولا الظنّ بشي ء منها امتنع الحكم بتعيّن البناء عليها والفتوى بمقتضاها ، لكونه ترجيحاً من غير مرجّح .

ومنها : أنّ ترجيح المرجوح على الراجح بديهيّ البطلان ، فلو كانت المسألة من هذا الباب لكانت ضرورية عندهم ، مع أنّها ليست كذلك . نعم ، يمكن

ص: 702

القول به على ما ذكرناه ، كما أشرنا إليه .

ومنها : أنّ أدلّة المنع من العمل بالظنّ إن لم يكن مفيدة للقطع به فلا أقلّ من إفادته للظنّ بالمنع ، على أنّ الاحتمال المساوي قائم على كلّ حال ، لعدم قيام أمارة على خلافه في كلّ ظنّ يعمل به ، فيرجع إلى الشكّ ، إذ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات ، بخلاف ما ذكرناه ، إذ لابدّ من ملاحظة تلك الأدلّة وغيرها ، فإن حصل العلم أو الظنّ أو الشّك بالمنع امتنع العمل .

ومنها : أنّه إن قرّر الدليل المذكور على حجيّة الظنّ في الأدلّة كان مستقيماً ، وإن قرّر على حجيّته في الأحكام اتّجه عليه ما مرّ في الدّليل الأوّل .

كذا ذكره عمّي رحمه الله في الفصول ، وفيه ما عرفت من أنّ الظنّ بالأدلّة إذا حصل من الطريق المشكوك فيه كان من الظنّ بالحكم ورجع إلى الشكّ ، وإنّما المعتبر هو الظنّ بالطريق الفعليّ ، وإنّما يتحقّق حيث لا ينتهي إلى الشكّ ، على ما ذكرناه .

ومنها : أنّ الدليل المذكور متفرّع على وجوب الترجيح ، بمعنى أنّه إذا دار الأمر بين ترجيح المرجوح والراجح ووجب الإفتاء بأحدهما كان الأوّل قبيحاً ، وهو هنا ممنوع ، إذ لا دليل عليه عقلاً ولا نقلاً ، فلا يلزم ترجيح أحدهما على الآخر ، بل الأدلّة على وجوب التوقّف عند عدم الدليل كثيرة .

وأمّا على ذكرناه فلا شكّ في امتناع التوقّف في مقام العمل ، بل لابدّ فيه من البناء على وجه معيّن ، فإذا تردّد بين وجهين أو وجوه وأمكن الترجيح وجب ، فيتعيّن الأخذ بالراجح بعد الالتزام بالتوقّف في مقام الاجتهاد ، وليس الغرض من وجوب الإفتاء حينئذٍ إلاّ تعيين طريق العمل للعاميّ فلا محيص عنه ، بل التوقّف أيضاً مع إمكانه طريق لعمل المكلّف ، فيندرج فيما ذكرناه .

ص: 703

وأجاب عنه في القوانين بما أشار المصنّف - طاب ثراه - إلى محصّله بعد إسقاط زوايده ، وردّه بما فصّله ، إلّا أنّ ما ذكره رحمه الله في هذا المقام ألصق بالتقرير الثاني الّذي ذكرناه ، وأقرب إلى ما اخترناه من مدّعاه ، فإن أراد ذلك اندفع عنه ما أورده المصنّف رحمه الله عليه ، وخرج بذلك عن مطلوبه وإلّا توجّه عليه ما ذكره المصنّف رحمه الله وغيره ممّا لا يخفى .

ففيه ما ذكرناه من الخلط بين المقامين وعدم التّفرقة بين التقريرين ، فليرجع إلى عبارته بعينها حتّى ينكشف لك حقيقة ما ذكرناه .

واُجيب أيضاً بأنّ التوقّف عن ترجيح الراجح أيضاً قبيح كترجيح المرجوح .

وفيه من الوهن ما لا يخفى ، بل وجوب التوقّف عند عدم الدليل ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة يعتريه ، إنّما نمنع حيث يتعيّن الترجيح كما ذكرناه .

واُجيب عمّا ذكره المورد في منعه من الإجماع على وجوب الترجيح من مخالفة الأخباريّين ومصيرهم إلى وجوب التوقّف والاحتياط تارة بأنّها غير قادحة ، فإنّهم يدّعون حصول القطع بالأخبار المرويّة في الكتب الأربعة ، وعلى تقدير عدم حصول القطع لهم فلا أظنّهم يخالفون في وجوب العمل بالظنّ ولو في الجملة .

وتارة بأنّهم على تقدير مخالفتهم محجوجون بالإجماع والضرورة .

وتارةً بأنّه قد يتعذّر في بعض الموارد ، ومع إمكانه ففيه حرج وضيق فينافي ما دلّ على نفيهما عن الشريعة .

واُخرى بأنّه لا قطع بالبرائة من وجوب الإفتاء وتعليم الأحكام بالاحتياط وترك الإفتاء بخلافه بالكليّة إن لم يقطع بعدمها ، فلا يكون التعويل على

ص: 704

الاحتياط قطعيّاً أيضاً .

والصواب في الجواب على ما ذكرناه أنّ التوقّف والاحتياط أيضاً من جملة الطرق المفروضة لعمل المكلّف ، فيندرج في العنوان الّذي ذكرناه ، ومعه فلا مجال لشي ء من الإيرادات والأجوبة في ذلك ، وأمّا بالنسبة إلى الواقع فلا محيص عن التوقّف عند عدم قيام الدليل المعتبر .

ومنها : أنّ الدليل المذكور إنّما يتمّ إن كان غرض الشارع من التكليف متعلّقاً بنفس الواقع ولم يمكن الاحتياط ، كما أنّ المولى إذا تعلّق غرضه بالذهاب إلى مكان معيّن وتردّد طريقه عند العبد بين طريقين ، أحدهما مظنون الإيصال والآخر موهوم ، فترجيح الموهوم قبيح لكونه نقضاً للغرض ؛ أمّا إذا لم يتعلّق التكليف بالواقع أو تعلّق به وأمكن الاحتياط فلا يجب الأخذ بالراجح ، وهذا أيضاً ساقط على ما ذكرناه بالكلّية .

ومنها : أنّ الدليل المذكور إنّما يجري حيث لا يكون هناك أدلّة مخصوصة بقدر الكفاية ، أمّا بعد إثبات الظنون الخاصّة على ما تقدّم تفصيله فلا وجه له ، وهو ظاهر .

ومنها : أنّه إن تمّ فلا ينهض لإثبات حجيّة مطلق الظنّ ، إنّما يفيد حجيّة بعض الظنون ممّا فيه الكفاية ، فيتوقّف التعميم على بطلان الترجيح ، وقد تقدّم وجوه الترجيح بين الظنون ، فلا يمكن التعدّي عن الراجح منها بأحد الاعتبارات السابقة مع حصول الكفاية به كما مرّ تفصيل القول فيه .

وهو أيضاً ساقط على ما ذكرناه ، إذ الحاصل في كلّ مسألة ليس إلّا ظنّ واحد ، فلا معنى للعدول عنه ، فتدبّر .

ص: 705

قال قدس سره :

الثالث من وجوه حجيّة مطلق الظن

اشارة

الثالث : إنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه من الأحكام الواجبة والمحرّمة أو ما يستتبعها مظنّة للضّر ، وكلّ ما هو مظنّة لضرر فتركه واجب ، فيكون عمل المجتهد بما ظنّه واجباً . والكبرى ظاهرة وأمّا الصّغرى فلأنّه إذا ظنّ وجوب شي ء أو حرمته فقد ظنّ ترتّب العقاب على ترك الأوّل وفعل الثاني ، وهو مفاد ظنّ الضرر .

إيراد في ثلاث مقامات

واُورد عليه : تارةً بمنع الكبرى . ودعوى الضرورة فيها غير ظاهرة ، غاية الأمر أن يكون أولى رعاية للاحتياط ، ولو سلّم ذلك فإنّما يسلّم في الأُمور المتعلّقة بالمعاش دون الأُمور المتعلّقة بالمعاد ، إذ لا استقلال للعقل في إدراكها .

وتارةً بمنع الصغرى ، فإنّه إنّما يترتّب خوف الضرر على ذلك إذا لم نقل بوجوب نصب الدليل على ما يتوجّه إلينا من التكليف ، وأمّا مع البناء على وجوبه فلا وجه لترتّب الضرر مع انتفائه كما هو المفروض .

واُخرى بالنقض بخبر الفاسق بل الكافر إذا أفاد الظنّ ولا يتمّ القول بالتزام التخصيص في ذلك ، نظراً إلى خروج ما ذكر بالدليل ويبقى غيره تحت الأصل ، لما هو واضح من عدم تطرّق التخصيص في القواعد العقليّة الثابتة بالأدلّة القطعيّة .

الجواب عن المقام الأوّل

والجواب عن الأوّل ظاهر ، فإنّ وجوب دفع الضرر المظنون بل وما دونه من الفطريّات الّتي لا مجال لإنكاره ،

ص: 706

كيف وهو المبدأ في إثبات النبوّات والتجسّس عن الحقّ ، ولولاه لزم إفحام النبيّ في أمره بالنظر إلى معجزته : والتفصيل المذكور بين المضارّ الدنيويّة والاُخرويّة من أوهن الخيالات ، إذ لا يعقل الفرق بينهما في ذلك ، بل المضارّ الاُخرويّة أعظم في نظر العقل السليم لشدّة خطره وعظم الحال(1) فيه ودوامه ، وعدم حيلة للمكلّف في دفعه بعد خروج الأمر من يده وعدم استقلال العقل في خصوصيّاتها لا يقتضي عدم إدراكه لما يتعلّق بها ولو على سبيل الإجمال .

جواب المحقّق القمّي عن المقام الثاني

وأجاب بعض الأفاضل(2) عن الثاني بأنّ مراد المستدلّ أنّه إذا علم بقاء التكليف ضرورة وانحصر طريق معرفة المكلّف به في الظنّ وجب متابعته ولم يجز تركه ، إذ ما ظنّه حراماً أو واجباً يظنّ أنّ اللَّه يؤاخذه على مخالفته ، وظنّ المؤاخذة قاضٍ بوجوب التحرّز عقلاً ، ولا وجه لمنع ذلك ، وما ذكره من سند المنع مدفوع بأنّ وجوب نصب الأدلّة القطعيّة بالخصوص على الشارع ممنوع ، وهو أوّل الكلام ، ألا ترى أنّ الإماميّة يقولون بوجوب اللطف على اللَّه سبحانه في نصب الإمام عليه السلام لإجراء الأحكام وإقامة الحدود ، ومع ذلك خفي عن الاُمّة من جهة الظلمة ؟ فكما أنّ

ص: 707


1- في المطبوعة الحديثة : « المنال » .
2- وهو المحقّق القمّي في القوانين / 447 .

المجتهد صار نائباً عنه بالعقل والنقل وكان اتّباعه واجباً كاتّباعه عليه السلام ، فكذلك ظنّ المجتهد بقولهم وشرائعهم صار نائباً عن علمه بها ، وكما أنّ الإمام عليه السلام يجب أن يكون عالماً بجميع الأحكام ممّا يحتاج الأُمّة إليها وإن لم يكونوا محتاجين فعلاً ، فكذا يجب على المجتهد الاستعداد لجميع الأحكام بقدر طاقته ليرفع احتياج الاُمّة عند احتياجهم ، ولا ريب أنّه لا يمكن تحصيل الكلّ باليقين فناب ظنّه مناب يقينه .

نعم لو فرض عدم حصول ظنّ المجتهد في مسألة أصلاً رجع فيها إلى أصل البرائة .

لا يقال : إنّه على التقرير المذكور يرجع هذا الدليل إلى الدليل الأوّل . لأنّا نقول : إنّ مرجع الدليل الأوّل إلى لزوم التكليف بما لا يطاق في معرفة الأحكام لو لم يعمل بظنّ المجتهد ، ومرجع هذا الدليل إلى أنّ ترك العمل بالظنّ يوجب الظنّ بالضرر(1) .

فإن قلت : لو لم يحصل الظنّ بشى ء حين انسداد باب العلم فما المناص في العمل والتخلّص من لزوم تكليف ما لا يطاق ؟ فإن عملت بأصل البرائة حينئذٍ فلِمَ لم تعمل به من أوّل الأمر ؟

ص: 708


1- القوانين / 448 و 447 .

قلت : إنّما لا نعمل به أوّلاً لأنّ الثابت من الأدلّة كون جواز العمل به متوقّفاً على اليأس عن الأدلّة بعد الفحص ، فكما يعتبر في الفحص اليأس عن الأدلّة الاختيارية فكذا الحال في الأدلّة الاضطراريّة ، فالحال في الظنون الغير المعلوم حجّيتها بالخصوص إذا تعارضت أو فقدت حال الظنون المعلومة الحجّية إذا تعارضت أو فقدت ، فما يبنى عليه هناك من التوقّف في الفتوى أو الرجوع إلى الأصل يبنى عليه هنا ، وكما لا يرجع هناك إلى الأصل مع وجود الدليل وانتفاء المعارض كذا لا يرجع إليه هنا .

جواب المحقّق القمّي عن المقام الثالث

وأجاب عن الثالث تارةً بأنّ عدم جواز العمل بخبر الفاسق إذا أفاد الظنّ أوّل الكلام ، واشتراط العدالة في الراوي معركة للآراء ، وقد نصّ الشيخ قدس سره بجواز العمل بخبر المتحرّز عن الكذب وإن كان فاسقاً بجوارحه ، والمشهور بينهم أيضاً جواز العمل بالخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب ولا ريب أنّ ذلك لا يفيد إلّا الظنّ .

والحاصل : أنّا لا نجوّز العمل بخبر الفاسق لأجل عدم حصول الظنّ أو لحصول الظنّ بعدمه لا من جهة كونه فاسقاً وإن حصل الظنّ به ، وبمثل ذلك نقول : إذا ورد النقض بالقياس فيكون حرمة العمل به من جهة عدم حصول الظنّ منه ، وذلك علّة منع الشارع من العمل به ، لا أنّه يعمل به على فرض حصول الظنّ .

ص: 709

وتارةً بأنّ ما دلّ الدليل على عدم حجّيته كخبر الفاسق أو القياس إنّما يستثنى من الأدلّة المفيدة للظنّ ، لا أنّ الظنّ الحاصل منه مستثنى من مطلق الظنّ حتّى يرد التخصيص على القاعدة العقليّة ليورد الإشكال المذكور ، بل إنّما يرد التخصيص على متعلّق القاعدة المذكورة ، فيكون القاعدة العقليّة متعلّقة بالعامّ المخصوص ، وهى باقية على حالها كذلك من غير ورود تخصيص عليها(1) .

ذكر المحقّق القمّي أنّ الإيراد وارد على الدليل الأوّل أيضاً

وذكر المجيب المذكور أنّ ما ذكر من الإيراد وارد على الدليل الأوّل أيضاً ، لأنّ تكليف ما لا يطاق إذا اقتضى العمل بالظنّ بعد انسداد سبيل العلم فلا وجه لاستثناء الظنّ الحاصل من القياس مثلاً . وأجاب عنه بوجوه :

ثمّ أجاب عنه بوجوه ثلاثة

أحدها : أنّ تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم - من الأدلّة المقتضية للعلم أو الظنّ المعلوم الحجّية مع العلم ببقاء التكليف - يوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ، يعني في نفسه مع قطع النظر عمّا يفيد ظنّاً أقوى(2) .

وبالجملة أنّه يدلّ على حجّية الأدلّة الظنيّة دون مطلق الظنّ النفس الأمري ، والأوّل أمر قابل للاستثناء ، إذ يصحّ أن يقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ على

ص: 710


1- القوانين / 448 .
2- القوانين / 449 مع اختلاف وتوضيح من المؤلف .

مراد الشارع ظنّاً إلّا الدّال الفلاني وبعد إخراج ما خرج عن ذلك يكون باقي الأدلّة المفيدة للظنّ حجّة معتبرة ، فإذا تعارضت تلك الأدلّة لزم الأخذ بما هو أقوى وترك الأضعف منها ، فالمعتبر حينئذٍ هو الظنّ الواقعي ، ويكون مفاد الأقوى حينئذٍ ظنّاً والأضعف وهماً ، فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره .

ثانيها : أنّ في مورد القياس ونحوه لم ينسدّ باب العلم بالنسبة إلى ترك مقتضاه ، فإنّا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل بمؤدّى القياس فنقطع أنّ حكم اللَّه غير مؤدّاه ، من حيث إنّه مؤدّاه ، وإن لم نعلم أنّه ما هو فنرجع في تعيينه إلى ساير الأدلّة وإن كان مؤدّاها عين مؤدّاه لمخالفته له في الحيثيّة .

ثالثها : أنّه يمكن منع بداهة حرمة العمل بالقياس ونحوه في موضع لا سبيل إلى الحكم إلّا به(1) ، غاية ما يسلّم قضاء الضرورة بعدم جواز الأخذ به مع حصول طريق آخر إلى الحكم فلا نقض .

مناقشة الماتن مع المحقّق القمّي في جوابه عن الإيراد الثاني

وأنت خبير بأنّ جميع ما ذكر محلّ نظر لا يكاد يصحّ شي ء منها ، أمّا ما ذكره في جواب الإيراد الثّاني ففيه أنّ المقدّمتين المذكورتين لم تؤخذا في الحجّة المذكورة

ص: 711


1- القوانين / 449 .

حسب ما عرفت ، فالوجه المذكور لا يدفع الإيراد ، بل يحقّقه . ومع الغضّ عن ذلك فلو اُخذتا في الاحتجاج وسلّمها الخصم حصل منها القطع بتكليفه بالظنّ وحصول المؤاخذة مع ترك العمل بالمظنّة بالمرّة ، إذ المفروض القطع ببقاء التكليف وانحصار الطريق في الظنّ ، فأيّ حاجة إذن إلى ضمّ المقدّمة المذكورة ؟ وأيّ داع لاعتبار الظنّ بالضّرر وحصول المؤاخذة مع المخالفة على أنّ ما ذكره من انحصار الطريق في الأخذ بالظنّ غير مبيّن في المقام ، إلّا أن يؤخذ فيه ما ذكر في الدليل الأوّل من المقدمّتين الأخيرتين من كون الطريق الأولى إلى الواقع هو العلم ، وكون الظنّ هو الأقرب إليه ، فينحصر الطريق في الأخذ به بعد انسداد سبيل العلم وبقاء التكليف حسبما مرّ بيانه في الدليل الأوّل .

ويبقى الكلام في عموم حجيّة الظنّ ليشمل جميع أفراده عدا ما خرج بالدليل ، إذ أقصى ما يفيده الوجه المذكور كون الظنّ دليلاً في الجملة ، وترتّب الضرر على مخالفته كذلك .

وأمّا ترتّبه على مخالفة أيّ ظنّ كان فغير بيّن ولا مبيّن ، والعقل يحكم بعدم ترتّب المضارّ الاُخروية كذلك من دون قيام الحجّة على عموم الحجّية ، فظنّ ترتّب الضرر على مخالفة مطلق الظنّ من دون قيام الحجّة القاطعة لعذر المكلّف لا وجه له ، وإنّما يتمّ ذلك بعد ملاحظة عدم

ص: 712

الترجيح بين الظنون حسب ما مرّت الإشارة إليه فيرجع ذلك إلى الدليل المتقدّم .

فظهر بذلك فساد ما جعله فارقاً بين هذا الدليل والدليل الأوّل من كون المناط في الانتقال إلى الظنّ هناك بطلان تكليف ما لا يطاق وهنا دفع الضرر المظنون ، إذ قد عرفت أنّ مجرّد الظنّ بالحكم لا يقتضي ظنّ الضرر بمخالفته مع عدم قيام دليل قاطع لعذر المكلّف . والكلام في المقام إنّما وقع في ذلك الدليل ولو اُريد إثباته بمجرّد الظنّ بالحكم لزم الدور ، ولو أخذ فيه المقدّمتان المذكورتان كان الانتقال إلى الظنّ من جهتهما دون ظنّ الضرر كما أشرنا إليه ، على أنّ الانتقال إلى الظنّ في المقام لا يتصوّر مع قطع النظر عن لزوم تكليف ما لا يطاق ، كيف ! ولو قيل بجوازه لجاز حصول القطع ببقاء التكليف وانحصار الطريق في الظنّ ، مع كونه مكلّفاً بالعلم وعدم اكتفاء الشارع بغيره ، ومجرّد الظنّ بأداء التكليف بموافقة المظنون لا يكتفى به في الخروج عن عهدة التكليف الثابت ، بل لا يكون مثبتاً للتكليف بالمظنون مع عدم كونه قاطعاً لعذر المكلّف في عدم ثبوت التكليف عندنا وقيام الحجّة عليه في بيان التكليف ، إذ لا ملازمة بين الظنّ بالحكم والظنّ بالضرر مع مخالفة المظنون بعد ما قام الدليل على عدم تعلّق التكليف قبل قيام الحجّة على المكلّف ، وحصول طريق له في الوصول إلى المكلّف به .

ص: 713

ما ذكره جواباً عمّا أورد من إمكان العمل بأصل البرائة من أوّل الأمر : من أنّا إنّما لا نعمل به من أوّل الأمر إلى آخر ما ذكره مدفوع ، بأنّ الحال وإن كان على ما ذكره من عدم الرجوع إلى أصل البرائة إلّا مع اليأس عن الأدلّة الاختياريّة والاضطراريّة ، غير أنّه لابدّ من ثبوت الأدلّة الاضطراريّة ليمكن الرجوع إليها والاعتماد عليها . وأمّا مع عدم ثبوتها فلا وجه للاعتداد بها ، بل لابدّ من الرجوع إلى أصل البرائة . فالظنون الّتي لا يعلم حجّيتها بالخصوص إن ثبت حجّيتها على جهة العموم فلا كلام في تقديمها على الأصل ، لكنّها لم يثبت حجّيتها بعد ، وإنّما يتوقّف ثبوتها على عدم جواز الرجوع حينئذٍ إلى الأصل المذكور كما هو مبنى الاستدلال ، ومجرّد احتمال حجّيتها لا يقضي بالمنع من الرجوع إلى الأصل ، إذ لا يتمّ الحجّة على المكلّف بمجرّد الاحتمال ، ولذا يدفع احتمال حصول التكليف بالأصل المذكور ، ولا يتعقّل فرق بين الاحتمال المتعلّق بنفس التكليف والاحتمال المتعلّق بإثبات التكليف بمجرّد الظنّ ، فكما ينهض الأصل حجّة دافعة للأوّل إلى أن يقوم دليل على ثبوت التكليف ، فكذا بالنسبة إلى الثاني .

والقول بأنّ حجّية الأصل إنّما هي مع اليأس عن الدليل ولا يأس مع وجود واحد من الظنون المفروضة ممّا يحتمل حجيّته واضح الفساد فإنّ المراد بالدليل هو القاطع لعذر

ص: 714

المكلّف . ومجرّد احتمال كونه مثبتاً للتكليف غير قاطع لعذره ، كما أنّه لا يقطع عذره باحتمال ثبوت التكليف حسب ما قرّرناه ، فيقوم الأصل حينئذٍ حجّة على رفع كلّ من الاحتمالين إلى أن يقوم دليل على خلافه .

نعم لو قرّر دفع الإيراد بأنّ البناء على أصل البرائة في غير معلوم الحجّية بالخصوص من الظنون المفروضة يوجب هدم الشريعة والخروج عن الدين لكان له وجه حسبما مرّ بيانه في تقرير الاستدلال الأوّل .

وأمّا ما علّل المنع به فمّما لا يكاد يمكن تصحيحه .

مناقشة الماتن مع المحقّق القمّي في جوابه عن الإيراد الثالث

وأمّا ما ذكره في الجواب عن الإيراد الثالث ففيه : أنّ ما دفعه به أوّلاً من منع مادّة الانتقاض فهو موهون جدّاً ، إذ عدم حجّية جملة من الظنون في الشريعة ولو بالنسبة إلى هذه الأزمان ممّا قضى به إجماع الفرقة ، بل ضرورة المذهب كظنّ القياس والاستحسان ونحوهما ، ودعوى عدم حصول الظنّ منها مكابرة للوجدان .

نعم إنّما يتمّ ما ذكره بالنسبة إلى خبر الفاسق مثلاً بناءً على الاكتفاء في حجّية الخبر بظنّ الصدور وكما هو المختار أو احتمال الاكتفاء به إذ لا يتحقّق معه النقض ، لوضوح أنّ مجرّد الاحتمال غير كافٍ في حصول الانتقاض ، وما دفعه به ثانياً فهو أيضاً كسابقه لبقاء الإشكال على حاله ، ولا ثمرة لاعتبار الإخراج عن الأدلّة المفيدة للظنّ

ص: 715

أصلاً ، وذلك لوضوح التزام إخراجها عمّا دلّ على حجّية مطلق الظنّ أيضاً .

فإنّ مؤدّى الأدلّة المذكورة حجّية مطلق الظنّ بعد انسداد سبيل العلم ، والمفروض عدم حجّية الظنون المفروضة فتكون مخرجة عن القاعدة المذكورة قطعاً والقول بأنّ الحجّة مطلق الظنّ الحاصل عمّا سوى الأدلّة المفروضة - فلا تخصيص في القاعدة ، لاختصاص الحكم بما عدا المذكور - غير مفيد في المقام ، إذ لو كان ذلك كافيا في دفع الإيراد كان جارياً في نفس الظنّ أيضاً بأن يقال : إنّ الحجّة بعد انسداد سبيل العلم هو ما عدا الظنون الّتي علم عدم حجّيتها فأيّ فائدة في الخروج عن ظاهر ما يقتضيه تقرير الدليل وبنائه على الوجه المذكور ؟

ومع الغضّ عن ذلك فمقتضى ما ذكره قيام الدليل على حجّية الظنّ الحاصل من الأدلّة المفيدة للظنّ ، وحينئذٍ فورود التخصيص على متعلّق الظنّ المفروض تخصيص في القاعدة العقليّة أيضاً من غير فرق بينه وبين ورود التخصيص على حجّية مطلق الظنّ أصلاً .

جواب عن الإيراد الثالث والإشكال عليه

نعم يمكن الجواب عن الإيراد المذكور : بأنّه بعد ما قام الدليل على عدم حجّية الظنّ الحاصل من القياس ونحوه لا يتحقّق خوف من الضرر عند مخالفته ليجب الأخذ بمقتضاه من جهة دفعه ، وذلك للعلم بعدم الاعتماد عليه في

ص: 716

الشريعة ، بل منع الشارع عن الأخذ به ، فإنّما يترتّب الضرر حينئذٍ على التمسك به دون عدمه .

دفع الإشكال والمناقشة فيه

ويمكن الإيراد عليه : بأنّ مدار الاحتجاج المذكور على كون الظنّ بالواقع قاضياً بظنّ الضرر ومع مخالفة المظنون ، فإذا قيل بإمكان التخلّف وعدم حصول الظنّ بالضرر مع حصول الظنّ بالحكم بطل الاحتجاج من أصله .

ويدفعه : أنّ مدار الاحتجاج على كون الظنّ بالواقع مقتضياً لظنّ الضرر لو لا قيام المانع منه ، فإذا قام الدليل على عدم حجّية بعض الظنون كان ذلك مانعاً من الظنّ بالضرر ، ومع عدمه فالظنّ بالضرر حاصل عند حصول الظنّ بالتكليف .

وفيه منع ظاهر ، إذ لا دليل على الدعوى المذكوره سيّما بعد ملاحظة خلافه في عدّة من الظنون ، وقيام بعض الوجوه المشكّكة في عدّة اُخر منها ، بل ضرورة الوجدان قاضية بعدم الملازمة بين الظنّ بالحكم والظنّ بالضرر مع عدم الأخذ به ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ، ويأتي تتمّة الكلام فيه إن شاء اللَّه .

إلاّ أنّ ذلك إيراد آخر على الدليل المذكور لا ربط له بالإيراد المذكور ، وما ذكر من الجواب كافٍ في دفع هذا الإيراد .

وأمّا ما ذكره في الجواب عن تقرير الإيراد المذكور

ص: 717

على الدليل الأوّل فيرد على ما ذكره ، أوّلاً : أنّ مفاد المقدّمات المذكورة هو حجّية مطلق الظنّ وقيامه مقام العلم دون الأدلّة الظنيّة ، ولو دلّ على حجّيتها فإنّما هي من حيث إفادتها الظنّ فيعود إلى الأوّل ، فكيف يصحّ القول بأنّ مفادها حجّية الأدلّة الظنيّة المفيدة للظنّ في نفسها مع قطع النظر عمّا يعارضها دون نفس المظنّة الواقعيّة ؟

ومع الغضّ عن ذلك فأيّ فرق في ما ذكر بين دلالتها على حجّية كلّ من الأدلّة الظنّية وكلّ ظنّ من الظنون ؟ فإنّه بناءً على ثبوت العموم بحكم العقل لا يصحّ ورود التخصيص عليه في شي ء من الصورتين على ما تقرّر عندهم من عدم جواز التخصيص في القواعد العقليّة [ج 3 ص 439 - 432] .

بيان الشارح فيما اُفيد في الدليل الثالث

اشارة

أقول : قد سقط عن الرسالة مارامه من ذكر الإيراد على الجواب الثاني والثالث ، وأيضاً قد فصّله سابقاً قبل الخوض في أدلّة الطرفين ، فكان عليه أن يكتفي بأحد المقامين ، وكأنّه قدس سره إنّما أراد ذلك وإنّما وقع التكرار فيه من جهة اختلاف قصده في ترتيب المطالب كما مرّت الإشارة إليه في موضع آخر أيضاً ، والأمر فيه سهل ، وقد تقدّم تفصيل الكلام في الجواب عن الإيراد المذكور والإيراد على الأجوبة المذكورة عنه ، فلا حاجة إلى إعادته .

إنّما الكلام في بيان الدليل الثالث ، والحقّ أنّه إنّما ينطبق على ما ذكرناه من الظنّ بالطريق على طريقة المصنّف - طاب ثراه - فإنّ المستدلّ إنّما فسّر الضرر بالعقاب المترتّب على المخالفة ، ومن المعلوم أنّه لا يترتّب على مجرّد مخالفة الواقع ولا يدور مداره قبل ثبوته في الظاهر ، لتطابق الأدلّة الأربعة على رفعه عن

ص: 718

المكلّف ، وعدم ترتّب المؤاخذة والعقاب عليه - كما ثبت ذلك في محلّه - على ما هو الحال في الجاهل البسيط أو المركّب وغيره .

وإنّما يترتّب على العصيان المتوقّف على ورود البيان ، لما عرفت غير مرّة من أنّ الثابت في نفس الأمر وإن كان شاملاً لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة إلاّ أنّه حكم شأنيّ لا تنجّز له إلاّ بعد وجود الطريق إليه ، فالعقاب إنّما يترتّب على مخالفة الطريق الشرعي الذي يدور صدق الطاعة والمعصية مداره ، ويتوقّف فعليّة الحكم وتنجّز الخطاب عليه ، دون الأمر الشأني الذي هو بمنزلة المشروط قبل تحقّق شرطه .

والإنصاف أنّ ذلك من الأُمور الضروريّة ، كيف ولو فرضنا دوران العقاب مدار الواقع كان مجرّد الظنّ بالواقع ظنّاً يترتّب العقاب على مخالفته والشكّ فيه شكّاً فيه ، لوضوح استلزام الاعتقاد بأحد المتلازمين للاعتقاد بالأخر ، فيكون الحرمة الواقعية بمنزلة السمّ القاتل ، فمتى تعلّق الخوف بها ولو بمجرّد احتمال حصولها استقلّ العقل بوجوب الاحتراز عنها ، كاستقلاله في وجوب التحرّز عن السمّ المخوف ، بل أين هذا من ذاك ؟ فإنّ ضرر السمّ في جنب العقوبة الاُخرويّة كالذرّة في العالم الكبير ، وأستغفراللَّه من هذا التنظير .

وهذا حكم عقلي يمتنع تخلّفه في شي ء من الموارد ، وفساده من الضّروريات ، فالحقّ دوران استحقاق العقوبة مدار الطرق الفعليّة التي تعلّق التكليف الفعليّ بسلوكها وتنجّز الخطاب بالعمل عليها ، فمتى حصل الظنّ بها بل الشكّ فيها حكم العقل القاطع بمراعاة الاحتياط في سلوكها وتحتّم الاحتراز عن الاقتحام في مخالفتها .

ولا شكّ أنّ المجتهد في كلّ مسألة من المسائل الشرعيّة مأمور بالبناء على

ص: 719

مقتضى الطريق المرضيّ فيها ، والفتوى بمقتضاه عند الحاجة إليها ، ويترتّب على التجاوز عنه جميع التهديدات الواردة في التعدّي عن حدود اللَّه ، والعقوبات المترتّبة على الحكم والفتوى بغير ما أنزل اللَّه ، وإن كان الواقع معه مشكوكاً أو موهوماً ، بل و لو كان احتمال مصادفة الواقع فيه أبعد المحتملات ، كما يظهر من النظر في الطرق المقرّرة للموضوعات ، فإن أمكن تعيين الطريق المذكور بطريق اليقين فلا كلام ، وإلّا كان العقل مستقّلاً بلزوم البناء على الظنّ به ، وصار الظنّ به بحكم العقل القاطع طريقاً ثابتاً على اليقين ، فإن تعذّر الظنّ به أيضاً ودار الطريق الفعليّ بين أمرين أو اُمور محصورة تعيّن الحكم بالتخيير .

ومجرّد كون بعضها من الظنّ بالواقع لا يقضي بترجيحه بعد الشكّ في كون العمل به مرضيّاً عند الشارع ، بل يبقى معه المساواة مع غيره ، فيمتنع الترجيح من غير مرجّح ، فيكون التخيير حينئذٍ هو الطريق المعلوم بحكم العقل ، نظراً إلى امتناع الترجيح والتكليف بالمحال .

وهذا هو الذي أردناه في التقرير الذي ذكرناه ، ولا يحتاج إلى مقدّمة اُخرى سوى المقدّمتين المعلومتين المذكورتين فيه ، فلا يتوقّف على إثبات الانسداد لجريانه في مسألة واحدة ، ولا على إبطال الأصلين البرائة والاحتياط ، لأنّ فرض دوران الطريق الفعليّ بين غيرهما يستلزم فرض القطع بعدم جواز العمل بهما ، فإن دار بين الجميع تعيين الترجيح مع المرجّح والتخيير بدونه ، وجميع ما استدلّ به القائل بالظنّ المطلق إنّما ينطبق على هذا المعنى ولا يرتبط بمدّعاه بوجهٍ من الوجوه ، وهو الّذي استقرّت عليه طريقة الإماميّة ، كما انّ الظنّ المطلق من طريقة العامّة الّتي قامت على بطلانها الإجماع والضرورة ، والرشد في خلافهم .

ص: 720

حاصل الكلام

والحاصل : أنّ مرادنا بالطريق الفعليّ هو الّذي يترتّب استحقاق العقاب على ترك العمل به والتعدّي عنه إلى غيره ، فلا يعقل الواسطة بينه وبين غيره ، فإذا تعذّر العلم به في مسألة من المسائل وحصل الظنّ به كان في التجاوز عنه وترك العمل عليه ولو بالتوقّف والسكوت ظنّ العقوبة ، إذ لو أمكن السكوت وجب وكان طريقاً عمليّاً لعمل المكلّف ، وقد فرضنا تعذّره والخوف من ضرر ، ولا يستريب ذو مسكةٍ في وجوب التحرّز عنه فتعيّن العمل عليه ، وحيث إنّ الأمر في كلّ مسألة يتّفق الابتلاء بها منحصر في البناء على أحد الوجوه الممكنة والفتوى بمقتضاه للجاهل به عند الحاجة إليه ، فلا محيص عن إطلاق العمل بالظنّ في ذلك .

وأين ذلك ممّا زعمه القائل بالظنّ المطلق ، إذ ليس فيه ظنّ العقوبة ، بل الأصل طريق الأمن في ذلك وإلّا لجرى مثله في الموضوعات أيضاً ، فينبغي إذن الحكم بوجوب الاحتراز عن موارد الظنّ بالمنع بل الشّك أيضاً ، لأنّ ما ذكر في الأحكام يجري بعينه في الموضوعات ، ولئن أمكن توجيه المنع من القياس وغيره بالوجوه الّتي ذكرها المستدلّ فكيف يمكن توجيه المنع من العمل بالظنّ في الموضوعات الصرفة مع إطباق المسلمين على عدم العبرة به في الجملة ؟ مع أنّ الشكّ أيضاً قاض بالخوف الموجب للاحتراز في المقامين ، مع قيام الضرورة على عدم الحكم بالمنع بمجرّده ، بخلاف الشكّ في الطريق المرضيّ ، لما عرفت من رجوعه إلى التخيير ، لأنّ العمل بغيره عدول عن الطريق المحتمل إلى الطريق المقطوع بفساده .

فظهر بما ذكر وجه الخلط الحاصل من الجماعة في هذا الباب ، فاتّجه على استدلالهم بالوجه المذكور نحو من الإيرادات الواردة على الوجه السابق ، لقربه

ص: 721

إليه وانحصار وجه التفرقة بينهما في علّة المنع من العدول عن المظنون ، وأنّها هل هي قرب الظنّ إلى العلم ، أو رجحانه على الوهم ، أو استلزامه للضرر المظنون عند مخالفته ؟ مع اشتراك الوجوه الثلاثة في ساير المقدّمات مع تطّرق المنع إليها من عدّة من الجهات وانحصار مجراها في الطرق على نحو الموضوعات .

ومن جملة ما يرد على استدلالهم بالضرر أنّه إن تمّ فإنّما يدلّ على حجيّة الظنّ الموافق للاحتياط ، أمّا الظنّ بالبرائة عن التكليف الثابت أو المتعلّق بتعيين المكلّف به أو بالأسباب الشرعيّة أو بتعيين الحقوق الثابتة فليس في ترك العمل به مظنّة الضّرر ، إنّما يخاف الضرر من ترك الاحتياط في تلك الموارد .

دعوى الإجماع المركّب في الباب مدفوعة

ودعوى الإجماع المركّب في الباب مدفوعة بأنّ العمل في الأوّل إنّما هو بالاحتياط على الحقيقة ، لا بالظنّ من حيث هو ، وهذه الجهة هي التي تمنع من العمل به في الفروض المذكورة ، فالتحرّز عن الضرر إنّما يتحقّق بمراعاة الاحتياط مع الإمكان لا بمجرّد العمل بالظنّ .

فالدليل المذكور إنّما يدلّ على وجوب الاحتياط إلّا أنّه لمّا تعذّر الاحتياط على الوجه الكلّي لزم الاقتصار في سقوطه على القدر الثابت ، كما قرّر في الدليل الأوّل ، وأين ذلك ممّا قصدوه ؟

وأمّا على التقرير الذي ذكرناه فهو دليل على لزوم العمل بالظنّ في كلّ مقام ، لحرمة التعدّي في الفتوى والعمل عن الطريق الشرعيّ المقرّر ، فالظنّ به ظنّ بترتّب العقاب على ترك العمل به ، والحكم بمقتضاه وإن كان مؤدّاه هو الحكم بالإباحة والبرائة أو غير ذلك إنّما ينتفى العقاب حينئذٍ على مجرّد العمل ، وهو غير مقصود في المقام ، للقطع بجواز الاحتياط بإحراز جميع المحتملات لا على الفتوى به والحكم بمقتضاه كما هو المطلوب في هذا الباب مع الظنّ بكونه تعديّاً

ص: 722

عن الدليل وحكماً بغير ما أنزل .

اعتراض وجوابه

وأعترض أيضاً بأنّا لا نعلم بعد انسداد باب العلم بالأحكام ببقاء التكليف بها في حقّنا مطلقاً ، بل بشرط مساعدة طريق إليه نعلم بحجيّته ولو بملاحظة انسداد باب العلم فيتوقّف ثبوت الضرر بمخالفة المظنون وجوبه أو تحريمه على ثبوت حجيّة الظنّ بذلك عندنا فإذا توقّف هذا على ثبوت الضرر كان دوراً .

وفيه أنّ المعتبر في الدليل هو الظنّ بالضرر اللازم من الظنّ بالحجيّة والمطلوب وجوب التحرّز عنه ولزوم العمل بالظنّ فيه فلا دور ، على أنّك قد عرفت أنّ الظنّ بالدليل لا يكفى في المقام إنّما المعتبر هو الظنّ بطريق العمل بالفعل ووجوه الفرق بين المقامين ظاهرة ممّا تقدّم .

قد يراد بالضرر المفسدة الذاتيّة او الإخلال بالواجبات الشرعيّة

هذا كلّه إن اُريد بالضرر العقاب المترتّب على المخالفة ، وقد يراد به المفسدة الذاتيّة الثابتة في المحرّمات الواقعيّة أو الإخلال بالواجبات الشرعيّة التي تستتبعها التكاليف الحتميّة ، فإن كانت ثابتة في نفس الأمر على وجه يتحتّم الاحتراز عنها استقلالاً كالضرر المترتّب على السموم القاتلة والطرق المخوفة والأعمال الضارة التي لا يختلف الحال فيها باختلاف العلم بها والجهل تمّ الاستدلال به على وجوب العمل بالظنّ المتعلّق بالحكم الواقعي إذا كان من الأحكام الالزاميّة ، ولا يعقل فيه التمسّك بالبرائة وغيرها كما في الظنّ المتعلّق بترتّب الضرر في الموضوعات الخارجيّة ، فلا يجري فيها إذن شي ء من الاُصول المقرّرة في باب الموضوعات إلّا أنّ المفاسد الواقعيّة لا تصلح عللاً تامّة للمنع بنفسها ، لعدم الدليل على ذلك ، بل الدليل على خلافه ظاهر ، لاستلزامه قصر الحجّة في معرفة الحكم والموضوع على ما يؤدّى إلى الواقع في جميع المقامات وحصر الطريق فيما يستلزم الأمن من ترتّبها من جميع الجهات ، وفي ملاحظة

ص: 723

الطرق والاُصول المقرّرة في معرفة الأحكام والموضوعات ، ووضوح التفرقة بين احتمال الضرر الموجب للخوف والخطر واحتمال النجاسة وغيرها من وجوه المحرّمات أقوى شهادة على خلافه ، وإلّا فكيف جاز للشارع ، إيقاع المكلّفين في تلك المفاسد الذاتيّة بنصب الطرق المؤدّية إلى خلاف الواقع في غالب الموارد ، بل قد عرفت ندرةً إصابة الواقع فيها من جميع الجهات جدّاً .

المصلحة السلوكية ونقدها

اشارة

ودعوى(1) انجبار ضرر المخالفة في تلك الموارد بالمصلحة الحاصلة في العمل بالطرق الشرعيّة والاُصول المقرّرة مدفوعة بأنّها على تقدير تسليمها ينافي ماذكر من استتباع الأحكام الواقعيّة للمصالح والمفاسد الثابتة لما تقرّر عند الإماميّة من ثبوت تلك الأحكام بحسب الواقع والحقيقة وشمول التكاليف الواقعيّة في حقّ العالم والجاهل بالسويّة ، مع ما هو المفروض من زوال تلك المفاسد بإتباع الاُصول والطرق المعتبر ، فإنّما يدور المصالح والمفاسد مدار الطرق الظاهريّة مع ثبوت الأحكام بحسب الواقع على الوجه العامّ ، فلا يستلزم الظنّ بها الظنّ بتلك العلل ، إلّا أن يقال : إنّها مقتضيات للأحكام ومصالح الطرق مانعة من تأثيرها ، فيلزم العمل بالمقتضي حتّى يثبت المانع ، فالظنّ بالواقع ظنّ بالمقتضي من غير مانع ظاهر ، فيجب اتّباع مقتضاه .

دفع هذه الدعوى

وفيه : أنّ المقصود إثبات عدم استلزام الواقع للمفسدة الذاتيّة التي يتحقّق بها الضرر ، ويستقلّ بوجوب التحرّز عنها العقل ، فإذا ثبت ذلك فمن أين يعلم وجود المقتضي حتّى يجب إتّباعه قبل ثبوت المانع ؟ إنّما المسلّم وجود الحكم الواقعيّة المقتضية لتشريع الأحكام في نفس الأمر على كافّة المكلّفين ، أصابها

ص: 724


1- المُدعي هو الشيخ الاعظم الانصاري في فرائد الاصول 1 / 114 وما بعدها .

من أصابها وأخطأها من أخطأها ، وأين ذلك من الضرر الذي يستقلّ العقل بوجوب التحرّز عنه والتحفّظ عن الوقوع فيه والاجتناب عن موارد الخوف منه ؟

نقد الدفع

ولئن تمّ الاحتجاج بذلك لدلّ على الوجه الذي ذكرناه ، للقطع بأنّ الضرر المترتّب على مخالفة الواقع إنّما يترتّب على الواقع المدلول عليه بالطريق الظاهريّ المرضيّ للشارع ، دون الواقع الذي لا يوصل إليه الطريق المعتبر عنده ، شرعيّاً كان أو عقليّاً ، فمجرّد الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بالضرر بعد الشكّ في طريقه ، لاستلزامه الشكّ في ترتّب الضرر على مخالفته ، إنّما يتحقّق الظنّ بالضرر مع الظنّ بالطريق ، سواء اجتمع من الظنّ بالواقع أو انفرد عنه ، فإنّ حكم الطريق أيضاً من الأحكام الحتميّة الّتي يحرم التعدّي عنها ، فيترتّب المفسدة المذكورة على العدول عنه أيضاً ، بل هو أولى لفعليّته وتنجّز الخطاب به وبقاء ما عداه على مجرّد الشأنيّة والقابليّة الّتي لا يحكم العقل بمراعاتها ، فالمفسدة المفروضة إنّما يتحقّق في مخالفة الأحكام الفعليّة الّتي تدلّ عليها الطرق المعتبرة في نظر الشارع ، فالظنّ بالطريق على الوجه الّذي ذكرناه يستلزم الظنّ بالمفسدة المذكورة ، فيجب الاحتراز عنها على ما ذكر .

القول بأنّ الظنّ بالواقع مع الشكّ في الطريق كافٍ في حصول الخوف الموجب للاحتراز مدفوع

اشارة

والقول بأنّ الظن بالواقع مع الشكّ فى الطريق أيضاً كافٍ في حصول الخوف الموجب للاحتراز مدفوع بأنّه إن أمكن العلم بطريق الفتوى في المسألة المفروضة فلا شكّ في حصول الأمن بالعمل بمقتضاه ، وإن حصل الظنّ به كان ما عداه موهوماً ، فلا يحصل الخوف به ، ومع الشكّ ودوران الطريق بين أمرين أو اُمور فلا محيص عن الحكم بالتخيير ، فيكون طريقاً للأمن قطعاً ، إذ لا معنى للجمع أو الأصل حينئذٍ ، لإندراجها في الطريق المفروض أيضاً ، على ما مرّ تفصيل القول فيه ، إنّما يمكن الاعتراض بذلك على طريقة صاحب الفصول ، وقد

ص: 725

تقدّم .

واعترض على الاحتجاج المذكور بوجوه ؛

الوجه الأوّل من الاعتراض على الاحتجاج المذكور

الأوّل : إنّ دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين أو التقبيح العقليّين احتياط مستحسن لا واجب .

حكى عن ابن الحاجب(1) وهو غريب ، وإن لم يكن بأعجب من إنكاره للأصل المذكور ؛ وردّه المصنّف - طاب ثراه - بلزوم إفحام الأنبياء عليهم السلام كما احتجّوا به في إثبات الأصل ، وبأنّ وجوب ذلك من المسلّمات الّتي لا مجال لإنكارها ، ولذا خصّوا النزاع في حكم الأشياء قبل الشرع بخلّوها عن أمارات المفسدة ، قاطعين بالمنع من المشتمل عليها ، بل صرّح غير واحد من محقّقي أصحابنا باختيار المنع في محلّ الخلاف أيضاً ، قاطعين بقبح الإقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحاً أيضاً .

وقد احتجّوا بالقاعدة المذكورة أيضاً في مسألة وجوب شكر المنعم ، وقطع الفقهاء باستباحة المحظورات وترك الواجبات بمجرّد الخوف المذكور بتحريم الإقدام على موارده ، وهو من الوضوح بمكانٍ .

ثمّ إنّ تفريع المسألة على الأصل المذكور ليس على ما ينبغي ، لتطابق الأدلّة الأربعة على الحكم المذكور ، فإن أسقطوا حكم العقل في ذلك فلا مجال لإنكار ساير الأدلّة عليه ، وفي قوله - عزّ من قائل - : «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ . . .»(2) شهادة على قبح الإقدام على ما لا يؤمن فيه الضرر في الجملة ،

ص: 726


1- شرح مختصر الاصول / 163 ، وهو شرح العضدي على متن الحاجبي .
2- سورة النحل / 45 .

وكونه من ضروريات العقول ، وورد التصريح بالنهّي عن إلقاء النفس في التهلكة(1) والأمر باتّقاء مواردها(2) في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة ، وظاهره وجوب الاحتراز عن الضرر المخوف ، وقد انعقد عليه إجماع المسلمين بل اجماع العقلاء كافّة ، فالمناقشة المذكورة غير معقولة .

الوجه الثاني من الاعتراض على الاحتجاج المذكور

الثاني : أنّ الحكم المذكور يختصّ بالاُمور الدنيويّة فلا يجري في غيرها ، كما عن الشيخ(3) وإبن زهرة(4) وهو منهما أعجب شي ء ، وكأنّ غرضهما من ذلك وجود طريق الأمن في الأُمور الاُخرويّة ، نظراً إلى ما دلّ على البرائة من العقل والنقل ، بخلاف الأُمور الدنيويّة التابعة لموضوعاتها الواقعيّة من غير تعقّل تأثير للعلم والجهل فيها ، وهو إذن مناقشة في موضوع الحكم المذكور لا في أصله .

أو أنّ غرضهما من الضرر ما عرفت من المفاسد الواقعيّة الّتي يستتبعها التكاليف الإلزاميّة على مذهب العدليّة ، وهي وإن كانت حاصلة في الدنيا بمخالفتها إلّا أنّ الكاشف عنها حكم الشارع بها وآثارها ، وإنّما تظهر في الآخرة .

والغرض أنّ تلك المفاسد مع قطع النظر عن التكليف بالاحتراز عنها وترتّب العقاب على الاقتحام فيها ليست باُمور يقطع العقل بوجوب الاحتراز عنها من حيث نفسها مع قطع النظر عن العلم والجهل بها على نحو المضارّ الدنيويّة ، وإنّما يستقلّ بحسن التكليف بالاحتراز عنها ، وفي جريان أصل البرائة والإباحة في موارد الظنّ القويّ بحصولها أقوى شهادة على ذلك ، لما في دعوى

ص: 727


1- سورة البقرة / 195 .
2- اُنظر سورتي النور / 63 والأنفال / 25 .
3- العدّة 2 / 742 و 747 .
4- غنية النزوع 2 / 363 .

انجبارها بالمصالح الحاصلة في العمل بالطرق من التكليف والفساد والمنع ما لا يخفى .

والحاصل : أنّ تلك المفاسد الباعثة على نهي الشارع لا يستقلّ بنفسها في حكم العقل على فرض اطّلاعه عليها بوجوب التحرّز لو لا نهيه عنها ، إنّما يحكم العقل به بعد تعلّق الخطاب الشرعيّ بلزوم الاجتناب ، فلا يثبت قبل ثبوت الخطاب ، وإلّا فلا يعقل توهّم كون العقاب الاخُروى أهون في حكم العقل من الضرر الدنيويّ الذي نسبته إليه في كلّ واحد من الكميّة والكيفيّة كنسبة الواحد إلى غير المتناهي ، إذ هو كلام إن لم يضحك منه الثكلى فلأجل عدم الالتفات إلى هذا المعنى ، وإنّما لايلتفت إليه أكثر الناس لقصور فهمهم الفاتر ، وضعف يقينهم باللَّه سبحانه واليوم الآخر .

الوجه الثالث من الاعتراض على الاحتجاج المذكور

الثالث : إنّ العدليّة متّفقون على وجوب نصب الدليل على التكاليف الشرعيّة ، فلا معنى لترتّب الضرر مع انتفائه ، لتطابق الأدلّة الأربعة على أنّ ترتّب العقاب موقوف على إقامة الحجّة وإزاحة العلّة وانقطاع العذر بالكلّيّة ، ومجرّد المنع من لزوم الدلالة القطعيّة كاللطف الحاصل في ظهور الإمام لإجراء الأحكام لا يقضي بإثبات التكليف بدونها ، كيف وأدلّة أصل البرائة من العقل والنقل متظافرة .

نعم ، يكفي فيه عندنا مجرّد العلم الإجمالي الحاصل في المحصور ، لكنّه لا يكفي عند المجيب ، إلّا أن يستند في خصوص المقام إلى قيام الإجماع بالخصوص على ثبوت التكليف ، فيتوقّف على انضمام مقدّمات الدليل الأوّل إليه ، وهو مع رجوعه إلى الأوّل كما أفاده المصنّف قدس سره في المقام قد تقدّم فيه الكلام وقد عرفت أنّ محصّله إن تمّ فهو قصر الاحتياط الواجب على

ص: 728

المظنونات ، لا من جهة قرب الظنّ إلى العلم - كما ذكره المصنّف قدس سره - ولا من جهة قرب الظنّ بالضرر - كما اعتبره المستدلّ في المقام - فإنّ شيئاً منهما لايمنع من جريانه في مطلق المجهولات على ما هو الأصل في محلّ الفرض ، فالمدار على وجود المانع من الحكم بوجوب مطلق الاحتياط ، فيقتصر في إسقاطه على المتيقّن ممّا خرج عن موارد الظنّ المطلق إن قلنا به ، ويعمّ الحكم لجميع الظنون على الأصل المذكور ، وهذا وإن لم يتوقّف على ما ذكره المصنّف - طاب ثراه - من نفى الترجيح بين الظنون إلّا أنّ العمل بالظنّ من باب الاحتياط كما عرفت فيما سبق لا ربط له بالقول بكونه حجّة شرعيّة ، فلابدّ للمستدلّ من إثبات ذلك بدليل آخر ، وليس في التحرّز عن الضرر المظنون دلالة على ما يزيد على حكم الاحتياط الثابت بالأصل في محلّ الفرض ، فلا يوجب اختلاف الدليل ، إذ الأصل المذكور أيضاً مبنيّ على التحرّز عن ضرر المخالفة .

نعم ، يتحقّق إذن اختلاف التقرير ، والأمر فيه سهل ، إنّما الشأن في إثبات المدّعى ، فإن أمكن الاستدلال عليه بما ذكره المصنّف قدس سره من قرب الظنّ إلى الحجّة الأصليّة - اعني العلم - فيتّحد مع الدليل الأوّل ، وهو مع عدم نهوضه حجّة على ذلك - كما عرفت - يجري فيه جميع ما فصلّه المصنّف قدس سره سابقاً ، كما أجمله في هذا المقام .

الوجه الرابع من الاعتراض على الاحتجاج المذكور

الرابع : النقض بالظنون الممنوعة ، وما أجاب به المستدلّ عن بعضها من إنكار المنع أو حصول الظنّ منه مع ما فيه ممّا لا يخفى لا يجدي شيئاً ، لبقاء النقض بغيره كالظنّ المتعلّق بالموضوعات الواقعيّة ، للقطع بعدم اعتباره في الشريعة مع جريان ما ذكره فيه بعينه ، وكذا الظنّ المتعلّق بالحكم في مسألة واحدة مع انفتاح باب العلم بغيرها ، والظنّ الحاصل للعاميّ بفتوى مجتهده أو

ص: 729

للمجتهد قبل استفراغ وسعه إذا لم يتهيأله ذلك ، وهكذا .

واُجيب بأنّ الشارع إذا لغى ظنّاً تبيّن أنّ في العمل به ضرراً أعظم من ضرر تركه .

ورُدّ بأنّ موافقة المظنون حذراً من ترتّب الضرر على مخالفته ممّا لا يتصوّر فيه ضرر أصلاً ، بل هو من الاحتياط الذي يستقلّ بحسنه العقل .

نعم ، متابعته من حيث التديّن والالتزام تشريع محرّم ، وربّما كان ضرره أعظم من الضرر المظنون ، لكنّه لا يختصّ بما علم المنع منه من الظنون ، بل يجري في كلّ ما لم يثبت حجيّته ، فالأولى تبديل الجواب بإمكان أن يكون في العمل بالأمارات التي قد تصادف الواقع مصلحة يتدارك بها تلك المفسدة وتزيد عليها حتّى يتحتّم الأمر بسلوكها .

وأنت خبير بأنّ تسليم استتباع الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد الواقعيّة على ما ذكر يستلزم القول باختلاف الأحكام الواقعيّة بحسب اختلاف الأمارات الشرعيّة في مصادفة الواقع وعدمها ، وهو رجوع إلى القول بالتصويب الباطل بإجماع الفرقة ، فمتى قلنا بعدم اختلاف الواقع باختلاف الطريق في الإيصال إليه لزمنا القول بعدم اختلاف المصالح والمفاسد الواقعيّة بحسب ذلك ، فهي باقية على حالها لا تتغيّر ولا تتبدّل بالمصالح الحاصلة في الطّرق الشرعيّة ، فإنّ المصالح الحاصلة فيها من حيث كونها طرقاً لادخل لها بالمصالح الحاصلة في الأفعال الواقعيّة من حيث نفسها ، والحكم الواقعي وإن تفرّع في الغالب على تلك المصالح إلاّ أنّ الحكم الظاهريّ الّذي هو مناط الصواب والعقاب إنّما يدور مدار تلك الطرق ، وقد تقدّم .

الوجه الخامس من الاعتراض على الاحتجاج المذكور

الخامس : إنّه إن اُريد من الضرر المظنون العقاب فلم يثبت ترتّبه على

ص: 730

مخالفة الواقع حتّى يلزم من الظنّ بها الظنّ به على صدق المعصية ، فينتفي في صورتي الجهل البسيط والمركّب .

وإن اُريد المفسدة فمع احتمال تداركها بمصلحة فعل آخر لا يبقى الظنّ بالضرر حتّى يحكم العقل بالاحتراز عنه .

واُجيب تارةً باختيار الأوّل ، فإنّ نفي العقاب في الصورتين إنّما هو لحكم العقل بقبح التكليف مع الشكّ أو الظنّ بالعدم ، أمّا مع الظنّ به - كما هو المفروض - فلا يحكم العقل فيه بنفي العقاب ، ولا إجماع في موضع النزاع .

وتارةً بأنّ ما ذكر من اقتضاء ظنّ الضرر لوجوب الاجتناب كافٍ في استحقاق العقاب .

واُخرى باختيار الثاني ، فإنّ رفع اليد عن المقتضي بمجرّد احتمال المعارض والمانع خارج عن طريقة العقلاء ، فالظنّ بوجود مقتضي المفسدة مع الشكّ في حصول المانع كافٍ في وجوب الدفع ، كما في صورة القطع بوجود المقتضي ، بل المدار في جميع غايات حركات العقلاء من المنافع المقصودة والمضارّ المدفوعة على المقتضيات ، لامتناع الاحاطة بالموانع والمزاحمات في جميع المقامات .

ويرد على الأوّل : أنّ اللازم على المستدلّ إثبات ترتّب العقاب على مخالفة الواقع واستلزامها له حتّى يستلزم الظنّ بها للظنّ به ، ولا يكفي في تحقّق موضوع الضرر المظنون مجرّد المنع والاحتمال ، فإذا لم يثبت ذلك بشرعٍ ولا عقلٍ لم يتحقّق الظنّ بالضرر ، على أنّ ما دلّ من الكتاب والسنّة بل الإجماع والعقل أيضاً على نفي العقاب قبل إتمام الحجّة وقيام الدليل الموصل إلى العلم بالحكم شامل لصورة الظنّ به أيضاً ، إذ يصدق معه عدم العلم ، فيكون مرفوعاً

ص: 731

عن هذه الأُمّة ، فكيف يحصل الظنّ بالضرر في المقام ؟

ومع الغضّ عن قيام الدليل القطعيّ على القاعدة المذكورة فلا أقلّ من قيام الدليل الظنّي عليها ، وشمول الأخبار الواردة فيها للظنّ بالتكليف أيضاً ، فينتفي الظنّ بالضرر فيه كما لا يخفى .

وعلى الثاني : أنّه إذا كان المأخوذ في الدليل المذكور تحقّق الظنّ بالعقاب كان إتمامه موقوفاً على حصوله ، فلو توقّف حصوله على الدليل المذكور لزم الدور .

نعم ، لو قلنا بلزوم الاحتراز عن الضرر المشكوك فيه أمكن القول به في المقام ، بناءً على عدم ثبوت الدليل على نفي العقاب في صورة الظنّ بالحكم ، فيمكن ثبوت العقاب حينئذٍ [و] في كلّ من الصغرى والكبرى منع ظاهر ، على أنّه قد يحصل الظنّ بالطريق فيرتفع الشك أيضاً .

وعلى الثالث : أنّه لمّا كان مدار الاستدلال على الظنّ بالضرر فإذا انتفى موضوعه بما قرّر في الإيراد لم يبق على حاله ، سيّما مع حصول الظنّ بترخيص الشارع في ترك مراعات الظنّ المفروض ، على أنّك قد عرفت المنع من كون الباعث على الحكم المفروض مجرّد الضرر ، فتدبّر .

الوجه السادس من الاعتراض على الاحتجاج المذكور

السادس : إنّ في نهي الشارع عن العمل بالظنّ إلاّ ما خرج بالدليل ترخيصاً في ترك مراعات الضرر المظنون ، بل دلالة على انتفاء موضوعه على نحو الظنون الممنوعة بالخصوص ، لوضوح عدم الفرق بين ثبوت المنع بالدليل العامّ أو الخاصّ .

واُجيب بأنّ النهي عن العمل بغير العلم إنّما دلّ على حرمته من حيث عدم إغنائه عن الواقع ، لا في مقام إحراز الواقع والحذر عن مخالفته من باب

ص: 732

الاحتياط .

وفيه : أنّه لاشكّ في دلالة تلك الأدلّة على المنع من الإفتاء بمجرّد الظنّ وإن صادف الواقع فيدلّ على أنّ المدار في موارده على سائر الطرق ويلزمه الغاء الواقع حيث لا تؤدّي إليه فمن أين يحصل الظنّ بالضّرر ؟ إلّا أن يقال : إنّ المنع عن العمل بغير العلم شامل لتلك الطرق أيضاً إذ المفروض عدم حصول العلم في محلّ المسألة وحيث أنّه لا محيص عن البناء على بعض تلك الوجوه فلابدّ مع تعذّر العلم به من العمل بالظنّ به ومعه لا يظنّ بالضرورة ولا يشكّ مطلقاً وذلك ما قرّرناه في الظنّ بالطريق ، واللَّه سبحانه وليّ التوفيق .

خاتمة وفيها ترسيم اُمور

اشارة

ولنختم الكلام في المقام برسم اُمور ؛

الأوّل : حجيّة الظنّ كما يجري في حقّ المجتهد يجري في حقّ المقلّد والمتجزّي

اشارة

الأوّل : إنّ ما قدّمناه من حجيّة الظنّ على الوجه الذي حقّقه المصنّف قدس سره كما يجري في حقّ المجتهد كذا يجري في حقّ المقلّد والمتجزّي كما سبق التنبيه عليه في تضاعيف الأبحاث السابقة ، ولنذكر توضيح ذلك في حقّ كلّ واحدة من الفرق الثلاث ؛

الفرقة الاُولى : يمكن تقرير حجيّة الظنّ في حقّ المقلّدة بوجوه

منها : أنّه لاشكّ في كون المقلّد مكلّفاً بالتقليد فيما عدا القطعيّات عنده من الأحكام الشرعيّة ، بل هو من الأُمور الضروريّة الّتي يشترك الخواصّ والعوامّ في العلم بها ، وليس من الأحكام النظريّة المتوقّفة على الاجتهاد حتّى يلزم الرجوع فيه أيضاً إلى المجتهد ليلزم الدور ، إلّا أنّه قد يشتبه على بعض العوامّ كما اشتبه

ص: 733

على بعض فقهاء حلب فيما يحكى عنهم(1) فإن لم يتّفق منهم التردّد في حكم المسألة المذكور أو رجعوا فيه إلى الفقهاء وأخذوا بقولهم في ذلك من غير التفات منهم إلى ما فيه من الدور صحّ عملهم وليس عليهم في ذلك شي ء ، وإن اتّفق منهم التردّد والالتفات إلى امتناع التقليد فيه فإن أمكنهم تحصيل العلم بحكم تلك المسألة ولو بتحصيل مقدمّاته أو الرجوع إلى أهل العلم به أو الفحص عن وجوه الاحتجاج فيه وجب .

وتعسّر الالتزام به على نوع المكلّفين لايمنع من وجوبه في الفرض المذكور ، لأنّه لا يتّفق إلّا نادراً في حقّ بعض من غلبت الشبهة عليه ولم يمكن الخروج عنها إلّا بما ذكر .

نعم ، لو أدّى اجتهاده في ذلك إلى العسر والحرج في حقّه خاصّة فمتضى الأدلّة إلحاقه بالتعذّر ، إلّا أنّه ليس من أهل العلم به ، لأنّه أخفى من أصله ولا يمكنه التقليد فيه ، فلا محيص له عن تحمّله حيث ينحصر طريق اليقين فيه .

أمّا إذا تعذّر ذلك فاللازم عليه تحصيل البرائة المعلومة عن التكاليف المعلومة ولو بالجمع بين الطرق الممكنة في حقّه مهما كان له إلى ذلك سبيل ، وذلك أنّ كلّ ذي شعور يقطع بتقديم طريق اليقين على غيره ، فإن تعذّر عليه ذلك فلا محيص له عن العمل بالظنّ في تعيين الطريق المطلوب منه في تلك الحال بعد بذل جهده في تحقّقه ، فإن ظنّ بالتقليد فقد أصاب ، وإن ظنّ بوجوب رجوعه إلى

ص: 734


1- المراد ببعض فقهاء حلب : أبو الصلاح الحلبى في الكافي / 114 وابن زهرة الحلبى في غنية النزوع 2 / 414 ويحكى الشهيد عنهما في ذكرى الشيعة 1 / 41 وثانيه في المقاصد العليّة / 52 والشيخ حسين العاملى والد شيخنا البهائي في شرح الألفية / 29 مخطوطة .

الكتاب والسنّة بحسب وسعه وطاقته أو إلى كتب الفقهاء الماضين بقدر فهمه ولو بسؤال العارف باللغة عن معناها أو العالم بطرق الاستدلال عن موضع الدلالة منها أو غير ذلك من الوجوه الممكنة إذا تيسّرت في حقّه ، بل وإن تعسّرت ، إذا فرض ظنّه بوجوب تحمّل هذا الحرج على نفسه ، فلا محيص معه عن العمل بذلك الظنّ ، وإن كان خطأ بالبديهة ، إنّما يجب على المطّلع على حاله تنبيهه على خطأه وإرشاده إلى تكليفه إن أثر في نفسه ، وذلك لأنّ ترك العمل بظنّه المذكور يستلزم اقتحامه في الضرر المظنون ، وترجيح التقليد مثلاً عليه ترجيح للمرجوح عنده على الراجح ، وانسداد باب العلم وبقاء التّكليف في حقّه يوجب إنتقاله إلى الظنّ المذكور فالأدلّة المتقدّمة على ما قرّرناه وفصّلناه ظاهره التطابق والانطباق عليه ، فلا يصحّ في حكم العقل تكليفه بأكثر من ذلك .

هذا إذا أدرك بعقله هذا المعنى ولو على وجه الظنّ ، أمّا إذا جهله فلا محالة يرجع ظنّه إلى الشكّ ويتساوى عنده العمل بالتقليد والظنّ المذكور ، فحيث يتعذّر جمعه بينهما لا محيص له عن اختيار أحدهما مخيّراً بينهما ماداما متساويين من جميع الجهات عنده ، فيكفيه ذلك إن علمه أو ظنّ به ، بل وإن احتمله ؛ وكذا لو لم يحصل له ظنّ من أصله ، فيعمل بأحد المحتملات المتساوية ، لأنّه غاية الممكن في حقّه إلّا أنّه مخصوص بكلّ مسألة لا سبيل له فيها إلى غيره .

ولا يخفى أنّ البحث في هذه المسألة قليل الفائدة ، لأنّ من بلغ في الجهل هذا المبلغ لا سبيل له إلى فهمه إلّا بأخذه عن غيره فيأمره بالتقليد .

ومنها : أنّه قد يشتبه على المقلّد شرايط المفتي ، فإن وجد في المجتهدين موضع اليقين أو أمكنه تحصيل العلم بما هو المعتبر منها على التعيين ولو بالتقليد الصحيح تعيّن عليه اختيار أحدهما ، فإذا دار أمره بين مجتهدين أو أكثر وأمكنه

ص: 735

الجمع بين آرائهم كان ذلك من طرق اليقين ، وكذا لو أمكنه الاحتياط في المسألة الفرعيّة من غير تقليد .

والمناقشة بوقوع الخلاف في جوازه مناقشة في موضوع الاحتياط ، إذ المراد به تحصيل اليقين بالبرائة ، على أنّ الخلاف مخصوص بالعبادات دون المعاملات وترك المحرّمات وإزالة النجاسات وغيره ، وأمّا إذا تعذّر عليه جميع طرق اليقين تعيّن عليه العمل بما عرفت من الظنّ بالطريق بعد بذل وسعه فيه إن علمه ، وإلّا فبما ترجّح عنده لرجوعه إليه ، فإنّ الذي يترجّح في نظره هو الطريق المظنون وإن كان خطأ ، وإنّما يجب على المطّلع على حاله إرشاده إليه إن أمكن كما عرفت .

ومنها : أنّه قد لا يمكنه تحصيل العلم بفتوى المجتهد ولو بالطرق المعتبرة ، إمّا لوجود المانع من الوصول إليه أو لضيق وقت العمل عنه ، فإن أمكن الاحتياط تعيّن وإلّا دار أمره بين تحصيل الظنّ بالواقع والظنّ بالفتوى والرجوع إلى فتوى بعض العلماء الماضين ، فإن أمكنه التقليد الصحيح في هذه المسألة كان ذلك أيضاً من طرق اليقين ، وإلّا لزمه التحرّي في ترجيح أحد الوجوه الثلاثه بقدر الوسع والطاقة ، والأخذ بالأرجح منها في هذا الباب وان لم يوافق الصواب ، فإن تساوت عنده تعذّر الترجيح ، فمتى لزمه العمل في تلك الحال تخيّر ، ولا يلزم الاحتياط المطلق لعموم البلوى حينئذٍ ، فيلزم في نوع هذا التكليف من العسر والحرج ما لا يخفى ، لكنّ المقلّد قد يتحيّر في تلك المسألة أيضاً فإن أمكنه التخلّص ببعض طرق اليقين وجب ، وإلّا تعيّن عليه الأخذ بأرجح الطرق في نظره بعد بذل وسعه حيث يتعيّن العمل ، كما لو ترّدد بين العلماء الماضين أو بين عمله بظنّه وأخذه بفتواهم ، أو بين الالتزام بالحرج في الاحتياط وبين أحدهما .

ص: 736

ومنها : أنّ اللازم تقليد الأفضل في مسألة تعيين الرجوع إليه أو مطلقاً ، وقد يترّدد الأفضل بين المحصور ويتعذّر العلم به والاحتياط فيه وفي المسألة الفرعيّة معاً ، فيلزم الأخذ بالظنّ بالطريق حيث يتعيّن العمل على ما ذكر ، وكذا لو ترّدد بين الأفضل والأورع حيث يختلفان .

ومنها : أنّه لو قلّد المجتهد فمات وتردّد بين بقائه عليه أو عدوله عنه إلى الحيّ ، لزم تقليده في تلك المسألة ، فإن كانت من المسائل التي قلّد الأوّل فيها تعيّن عليه طرح تقليده السابق ، لاستلزام عمله به للدور ، ويلزمه تجديد التقليد في هذه المسألة ، فإن وافق الأوّل فقد أصاب طريق اليقين ، وإن خالفه كان في العدول عن الأوّل بالثاني أيضاً من الدور ما لا يخفى ، فيلزمه مع تعذّر طريق اليقين وتعيّن العمل الأخذ بأرجح الأمرين في نظره ، ومع التساوي فالتخيير .

والوجه أن يقال : إن أوجب الأوّل البقاء والثاني ، العدول قدّم الثاني إذ تعذّر البناء على الأوّل يوجب إلحاقه بالعدم ، فلا محيص له عن الثاني فينتفي الدور ، وإن أوجب الأوّل العدول أو ذهب إلى التخيير والثاني البقاء عليها وجب العدول عنها خاصّة . نعم ، البقاء عليها على الوجه الثاني طريق اليقين .

نعم ، قد يتحيّر العامي في تلك المسألة ، فلا يمكنه مع التحيّر شي ء من العدول والبقاء إلاّ بالترجيح المذكور وقد يشتبه الحكم حيث يكون الأوّل أفضل فلا يمكنه العدول إلى المفضول بتقليده ، ولا البقاء على الأفضل بتقليده فيلزمه مع تعذّر الاحتياط وتعيّن العمل الأخذ بأرجح الأمرين ، على ما ذكرناه .

ومنها : أنّه لو قلّد مجتهداً في تحريم العدول عن التقليد ولو إلى الأفضل ثمّ اتّفق وجود الأفضل وذهابه إلى وجوب العدول إليه ، فلا يمكنه البقاء على التقليد الأوّل بنفسه ، ولا الأخذ بالثاني بنفسه ، فيلزم الأخذ بأرجح الأمرين بشرايطه ؛

ص: 737

وكذا لو قلّد الأوّل في وجوب العدول إلى الأفضل ، وذهب الثاني إلى تحريمه . أمّا لو ذهب إلى التخيير كان العمل بالآخر طريق الجمع .

وقد ظهر ممّا قرّرنا أنّ المرجع في المسائل المذكورة وما ضاهاها هو الظنّ بالطريق بشرايط وإن كان ناشئاً من النظر العاميّ ، نظراً إلى كونه عقليّاً فلا يمكن تخصيصه ببعض موارده ، ولو لا ذلك لم يعقل أن يكون ظنّ العوام بالأحكام معتبراً في الشرع ، ومعه فإنّما نقول بعموم الحكم عند استجماع شرايطه ، ولا نقول بخروج شي ء من موارده حينئذٍ عنه كما يلتزمه القائل بالظنّ المطلق ، إذ من جملة الظنون الممنوعة عنده هو ظنّ العامي ، لتخصيصه الحكم بظنّ المجتهد ، فكيف يصنع بالمسائل المذكورة ؟ بل ليس المرجع فيها هو مطلق الظنّ بالواقع بالبديهة إلّا إذا ترجّح لديه العمل به وكونه طريقاً له في تلك الحال ، على ما عرفت .

الفرقة الثانية : تقرير حجيّة الظنّ في حقّ المتجزّي

الفرقة الثانيّة : أهل التجزّي في الاجتهاد إن قلنا بإمكانه كما هو الحقّ ، فإن لم يمكنه الاجتهاد في نفس مسألة التجزّي تعيّن عليه التقليد فيها ولا إشكال فيه ، وإن أمكنه ذلك لم يمكن اعتماده فيه على اجتهاده ولا رجوعه فيه إلى التقليد ، لرجوع كلّ منهما إلى الاستناد في الحكم بحجيّة الشي ء وجواز العمل عليه إلى بعض أفراده ، فيستلزم توقّف الشي ء على نفسه .

نعم ، إن حصل له القطع بأحد الطريقين فليس ورائه شي ء ، أمّا لو كان متردّدا في تلك المسألة أو ظانّاً بأحد الجانبين فقضيّة الأصل في حقّه أوّلاً رجوعه إلى الاحتياط مع إمكانه بأحد وجوهه وعدم استلزامه للحرج في حقّه ، أو بالنسبة إلى غير ما فيه الحرج ، لعدم لزوم الحرج في نوعه لاختصاصه بمكان مخصوص في حال مخصوص ، ولتعدّد طرق اليقين في حقّه ، لتحقّقه تارةً

ص: 738

بمراعاة ما يحصل منه القطع بالواقع ، وتارةً بمراعاة التوافق بين ما ظنّه وما يظنّه المجتهد المطلق ، لدوران أمره بين الأمرين وإتيانه على كلّ من الوجهين ، واُخرى بالجمع بين ظنّه وظنّ المجتهد المطلق في مسألة التجزّي ، فإن تطابقا على جوازه حصل له القطع بأداء التكليف في الظاهر بعمله باجتهاده ، فإن وافق الواقع في تلك المسألة فذاك وإلّا كان مأموراً بالعمل بفتوى المجتهد المطلق ، والمفروض تحقّق التقليد له في مسألة التجزّي ، فيكون في فروعه مقلّداً له أيضاً على الوجه الكلّي ، وكذا الحال لو تطابقا على وجوب التقليد عليه ، لتحقّق أداء التكليف في الظاهر بتقليده على كلا التقديرين ، فإن تعذّر ذلك كلّه أشكل الأمر في حقّه .

ويمكن الفرق بين صورتي المخالفة بأنّه إن أدّى نظره إلى وجوب التقليد فيرجع إلى المجتهد القائل بوجوب عمله برأيه كان عمله برأيه حينئذٍ جمعاً بين الوجهين أيضاً ، لأنّه إن كان جايزاً في الواقع فقد أصاب تكليفه وإلّا كان عمله بذلك مستنداً إلى ما كلّف به من العمل بقول الغير ولو على الوجه الكلّي وان كان ذلك ضدّه ونقيضه لاندفاع المناقضة باعتبار الحيثيّة فإنّه إنّما يأخذ برأيه في الفروع من حيث أنّ المجتهد يأمره به لا من حيث أنّه رأيه .

وأمّا إذا أدّى نظره إلى وجوب عمله برأيه ولم يوافقه عليه أحد من علماء عصره كان كلّ من الأمرين محلّاً للشبهة في حقّه ، إلّا أنّه لمّا دار أمره بين الظنّين وتعذّر عليه العلم بأحدهما والرجوع إلى الطريق العلمي فيهما تعيّن عليه الأخذ بالمظنون منهما ، فإذا أدّى اجتهاده في ذلك إلى وجوب عمله عليه تمّ الرّجوع إليه ، لا من باب الاستناد في أمر نفسه إلى اجتهاده ، ولا من جهة حجيّة الظنّ المطلق بالواقع عند انسداد باب العلم به ، بل لحكم العقل باعتبار الظنّ بالطريق

ص: 739

في حقّه كما في نظائره .

ولذا لو أدىّ ظنّه إلى المنع من العمل باجتهاده وتعيّن التقليد لزمه التقليد وامتنع حجيّة ظنّه بالواقع في حقّه ، فليس رجوعه إلى التقليد حينئذٍ مستنداً إلى شي ء من الاجتهاد والتقليد ، لكونه ضدّ الأوّل وعين الثاني ، بل إلى ترجيح أحد الطريقين المنحصرين على ما يحكم به العقل .

وأمّا إذا تردّد بين الطريقين وتعذّر عليه ترجيح أحد الجانبين رجع في ذلك عند تعذّر الاحتياط على الوجوه المذكورة إلى التخيير ، فإنّ كون أحد الطريقين المنحصرين من جنس الظنّ لا يقضي برجحان بنائه عليه وعمله بمقتضاه وهو ظاهر .

فما قيل من تعين أخذه بظنّه بعد انسداد سبيل العلم بالواقع ، واضح الفساد على ما مرّ ، إذ اللازم حينئذٍ مراعاة ما هو الراجح عنده في البرائة عن التكليف ، دون ما يظنّ معه بأداء الواقع ، فلا وجه للترجيح مع تساوي الطرفين بالنسبة إلى أداء التكليف .

ويظهر من المصنّف - طاب ثراه - في بعض المباحث السابقة تعيّن العمل بالظنّ بالواقع مع تعذّر الظنّ بالطريق ، ومقتضاه فيما نحن فيه تقديم عمله برأيه على التقليد مع تساويهما في الطريقية ، لكنّه قدس سره صرّح في هذه المسألة بالتخيير ، فكأنّه قدس سره عدل عمّا قرّره هناك ، أو يكون الأوّل جارياً على وجه المماشاة مع الخصم لا واقعاً على الحقيقة ، أو مبنيّاً على رجحان أخذه بالظنّ في نظره ، وسنشير إليه إن شاء اللَّه تعالى في هذا المقام .

الفرقة الثالثة : تقرير حجيّة الظنّ في حق أهل الاجتهاد المطلق

الفرقة الثالثة : أهل الاجتهاد المطلق ، فلو دار أمرهم بين العمل بالظنّ بالواقع أو بالطريق - نظراً إلى الخلاف الواقع بيننا وبين القوم - أو بساير الوجوه

ص: 740

المحتملة في المسألة فلا شكّ في لزوم ترجيح أحد الطرق المفروضة ، لقبح البناء على أحدها بدونه ، فإن ترجّح الأوّل في نظرهم كان هو الطريق المظنون فيرجع إلى الثاني ، وإن رجّحوا غيره جرى في العمل بالأوّل جميع ما ذكروه من المحذور في ترك العمل بالظنّ من قبح ترجيح المرجوح ، والوقوع في الضرر المخوف ، واستلزام الانسداد للعمل بالظنّ ، فيتعيّن الثاني على التقديرين وذلك ما أردناه ، وبه يهون الخطب في هذه المسألة .

وهناك موارد كثيرة يظهر فيها تعيّن العمل بالظنّ بالطريق دون الواقع ، وقد مرت الإشارة إلى جملة منها في تضاعيف المباحث السابقة ، وقس عليها سائرها ، لجريان الكلام المذكور بعينه في جميع نظائرها .

فكما أنّه لو تعذّر عليه العلم ببعض الموضوعات الخارجيّة كتميز الحيض عن الاستحاضة أو غيرها ، أو إلحاق الولد بأحد الواطئين ، أو تشخيص المحقّ من المتداعيين - إلى غير ذلك - لم يجز التعويل على مطلق الظنّ بما هو الواقع منها ، بل المعتبر بعد تعذّر العلم هو الظنّ بما هو الطريق في ذلك للمكلّف في مقام العمل من أصل أو قاعدة أو قرعة ؛ فكذا لو تعذّر على المجتهد استنباط الحكم لضيق وقت العمل عنه أو لفقد أسبابه أو عروض بعض الموانع عنه لم يجز عليه العمل بمطلق الظنّ بالواقع ، بل المعتبر بعد الاحتياط هو الظنّ بالطريق المرضيّ للشارع في تلك الموارد ، ظنّاً كان أو أصلاً من الاُصول ؛ وقد يظنّ بوجوب السكوت وترك التعرّض ، أو بوجوب الإقدام عليه وترك السكوت ، وهما أيضاً من الظنّ بالطريق .

وقد ظهر من التّأمّل فيما ذكرناه ما في كلام صاحب الفصول في قوله : إنّ الحجّة من الظنّ بالطريق هو الظنّ الذي لا دليل على المنع منه ولا يترجّح الظنّ

ص: 741

بالمنع عليه أيضاً ؛ فلا تغفل .

الثّاني : حكم الظنّ بالموضوعات المستنبطة يرجع إلى الظنّ بالحكم الشرعي

اشارة

الثاني : إنّ الظنّ بالموضوعات المستنبطة راجع إلى الظنّ بالحكم الشرعي ، فحكمه حكمه ، وكذلك الحال في الظنون الرجاليّة المتعلّقة بتعيين الطبقات وتميز المشتركات وتحقيق أحوال الرواة وتشخيص مدلول العبارات وساير الظنون المتعلّقة بمباحث الألفاظ ونحو ذلك ، فإنّ الغرض منها تحصيل الظنّ بالحكم الكلّي أو الطريق الشرعي ، فترجع إليهما ويجري فيها ما يجري فيهما .

وأمّا الموضوعات الصرفة التي لاربط لها بتشخيص الحكم الكلّي والمجعول الشرعي وإنّما يتعلّق بتطبيق العمل الخارجي على المفهوم الكلّى أو تشخيص الحكم الشخصي التابع للموضوع الخارجي ، فلا يجري فيها الكلام المذكور قطعاً ، وإن ذكرنا أنّ الحكم بوجوب مراعاة المصالح والمفاسد الواقعيّة يقضي بالعمل بالظنّ فيها أيضاً ، وذلك أنّ الغرض منه النقض على القوم والإيراد على احتجاجهم بذلك ، لأنّهم لا يلتزمون بحجيّة الظنّ فيها على الإطلاق ، بل هو خلاف الاتّفاق ، بل ضرورة الدين قائمة على خلاف ذلك ، ومن توهّم جريان القول في ذلك فقد خبط عشواء وخالف كافّة العلماء .

فالقول بأنّه إذا بنى على الامتثال الظني للأحكام الواقعيّة فلا يجدي إحراز العلم بانطباق الخارج على المفهوم المطلوب ، لأنّ الامتثال يرجع بالأخرة إلى الامتثال الظنّى فاسد ، فإنّ حجيّة الظنّ في تعيين الحكم لا يستلزم حجيّته في غيره ، كما أنّ الإذن في العمل بالظنّ في بعض شروط الصلاة أو أجزائها لا يقضي بجوازه في سائرها ، على أنّ دليل الانسداد لا يجري في الأُمور الخارجيّة ، لأنّها غير منوطة بأدلّة مضبوطة حتّى يدّعى طروّ الانسداد عليها .

ص: 742

نعم ، يمكن جريان الكلام في عدّة من الموضوعات التي يتعذّر العلم بواقعها في أكثر المقامات مع ثبوت التكليف به في تلك الحالات .

حجيّة الظنّ في بعض الموضوعات التي يتعذّر العلم بواقعها

[ 1 ] منها : الضرر الموجب لإباحة كثير من المحظورات وسقوط كثير من الواجبات وتحريم كثير من المباحات ، وحيث إنّ باب العلم به منسدّ غالباً إلّا بعد الوقوع فيه فإجراء أصل العدم فيما عدا القدر المتيقّن منه يوجب كثرة الوقوع فيه ، وقد ثبت بالنصّ والإجماع أنّ الشارع لا يرضي بذلك ، ضرورة ترتّب الأثر عليه ولو في حال الجهل البسيط أو المركّب بحصوله ، فدلّ على اعتبار الظنّ فيه بل الخوف منه ، بخلاف مثل ارتكاب النجس وإن تكثّر وقوعه في موارد أصل الطهارة ، ولذا علّق المنع من الضرر في كثير من المقامات على الخوف منه المتحقّق بالظنّ بل الاحتمال القويّ أيضاً ، بخلاف النجس وغيره من المحرّمات التعبّدية .

[ 2 ] ومنها : فوات الفريضة الموقّتة وغير الموقّتة ، وسقوط كثير من شرائط الصلاة وأجزائها عند فواتها ، ووجوب المبادرة إليها في آخر وقتها ، كوجوب المبادرة بمطلق الواجبات في آخر زمان الإمكان .

[ 3 ] ومنها : الغسل الواجب للصوم الواجب في الزمان المتصل بالفجر ، فإنّ العلم بآخر زمان العمل على الوجه الذي ينطبق عليه من غير زيادة ونقيصة ممّا لايمكن حصوله إلّا نادراً ، فلو قلنا بدوران تلك الأحكام مدار العلم به لزم سقوطها وسقوط تلك الفرائض في مواردها ، فثبوتها ووجوب المحافظة عليها دليل على إناطة الحكم في مواردها بالظنّ لقيامه مقام العلم عند تعذّره ، بل الخوف كافٍ في ذلك ، لأنّ ضرر الإخلال بالواجب أعظم من الضرر الدنيوي ، فحكمه في ذلك حكمه .

ص: 743

[ 4 ] ومنها : العدالة الواقعيّة التي علّق عليها أحكام كثيرة مع تعذّر حصول القطع بها إلّا نادراً ، فلو كانت منوطة بالقطع بحصولها لزم الحكم بانتفائها من رأس ، ففي القطع بثبوت تلك الأحكام وشيوعها وعموم البلوى بها أوضح دلالة على الاكتفاء في الحكم بحصولها بالظنّ ، إلّا أنّ الشارع قد نصّ على الاكتفاء فيها بحسن الظاهر ، فهو طريق مخصوص ، حصل الظنّ منه أو لم يحصل .

[ 5 ] ومنها : النسب الواقعي ، فإنّه قد علّق عليه أحكام كثيرة مع تعذّر القطع بواقعه غالباً ، فثبوتها يستلزم الاكتفاء فيه بغير العلم ، فإن كان هناك طريق شرعيّ كالفراش فلا كلام ، وإلّا فإن ثبت سماع قول المدّعي فيه عند عدم المعارض فلا كلام أيضاً ، وإلّا تعيّن العمل بالظنّ فيه ، لعدم وجود الأقرب منه ، لكنّ الوجه فيه أيضاً ما ذكرناه من الظنّ بطريق الفتوى والعمل ، فتأمّل .

[ 6 ] ومنها : الوقف الواقعي ، لامتناع قيام البيّنة غالباً على صدور الوقف في الأعصار المتقدمّة سيّما مع عدم سماع شاهد الفرع ، فلا محيص فيه عن العمل بغير العلم لاستلزام العمل بأصالة عدمه في تلك الموارد لكثرة الوقوع في مخالفة الواقع ، لكنّ الأظهر الاكتفاء في ذلك بالطرق الشرعيّة من الاكتفاء بقول ذى اليد ونحو ذلك ، لعدم لزوم المحذور معه ، نعم إن لم يكن هناك طريق شرعيّ لم يكن هناك أقرب من الظنّ في إثباته .

[ 7 ] ومنها : الحيض الواقعي ، لتعذّر تميزه عن الاستحاضة غالباً ، فلابدّ من اعتبار طريق غير علميّ فيه ، إلّا أنّه ثبت فيه طرق مخصوصة بقدر الكفاية من الشارع فلا يحتاج إلى التعدّي عنها ، ولو لاها لقلنا بالرجوع فيه إلى الظنّ ، نظراً إلى القطع بعدم سقوط أحكامه في جميع الموارد المشتبهة وكون الظنّ أقرب الطرق إلى الواقع .

ص: 744

[ 8 ] ومنها : تعيين قِيَمِ المتلفات واُروش الجنايات ، لتعذّر تعيينها على وجه لا يتخلّف زنة حبّة ، فإنّما يعتمد أهل الخبرة في ذلك على التخمين ، ويرجع ساير الناس إليهم ، كرجوع الجاهل إلى العالم في كلّ مقام .

إلى غير ذلك من المقامات التي يحصل العلم فيها بثبوت الأحكام فعلاً زيادة على القدر المعلوم ، فلابدّ من النظر في كلّ مقام بخصوصه ، على أنّ هناك موارد كثيرة يقع الاشتباه فيها أيضاً ، فلابدّ من التأمّل في كلّ مورد بخصوصه ، وأنّه هل يقطع فيه بالمناط المذكور أولا ؟ وهل ورد في الشرع تعيين طريق يكتفى به في القدر الثابت من أحكامه أولا ؟

الثّالث : يظهر من الماتن تقديم العمل بالظنّ المطلق عند فقد الطريق المظنون على العمل بغيره

اشارة

الثالث : أنّه يظهر من المحقّق المصنّف قدس سره في جملة من إفاداته السّابقة تقديم العمل بالظنّ المطلق عند فقد الطريق المظنون على العمل بغيره ، فقد تكرّر في كلامه قدس سره الحكم بتثليث المراتب : العلم بالواقع أو الطريق ، ثمّ الظنّ بالطريق ، ثمّ الظنّ بالواقع .

فمحصّل إيراده على الخصم أنّ الانتقال إلى المرتبة الأخيرة إنّما يتمّ بعد تعذّر الظنّ بالطريق ، فإذا دار الأمر بين العمل بمقتضى الظنّ بالواقع أو بساير الطرق المشكوكة يتعيّن العمل بالأوّل ، فلا يجوز العدول عنه إلى ساير الطرق إلّا بعد تعذّره .

المناقشة فيما أفاده الماتن

وفيه نظر ، فإنّ الظنّ بالواقع متى كان مشكوك الاعتبار ساوى سائر الطرق المشكوكة ، فإذا تردّد المكلّف بين الأمرين ولم يكن هناك مرجّح في البين كان ترجيح الأوّل على غيره ترجيحاً من غير مرجّح ، إذ المفروض تساوي نسبة الطريقية إليهما ، فلا وجه لترجيح أحدهما على الآخر بمجرّد كونه من مسمّى الظنّ بالواقع .

ص: 745

ودعوى كونه أقرب إلى العلم الّذي هو الطريق الأصلّي مدفوعة بما مرّ من عدم إناطة الحجيّة بالأقربيّة ، إنّما هي حكم شرعيّ منوط بقيام الدليل الشرعي أو الأمارة الشرعيّة عليه ، فإذا تساوى في ذلك مع ساير الطرق الممكنة - كاستصحاب أو غيره - لم يمكن ترجيحه عليه ، فإذا ظنّ بوجوب السورة في الصلاة وشكّ في وجوب بنائه في ذلك على ظنّه أو على أصالة البرائة عنه ، أو ظنّ بعدمه وشكّ في كونه الطريق الشرعي في حقّه أو أصل الاحتياط ؟ فلا مجال لحكم العقل بترجيح الأوّل ، فحينئذٍ إن أمكن الاحتياط وجب ، لأنّه طريق اليقين ، وإلّا تخيّر بين الطريقين المتساويين إلّا لمرجّح خارجيّ في البين ، على ما مرّ تفصيل القول فيه .

وظنّي أنّ المصنّف قدس سره إنّما أورد الكلام المذكور من باب التنزّل ، ويقول : إنّه إذا قلنا بحجيّة الظنّ بالواقع فإنّما نقول به بعد تعذّر الظنّ بالطريق ، لحكم العقل بتقديمه عليه على ما فصّله ، وإلّا فقد صرّح - طاب ثراه - في نظائر المسألة بالمنع من ترجيح أحد الطريقين على الآخر وإن كان أحدهما ظنّاً مع فرض تساويهما في الحجيّة والاعتبار ، ومن جملتها ما صرّح قدس سره به في مسألة المتجزّي من التخيير بين عمله باجتهاده ورجوعه إلى التقليد عند دوران أمره بينهما وتساويهما في نظره وتعذّر الاحتياط عليه ، وقد نصّ هناك على بطلان القول بترجيح عمله بظنّه ، فليرجع إلى كلامه فيه .

فإن قلت : لا شكّ أنّ الظنّ بما هو ظنّ أولى من الشكّ ، فيقدّم المظنون على المشكوك في مقام الحيرة والضرورة ، كما أفاده في غير موضع .

قلت : إن ترجّح في نظر العقل ما ذكر رجع إلى الظنّ بالطريق ، أمّا بعد فرض تساوي الطريقين من جميع الجهات ولو مع الملاحظة المذكورة - كما في

ص: 746

المثال المذكورة وغيره - فلا معنى لترجيح أحد المتساويين في نظر العقل على الآخر ، وقد سبق التنبيه على ذلك ، فلا تغفل .

فإن قلت : إنّ المظنون بالنظر إلى المشكوك لا ينفكّ عن الرجحان ، فما ذكر مجرّد فرض لا تحقّق له .

قلت : إن كان الواقع مطلوباً للشارع في جميع الأحوال كان الحال كما ذكر وليس كلام ، ويشهد به ملاحظة الحال في الموضوعات مع ندرة اتّفاق الإصابة في طرقها ، ومن تأمّل في الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظنّ يكاد يقطع بسقوط العبرة به في نظر الشارع ، فلا مانع من مساواته لغيره من الطرق المشكوكة في نظر الشارع ، وبعد تساويهما في احتمال الطريقة والاعتبار يمتنع ترجيح الأوّل في مقام الفتوى والعمل ، فإن أمكن التوقّف والسكوت كان هو القدر المتيقّن وإلّا فلا مناص عن القول بالتخيير .

الرابع : أقسام من الظنون التي قد ثبت اعتبارها في الشريعة

الرابع : إنّك قد عرفت في أدلّة الظنون المخصوصة حجيّة الظنّ المتعلّق بسند الأخبار المعتبرة إذا أفاد الوثوق وسكون النفس ، والظنّ المتعلّق بدلالة الألفاظ من حيث اللغة والعرف والقرينة والانصراف مع حصول الاطمينان ، والظنّ المتعلّق بترجيح أحد المتعارضين على الآخر .

فهذه أقسام ثلاثة من الظنون المتعلّقة بالواقع قد ثبت اعتبارها في الشريعة ، فكلّما يوجب حصولها من الظنون الرجاليّة واللغويّة والعرفيّة والأمارات الخارجيّة حجّة من حيث إيصالها إليها ، ومتى تطرّق الوهن إليها ومنع من تحقّق القدر المعتبر فيها خرجت عن الاعتبار وإن كان ناشيئاً من الظنون المطلقة ، وسنشير إن شاء اللَّه تعالى .

ومن الظنون التي يجوز العمل عليها في الجملة ما يتعلّق منها بمسائل

ص: 747

الآداب والسنن وما يرجع إليها ، بناءً على ما تقرّر في محلّه من جواز التسامح في أدلّتها(1) إذا لم نجد في القواعد الشرعيّة ما ينافيها ، سواء ثبت رجحان نوعها وتعلّق الظنّ بخصوصيّاتها - كالصلاة والصيام - أو لم يثبت ، بعد إحراز مطلق الجواز في جنسها ، خصوصاً إذا حصل الظنّ المذكور من فتوى فقيه أو خبر ضعيف ، بل وإن لم يحصل الظنّ بل الشّك أيضاً ، لعموم من بلغه ثواب على عمل(2) ولأنّ الإتيان بما يحتمل مطلوبيته والاجتناب عمّا يحتمل المنع منه أدخل في الطاعة من المعلوم منهما إذا لم يعارضه احتمال العكس أو ترجّح عليه ، ولقطع العقل والعقلاء بحسن الإتيان بكلّ فعل مرجو النفع مأمون الضرر ، والاجتناب عن عكس ذلك .

ويظهر الفرق بين حكم النصّ والعقل في المقام فيما لم يثبت شرعيّته بالأصل ولا معارض له ، كوضوء المجدّد ، والمحدث بالأكبر في غير محلّ الدليل ، والصوم في السفر ، والصلاة بغير الكيفيّة المعهودة ، حيث لا دليل على الجواز والمنع ولو عموماً ، ونحو ذلك . فإنّ مجرّد الاحتمال لا يكفي في تشريع تلك الأعمال ، ويكفي الخبر الضعيف إذا كان وارداً من طرق أصحابنا أو من

ص: 748


1- إن شئت أن يطلع عن هذه القاعدة وما يقال حولها ، راجع ما أفاده : 1 - استاذ المؤلف الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالة « التسامح في أدلّة السنن » والفرائد 2 / 158 - 153 . 2 - حفيد المؤلِّف الشيخ مهدى النجفي الإصفهاني في « الأرائك » / 174 - 183 . 3 - المحقّق العلّامة السيّد عبد الأعلى السبزواري في « تهذيب الاُصول » 2 / 172 .
2- المحاسن 1 / 25 ح 2 ، قال العلّامة المجلسي قدس سره في شأن هذا الحديث « هذا الخبر من المشهورات رواه الخاصّة والعامة بأسانيد . . . » البحار 2 / 256 .

يتصّل بهم من سائر الفرق ، دون المرويّ في كتب العامّة أو من يجري مجراهم من ساير الفرق الضالّة .

وأمّا مجرّد الاحتمال ولو ضعيفاً فإنّما ينفع في مقامين ؛

أحدهما : التروك والأفعال الّتي لا تدخل في العبادات الخاصّة ، كآداب الأكل والشّرب واللبس والنوم ، وسائر الأفعال العاديّة والملكات المكتسبة وغيرها .

والآخر : ما ثبت في الشرع شرعيّة نوعه ، كالصّدقة والصلاة والصيام والقرائة والذكر والدعاء وغيرها ، فإذا احتمل الرجحان في بعض خصوصيّاتها كان مقتضى القيام بحقّ العبوديّة وزيادة العناية بالاُمور الدينيّة مراعاتها ، سوى الاحتمال الناشي ء عن الأوهام الضعيفة التي يقبح اعتبارها عند العقلاء في جلب منفعة أو دفع مفسدة .

وقد جرت على ما ذكرناه طريقة أهل التقوى والورع وأهل الطاعة من العبيد مع مواليهم ، وليس الاحتمال ولو بلغ حدّ الظنّ القويّ حجّة شرعية في المقام ، كافيّة في إثبات متعلّقه ليترتّب عليه جميع آثاره ، وإنّما يندرج المسألة في باب الاحتياط .

وكذا الحال في الخبر الضعيف ، فإنّ الحجّة إنّما قامت على وصول الثواب المنقول إلى العامل وإن خالف الواقع ، فضلاً من اللَّه - جلّ ذكره - .

هذا كلّه مع سلامته عن المعارض ، فإن عارضه مثله أخذ بالأرجح منها ، فإن تساويا تخيّر بينهما في الخبرين ، لاندراج كلّ منهما تحت النصّ ، دون الاحتمالين ، لعدم حكم العقل حينئذٍ وإن عارضه دليل معتبر .

فإن كان من الاُصول العمليّة لم يقدح فيما ذكرناه ، وإن كان من الأدلّة

ص: 749

الاجتهاديّة ولو من القواعد الشرعيّة لزم الحكم بمقتضاه ، فإنّ الخبر الضعيف لا ينهض حجّة في تخصيص القاعدة المستفادة من الأدلّة ، فلا يمكن الخروج عن مقتضاها .

ويمكن التفصيل بين قيام الدليل الظنّي من عموم وإطلاق ونحوهما على عدم كون العمل المفروض مطلوباً للشارع مشروعاً ، وقيامه على تحريمه والمنع منه ؛ فلا محيص عن العمل به في الثاني ، أمّا في الأوّل فيمكن أن يقال : إنّ غاية الأمر دلالة الدليل المفروض على كون الفعل تشريعاً ، فإذا قصد المكلّف مجرّد الاحتياط بمراعاة الاحتمال زال التشريع .

على أنّ المعارضة حينئذٍ ليست بين الخبر الضعيف والمعتبر ، بل بينه وبين النصّ الصحيح الدالّ بعمومه على شرعيّة العمل بالضعيف وترتّب الثواب عليه ، لشموله لمحلّ المسألة ، فإذا دلّ الدليل الظنّي على عدم شرعيّة الصيام في السفر والإحرام قبل الميقات والزيادة على الركعتين في النافلة ، والخبر الضعيف على ترتّب الثواب على بعض افرادها لم يصلح لتخصيصها ، لكن يقع المعارضة بين عموم حديث من بلغه وعموم الدليل المفروض ، فيرجع إلى الترجيح أو التخيير ، وعلى الوجهين فلا تشريع في مراعاة الاحتياط .

وفيه إشكال ، إذ ليس فيما تضمّنه الحديث المذكور من التفصيل بما يرجوه العبد من الثواب المسموع دلالة على مطلوبيّة العمل المفروض ليصحّ مقابلته بالدليل الآخر ، بل قد يشكل الحكم بشرعيّته بذلك مع عدم المعارض أيضاً ، لتقوّم العبادة بالقربة المتوقّفة على كون العمل مطلوباً للشارع ، وحيث لا دليل عليه فالأصل عدمه ، فيختصّ مورده بالمقامين المذكورين .

وفيه : أنّ شمول الخبر للعبادة ودلالته على جوازها بل رجحانها بمجرّد

ص: 750

بلوغ الثواب ممّا لا ينبغي التأمّل فيه والارتياب ، وتمام الكلام في محلّ آخر .

الخامس : حكم الظنّ في مسائل اُصول الفقه

الخامس : أنّك قد عرفت في تضاعيف المباحث السابقة حكم الظنّ في مسائل اُصول الفقه ، ومحصّله أنّه على القول بالظنّ المطلق ينبغي عدم التفرقة بين المتعلّق منه بالفروع بلا واسطة وما يؤدّي إلى الظنّ بها بواسطة من مسائل الاُصول والرجال والعلوم الأدبيّة وغيرها ، لوضوح أنّ الظنّ بالحكم الظاهري ظنّ بالحكم الشرعي ، بل المسائل الاُصوليّة بنفسها مسائل شرعيّة يتعلّق بها أحكام شرعيّة من حجيّة الأدلّة واعتبار الاُصول العمليّة وأحكام الاجتهاد والتقليد ، والبحث في المبادي اللغوية راجع إلى تحصيل الظنّ في مباحث الألفاظ كتحصيله من العلوم الأدبيّة ، وفي مبادي الأحكاميّة ربّما يرجع أيضاً إلى البحث عن الأحكام الشرعيّة ، فتوّهم التفرقة بين مسائل الاُصول والفروع لوجوه تقدّم ذكرها ساقط ، كما مرّ بيانه .

وأمّا على ما ذكرناه فلا يعتبر الظنّ بشي ء من مباحث الاُصول كالفروع إلّا مع الظنّ بوجوب البناء على ذلك الظنّ والعمل بمقتضاه ، فإن حصل الظنّ كان حجّة بالشرائط السابقة ، لما عرفت من أنّها قاعدة عقليّة عامّة في جميع مواردها لا يشذّ عنها شي ء من أفرادها عند استجماع شرايطها .

وأمّا صاحب الفصول قدس سره فقد عرفت أنّه خصّ الحجيّة بجملة من مباحث الاُصول ، واستثنى منه الظنون الممنوعة في الشرع والتي يترجّح الظنّ بعدم حجيّتها عليها ، وقد سلف .

السادس : اعتبار الظنّ في مسائل اُصول الدين وعدمه ؟

السادس : إنّ في اعتبار الظنّ في مسائل اُصول الدين أقوالاً :

ص: 751

اعتبار اليقين فيها من الدليل ، كما هو المعروف بينهم(1) المنقول عليه إجماعهم(2) .

ثمّ الاكتفاء فيها بمجرّد التقليد ، لضعف الأكثر عن استعمال النظر ، كما عن بعضهم .

ثمّ الاكتفاء بمطلق الظنّ ، كما عن المحقّق الطوسى والأردبيلي(3) وتلميذه صاحب المدارك ، وربّما يظهر من شيخنا البهائي(4) والعلّامة المجلسي(5) والمحدّث الكاشاني(6)(7) .

ثمّ اعتبار الظنّ الحاصل من النظر والاستدلال دون التقليد ، ثمّ الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد خاصّة ، كما حكاه العلّامة عن الأخباريّين(8) وعزّاه الشيخ إلى بعض غفلة أصحاب الحديث(9) . وكأنّه مخصوص عند القائل به ببعض مسائل الاُصول ، لوضوح امتناعه في بعضها .

ص: 752


1- كالشيخ الطوسي في العدّة 2 / 731 - 730 ، والشهيد الأول في الألفية (المطبوع في ضمن الرسائل الشهيد الأول) / 162 والشهيد الثاني في المقاصد العليّة / 38 وحقيقة الايمان [المطبوع في ضمن المصنفات الأربعة] / 326 وانظر : مناهج الأحكام / 294 ، مفاتيح الأصول / 11 .
2- ناقل الإجماع العلّامة الحلّي في الباب الحادي عشر / 4 - 3 .
3- مجمع الفائدة والبرهان 2 / 183 . واُنظر : الفوائد الحائرية / 263 ، الفائدة السادسة والعشرون .
4- زبدة الاصول / 418 - 417 . واُنظر : الإثنا عشريات الخمس [الإثنا عشرية في الصلاة] / 127 .
5- اُنظر : بحار الأنوار 1 / 173 .
6- اُنظر : علم اليقين [الفيض الكاشاني] 1 / 6 .
7- حكاه عن أكثرهم المحقّق النراقي في المناهج / 293 .
8- نهاية الوصول / مخطوطة ونقل عنه في المعالم / 191 والوافية / 160 .
9- العدّة 1 / 131 .

ثمّ الاكتفاء بالظنّ التقليدي إلّا أنّ النظر واجب آخر مستقلّ ، لكنّه معفّو عنه .

قال العلّامة قدس سره : أجمع العلماء على وجوب معرفة اللَّه وصفاته الثبوتيّة وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه والنبّوة والإمامة والمعاد ، بالدليل لا بالتقليد(1) .

ومقتضاه الإجماع على بطلان التقليد المفيد للجزم أيضاً ، كما يظهر من إطلاق الأكثر ، وبه صرّح المحقّق(2) والشّهيد(3) وجماعة(4) معلّلين بأنّه جزم في غير محلّه ؛ وعلّله آخرون - كالشيخ في العدّة(5) والعضدي(6) وغيرهما - بأنّ المعرفة لا يحصل به ، ونصّ شيخنا البهائي قدس سره وجماعة على أنّ الخلاف في جوازه راجع إلى الخلاف في اشتراط القطع وعدمه ، قالوا : وإثباته مشكل(7) .

وظاهر ما ذكر تسلّم الاكتفاء بالتقليد المفيد للجزم بالحقّ على ما هو الحال في أكثر العوامّ ، لحصول الجزم لهم بذلك لقصور أنظارهم عن تصوّر الشبهات وعدم التفاتهم إلى مقتضى الاختلافات ، بل ربّما كان جزمهم أقوى من جزم المستدّلين بمراتب شتّى ، فيكون الكلام في التقليد المحض .

وقد نصّ الشيخ بعد الحكم ببطلانه بالأدلّة العقليّة والشرعيّة من الكتاب

ص: 753


1- مبادي الوصول / 246 .
2- معارج الاُصول / 199 .
3- القواعد والفوائد 1 / 313 القاعدة 112 .
4- ومنهم المحقّق الكركي في رسائله 1 / 80 .
5- العدة في الاُصول 2 / 731 و 732 .
6- شرح مختصر الاُصول / 480 .
7- حاشية زبدة الاُصول / 419 .

والسنّة بأنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئاً في تقليده لكنّه غير مؤاخذ به معفّو عنه ، وعلّله بأنّه لم يجد أحداً من الطائفة ولا من الأئمة عليهم السلام قطع موادّة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند في ذلك إلى الحجّة من عقل أو شرع ؛ ثمّ فصّل بأنّه لا يجوز التقليد في الاُصول إذا كان للمقلّد طريق إلى العلم به ، امّا على حمله أو تفصيله ، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلاً فليس بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم الّتي ليست مكلّفة بحال .

وقال في موضع آخر : « إنّ الصحيح الذي اعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئاً معفوّ عنه ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق »(1) .

ومقتضاه القول بالعفو في الصورة الاُولى بشرط الإصابة ، فمع انتفاء القدرة لا يكلّف به من أصله ، أصاب أو أخطأ .

وحكى في المسألة قول آخر بتحريم النظر وتعيّن التقليد ، نظراً إلى استمرار سيرة النبي صلى الله عليه وآله مع الناس على الاكتفاء منهم بذلك ، وعدم نقل الاستدلال عن الصحابة ، فيكون بدعة ؛ وورود النهي عن الكلام في مسألة القدر وشبهه ، والأمر بالأخذ بدين العجايز(2) وأنّ النظر في الأدلّة لتطرّق الشبهات مظنّة الوقوع في الضلالة ، وأنّ قول من يوثق به أوقع منها في النفس منها وإن كان ذلك عند القائل به مخصوصاً بالعوام الذين لا قدرة لهم على الاستدلال ويخاف في حقّهم من النظر الوقوع في الضلالة .

وأمّا ساير الناس فغاية الأمر تجويز التقليد في حقّهم ، وعلّله القائل به بأنّ

ص: 754


1- العدّة 1 / 132 .
2- [ عليكم بدين العجائز ] ، حقيقة الإيمان / 331 المطبوع ضمن المصنّفات الأربعة - بحار الأنوار 66/135 .

إيجاب النظر يستلزم الدور ، فإنّ وجوبه إن استند إلى الشرع توقّف على المعرفة بالأصل المتوقّف على النظر ، فيتوقّف على نفسه ، وإن استند إلى النظر توقّف على نظر آخر ، فيتوقّف على وجوبه - ولا يخفى جريان الكلام المذكور في ايجاب التقليد أيضاً - وبأنّ التكليف بذلك لو ثبت أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به ولم يجز اكتفائه منهم بكلمة الشهادة بلا تكلّف استدلال ، ومن المعلوم خلافه ؛ وبأنّ الاُصول أغمض أدلّة من الفروع فهى أولى بالاكتفاء فيها بالتقليد وبأنّ أدلّة التقليد من الكتاب والسنّة شاملة للمقامين .

والجواب : أنّ وجوب النظر إنّما يستند إلى لزوم دفع الضرر ، وهو أمر فطري لا يتوقّف على النظر ، مركوز في عقل البشر بل في نفوس الحيوانات أيضاً ، فلا يدور .

وأنّ الاكتفاء بالشهادتين مبنيّ على الاكتفاء بالظاهر في الكشف عن الباطن كما في ساير المقامات ، أو على الاعتماد على شهادة العقول بهما بمجرّد الالتفات والنظر في الآيات البيّنات ومشاهدة المعجزات القاهرات ، والاكتفاء بفطرة اللَّه تعالى «الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»(1) .

وكيف يتوّهم عدم ورود الاستدلال في الشرع وكونه بدعة مع أنّ الكتاب الكريم مشحون من الاستدلال عليهما بما لا يحصى من الآيات الباهرات والدلالات الظاهرات فضلاً عمّا اشتمل عليه متواتر الروايات ؟ إنّما الممنوع إثارة الشبهات على اُولي البصائر الضعيفة التي تعجز عن حلّها ، لا تنبيه الجاهل على الآيات الآفاقية والأنفسيّة ، والأدلّة الواضحة والمعجزات الظاهرة .

ص: 755


1- سورة الروم / 30 .

ومن العجب القول « بأنّ الاُصول أغمض أدلّة من الفروع »(1) مع أنّ الفروع لا مجال فيها لإدراك العقول وأكثر الاُصول من فطرياتها الّتي لا تدرك بالضرورة بأدنى الالتفات إلى آياتها .

وأمّا أدلّة التقليد ، فإن سلّمنا إطلاقها وجب تقييدها بما تواتر من وجوب تحصيل العلم والمعرفة والإيمان واليقين والتفقّه في الدين ، والأخذ بدين العجايز مبنيّ على الاكتفاء بالفطريات وترك الخوض في الشبهات ، وظنّ الوقوع في الضلال يختصّ بإثارة الشبهات الخفيّة .

وتوضيح المسألة على الإجمال أنّ المكلّف في باب العقائد الإسلاميّة إمّا أن يكون غافلاً قاصراً محضاً لم يتحقّق منه الالتفات إليها والشعور بها ولم يخطر بباله ذلك أصلاً ، أو يكون شاعراً بهاً ملتفتاً إليها وإن قصّر في الاعتناء بها حتّى حصل له الغفلة عنها .

وعلى الوجهين ، فإمّا أن يكون من العقائد التي يجب تحصيلها لذاتها والتدّين بها من حيث نفسها - كالاُصول الخمسة ولوازمها - أولا يكون كذلك ، وإنّما يجب الإذعان بها بعد حصولها ، كتفاصيل المعارف المعروفة وجزئيّات ما جائت به الشريعة .

والأمر في الثاني ظاهر ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون فيها معتقداً أو شاكّاً متردّداً .

ص: 756


1- حكاه الآمدي في الإحكام في اُصول الأحكام 4 / 231 - والأسنوي في نهاية السؤل في شرح منهاج الاُصول 4 / 596 والشهيد الثاني في حقيقة الإيمان / 333 [المطبوع ضمن الصنفات الأربعة] ونقل عنه العلّامة المجلسي في بحار الأنوار 66 / 127 - وهكذا حكاه الشيخ بهاء الدين العاملي في زبدة الاُصول / 418 .

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون جازماً لا يحتمل خلافها أو ظانّاً .

وعلى الوجهين فإمّا أن يكون اعتقاده مستنداً إلى الاستدلال أو إلى التقليد .

وعلى التقديرين فإمّا أن يكون مصيباً في اعتقاده أو مخطئاً .

وعلى الثاني من كلّ واحد من الوجوه الأربعة فإمّا أن يكون قادراً على تحصيل الواقع بالدليل ولو بتحصيل أسبابه ومقدّماته أو عاجزاً لم يحصل له القدرة على أكثر ممّا حصله .

فهذه وجوه عديدة يختلف الحال فيها بحسب الحكم التكليفي والوضعي واستحقاق الثواب والعقاب .

أمّا على الأوّل والأخير فلا إشكال في عدم جواز تعلّق التكليف الفعليّ بتحصيلها في حقّ المكلّف المفروض بالمرّة ، لكونه من التكليف بالمحال في جميع الأقسام الخمسة إذا لم يقع منه التقصير في المقدّمات الواجبة ، فلا يترتّب على ذلك استحقاق العقوبة في الآخرة .

لكنّ المكلّف في القسم الأوّل والثاني والخامس منها خارج عن الإسلام والإيمان بالنّسبة إلى العقائد المعتبرة في أحدهما ، فيترتّب عليه جميع ما يستلزمه الخروج عن أحدهما من الأحكام الوضعيّة وما يتفرّع عليها من التكليفيّة ، كالحكم بنجاسته وجواز استرقاقه واستباحة أمواله ، بل وعرضه ودمه في بعض المقامات ، وتحريم نكاحه وذبيحته ونفى إرثه من المسلمين إلى غير ذلك ، وبطلان عباداته والمنع من إنكاحه وردّ شهادته فضلاً عن قضائه وإفتائه أو نحو ذلك .

نعم ، قد يقال في المقام بالمنع من تحقّق موضوع تلك الأقسام لظاهر الآيات والأخبار المشتملة على حصر الناس في المؤمنين والكفّار والمتّقين

ص: 757

والفجّار وأهل الجنة والنار ، وحيث ثبت خروجها عن القسم الأوّل تعيّن اندراجها في الثاني ، فلا يجتمع مع الحكم بالأعذار ، فإنّا إنّما نعلم من أنفسنا أحوالها ولا يمكننا اليقين بحال غيرنا ، وهذا خروج عن الإنصاف .

وقد ورد التنبيه على حالهم في بعض الآيات الشريفة والأخبار الكثيرة ، فلا مجال للمنع المذكور ، بل يمكن دعوى القطع باندراج أكثر من في الدنيا في المستضعفين الّذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً ، كبعض النساء والبله والمرضى وأهل البوادي والقرى والبلاد النّائية عن الإسلام من العصر الأوّل إلى زمان ظهور دولة الحقّ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .

وأمّا القسم الثالث والرابع منها ، فيمكن القول بتحقّق الإسلام والإيمان فيهما إذا قام المكلّف مع ذلك بلوازمهما ، لأنّ ذلك غاية الممكن في حقّه ، وقد أصاب الحقّ وتديّن بمقتضاه والتزم به ، فلا يكلّف بما يزيد عليه ، ويترتّب عليه سائر الأحكام .

وأمّا الجازم بالحقّ الّذي لا يحتمل في نفسه سوى ذلك فلا ينبغي التأمّل في الحكم بإيمانه وترتّب جميع أحكامه في الدنيا والآخرة وإن كان عن التقليد ، فإنّ منع الأثر عنه إنّما هو لعدم حصول الجزم به بعد الاطّلاع على الخلاف والالتفات إلى المعارضة بالمثل .

ومن علّله(1) بأنّه جزم في غير محلّه فالظاهر أنّه لا يريد المنع من الاكتفاء به في الحكم بترتّب أحكام الإيمان ولوازمه عليه ، كيف وأكثر العوام سيّما النساء وأهل القرى والبوادي إنّما يعتمدون على ما عهدوه وتعلّموه من أهل الإسلام

ص: 758


1- هو المحقّق الحلّي في المعارج / 199 .

وربّما يجزمون بذلك جزماً أقوى من قطع أهل الاستدلال ؟ فكأنّه يريد لزوم تعلّم الدليل عليه ليكون فارقاً بينه وبين المقلّد من أهل الباطل وليأمن بذلك من زواله بتطرّق الشبهات والالتفات إلى الاحتمالات ، ولظاهر النصّ والإجماع على لزوم التفقّه في الدين وتحصيله بالدليل ، ومع ذلك فيكفي في الفرق بين الفريقين إصابة الحقّ ولو من باب الاتّفاق .

ودعوى قبح التفرقة بينهما في الثواب والعقاب مع اشتراكهما في الأسباب الاختياريّة ليست ببيّنة ولا مبنيّة ، كيف وقد استمرّت الطريقة من النّبى والائمة عليهم السلام وأتباعهم على إجراء أحكام الإسلام والكفر على كلّ من سلك سبيلهما ، مع وضوح اشتمال كلّ من الفريقين على المقلّدة .

وأمّا من لم يقطع بالحقّ واحتمل في نفسه خلافه وأمكنه تحصيل اليقين فلا ينبغي التأمّل في وجوب التّعلم عليه ، فإنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة(1) والأوامر الواردة بلزوم التفقّه والتعلّم والتعليم والبصيرة والاعتقاد وطلب اليقين ونحوها متجاوزة عن حدّ التواتر .

وفي حكم العقل بتحصيل الأمن والتحرّز عن الضرر العظيم الأبديّ المترتّب على التديّن بالباطل كفاية للمتأمّل ، فإن لم يفعل كان آثماً ، والقول بالعفو لم يثبت بعدم قطع الموادّة ، إنّما يسلّم مع الجزم وعدم احتمال الخلاف ، ولم يثبت خلافه في حقّ الأكثر ، فإنّ اُمور الناس محمولة على الصحّة ، وقد ورد أنّ من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة اللَّه هي الحجّة

ص: 759


1- عوالي اللئالي 4 / 70 ، ح 36 - مستدرك الوسائل 17 / 249 ، 17 .

الواضحة(1) وأمثال هذا المضمون كثيرة في لزوم تحصيل اليقين والمنع من الاكتفاء بما دونه .

وما دلّ على المنع من الظنّ في الفروع أدلّ دليل على المنع منه في الاُصول سيّما مع ملاحظة انفتاح سبيل العلم فيها لكلّ من نظر بعين البصيرة ، فإنّ اُصول المعارف مستندة إلى وجوهٍ واضحة وأدلّة ظاهرة لا يخفى على من له أدنى مسكة .

وهل يعامل مع الظانّ بالحقّ على وجه التقليد أو الاستدلال معاملة أهل الإسلام أو الإيمان ؟ الوجه هو التفصيل بينهما بأن يقال : إن أقرّ بالمعارف على وجه التسليم والانقياد ، وتديّن بها والتزم بلوازمها كان مسلماً ، فيجري عليه عامّة أحكامه ، لكن لا يتحقّق حقيقة الإيمان إلّا بعد الجزم والإذعان .

وأمّا ما يتعلّق باُصول المعارف ممّا يجب تسليمها وقبولها والإذعان بمقتضاها بعد العلم بها لا بدونه فالأمر فيها سهل ، إذ المفروض عدم تعلّق التكليف بتحصيلها من أوّل الأمر .

وهل يكفي في الحكم بها أخبار الآحاد ؟ قيل : لا ، لعدم حصول التكليف قبل الاعتقاد ، فلا يثبت بخبر الواحد .

والصواب خلافه ، لشمول ما دلّ على حجيّة أخبار لمثل ذلك ، وكأنّه مراد العلّامة في قوله رحمه الله : إنّ الأخباريّين من أصحابنا لم يعوّلوا في اُصول الدين وفروعه إلاّ على الأخبار الآحاد(2) . ضرورة امتناع الاكتفاء بها في أكثر الاُصول ،

ص: 760


1- الكافي 2 / 400 ، ح 8 - الوسائل 27 / 40 ، ح 8 .
2- نهاية الوصول / مخطوطة ونقل عنه في المعالم / 191 والحدائق 9 / 357 والوافية / 160 - 159 .

وتفصيل هذه المسائل موكولة إلى مظانّها .

السابع : أنّ المعتبر من الظنّ بالطريق هو الظنّ الفعلي الحاصل بعد استفراغ الوسع

السّابع : أنّه لا إشكال في أنّ المعتبر من الظنّ بالطريق على الوجه الذي حقّقه المصنّف - طاب ثراه - هو الظنّ الفعليّ الحاصل بعد استفراغ الوسع في استنباط ما يجب البناء عليه من ذلك ، فلا عبرة بمجرّد الأمارات التي لها شأنيّة إفادة الظنّ ، والأُمور المقتضية لحصوله لو لا المانع ، لوضوح أنّ أصالة عدم المانع لا تبعث على حصول الظنّ بالفعل ، بل الشكّ في وجود المانع عنه عين المانع من حصوله ، فلا يجوز في حكم العقل البناء على ترجيح أمر لا يترجّح عنده على تركه .

وإذا تعيّن العمل على أحد الطريقين المتساويين لم يحكم العقل بترجيح ما دلّت عليه الأمارة المقتضية لحصول الظنّ إذا لم يحصل المانع على المشكوك من أوّل الأمر .

وكذا لا عبرة بالظنّ الحاصل قبل بذل المكلّف جهده في تحصيل الطريق المعتبر على حسب وسعه ومبلغ طاقته كائناً من كان ، لأنّ اعتباره إنّما نشأ من اقتضاء الضرورة ، فيدور مدارها ، ويكفي استلزامه للحرج المنفيّ في الشريعة .

وكذا لا عبرة بالظنّ الحاصل فيما لا يتحتمّ على المكلّف إقدامه عليه ويسعه السكوت عنه ، لانتفاء الضرورة فيه .

وقد يتحقّق الضرورة في حال دون حال ، فيدور مدارها ، كما إذا اتّفق للمصّلي أمر شكّ في تكليفه معه ، فإن أمكنه إزالة الشكّ عن نفسه بالتأمّل أو مراعاة الاحتياط وجب وإلّا كان حال الصلاة في مقام الضرورة ، لدوران أمره بين إتمام الصلاة وإبطالها وعدم قدرته على الفحص في حالها ، فإن ترجّح في نظره تحتّم أحد الأمرين عليه في تلك الحال لزمه البناء عليه وحرم ترجيح المرجوح

ص: 761

الّذي لا يأمن من ترتّب العقاب عليه ، لوقوعه في مظنّة الإثم والعصيان في حقّه . وإن تساويا في نظره تخيّر بينهما ، فإذا فزع من الصلاة لزمه الفحص عن حكمها ، وإن تبيّن له موافقتها للواقع بنى على صحّتها وإن قلنا بفساد عبادة الجاهل ، لاختصاصه بما إذا لم يعمل على حسب تكليفه الظاهرىّ ، فلا يجري مع توافق الواضع والظاهر بالنسبة إليه . وإن ظهر مخالفتها للواقع ولو في بعض أجزائها وشروطها الواقعيّة أعادها ، وفي العلميّة يبني على موارد ثبوتها وسقوطها .

فإن قلت : إذا كان الحكم دائراً مع الضرورة وجب المنع من الإفتاء في غير مواردها ، وقد جرت طريقة الفقهاء على الإفتاء في عامّة المسائل الّتي لا اضطرار لهم إلى أكثرها بل لا يتّفق وقوعها إلاّ نادراً ، كأحكام الخنثى وذي الرأسين ونحوهما ، إذ لا مانع من السكوت عن الإفتاء في تلك المسائل حتّى يتّفق الحاجة إليها .

قلت : معنى الإفتاء في تلك المسائل بيان طريق العمل عند اتّفاق الحاجة إليها ووقوع الابتلاء بها ، فالغرض أنّه إذا وقعت واقعة كذا لزم البناء على كذا ، ولا شكّ أنّه مع وقوعها يضطرّ المكلّف في مقام العمل إلى البناء على وجه معيّن ، فلابدّ من تعيينه بالعلم أو الظنّ أو الاحتمال على الترتيب بحسب قدرة المكلّف وعجزه .

فإن قلت : سلّمنا حصول الاضطرار في الأحكام الإلزاميّة ، فكيف في غيرها من أحكام الإباحة والاستحباب أو الكراهة وما يؤدّى إليها من أحكام الوضع ؟

قلت : إذا جاز البناء على الطريق المظنون في الحكم بالوجوب والتحريم وما يرجع إليهما من الأحكام الوضعيّة جاز ذلك في أحكام الآداب والسنن

ص: 762

بالأولويّة القطعيّة ، فضلاً عن أدلّة المسامحة .

وقد ظهر ممّا أسلفناه أنّ الظنّ بالطريق على الوجه المذكور لا ينفكّ عن الحجيّة من أيّ سبب حصل ، لأيّ مكلّف اتّفق ، بأيّ حكم تعلّق ، في أيّ حالٍ وقع .

وأمّا الظنّ بالحكم الواقعي فلا يعتبر عندنا في شي ء من الأحوال وإن فرضنا - والعياذ باللَّه سبحانه - انسداد جميع الطرق الشرعيّة في زمان مخصوص أو بالنسبة إلى مكلّف مخصوص ، سواء تعلّق بالحكم الفرعي - كما زعمه القائل بالظنّ المطلق - أو بشى ء من مسائل الاُصول - كما زعمه صاحب الفصول - إلّا مع اندراجهما فيما ذكرناه .

نعم ، قد ذكرنا حجيّة الظنّ بالواقع في الجملة في المباحث المتعلّقة بالألفاظ ودلالتها ، وفي صدور الروايات وصحّتها ، وفي المسائل الرجاليّة والعلوم العربيّة ، وفي مقام الترجيح بين الأدلّة المتعارضة ، وفي أحكام الآداب والسنن في الجملة ، وفي جملة من الموضوعات المشتبهة(1) وشي ء من ذلك لا ربط له بحجيّة الظنّ بالحكم الشرعي الواقعي وإن صادفه في الأغلب ، فلا عبرة من حيث هو .

وأمّا على القول بالظنّ المطلق فينبغي إناطة الحجيّة بنفس المظنّة ، فيكون الحجّة في كلّ مسألة شيئاً واحداً ، إذ هو العلم مع إمكانه والظنّ مع تعذّره ، فلا يتصوّر التعارض بين الدليلين حينئذٍ إلّا حيث لا يعتبر فيهما أو في أحدهما حصول الظنّ الفعلي ، كما إذا كانا من الظنون المخصوصة ، أو اختلف فيه مقتضى الظنّ بالواقع مع الظنّ بالطريق ، على القول بحجيّة الظنّ فيهما معاً .

ص: 763


1- راجع مفاتيح الاصول / 492 .

وأمّا الأمارات التي لها شأنيّة الإفادة للظنّ فليس في شي ء من أدلّة القوم ما يفيد اعتبارها إذا منع مانع من حصول الظنّ منها .

نعم ، يمكن الاستناد في حجيّتها إلى طريقة العقلاء ، وهي التي مرّ الاحتجاج بها في إثبات الظنون المخصوصة ، أمّا مع ملاحظة دليل الانسداد وتسليم المقدّمات المأخوذة فيه فليس في طريقتهم ما يفيد التجاوز عن الظنّ الفعلي ، أمّا مجرّد الشأنيّة فلا تأثير له في حكم ا لعقل والعقلاء حينئذٍ .

فما يظهر من بعض كلمات الجماعة من الاكتفاء بالشأنيّة في الحكم بالحجيّة ممّا لا وجه له ، وحينئذٍ فكلّ أمارة منعت من حصول الظنّ الفعلي من ساير الأمارات فإنّها تقضي بسقوطها عن الحجيّة بالمرّة ، وإن كانت من الأمارات الممنوعة التي ثبت تحريم العمل عليها في الشريعة ، لانتفاء موضوع الحجّة حينئذٍ .

وتوهّم أنّ تحريم العمل بها وعدم جواز التصرّف بها في دين اللَّه تعالى يقتضي البناء على عدمها فيبقى الأمارات المفروضة على مقتضاها وهم فاحش ، إذ المنع الشرعي لا يوجب تحقّق الظنّ الذي هو من الموضوع الخارجي بمخالفته للواقع ، بل يمكن أن يقال على القول المذكور : إنّ القدر المسلّم من تحريمها إنّما هو الاستدلال بها على الاستقلال ، أمّا لو انضمّت إلى ساير الأمارات بحيث حصل الظنّ المعتبر من مجموعها فلا دليل على المنع عنها ، فتصلح جابرة لضعف بعض الأمارات المعتبرة ، موهنة لقوّة اُخرى منها ، مرجّحة لبعض الأدلّة المتعارضة على بعض .

وهذا الكلام يجري أيضاً على القول بالظنون المخصوصة عند القائل بدورانها مدار الظنّ الفعليّ بالحكم الواقعي ، بل وكذا عند القائل بدورانها مدار

ص: 764

عدم الظنّ بالخلاف ، ولا يخفى بُعد الكلام المذكور عن طريقة الإماميّة ، فيصلح موهناً لكلّ من الأقوال المذكورة ، مؤيّداً للمختار من عدم إناطة الظنون المخصوصة بما ذكر ، على ما تقدّم بيانه في أوائل الرسالة ؛ وحينئذٍ فلا يقدح الأمارات الممنوعة في حجيّتها وإن منعت من إفادة الظنّ بها ، ولا تصلح لتقويتها وإن أفادت حصول الظنّ بمقتضاها .

نعم ، كثيراً ما يتوقّف العمل بالظنون المخصوصة على جابر يجبر قصورها من حيث السند أو الدلالة ، وكثيراً ما يتطرّق إليها بعض الموهنات فتمنع من بقائها على الحجيّة ، لكنّا نقول بعدم تحقّق شي ء من الأمرين بالظنون التي ثبت المنع عنها بخصوصها في الشرع - كالقياس والاستحسان ونحوهما - مع الظواهر اللفظيّة ، لثبوت المنع من الاعتناء بها ، واستعمالها في الشريعة ، واستمرار سيرة الأصحاب على الإعراض عنها في المسائل الفقهيّة ، وعدم الاعتناء بها في الكتب الاُصوليّة ، ولو كان لها تأثير في شي ء من ذلك لكان عليهم التنبيه على أحكامها في الاُصول ومجاريها في الفروع ، إذ الفحص عن الجابر والموهن بمنزلة البحث عن الدليل والمعارض ، ومن المعلوم استقامة الطريقة على خلاف ذلك ، ولجريان طريقة العقلاء على عدم تعطيل الظواهر المعتبرة بمخالفتها لما ثبت منع المولى عنه وعدم الاعتناء بمثله في استفادة أحكامه من خطاباته ، لأنّ وجوده وعدمه حينئذٍ في نظره سيّان .

والظاهر المنع من الترجيح بين المتعارضين بمثل ذلك أيضاً ، للأصل والإطلاق وسيرة العلماء ، وإن حكى في المعارج جوازه عن بعض الأصحاب معللاً ب « أنّ فائدة كونه مرجّحاً كونه رافعاً للعمل بالخبر المرجوح ، فيكون

ص: 765

الراجح كالعمل بالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بالقياس »(1) .

وفيه : أنّ ترك الخبر المرجوح بمجرّد القياس راجع إلى العمل به ، إذ لولاه لكان الخبر معمولاً عليه ، فيكون الحكم بتعيّن الخبر الآخر مستنداً إلى القياس مبنيّاً عليه ، ويكون الحكم بمؤدّاه مستنداً إلى المجموع ، ويكون كلّ منهما جزء للمقتضي ، وقد ثبت كونه محظوراً في الشرع لا يعبأ به في الشرعيّات ، فوجوده كعدمه ، ولذا جرت طريقة الأصحاب على هجره وعدم الاعتناء بما يحصل لهم من الظنّ القياسي وشبهه ، ولو لا ذلك لكان عليهم أن يتوقّفوا في الترجيح والتخيير حتّى يقع الفحص عن القياس والبحث عن مورده ، فلا تغفل .

الثّامن : الظنون المطلقة بعد القول بعدم حجيّتها هل تجري مجرى الظنون المحرّمة أم لا ؟

الثامن : إنّ الظنون المطلقة بعد القول بعدم حجيّتها والمنع من العمل عليها هل تجري مجرى الظنون المحرّمة بخصوصها في عدم ترتّب حكم الجبر والوهن والترجيح عليها على ما ذكرناه ، أو ليست بتلك المثابة بل لها تأثير في الأحكام الثلاثة ؟

الوجه هو الثاني ، لكن على تفصيل في ذلك يظهر من التأمّل في شرائط الأدلّة الشرعيّة وعلاج المتعارضين منها ، فكلّ ظنّ أثّر في شي ء من شرائطها إثباتاً ونفياً أو في رجحان أحد المتعارضين على الآخر كان معتبراً ، كما مرّت الإشارة إليه .

وتوضيح المقام أنّك قد عرفت أنّ ظواهر الكتاب والسنة من جملة الظنون المخصوصة ، وأنّ المدار فيها على حصول الوثوق بدلالتها وبصدور السنّة عن أهلها ، وأنّه لا يشترط فيها حصول الظنّ بالحكم الواقعي منها ، بل ولا عدم حصول الظنّ بمخالفتها للواقع ، بل يجب العمل عليها وإن حصل الظنّ بخلافها ،

ص: 766


1- المعارج / 187 .

على تفصيل في ذلك مذكور في محلّه .

ثمّ إنّ الوثوق المعتبر في هذا الباب قد يحصل من نفس السند والمتن ، وقد يحصل من اُمور خارجة عنهما ؛ والظنّ المطلق بالحكم قد يوجب حصول الوثوق بأحدهما وقد لا يوجب ذلك وإنّما يفيد الوثوق بمطابقة المضمون للواقع ؛ وقد يوجب ضعف الظنّ الحاصل بأحدهما وقد لا يوجب ذلك ، وإنّما يظنّ بمخالفة المضمون للواقع مع بقاء الوثوق الحاصل بالصدور والدلالة .

أمّا الأوّل فلا كلام فيه ، وإنّما الكلام في الثاني ، فإن أفاد الظنّ المذكور الوثوق بصدور الخبر ودلالته كالشهرة المستنده إليه عند عدم حصول الوثوق بأحدهما من حيث نفسه فهو القدر المتيقّن من الانجبار ، وإن أفاد الوهن فيه مع صحّة سنده ووضوح دلالته - كإعراض الأكثر عنه مثلاً - خرج عن الاعتبار وإن أفاد الوثوق بصحّة المضمون - كما في الشهرة المطلقة التي لم يظهر مستندها - أو ضعفه - كما في الأخبار النادرة التي لم يعلم إعراض القوم عنها أو عدم عثورهم عليها - فالمعروف من طريقة الأصحاب أيضاً الاكتفاء به في كلّ من الأمرين المذكورين .

ويدلّ عليه من الكتاب : إطلاق التبيّن في الأوّل ، للقطع بعدم التفرقة في صدقه بين تبيّن شخصه أو مضمونه ، فإذا حصل الوثوق بصحّته أطلق عليه في العبادات لفظ التبيّن ، وزال عنه خوف الوقوع في الندامة من مثل إصابة القوم بالجهالة والعلّة المنصوصة في الثاني ، إذ مع زوال الوثوق بصحّة المضمون يتحقّق الجهالة وخوف الندامة ، فلا يجوز الإقدام عليه .

ومن السنّة : المقبولة المشهورة بشخصها ومضمونها الدالّة على الأخذ بالمشهور وترك غيره ، كالمرفوعة المشهورة بمضمونها ، وهي وإن وردت في

ص: 767

المتعارضين لكنّها تدلّ على المقام أيضاً ؛ لا لأنّ اعتبار المشهور في مقام التعارض يوجب اعتباره بدونه بالأولويّة القطعيّة ، لأنّ المفروض فيها إنّما هو حصول المعارضة بين الأخبار المعتبرة في نفسها مع قطع النظر عن الشهرة وغيرها من المرجّحات ، على أنّها ظاهرة في شهرة الرواية دون الفتوى ؛

بل لأنّ العلّة المذكورة فيها من نفي الريب عن الأوّل وإطلاق البيّن عليه وإثبات الريب بمقتضى المفهوم في الثاني وإطلاق المشكل والشبهة عليه على ما عرفت سابقاً في تفسيرها تجري في المقام أيضاً بكلا قسميه ، لما عرفت من أنّ المشهور الّذي لا ريب فيه ليس بمعنى المقطوع به ، إذ لا وجه لفرض المعارضة أوّلاً بين القطعيّ وغيره ، ولا بين القطعيّين في قول الراوي بعد ذلك : إنّهما معاً مشهوران ، إنتهى . ولا لإطلاق المشكل والشبهة على ما يقابل القطعىّ إلّا على بعض الوجوه الخارجة عن مساق الرّواية .

ويعضده العلّة المنصوصة في الأخذ بما خالف العامّة وترك ما وافقهم من أنّ الرشد في خلافهم(1) وما أشبه ذلك ممّا تقدمّت الإشارة إليه ، على أنّ إطلاق الاجتناب عن المشكل والشبهة في قوله عليه السلام : « وإنّما الأمور ثلاثة . . . »(2) وشموله للقسم الثاني ممّا لا إشكال فيه ، واندراج القسم الأوّل في عمومات قبول الروايات أيضاً على نحو اندراج الموثّق وخبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ممّا لا شبهة تعتريه ، فإذا تأيّد ما ذكرناه بما نشاهد من طريقة الفقهاء في المقامين زال الإشكال في البين .

نعم ، يمكن المناقشة في انجبار الأخبار العاميّة بالشهرة ، نظراً إلى الأمر

ص: 768


1- الكافي 1 / 8 و 1 / 67 ، ح 10 .
2- الكافي 1 / 67 ، ح 10 .

بهجرها والأخذ بخلافها ، وذلك أمر آخر .

هذا كلّه في الظنّ المتعلّق بصحّة مضمون الخبر الذي لا يوثق بصدوره أو بعدم ورود الخبر الموثوق بصدوره لبيان الواقع بل لدواعي التقيّة وشبهها ، أمّا الظنّ المتعلّق بالحكم الشرعي مع عدم دلالة النصّ عليه لإجماله مثلاً فلا دليل على إعتباره ، إذ الظنّ بالحكم لا يستلزم الظنّ بإرادته من اللفظ ، فلا يخرج عن الظنّ المطلق ، ولو فرضنا قيام القرينة الخارجيّة على إرادة بيان الحكم الواقعي فإنّما يفيد الظنّ بالمراد من باب الاتّفاق ، بخلاف الأمارة الظنيّة القائمة على تشخيص المراد من اللفظ كاشتهار فهمه منه بين الأصحاب ، لحصول الوثوق بدلالته حينئذٍ ، ولذا اشتهر بينهم الحكم بانجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب ، لظهور كلامهم وعملهم في هذه الصورة خاصّة دون الصورة الاُولى ، لانتفاء الدلالة فيها مطلقاً ، فوجودها كعدمها .

وكذلك الظنّ المطلق بعدم إرادة مدلول النصّ منه لا يمنع من التمسّك به فيما يدلّ عليه من عموم أو إطلاق أو غيرهما من الظواهر ، للقطع بعدم جواز تخصيص العمومات والمطلقات بالظنّ الغير المعتبر ، بل هو من الاستصحاب المتّفق عليه ، إنّما يمنع منه الظنّ بعدم دلالته أو الشكّ فيه ولو من جهة فهم المشهور منه غير ذلك ، فهناك فرق ظاهر بين قيام الشهرة على عدم دلالة اللفظ على المعنى المفروض وقيامه على عدم مطابقة مدلوله للواقع ، على تفصيل فيه أيضاً ، لظهور كون الأوّل موهناً للدلالة فلا يحصل الوثوق المعتبر بحصولها ، وبقاء الدلالة المعتبرة على الثاني ، فلا يجوز الخروج عنها إلّا بدليل .

وإنّما اعتبرنا في المسائل المذكورة حصول الوثوق احترازاً عن الظنّ الضعيف ، فإنّه لا اعتبار به ، إنّما المدار على ما يوجب سكون النفس واطمئنان القلب ، فإذا زال ذلك ببعض الموهنات المذكورة خرج عن الحجيّة ، وفي منطوق

ص: 769

آية النبأ والعلّة المذكورة فيها دلالة عليه ، فإنّ مورد المنع فيها خبر الفاسق المفيد للرجحان الضعيف غالباً ، لعدم وقوع العمل بالخبر المشكوك فيه غالباً ، إنّما يعمل في الأغلب بما يفيد الرجحان في الجملة ، فورد النهي عنه قبل التبيّن ، وقد عرفت شمول التبيّن لما ذكرناه ، كيف وليس الفارق بين بناء العادل والفاسق في جريان العلّة المذكورة غالباً إلّا ذلك ؟ فلو حصل الوثوق المعتبر في خبر الفاسق وزال عن خبر العدل انعكس الأمر .

والقول بأنّه يؤدّى إلى حجيّة مطلق الظنّ الموجب لسكون النفس - على ما يقوله بعض القائلين بالظنّ المطلق - ممنوع ، لاختصاص مورده بالخبر ، وعدم التعرّض فيه لذكر علّة القبول في نبأ العدل ، إنّما المذكور فيه علّة الردّ في نبأ الفاسق ، ولا مانع من الأخذ بعمومها ، فالتعدّي في الأوّل قياس لا نقول به ، غاية الأمر إشعار لفظ التبيّن بقول ما يوثق به وعدم تعلّق التكليف بما يزيد على ظهوره ، وهذا الإشعار لا يكفي في الاستدلال .

وأمّا الترجيح بالظنّ المطلق بين الأدلّة المتعارضة فقد تقدّم في بحث الظنون المخصوصة تفصيل الكلام فيه ، فلا حاجة إلى إعادته ، ولا يجري شي ء ممّا ذكرناه في الظنون المطلقة التي أجزنا العمل عليها في الظنون الممنوعة بخصوصها ، وإن اشترك الكلّ في النهي العامّ ، للزوم الخروج عنه بما ذكرناه ، وأمّا المخصوصة بالمنع فأجنبيّة عن الشرع ، خارجة عن طريقة الإماميّة المتلقّاة عن الأئمّة عليهم السلام .

وهذه جملة كافيّة فيما قصدناه في هذه الرسالة ، وتفصيل الكلام في هذه المباحث موكول إلى مباحث الأخبار وما فيها من تفاصيل شرائط الاعتبار ، وحيث انتهى ما قصدناه في شرح الرسالة الشريفة فلنقطع الكلام حامدين للَّه سبحانه ، والصلاة على محمّد وآله .

ص: 770

فهرس مصادر التحقيق

ص: 771

ص: 772

فهرس مصادر التحقيق

أ

1 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن .

للشيخ محمّد جواد بن الشيخ حسن البلاغي ( م 1352 ه ) ، مجلّدان ، قم المقدسة ، مؤسسة البعثة ، 1420 ه .

2 - الإثنا عشريات الخمس .

للشيخ محمّد بن حسين العاملي المعروف بالشيخ البهائي ( م 1030 ) ، اعداد مسعود شكوهى ، قم المقدّسة ، إعجاز ، 1423 ه .

3 - أجود التقريرات .

للسيّد أبي القاسم بن السيّد علي أكبر الموسوي الخوئي ، ( م 1413 ه ) - ( تقرير أبحاث المحقّق النائيني ) - ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مكتبة المصطفوي .

4 - الاحتجاج على أهل اللجاج .

لأبي منصور أحمد بن علّي بن أبي طالب الطبرسي ( ق 6 ) ، إعداد السيّد محمّد باقر الخرسان ، مجلّدان ، النجف الأشرف ، مطبعة النعمان ، 1386 ه .

ص: 773

5 - الإحكام في اُصول الأحكام .

لأبي الحسن علّي بن أبي علّي بن محمّد الآمدي ( م 631 ه ) ، مجلّدان ، دمشق .

6 - الاختصاص .

لأبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي المعروف بالشيخ المفيد ( م 413 ه ) ، تحقيق المرحوم علي أكبر الغفّاري ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي .

7 - اختيار معرفة الرجال .

لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه ) ، إعداد السيّد مهدي الرجائي ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1404 ه .

8 - الأرائك في اُصول الفقه .

للشيخ مهدي بن الشيخ محمّد علّي النجفي الإصفهاني المعروف بالمسجد الشاهى ( م 1393 ه ) ، تقديم السيّد محمّد حسين الحسيني الجلالي ، من منشورات المدرسة الحرّة - شيغاغو - الآمريكا ، 1423 ه .

9 - إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان .

للعلاّمة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر ( م 726 ه ) ، تحقيق فارس الحسّون ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1410 ه .

10 - الأربعون حديثا [= « شرح الأربعين » ، « كتاب الأربعين »] .

للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي . ( م 1110 ه ) ، قم المقدّسة ، اسماعيليان ، 1339 ه .

ص: 774

11 - الأربعون حديثا .

للشيخ محمّد بن حسين العاملي المعروف بالشيخ البهائي ( م 1030 ه ) ، قم المقدّسة ، الطبعة الثانية ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1412 ه .

12 - أربعين حديث .

للإمام الخميني ( م 1409 ه ) ، الطبعة السادسة ، طهران ، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني ، 1374 ش .

13 - الأربعون حديثا .

لمحمّد إسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني المعروف بالمحقّق الخواجوئي ( م 1173 ه ) ، اعداد السيّد مهدي الرجائي ، قم المقدّسة ، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1412 ه .

14 - الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد .

لأبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي المعروف بالشيخ المفيد ( م 413 ه ) ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، 1413 ه .

15 - أساس الاقتباس .

لمحمّد بن محمّد بن الحسن نصير الدين الطوسي المعروف ب- « الخواجه » ( م 672 ه ) تحقيق مدرّس الرضوي ، الطبعة الثالثة ، طهران ، جامعة طهران ، 1361 ش .

16 - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار .

لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه )

ص: 775

تحقيق السيّد حسن الموسوي الخرسان ، تصحيح الشيخ محمّد الآخوندي ، الطبعة الرابعة ، 4 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة ، 1363 ش .

17 - الإشارات والتنبيهات .

للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن عبد اللّه الشهير ب- « إبن سينا » ( م 428 ه ) تحقيق كريم الفيضي ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مطبوعات دينى ، 1384 ش .

18 - اصطلاحات الاُصول .

للشيخ علي المشكيني ، الطبعة الخامسة ، قم المقدّسة ، نشر الهادي ، 1413 ه .

19 - الاُصول الأصليّة .

لمحمّد محسن بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني ، ( م 1091 ه ) ، إعداد مير جلال الدين الحسيني المحدّث الارموي ، طهران ، جامعة طهران ، 1390 ه .

20 - الاُصول العامّه للفقه المقارن .

للسيد محمّد تقي الطباطبايي الحكيم ، الطبعة الثانية ، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام ، 1418 ه .

21 - إفاضة العوائد في التعليق على الفوائد .

لآية اللّه السيّد محمّد رضا بن سيّد محمّد باقر الموسوي الگلپايگاني ( م 1415 ه ) ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، دار القرآن الكريم ، 1411 ه .

22 - ألف حديث في المؤمن .

للاُستاذ الشيخ هادى بن الشيخ مهدي النجفي ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1416 ه .

ص: 776

23 - الألفية .

رسائل الشهيد الأوّل (م 786 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1423 ه .

24 - أمالي الصدوق .

لأبي جعفر محمّد بن علّي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة ، قم المقدّسة ، مؤسسة البعثة ، 1418 ه .

25 - أمالي المرتضى .

لأبي القاسم علّي بن الحسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى وعلم الهدى ( م 436 ه ) ، إعداد السيّد محمّد بدر الدين النعساني الحلبي ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1403 ه .

26 - أمالي المفيد .

لأبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي المعروف بالشيخ المفيد ( م 413 ه ) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري وحسين أُستاد ولي ، قم المقدّسة ، موسسة النشر الإسلامي ، 1417 ه .

27 - الانتصار .

لأبي القاسم علّي بن الحسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى وعلم الهدى ( م 436 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1415 ه .

28 - أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية .

للإمام الخميني ( م 1409 ه ) ، تحقيق مؤسسه تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني ،

ص: 777

مجلّدان ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1413 ه .

29 - أوثق الوسائل في شرح الرسائل .

للميرزا موسى بن جعفر بن أحمد التبريزي ( م 1305 ه ) ، قم المقدّسة ، انتشارات كتبى نجفي ، 1369 ه .

30 - ايضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد .

لفخر المحقّقين محمّد بن الحسن بن يوسف الحلّي ( م 770 ه ) ، إعداد عدّة من العلماء ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، اسماعيليان ، 1363 ش .

ب

31 - الباب الحادي عشر .

لجمال الدين حسن بن يوسف بن المطّهر المعروف بالعلاّمة الحلّي ( م 726 ه ) ، مشهد المقدّسة ، مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة ، 1368 ه .

32 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار .

للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقى المجلسي ( م 1110 ه ) ، الطبعة الثانية ، 110 مجلّدات ، بيروت ، مؤسسة الوفاء ، 1403 ه .

33 - بحر الفوائد في شرح الفرائد .

للميرزا محمّد حسن الآشتياني الطهراني ( م 1319 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1403 ه .

34 - بحوث في الاُصول .

للشيخ محمّد حسين الغروى الإصفهاني المعروف بالكمپاني والمحقّق الإصفهاني ( م 1361 ه ) ، الطبعة الثانية ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1409 ه .

ص: 778

35 - بحوث في تاريخ القرآن وعلومه .

للسيّد أبي الفضل المير محمّدي الزرندي ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1420 ه .

36 - البرهان في تفسير القرآن .

للسيّد هاشم بن السيّد سليمان الحسيني البحراني ، ( م 1107 ه أو 1109 ه ) ، 5 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة البعثة ، 1416 ه .

37 - بصائر الدرجات .

لأبي جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار القمّي ( م 290 ه ) ، إعداد الميرزا محسن كوچه باغي التبريزي ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1404 ه .

38 - البيان في تفسير القرآن .

للسيّد أبي القاسم بن السيّد علي أكبر الموسوي الخوئي ( م 1413 ه ) ، الطبعة الرابعة ، بيروت ، دار الزهراء ، 1395 ه .

ت

39 - تاريخ حصر الاجتهاد .

للشيخ محمّد محسن آقا بزرگ الطهراني ( م 1389 ه ) ، تحقيق محمّد على الأنصاري ، قم المقدّسة ، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام ، 1401 ه .

40 - التبيان في تفسير القرآن .

لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه ) ، إعداد حبيب قصير العاملي ، 10 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتب الأعلام

ص: 779

الإسلامي ، 1409 ه .

41 - تحرير وسائل الشيعة .

للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( م 1104 ه ) ، إعداد محمّد بن محمّد الحسين القائني ، قم المقدّسة ، انتشارات الطباطبائي ، 1422 ه .

42 - تحريرات في الاُصول .

للسيّد مصطفى بن السيّد روح اللّه الموسوي الخميني ( م 1398 ه ) ، 8 مجلّدات ، طهران ، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني ، 1418 ه .

43 - تحرير في الاُصول .

للشيخ مرتضى بن محمّد حسن المظاهري الإصفهاني ( م 1409 ه ) - « تقرير أبحاث المحقّق آقا ضياء الدين العراقي » - ، إعداد حمزة الحمزوي ، قم المقدّسة ، نشر مهر ، 1363 ش .

44 - تحف العقول عن آل الرسول .

لأبي محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني ، ( القرن الرابع ) ، الطبعة الثانية ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الاسلامي ، 1404 ه .

45 - التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف .

للمحقّق السيّد علّي الميلاني ، قم المقدّسة ، دار القرآن الكريم .

46 - رسالة التسامح في أدلّة السنن .

( رسائل فقهيّة للشيخ مرتضى الأنصاري ، م 1281 ه ) قم المقدّسة ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1414 ه .

ص: 780

47 - تشريح الاُصول .

للشيخ مولى علّي بن فتح اللّه النهاوندي ( م 1322 ه ) ، الطبعة الحجرية ، تهران ، ( 1320 ه ) .

48 - تعليقة على معالم الاُصول .

للسيّد على الموسوي القزويني ( م 1298 ه ) ، تحقيق السيّد عبد الرحيم الجزمئي القزويني صدر منه حتى آلان 6 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1426 - 1422 ه .

49 - تفسير رُوض الجنان و روح الجنان .

للشيخ جمال الدين أبو الفتوح الرازي ( المتوفّى في القرن السادس الهجري ) ، تعليقات علاّمه ميرزا أبو الحسن الشعرانى ، 12 مجلّدات ، طهران ، إسلاميّة ، 1388 ه .

50 - تفسير روض الجنان و روح الجنان .

للشيخ جمال الدين أبو الفتوح الرازي ( المتوفّى في القرن السادس الهجري ) ، إعداد : محمّد جعفر ياحقي - محمّد مهدي ناصح ، 20 مجلّدات ، مشهد المقدسة ، مجمع البحوث الإسلامية ، 1365 - 1376 ش .

51 - تفسير الصافي .

للمولى محمّد محسن بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) ، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي ، الطبعة الثانية ، 5 مجلّدات ، طهران ، مكتبه الصدر :1416 ه .

52 - تفسير عليّ بن إبراهيم ( تفسير القمّي ) .

لأبي الحسن علّي بن إبراهيم القمّي ، ( م 329 ه ) إعداد السيّد طيّب الجزائري ،

ص: 781

الطبعة الثالثة ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، دار الكتاب ، 1404 ه .

53 - تفسير العياشي .

لمحمّد بن مسعود بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي ( م 320 ه ) تحقيق السيّد هاشم الرسولي المحلاتي ، مجلّدان ، طهران ، المكتبة العلميّة الإسلاميّة ، 1380 ه .

54 - التفسير الكبير ( تفسير الرازي ) .

لمحمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي ( م 606 ه ) ، الطبعة الثالثة ، 32 جزءا في 16 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .

55 - تفسير نور الثقلين .

للشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي ( م 1112 ه ) ، تحقيق السيّد هاشم الرسولي المحلاتي ، الطبعة الرابعة ، 5 مجلّدات ، قم المقدّسة ، إسماعيليان ، 1412 ه .

56 - تنبيهات العليّة .

( المصنّفات الأربعة للشهيد الثاني ، م965 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ه .

57 - تنقيح المقال في علم الرجال .

للشيخ عبد اللّه بن محمّد حسن المامقاني ( م 1351 ه ) ، قم المقدّسة ، تحقيق الشيخ محي الدين المامقاني ، صدر منه حتى الآن 14 مجلّدات ، 1423 ه .

58 - التوحيد .

لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق

ص: 782

( م 381 ه ) ، تحقيق علي أكبر الغفاري والسيّد هاشم الحسيني الطهراني ، قم المقدّسة ، موسسة النشر الإسلامي ، 1398 ه .

59 - تهذيب الأحكام .

لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه ) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 10 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1365 ه .

60 - تهذيب الاُصول .

للشيخ جعفر السبحاني التبريزي ( تقرير أبحاث الإمام الخميني ) ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتبة إسماعيليان ، 1382 ه .

61 - تهذيب الاُصول .

للسيّد عبد الأعلى بن السيّد علي رضا بن السيّد عبد العلّي الموسوي السبزواري ( م 1414ه ) ، الطبعة الثانية ، مجلّدان ، بيروت ، الدار الإسلامية ، 1406 ه .

62 - تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال .

للسيّد محمّد علّي الموحّد الأبطحي الإصفهاني ، ( م 1423 ه ) ، الطبعة الثانية ، 5 مجلّدات ، قم المقدسة ، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1417 ه .

63 - تهذيب الوصول إلى علم الاُصول .

للعلاّمة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر ( م 726 ه ) ، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، لندن ، مؤسسة الإمام علي عليه السلام ، 1421 ه .

ص: 783

ث

64 - ثواب الأعمال .

لأبي جعفر محمّد بن علّي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، الطبعة الثانية ، قم المقدّسة ، منشورات الرضي ، 1368 ش .

ج

65 - جامع أحاديث الشيعة .

ألّف تحت إشراف آية اللّه العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي ( م 1380 ه ) قم المقدّسة ، مطبعة مهر .

66 - جامع الأخبار .

للشيخ محمّد بن محمّد السبزواري ( المتوفّى القرن السابع الهجري ) ، تحقيق علاء آل جعفر ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1414 ه .

67 - جوابات المسائل الرسيّة الاُولى .

( رسائل الشريف المرتضى ، م 436 ه ) ، قم المقدّسة ، دار القرآن ، 1405 ه .

68 - جواهر الكلام .

للشيخ محمّد حسن النجفي ( م 1366 ه ) ، إعداد الشيخ عباس القوچاني ، الطبعة الثانية ، 43 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة ، 1365 ش .

ص: 784

ح

69 - حاشية سلطان العلماء على المعالم .

للسيّد حسين بن رفيع الدين محمّد الحسينى المرعشي ( م 1064 ه ) ، قم المقدّسة مكتبة الداوري .

70 - الحاشية على استصحاب القوانين .

للشيخ مرتضى الأنصاري ( م 1281 ه ) ، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم المقدّسة ، المطبعة الباقري ، 1415 ه .

71 - حاشية المكاسب .

للشيخ محمّد حسين الغروي الإصفهاني ( م 1361 ه ) ، تحقيق الشيخ عبّاس محمّد آل سباع القطيفي ، 5 مجلّدات ، قم المقدّسة ، المحقّق ، 1418 ه .

72 - حاشية المعالم .

لمحمّد صالح بن أحمد بن شمس الدين السروي المازندراني المعروف بملاّ صالح المازندراني ( م 1081 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتبة الداوري .

73 - الحاشية على تهذيب المنطق .

للمولى عبد اللّه بن شهاب الدين الحسين اليزدي ، ( م 981 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1417 ه .

74 - الحبل المتين في إحكام أحكام الدين .

للشيخ بهاء الدّين محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الهمداني العاملي ( م 1030 ه ) ، تحقيق السيّد بلاسم الموسوي الحسيني ، مجلّدان ، مشهد المقدّسة ، مكتبة الروضة الرضويّة ، 1424 ه .

ص: 785

75 - الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة .

للمحقّق الشيخ يوسف البحراني ( م 1186 ه ) ، تحقيق محمّد تقي الإيرواني ، 25 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1409 ه .

76 - حقيقة الإيمان .

( المصنّفات الأربعة للشهيد الثاني ، م 965 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ه .

77 - الخصال .

لأبي جعفر محمّد بن علّي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، إعداد علي أكبر الغفّاري ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1403 ه .

78 - خلاصة الأقوال في معرفة الرجال .

للعلاّمة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر ( م 726 ه ) ، قم المقدّسة ، نشر الفقاهة ، 1417 ه .

79 - البداية في علم الدراية .

( الرعاية لحال البداية للشهيد الثاني ، م 965 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1423 ه .

80 - دراسات في علم الاُصول .

لآية اللّه السيّد علّي الهاشمي الشاهرودي ( م 1376 ه ) ، - ( تقرير أبحاث المحقّق السيّد الخوئي ) ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة دائرة المعارف فقه إسلامي ، 1419 ه .

ص: 786

81 - دروس في علم الاُصول .

المحقّق الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر ، ( م 1400 ه ) ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، دار المنتظر ، 1405 ه .

82 - درر الفوائد .

للزعيم المؤسّس الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ، ( م 1355 ه ) ، تحقيق الشيخ محمّد مؤمن القمّي ، الطبعة الخامسة ، جزءان في مجلّد واحد ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي .

83 - الدرر النجفيّة .

للمحقّق الشيخ يوسف البحراني ( م 1186 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث .

84 - دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام .

للقاضي نعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي ( م 363 ه ) ، تحقيق آصف علي أصغر فيضي ، مجلّدان ، مصر ، دار المعارف ، 1383 ه .

ذ

85 - ذخيرة المعاد .

للمولى محمّد باقر بن محمّد مؤمن المعروف بالمحقّق السبزواري ( م 1090 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث .

ص: 787

86 - الذريعة إلى اُصول الشريعة .

لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى ( م 436 ه ) ، تحقيق أبو القاسم الگرجى ، مجلّدان ، طهران ، جامعة طهران ، 1348 ش .

87 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة .

للشيخ محمّد محسن آقا بزرگ الطهراني ( م 1389 ه ) ، الطبعة الثالثة ، 26 مجلّدات ، بيروت ، دار الأضواء ، 1403 ه .

88 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة .

للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ه ) ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليه السلام لإحياء التراث ، 1419 ه .

ر

89 - رجال إبن داود .

لتقي الدين الحسن بن عليّ بن داود الحلّي ( م 707 ه ) ، النجف الأشرف ، مطبعة الحيدرية ، 1392 ه .

90 - الرجال .

لأحمد بن الحسين بن عبد اللّه بن إبراهيم أبي الحسين الواسطي البغدادي المعروف بابن الغضائري ، ( المتوفّى في القرن الخامس الهجري ) ، تحقيق السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي ، قم المقدّسة ، دار الحديث ، 1422 ه .

ص: 788

91 - رجال النجاشي .

لأبي العبّاس أحمد بن علّي بن أحمد النجاشي ( م 450 ه ) ، تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1407 ه .

92 - الرسائل الاُصولية .

للمولى محمّد باقر بن محمّد أكمل الإصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني ( م 1205 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة الوحيد البهبهاني ، 1416 ه .

93 - الرسائل التسع .

للمحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ( م 676 ه ) ، إعداد الشيخ رضا الاستادي ، قم المقدّسة ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1413 ه .

94 - الرسائل الرجالية .

للعلاّمة السيّد محمّد باقر بن السيّد محمّد تقي الموسوي الشفتي الجيلاني المعروف بحجّة الإسلام ( 1260 ه ) ، تحقيق السيّد مهدي الرجائي ، اصفهان ، مكتبة مسجد السيّد ، 1417 ه .

95 - رسائل الشريف المرتضى .

لأبي القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى علم الهدى ، ( م 436 ه ) ، إعداد السيّد مهدي الرجائي ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، دار القرآن الكريم ، 1405 ه .

96 - رسائل الشهيد الأوّل .

للشمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1423 ه .

ص: 789

97 - الرسائل الفقهيّة .

للمولى محمّد باقر بن محمّد أكمل الإصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني ، ( م 1205 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة العلاّمة الوحيد البهبهاني ، 1419 ه .

98 - رسائل فقهيّة .

للشيخ مرتضى بن محمّد أمين الدزفولي الأنصاري المعروف بالشيخ الأعظم ( م 1281 ه ) . تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم المقدّسة ، مجمع دار الفكر الإسلامي ، 1414 ه .

99 - رسائل المحقّق الكركي .

للمحقّق الثاني عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي ( م 940 ه ) ، إعداد محمّد الحسّون ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتبة آية اللّه المرعشي ومؤسسة النشر الإسلامي ( 1412 - 1409 ه ) .

100 - رسالة الجمع بين الأخبار .

( الرسائل الفقهيّة للوحيد البهبهاني ، م 1205 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة العلاّمة الوحيد البهبهاني ، 1419 ه .

101 - رساله صلاتيه .

للشيخ محمّد تقي بن محمّد رحيم الرازي النجفي الإصفهاني المعروف بصاحب حاشية المعالم و صاحب هداية المسترشدين ( م 1248 ه ) ، تحقيق الشيخ مهدي الباقري السيّاني ، قم المقدّسة ، ذوي القربى ، 1425 ه .

102 - رسالة في الإجتهاد والتقليد .

لآية اللّه الشيخ محمّد علي الأراكي ( م 1355 ه ) - ( تقرير أبحاث المؤسس الحائري ) ؛ المطبوع ضمن درر الفوائد - ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي .

ص: 790

103 - رسالة في تحريم الغناء .

للمولى محمّد باقر بن محمّد مؤمن المعروف بالمحقّق السبزواري ( م 1090 ه ) ، المطبوع ضمن ، غناء ، موسيقى « مجموعة رسائل » .

104 - رسالة في قبض الوقف .

للشيخ الحاج آقا منير الدين البروجردي الإصفهاني ، ( م 1342 ه ) ، تحقيق الشيخ مهدي الباقري السيّاني ، المطبوع ضمن « ميراث حوزه اصفهان » المجموعة الثانية 1384 ش .

105 - الرعاية لحال البداية في علم الدراية .

للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملى ( م 965 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1423 ه .

106 - روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات .

للسيّد محمّد باقر الخوانساري الإصفهاني ( م 1313 ه ) ، إعداد أسد اللّه إسماعيليان ، 8 مجلّدات ، قم المقدّسة ، إسماعيليان ، 1390 ه .

107 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان .

للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي ( م 965 ه ) ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الاسلامي ، 1422 ه .

108 - روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه .

للمولى محمّد تقي بن مقصود على المعروف بالمجلسي الأوّل ، ( م 1070 ه ) ، تحقيق السيّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الاشتهاردي ، 14 مجلّدات ، مؤسسة كوشانپور .

ص: 791

ز

109 - زبدة الاُصول .

للسيد محمّد صادق الحسيني الروحاني ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مدرسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1412 ه .

110 - زبدة الاُصول .

للشيخ البهائي محمّد بن حسين العاملي ( م 1030 ه ) ، إعداد السيّد علي جبّار الگلباغي الماسوله ، قم المقدّسة ، دار البشير ، 1425 ه .

111 - زهر الربيع .

للسيّد نعمة اللّه بن السيّد عبداللّه الموسوي المعروف بالمحدّث الجزائري ، ( م 1112 ه ) ، بيروت ، دار الجنان ، 1414 ه .

س

112 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي .

لمحمّد بن منصور بن أحمد العجلى الحلّي ( م 598 ه ) ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1410 ه .

ش

113 - شرح الإشارات .

للخواجة نصير الدين الطوسي ( م 672 ه ) ، المطبوع مع « الإشارات والتنبيهات » .

ص: 792

114 - شرح اُصول الكافي .

للمولى محمّد صالح بن أحمد بن شمس الدين السروي المازندراني المعروف بملاّ صالح المازندراني ( م 1081 ه ) مع التعليقات لميرزا أبي الحسن الشعراني ، 12 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1421 ه .

115 - شرح الشمسيّة في المنطق .

لقطب الدين محمّد بن محمّد الرازي البويهي ( م 766 ه ) ، طهران ، مكتبة العلميّة الإسلاميّة ، 1394 ه .

116 - شرح مختصر الاُصول .

للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي ( م 756 ه ) ، اسلامبول ، 1310 ه .

ص

117 - الصحاح ( تاج اللغة وصحاح العربية ) .

لإسماعيل بن حمّاد الجوهري ( م 393 ه ) ، تحقيق أحمد عبد الغفور العطّار ، الطبعة الرابعة ، 6 مجلّدات ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1407 ه .

118 - صيانة القرآن عن التحريف .

لآية اللّه الشيخ هادي المعرفة ، الطبعة الثانية ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1418 ه .

ص: 793

ط

119 - طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال .

للسيّد على أصغر بن السيّد محمّد شفيع الجابلقي البروجردي ، ( م 1313 ه ) ، تحقيق السيّد مهدي الرجائي ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1410 ه .

ع

120 - عدّة الاُصول .

لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه ) ، إعداد محمّد رضا الأنصاري ، الطبعة الثانية مجلّدان ، قم المقدّسة ، 1417 ه .

121 - علل الشرائع .

لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، مجلّدان ، النجف الأشرف ، المكتبة الحيدرية ، 1385 ه .

122 - علم اليقين في اُصول الدين .

للمولى محمّد محسن بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) ، مجلّدان ، ، قم المقدّسة ، نشر بيدار ، 1400 ه .

123 - عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام .

للمولى أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذر النراقي ( م 1245 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1417 ه .

ص: 794

124 - عناية الاُصول .

للسيّد مرتضى الحسيني الفيروز آبادي النجفي ( م 1410 ه ) ، قم المقدّسة ، الفيروز آبادي ، 1400 ه .

125 - عوالى اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية .

لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي الجمهور ( المتوفّى اوائل قرن العاشر ) تحقيق الشيخ مجتبى العراقي ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1403 ه .

126 - العين .

لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي ( م 175 ه ) ، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي ، 8 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة دار الهجرة ، 1405 ه .

127 - عيون أخبار الرضا عليه السلام .

لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، إعداد الشيخ حسين الإعلمى ، مجلّدان ، بيروت ، مؤسسة الاعلمى للمطبوعات ، 1404 ه .

غ

128 - غاية المراد في شرح نكت الإرشاد .

للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ه ) ، إعداد رضا المختاري ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1414 ه .

ص: 795

129 - غناء ، موسيقي ( مجموعة رسائل ) .

إعداد رضا المختاري و محسن الصادقي ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مدرسة ولى عصر « عج » ، 1418 ه .

130 - غنية النزوع إلى علمى الاُصول والفروع .

لأبي المكارم السيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني المعروف بابن زهرة الحلبي ( م 585 ه ) ، إعداد الشيخ إبراهيم البهادري ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1417 ه .

131 - الغيبة للطوسي .

لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه ) ، تحقيق الشيخ عباد اللّه الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح ، قم المقدّسة ، مؤسسة المعارف الإسلامية ، 1411 ه .

132 - الغيبة للنعماني .

للشيخ أبي عبد اللّه محمّد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعمانى المعروف بابن أبي زينب ، ( م 350 ه ) ، تحقيق المرحوم علي أكبر الغفّاري ، طهران ، مكتبة الصدوق .

ف

133 - فرائد الاُصول .

للشيخ مرتضى بن محمّد أمين الدزفولي الأنصاري المعروف بالشيخ الأعظم ( م 1281 ه ) ، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الخامسة ،

ص: 796

4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مجمع دار الفكر الإسلامي ، 1424 ه .

134 - الفرق بين النافلة والفريضة .

للشيخ الحاج آقا منير الدين البروجردي الإصفهاني ( م 1342 ه ) ، قاهرة ، مطبعة النجاح ، 1396 ه .

135 - الفصول الغروية .

للشيخ محمّد حسين بن محمّد رحيم الرازي الإصفهاني الحائري ( م 1261 ه ) ، قم المقدّسة ، دار إحياء العلوم الإسلامية ، 1404 ه .

136 - الفقيه ( كتاب من لا يحضره الفقيه ) .

لأبي جعفر محمّد بن علّي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، تحقيق المرحوم علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1404 ه .

137 - الفهرست لإبن النديم .

لأبي الفرج محمّد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف بالورّاق ( م 385 ه ) ، قاهرة ، 1348 ه .

138 - فهرست كتب الشيعة وأصولهم .

لأبي جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي ( م 460 ه ) ، تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي ، قم المقدّسة ، مكتبة المحقّق الطباطبائي ، 1420 ه .

139 - فوائد الاُصول .

للشيخ محمّد على الكاظمي ( م 1365 ه ) - ( تقرير أبحاث المحقّق النائيني ) - ، الطبعة السادسة ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1417 ه .

ص: 797

140 - الفوائد الحائرية .

للمولى محمّد باقر بن محمّد أكمل الإصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني ( م 1205 ه ) ، قم المقدسة ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1415 ه .

141 - الفوائد الرجالية .

للسيّد محمّد مهدى الطباطبايي النجفي البروجردي المعروف بالعلاّمة البحر العلوم ( م 1212 ه ) ، تحقيق محمّد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم ، 4 مجلّدات ، طهران ، مكتبة الصادق ، 1363 ش .

142 - الفوائد الرجاليّة .

للعلاّمة محمّد إسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني المعروف بالمحقّق الخواجوئي ( م 1173 ه ) ، تحقيق السيّد مهدي الرجائي ، مشهد المقدّسة ، مجمع البحوث الإسلامية ، 1413 ه .

143 - الفوائد الرضوية في أحوال علماء المذهب الجعفرية .

للشيخ عبّاس بن محمّد رضا المعروف بالمحدّث القمّي ، (م 1359 ه) .

144 - الفوائد الطوسية .

للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( م 1104 ه ) ، قم المقدسة ، المطبعة العلميّة ، 1403 ه .

145 - الفوائد المدنيّة .

للمحدّث محمّد أمين الأستر آبادي ( م 1033 ه ) ، تحقيق الشيخ رحمت اللّه الرحمتي الأراكي ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1424 ه .

ص: 798

ق

146 - قاموس الرجال .

للشيخ محمّد تقي بن الشيخ محمّد كاظم التستري ( م 1415 ه ) ، الطبعة الثانية ، 12 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1424 ه .

147 - القاموس المحيط .

لمجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروز آبادي ( م 817 ه ) ، 4 مجلّدات ، بيروت ، دار الجيل .

148 - قبيله عالمان دين .

للاستاذ الشيخ هادي بن الشيخ مهدي النجفي ، قم المقدّسة ، عسكرية ، 1423 ه .

149 - قرب الإسناد .

لأبي العبّاس عبد اللّه بن جعفر الحميري القمّي ( م بعد 304 ه ) ، قم المقدّسة مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث ، 1413 ه .

150 - القواعد الفقهيّة .

للعلاّمة السيّد محمّد حسن البجنوردي ( م 1395 ه ) ، تحقيق محمّد حسين الدرايتي والمهدي المهريزي ، 7 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة الهادي ، 1419 ه .

151 - القواعد والفوائد في الفقه والاُصول والعربية .

للشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ( م 786 ه ) ، تحقيق السيّد عبد الهادي الحكيم ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مكتبة المفيد .

ص: 799

152 - قوانين الاُصول .

لأبي القاسم بن الحسن الجيلاني المعروف بالمحقّق القمّي ( م 1231 ه ) ، طهران ، مكتبة العلميّة الإسلاميّة ، 1378 ه .

ك

153 - الكافي .

لأبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ( م 329 ه ) ، تحقيق على أكبر الغفّاري ، الطبعة السادسة ، 8 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الاسلاميّة ، 1375 ش .

154 - الكافي في الفقه .

لأبي الصلاح الحلبي تقي الدين بن نجم ( م 447 ه ) ، تحقيق الشيخ رضا الاستادي ، إصفهان ، مكتبة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ، 1403 ه .

155 - كتاب الزهد .

للحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي ( المتوفّى القرن الثالث الهجري ) ، إعداد غلامرضا عرفانيان ، قم المقدّسة ، العلميّة ، 1399 ه .

156 - كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء .

للشيخ جعفر بن الشيخ خضر الجناجي النجفي الحلّي ( م 1228 ه ) ، 4 مجلّدات ، مشهد المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ه .

157 - كفاية الاُصول .

للشيخ محمّد كاظم بن المولى حسين الهروي الخراساني المعروف بالآخوند

ص: 800

الخراساني ( م 1329 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1417 ه .

158 - كليّات في علم الرجال .

للشيخ جعفر السبحاني ، الطبعة الثالثة ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1414 ه .

159 - كمال الدين وتمام النعمة .

لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق ( م 381 ه ) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1405 ه .

160 - كنز الفوائد .

لأبي الفتح الشيخ محمّد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي ( م 449 ه ) ، تحقيق الشيخ عبد اللّه نعمة ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، دار الذخائر ، 1410 ه .

ل

161 - لسان العرب .

لجمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري ( م 711 ه ) ، 15 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1408 ه .

162 - لمحات الاُصول .

للإمام الخميني ( م 1409 ه ) - ( تقرير إفادات المحقّق البروجردي ) - ، طهران ، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني ، 1421 ه .

ص: 801

م

163 - مباحث الاُصول .

للسيّد كاظم الحائري ( تقرير أبحاث الشهيد السعيد السيّد محمّد باقر الصدر ) ، 3 مجلّدات ، 1408 ه .

164 - مبادي الوصول إلى علم الاُصول .

للعلاّمة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر ( م 726 ه ) ، إعداد عبد الحسين محمّد علي البقّال ، الطبعة الثالثة ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1404 ه .

165 - مجد البيان في تفسير القرآن .

للشيخ محمّد حسين بن محمّد باقر بن محمّد تقي الرازي النجفي الإصفهاني ( م 1308 ه ) ، طهران ، مؤسسة البعثه ، 1408 ه .

166 - مجمع الأفكار .

لشيخ محمّد على إسماعيل پور الإصفهاني الشهرضائي ( تقرير أبحاث المحقّق الميرزا هاشم الآملي ) ، 5 مجلّدات ، قم المقدّسة ، العلميّة ، 1395 ه .

167 - مجمع البحرين .

للشيخ فخر الدين محمّد الطريحي ( م 1085 ه ) ، تحقيق السيّد أحمد الحسيني الإشكوري ، الطبعة الثانية ، 6 مجلّدات ، نشر الثقافة الإسلامية ، 1408 ه .

168 - مجمع الفائدة والبرهان .

للمحقّق الأردبيلي أحمد بن محمّد ( م 993 ه ) ، إعداد عدّة من العلماء ،

ص: 802

14 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ( 1402 - 1416 ه ) .

169 - مجمع البيان لعلوم القرآن .

لأبي علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي ( م 548 ه ) ، الطبعة الرابعة ، 10 جزءا في 5 مجلّدات ، طهران ، ناصر خسرو ، 1416 ه .

170 - المحاسن .

لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ( م 280 ه ) ، تحقيق السيّد جلال الدين الحسيني المحدّث ، مجلّدان ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة .

171 - المحاكمات

محمّد بن محمّد قطب الدين الرازي ، ( م 672 ه ) ، المطبوع ضمن « الإشارات والتنبيهات » .

172 - المحصول في علم الاُصول .

لمحمّد بن عمر الخطيب فخر الدين الرازي ( م 606 ه ) ، تحقيق طه جابر فيّاض العلواني ، الطبعة الثانية ، 6 مجلّدات ، بيروت ، دار الرسالة ، 1412 ه .

173 - المحكم والتشابه .

[ المنسوب ] لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى ( م 436 ه ) ، إعداد السيّد حسن المصطفوي ، طهران .

174 - مختلف الشيعة في احكام الشريعة .

للعلاّمة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر ( م 676 ه ) ، الطبعة الثانية ، 10 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1423 ه .

ص: 803

175 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام .

للسيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي ( م 1009 ه ) ، 8 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1410 ه .

176 - مرأة العقول في شرح أخبار آل الرسول .

للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي ( م 1110 ه ) ، الطبعة الثانية ، 25 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلاميّة ، 1404 ه .

177 - المسائل التبانيّات .

( رسائل الشريف المرتضى ، م 436 ه ) ، قم المقدّسة ، دار القرآن الكريم ، 1405 ه .

178 - مسائل علي بن جعفر .

لأبي الحسن العريضي علي بن أبي عبد اللّه الإمام الصادق عليه السلام ( م 202 ه ) ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، مشهد المقدّسة ، المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام ، 1409 ه .

179 - المسائل الموصليّات الثالثة .

(رسائل الشريف المرتضى ، 436 ه ) ، قم المقدّسة ، دار القرآن الكريم ، 1405 ه .

180 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل .

للحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي ( م 1320 ه ) ، 18 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1407 ه .

181 - مشرق الشمسين واكسير السعادتين .

للشيخ محمّد بن حسين العاملي المعروف بالشيخ البهائي ( م 1030 ه ) ، تحقيق

ص: 804

السيّد مهدي الرجائي ، مشهد المقدّسة ، مكتبة الرضويّة ، 1414 ه .

182 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير .

لأحمد بن محمّد بن عليّ المقري الفيّومي ( م 770 ه ) ، جزءان في مجلّد واحد ، قم المقدّسة ، دار الهجرة ، 1405 ه .

183 - المصنّفات الأربعة .

للشهيد الثاني زين الدين بن علّي بن أحمد العاملي ( م 965 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ه .

184 - مطارح الأنظار .

لأبي القاسم بن محمّد النوري الطهراني المعروف بالكلانتري ( م 1292 ه ) - ( تقرير أبحاث الشيخ الأعظم الأنصاري ) - ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث .

185 - معارج الاُصول .

للمحقّق الحلّى نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ( م 676 ه ) ، إعداد السيد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1403 ه .

186 - المعالم الجديدة للاُصول .

للشهيد السعيد آية اللّه السيّد محمّد باقر الصدر ( م 1400 ه ) ، الطبعة الثانية ، مكتبة النجاح ، 1395 ه .

187 - معالم الدين وملاذ المجتهدين .

لجمال الدين حسن بن زين الدين بن علّي العاملي ، ( م 1011 ه ) ، الطبعة التاسعة ،

ص: 805

قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي .

188 - معالم العلماء .

لأبي جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني ( م 588 ه ) ، إعداد السيّد محمّد صادق بحر العلوم ، النجف الأشرف ، المطبعة الحيدرية ، 1380 ه .

189 - معاني الأخبار .

للشيخ الصدوق محمّد بن علّي بن الحسين بن بابويه القمّي ( م 381 ه ) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1361 ه .

190 - المعتبر في شرح المختصر .

للمحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي ( م 676 ه ) ، إعداد عدّة من الأعلام ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مؤسسة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1364 ش .

191 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة .

للسيّد أبي القاسم بن السيّد علي أكبر الموسوي الخوئي ( م 1413 ه ) ، إعداد لجنة التحقيق ، الطبعة الخامسة ، 24 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مركز نشر آثار الشيعة ، 1413 ه .

192 - مفاتيح الاُصول .

للسيّد المجاهد السيّد محمّد بن السيّد علّي الطباطبائي ( م 1242 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث .

193 - المفردات .

لأبي القاسم الحسين بن محمّد بن المفضّل المعروف بالراغب الإصفهاني

ص: 806

( م 565 ه ) ، تحقيق محمّد سيّد الگيلاني ، بيروت ، دار المعرفة .

194 - المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفية .

للشهيد الثاني زين الدين بن علّي بن أحمد العاملي ( م 965 ه ) ، قم المقدّسة ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1420 ه .

195 - المقالات الاُصوليّة .

للشيخ آقا ضياء الدين العراقي ( م 1361 ه ) ، مجلّدان ، قم المقدّسة ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1414 ه .

196 - المكاسب .

للشيخ مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي المعروف بالشيخ الأعظم ( م 1281 ه ) ، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة السابعة ، 6 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1424 ه .

197 - مناقب آل أبي طالب .

لرشيد الدين محمّد بن علّي بن شهر آشوب السروي المازندراني ( م 588 ه ) ، 3 مجلّدات ، النجف الأشرف ، مطبعة الحيدرية ، 1376 ه .

198 - مناهج الأحكام والاُصول .

للمولى أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذر النراقي ( م 1245 ه ) ، الطبعة الحجرية ، طهران .

199 - منتقى الجمان في الأحاديث الصحيح والحسان .

لجمال الدين حسن بن زين الدين بن علّي العاملي ( م 1011 ه ) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1362 ش .

ص: 807

200 - المنطق .

للشيخ محمّد رضا بن الشيخ محمّد المظفر ( م 1383 ه ) ، الطبعة الثالثة ، النجف الأشرف ، مطبعة النعمان ، 1388 ه .

201 - منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال ( الرجال الكبير ) .

للميرزا محمّد بن علي الأسترآبادى ( م 1028 ه ) ، صدر منه حتى الآن 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ، 1422 ه .

202 - الميزان في تفسير القرآن .

للعلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي التبريزي ( م 1402 ه ) ، 20 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي .

203 - مواهب الرحمن في تفسير القرآن .

للسيّد عبد الأعلى بن السيّد علي رضا بن السيّد عبد العلي الموسوي السبزواري ( م 1414 ه ) .

204 - موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام .

للاستاذ الشيخ هادي بن الشيخ مهدي النجفي الإصفهاني ، 12 مجلّدات ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1423 ه .

205 - الموسوعة الرجالية الميسّرة .

للشيخ على أكبر الترابي ( تحت إشراف الشيخ المحقّق جعفر السبحاني ) ، الطبعة الثانية ، قم المقدّسة ، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1424 ه .

ص: 808

ن

206 - نُجْعة المرتاد .

لأبي المجد الشيخ محمّد رضا بن الشيخ محمّد حسين النجفي الإصفهاني المعروف بصاحب الوقاية ( م 1362 ه ) ، تحقيق الشيخ رحيم القاسمي الدهكردي ، المطبوع ضمن « ميراث حوزه إصفهان » ، المجموعة الاولى ، 1383 ش .

207 - النصّ والإجتهاد .

للسيّد عبد الحسين شرف الدين ( م 1377 ه ) ، تحقيق أبو مجتبى ، قم المقدّسة مطبعة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1404 ه .

208 - نهاية الأفكار .

للشيخ محمّد تقي البروجردي ( م 1391 ه ) - ( تقرير ابحاث آقا ضياء الدين العراقي ) - ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، - 1417 ه .

209 - نهاية الدراية في شرح الكفاية .

للشيخ محمّد حسين الإصفهاني الغروي المعروف بالكمپاني والمحقّق الإصفهاني ( م 1361 ه ) ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة سيّد الشهداء عليه السلام ، 1374 ه .

210 - نهاية السوؤل في شرح منهاج الاُصول .

للشيخ جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي الشافعي ( م 722 ه ) ، 4 مجلّدات ، القاهرة ، عالم الكتب ، 1343 ه .

211 - النهاية في غريب الحديث والأثر .

لأبي السعادات مجد الدين المبارك بن محمّد بن محمّد المعروف بإبن الأثير الجزري ( م 606 ه ) الطبعة الرابعة ، 5 مجلّدات ، قم المقدّسة ، إسماعيليان ، 1363 ش .

ص: 809

212 - نهاية الوصول إلى علم الاُصول .

للعلامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( م 726 ه ) ، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري ، صدر منها حتى الآن الجزء الأوّل ، قم المقدّسة ، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، 1425 ه .

213 - نهج البلاغة .

لأبي الحسن الشريف الرضي محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي ( م 406 ه ) ، إعداد الشيخ محمّد الدشتي ، الطبعة الخامسة ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1417 ه .

و

214 - الوافي .

لمحمّد محسن بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) ، 27 مجلّدات ، اصفهان ، مكتبة أميرالمؤمنين عليه السلام العامّة ، 1412 ه .

215 - الوافية .

لعبد اللّه بن محمّد البشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني ( م 1071 ه ) ، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، قم المقدّسة ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1412 ه .

216 - الوجيزة في الرجال .

للعلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي ( م 1110 ه ) ، إعداد محمّد كاظم رحمان ستايش ، 1420 ه .

ص: 810

217 - وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) .

للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملى ( م 1104 ه ) ، الطبعة الثالثة ، 30 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، 1416 ه .

218 - وصول الأخيار إلى اُصول الأخبار .

للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي المعروف بوالد البهائي ( م 984 ه ) ، تحقيق السيّد عبد اللطيف الكوهكمري ، قم المقدّسة ، مجمع الذخائر الإسلامية ، 1401 ه .

219 - وقاية الأذهان .

للشيخ أبي المجد محمّد رضا بن محمّد حسين النجفي الإصفهاني ( م 1362 ه ) ، قم المقدّسة ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، 1413 ه .

ه-

220 - هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار .

للشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي ( م 1076 ه ) ، بغداد ، مؤسسة إحياء الأحياء ، 1977 م .

221 - الهداية في الاُصول .

للشيخ المحقّق حسن الصافي الإصفهاني ( م 1374 ش ) - ( تقرير أبحاث المحقّق الخوئي ) - ، 4 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة صاحب الأمر ( عج ) ، 1418 ه .

222 - هداية المسترشدين في شرح معالم الدين .

للشيخ محمّد تقي بن محمّد رحيم الرازي النجفي الإصفهاني ( م 1248 ه ) ، 3 مجلّدات ، قم المقدّسة ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1420 ه .

ص: 811

ص: 812

فهرس الموضوعات

ص: 813

ص: 814

فهرس الموضوعات

تقديم بقلم آية اللَّه الشيخ هادي النجفي - دام ظله - 5

بعض الروايات الاصولية 5

الفارق بين القواعد الفقهية والمسائل الاصولية 11

اما هذا الكتاب 12

واما المؤلِّف 15

اساتيده ومشايخه وهجرته الى النجف الأشرف 16

تصوير اجازة الشيخ الأعظم الأنصاري للمؤلف 17

قالوا في حقّه 18

صورة خط الميرزا الشيرازي الكبير في حقِّ المؤلف 19

رجوعه الى اصبهان 27

تدريسه وبعض تلاميذه 28

تأليفاته 32

أولاده 33

وفاته ومدفنه ورثائه 37

مصادر ترجمة المؤلف 41

ص: 815

شكر وتقدير 43

مقدّمة المحقّق 45

تعريف علم الاُصول والإشارة إلى اداوره 45

المقام الأوّل : بعض المؤلَّفات ومؤلفِّيها 47

المقام الثّاني : الاداور الثلاثة بعد الوحيد البهبهاني 47

المؤلَّف في سطور 50

إلمام إلى ما للمؤلِّف من الحالات النفسيّة النفيسة 52

المؤلَّف في سطور 53

بعض ميزات هذا الأثر القيّم 54

الاُمور الثمانية في خاتمة الكتاب 56

بعض التعابير لصاحب الهداية وولده 57

بين يدي الكتاب 58

شرح هداية المسترشدين 63

علّة تأليف الكتاب 65

حصر الأدلّة الأربعة 68

توضيح المؤلف وبيانه في المقام 68

نقل كلام الشيخ البهائي ونقده 68

تقسسيم آخر للأدلّة 71

رجع إلى كلام الشيخ البهائي ونقده 76

نقل كلام الآمدي ونقده 76

تمهيد المطالب الخمسة : 77

ص: 816

المطلب الأوّل في معنى الدليل 77

بيان المصنف في معنى الدليل ونقل الأقوال فيه ونقده 78

الفرق بين الدليل والدلالة 82

نقل كلام السيّد الطباطبائي في معنى الدليل الشرعي 88

المطلب الثاني في أقسام الدليل 89

كلام المؤلف في شرحه 90

الفرق بين الدليل الاجتهادي والأصل العملى 90

تقسيم آخر للأدلّة الشرعيّة 93

بيان المؤلف في شرحه 94

تفصيل السيّد المجاهد ونقده 97

ويدل عليه : 1 - حجيّة الظواهر والعمومات والمطلقات 98

2 - تحريم العمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة 100

3 - حجيّة استصحاب العموم والإطلاق والظاهر 100

4 - إطباق العلماء على الرجوع إلى التعادل والتراجيح عند تعارض الأدلّة 100

5 - الظن بما هو الظنّ لا يعوّل عليه في الشريعة 102

في أنّ المدار في حجيّة اخبار الآحاد على الظن أو على التعببد ؟ 103

توضيح مختصر للمؤلف 110

المطلب الثالث في أنّ المدار من الأدلّة الشرعيّة حصول العلم منها 111

بيان المؤلف حول تأسيس الأصل في عدم حجيّة الظنّ من حيث هو ذكر أدلّتها والمناقشة فيها 111

احتجاج إبن قبة في المنع من التعبّد بخبر الواحد عقلاً ونقده 116

ص: 817

مصلحة العمل على الظنّ يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع ونقده 117

مصلحة الطريق تجعل في عرض الواقع ونقده 125

الواقع هو العمل بالظنّ أو ما يفهمه المكلّف من الطريق ونقده 126

دلالة الآيات على عدم جواز الأخذ بالظنّ 127

توضيح كلام صاحب الهداية 129

دلالة الأخبار الكثيرة على عدم الاكتفاء بغير العلم 132

المؤلف يدعي تجاوز الأخبار عن حدّ التواتر على عدم الاكتفاء بغير العلم 135

التنبيه على اُمور : 136

الأوّل : حجيّة العلم ليست أمراً مجعولاً شرعيّاً 136

الثاني : القطع بخلاف الواقع عذرٌ والبحث حول التجري 138

ما أفاده الشهيد في بعض أقسام التجري ونقده 140

قد يناقش على نفي العقاب على النيّة ببعض الآيات والروايات ونقده 142

تفصيل من صاحب الفصول في بحث التجرّي ونقده من المؤلف 144

الثالث : نفي التفصيل بين أسباب العلم وأقسامه 145

نقد مختار أخباريين في عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة

قطع القطّاع ليست بحجّة 146

المطلب الرابع في أنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم هو اليقين بالواقع أو اليقين بالوظيفة 147

اُمور ثلاثة لامجال للتأمّل والخلاف فيها 152

الأقسام المتصوّره في صدور الأحكام عن الحكيم ستة 155

هل الغرض من وضع الأحكام الشرعيّة إصابة الواقع بحيث يجب على المكلّف تحصيل الأقرب إليه أو لا ؟ 156

ص: 818

المطلب الخامس : هل الحجّة في زمن الغيبة هي الظنّ المطلق أو الظنّ الخاص ؟ 158

قول الوحيد البهبهاني في حجيّة الظنّ المطلق ونقده 163

الباعث على عدم التعرّض لعدم حجيّة الظن المطلق في كتب القدماء وأكثر المتأخّرين وضوحه 165

ردّ قول الأخباريين بعدم حجيّة الظنّ مطلقاً ودعويهم بأنّ الأخبار المعروفة قطعية الصدور والدلالة 168

إرجاع المؤلف إلى بحث الاجتهاد من الهداية 168

ما المراد من حجيّة الظنّ مطلقاً ؟ 169

نقد كلام الماتن 171

الإشكالات الواردة على معنيي حجيّة الظنّ مطلقاً وجوابها 172

جواب المؤلف على بعض الإشكالات 174

اعتراض بعض المشايخ على الماتن وجوابه 176

الرجوع إلى مطلق الظنّ يتصوّر على وجوه 179

ذقل بيان المحقّق القمّي 180

نقد المؤلف على المحقّق القمّي 183

نقد الماتن على المحقّق القمّي 186

توضيح المؤلف لكلام الماتن ونقده 189

أدلّه المانعين عن العمل بالظنّ المطلق وأجوبتها 192

الأدلّة الثمانية المانعة عن العمل بالظنّ المطلق عند الماتن 216

توضيح المؤلف للأدلّة الثمانية 218

الفرق بين قولى صاحبى الهداية والفصول 219

ص: 819

الأحكام الشرعيّة يتصوّر على وجوهٍ 230

الإشكال الوارد على الوجه الأوّل من تصحيح القول بحجيّة الظنون الخاصّة وجوابه 236

بيان المؤلف في ذلك 238

الإشكال الآخر من الماتن 239

شرح من المؤلف 264

ردّ المؤلف على ناقد الماتن 269

نقل كلام صاحب الفصول في المقام 269

بيان المؤلف في توضيح كلام عمّه 250

مناقشة الشيخ الأنصاري في ما أفاده صاحب الفصول 253

جواب المؤلف عن مناقشة الشيخ الأعظم 255

نقل بعض الإشكالات الواردة على الفصول ونقدها 257

توضيح الاشكال الثالث من المؤلف وجوابه 260

توضيح الإشكال الرابع من المؤلف وجوابه 263

بعض الإيرادات الآخر على الفصول وجوابها 263

نقل إيراد آخر على الفصول وجوابه 271

تقرير الجواب المذكور بوجهين 274

مناقشة الشيخ الأعظم في الجواب 274

جواب المؤلف عن مناقشة الشيخ 276

إشكال الشيخ على نفسه وجوابه 277

مناقشة المؤلف في جواب الشيخ 279

ص: 820

نقل كلام الشيخ الأعظم 281

مناقشة المؤلف في ما أفاد الشيخ 282

نقل إيراد آخر على صاحب الفصول وجوابه 284

نقل جواب صاحب الفصول على الإيراد المذكور 287

نقد جواب صاحب الفصول 289

الوجه الثالث من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّه 291

تقرير المؤلف في ما أفاد والده 292

نقل بعض الإيرادات على بيان صاحب الهداية والجواب عنها 293

كلام صاحب الهداية في لزوم الأخذ بمظنون الحجيّة 299

مناقشة الشيخ الأعظم في ما أفاده صاحب الهداية 303

ردّ مناقشة الشيخ الأعظم 305

مناقشة اُخرى في ما أفاده صاحب الهداية وردّه 307

مناقشة ثالثة في ما أفاده صاحب الهداية وردّه 308

بقي في المقام إيراد آخر بل هناك وجهان آخران 310

نقد المؤلف على الوجهين 311

بيان الوجه الثالث للمؤلف 311

الوجوه المتصوّره في تعميم الحكم بالحجيّة لجميع الظنون ستّة 313

الوجه الرابع من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة 313

الإيرادات الواردة عليه 314

نقل إيراد الشيخ الأعظم وهو رابع الإيرادات 317

نقل إيراد آخر للشيخ الأعظم وهو خامس الإيرادات ونقده 318

ص: 821

الإيرادات الواردة على الوجه الرابع وأجوبتها في كلام الماتن 321

توضيح كلام الماتن 327

الوجه الخامس من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة 329

الإيرادات الثلاثة وأجوبتها على الوجه الخامس 330

الإيرادات الواردة على الوجه الخامس وأجوبتها في كلام الماتن 333

بيان وجه التأمّل في كلام الماتن 338

الوجه السادس من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة 341

المناقشات الثلاثة من الشيخ الأعظم على الماتن 341

إرجاع الوجه الثالث إلى الوجه الآخر في كلام الشيخ الأعظم وجوابه عنه 344

جواب المؤلف عن الشيخ الأعظم 347

كلام صاحب الوافية 351

نقد الشيخ الأعظم عليه 351

مناقشة المؤلف مع الشيخ الأعظم 352

وجه آخر ذكره صاحب الفصول 353

نقد كلام صاحب الفصول 353

تقرير الدليل المذكور في المتن بالوجوه السبعة 354

الإيرادات الواردة على الوجه السادس وأجوبتها في كلام الماتن 356

توضيح كلام الماتن بطرح إشكال عليه وجوابه 359

إيراد من الماتن وجوابه 360

توضيح كلام الماتن 362

إيراد آخر من الماتن وجوابه 363

ص: 822

توضيح كلام الماتن وجواب الشارح عن الإيرادات الثلاثة عليه 364

تتمّة الإيرادات الواردة على الوجه السادس وأجوبتها في كلام الماتن 369

الوجه السابع من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة 372

نقل ايرادين للمحقّق الآشتياني وجوابه من المؤلف 375

تقرير آخر للدليل السابع من صاحب الهداية 379

إيرادٌ على هذا التقرير 380

جواب الإيراد من المؤلف 380

الوجه الثامن من وجوه تصحيح حجيّة الظنون الخاصّة 381

المناقشات الثلاثة في الوجه الثامن وجواباته 390

المناقشة الاُولى وجوابات الثلاث لها : المناقشة في الإسناد يجري في الكتاب 391

المناقشة في الإسناد يجري في الأخبار أيضاً 393

نقد كلام السيد المرتضى في عدم حجيّة خبر الواحد 393

قول بعض الأخباريين بقطعيّة الأخبار الواردة في الكتب الأربعة ضلال مبين 395

إدّعى إبن طاووس الإجماع على حجيّة الخبر الواحد 397

نقل الروايات في حجيّة أخبار الآحاد 400

إن قلت : إنّ الإجماع المنقول وأخبار الآحاد لا يصلح لإثبات حجيّة أخبار الآحاد ... 406

نقل كلام الشيخ الطوسي في حجيّة الخبر الواحد 407

قد أنكر جماعة من الأصحاب دلالة كلام الشيخ على حجيّة خبر الواحد 407

ص: 823

قلت : جواب هذه الشبهات 413

دفع توهّم من كلام الشيخ الطوسي 413

دعوى تمكّن أصحاب الأئمة عليهم السلام من أخذ جميع الأحكام بطريق اليقين ممنوعة 415

كلام صاحب المعالم ونقد الشيخ الأعظم عليه 417

جواب المؤلف على نقد الشيخ الأعظم 417

ما ذكره شيخنا البهائي قدس سره وغيره في معنى الصحيح عند القدماء 418

كلام الآقا رضي القزويني في تفسير الخبر الواحد 418

جواب المؤلف عن شبهة أنّ الكتاب والسنّة يمنعان عن العمل بغير العلم 419

فذلكة الكلام للمؤلف 422

الأخبار الواردة في جواز العمل بالاُصول المعتبره 424

إشكال في المقام وجوابه 428

نقل كلام المحقّق في المعتبر وتأئيده من المؤلف 429

نقل كلام الشيخ الطوسي في العدّة وقبوله من المؤلف 433

إشكال على الشيخ الطوسي وجوابه 435

استشهاد بمقالات المحقّق على حجيّة خبر الثقات 436

معنى الصحيح عند قدماء الأصحاب 441

هل يشترط الاُمور الخمسة في الراوي ؟ 442

الأقوال حول شرائط الراوي 443

وجه إعراض الأصحاب عن روايات كلّ من أعرض من أهل البيت عليهم السلام 447

ممّا يدلّ على حجيّة ما يوثق به من الأخبار اُمور 448

ص: 824

منها : آية النبأ والروايات الواردة في المقام 448

ومنها : الأخبار المعللّة 450

ومنها : الأخبار العامّة 450

المناقشة من جهة الدلالة 451

الجواب عنها 453

مناقشات آخر وجواباتها 453

توضيح تفصيل المحقّق القمّي بين من قصد إفهامه في الخطاب وغيره 456

جواب المؤلف عن هذا التفصيل 458

ردّ صاحب الفصول على تفصيل المحقّق القمّي وتوضيح المؤلف حول الرد 462

تفصيل بين عمومات الكتاب والسنّة النبويّة وبين عمومات الأخبار الإماميّة وردّه 464

إشكال ودفعه 465

توضيح من المؤلف 465

نقد كلام الأخباريين في تحريم التمسّك بالكتاب إلّا بعد ورود تفسيره من المعصومين عليهم السلام 468

الدليل الاولى من أدلّة الأخباريين في المقام 468

كلام السيّد الصدر شارح الوافية والمناقشة فيه 468

الثاني من أدلّة الأخباريين 472

جواب الدليل الثاني 472

كلام شيخنا البهائي لا ينافي غرضنا 474

ص: 825

الثالث من أدلّة الأخباريين ونقدها 475

الرابع من أدلّة الأخباريين ونقدها 481

الأدلّة الدالّة على حجيّة ظواهر الكتاب 492

الخامس من أدلّة الأخباريين ونقدها 495

الأخبار المتواترة الدالّة على جواز التمسّك بظواهر الكتاب 497

الثالث من أدلّة الأخباريين وتوضيحه 503

جواب أدلّة الأخباريين 505

تقرير الدليل العقلي في المقام على الوجهين 508

الوجه الأوّل 508

الوجه الثاني 510

المعارضة بين الأدلّة الظاهرية يتصوّر على وجوه أربعة 512

الوجه الأوّل : تعارض الظنيين 512

كلام صاحب الحدائق في المقام 514

مناقشة الشيخ الأنصاري فيه 515

جواب المصنّف عن الشيخ الأعظم 515

الترجيح باشتهار أحدهما بين الأصحاب وشذوذ الآخر 517

اشكال في المقام 519

جوابه 520

الترجيح بموافقة الكتاب 521

الترجيح بموافقة السنّة 522

الترجيح بمخالفة العامّة 524

ص: 826

الترجيح على الخبر الذي حكّامهم وقضاتهم إليه أميل 525

الترجيح بتأخّر التاريخ 526

الترجيح بموافقة الاحتياط في الدين 527

التخيير 528

هناك روايات تدلّ على خلاف التخيير 530

جواب تلك الروايات 532

اختلاف القوم في طريق الجمع بين الخبرين المذكورين 534

التحقيق في المقام 536

فتلخّص ممّا فصلّناه 541

الوجه الثاني : تعارض القطعيين من حيث السند 542

موارد التعارض 544

الوجه الثالث : تعارض الظنيين المتساويين من حيث السند المختلفين في ظهور الأدلّة 546

الوجه الرابع : معارضة القطعي من حيث السند للظنّي 547

الإشارة الإجمالية إلى أدلّة الظنون المخصوصة 550

... ومنها القواعد الكليّة المستبطة منها أحكام الفروع الجزئية 550

حجّة القائلين بحجيّة مطلق الظنّ 552

المقدّمة الاُولى : محصّلها امتناع نفي التكاليف المجهولة بأصلى العدم والبرائة والمناقشة 557

التعرّض لكلام صاحب القوانين 557

مناقشة من الشيخ الأعظم وجوابها 558

ص: 827

نقل كلام الأعلام في المقام 559

المقدّمة الثانية والمناقشة فيها 561

المقدّمة الثالثة والمناقشة فيها 562

المقدّمة المذكورة غير كافية في هذا الباب ، بل لابدّ من إثبات أمرين 563

الإيراد على الدليل المذكور بوجوه : الوجه الأوّل 565

اللازم في المقدّمة الاُولى بيان أمرين 570

ما أفاده صاحب الفصول والمناقشة فيه 575

إيراد آخر في المقام ( منع الوجه الثاني من وجهى المقدّمة الاُولى ) 575

هيهنا مقدّمتان ضروريتان 578

وجوه الفرق بين كلامى صاحب الفصول والهداية 580

كلام صاحب الفصول وما اُورد على نفسه 581

المناقشات الثمانية في ما افاده صاحب الفصول 582

ما ذكره قدس سره في الجواب عن ذلك فاسد من وجوه 585

الوجه الأوّل 585

الوجه الثانية والثالثة والرابعة 586

الوجه الثاني من وجوه الإيراد على دليل الانسداد 588

توضيح من الشارح في المقام 592

توجيه آخر لكلام الماتن 593

الوجه الثالث من وجوه الإيراد على دليل الانسداد 594

توضيح من الشارح 600

غاية ما ذكروه من وجوه الاستدلال 600

ص: 828

الأوّل : دعوى الإجماع والإيرادات الواردة عليه وأجوبتها 600

الثاني : التكليف بمراعاة الاحتياط ... يستلزم العسر والحرج والإشكالات الواردة عليه وأجوبتها 606

الثالث : لا دليل على وجوب الاحتياط في المقام 614

الرابع : إنّ الغرض من الرجوع إلى الاحتياط هو الأخذ بالمتيقّن وهو متعذّر في المقام 615

الخامس : أنّ الاحتياط ممّا لا سبيل إليه في كثير المقامات لدوران الأمر بين المحذورين أو لمانع خارجي 617

السادس : بيان الاحتياط غير بيان الحكم 618

إيراد المحقّق جمال الدين الخوانساري قدس سره على الدليل المذكور وجوابه من الماتن 619

ما أفاده المحقّق القمّي في المقام 625

جواب المحقّق القمّي من الماتن 626

إيرادات آخر للمحقّق الخوانساري على هذا الإيراد 632

جواب المحقّق القمّي من الماتن 634

نقل بيان المحقّق الخوانساري من الشارح 640

اعتراض المحقّق القمّي على الخوانساري 641

توضيح اعتراض الماتن على المحقّق القمّي 642

بيان حول ما أفاده صاحب الفصول في المقام 648

مقامات يظهر منها التمييز بين الأمرين 652

نقل كلام صاحب الفصول 658

الإيراد على المقدّمة الرابعة من مقدّمات الانسداد 659

ص: 829

بيان الشارح حول ما أفاده الماتن 670

تقرير آخر للدليل الانسداد 672

بيان من الشارح 675

وجوه الفرق بين وجوب العمل بمقتضى الاحتمالات القويّة مبنيّاً على الاحتياط والقول بالحجيّة 677

كلام الفاضل النراقي ونقده 679

الثّاني من وجوه حجيّة مطلق الظن 681

كلام الآمدي في الإحكام ونقده 682

تقرير آخر للاحتجاج المذكور ونقد الماتن عليه 685

ما أفاده المحقّق القمّي في المقام ونقده 688

بيان الشارح حول ما أفاده الماتن في كلام المحقّق القمّي 694

وجوه التفرقة بين القولين 699

الثالث من وجوه حجيّة مطلق الظن 706

إيراد في ثلاث مقامات 706

الجواب عن المقام الأوّل 706

جواب المحقّق القمّي عن المقام الثاني 707

جواب المحقّق القمّي عن المقام الثالث 709

ذكر المحقّق القمّي أنّ الإيراد وارد على الدليل الأوّل أيضاً 710

ثمّ أجاب عنه بوجوه ثلاثة 710

مناقشة الماتن مع المحقّق القمّي في جوابه عن الإيراد الثاني 711

مناقشة الماتن مع المحقّق القمّي في جوابه عن الإيراد الثالث 715

ص: 830

جواب عن الإيراد الثالث والإشكال عليه 716

دفع الإشكال والمناقشة فيه 717

بيان الشارح فيما اُفيد في الدليل الثالث 718

حاصل الكلام 721

دعوى الإجماع المركّب في الباب مدفوعة 722

اعتراض وجوابه 723

قد يراد بالضرر المفسدة الذاتيّة او الإخلال بالواجبات الشرعيّة 723

المصلحة السلوكية ونقدها 724

دفع هذه الدعوى 724

نقد الدفع 724

القول بأنّ الظنّ بالواقع مع الشكّ في الطريق كافٍ في حصول الخوف الموجب

للاحتراز مدفوع 725

الوجه الأوّل من الاعتراض على الاحتجاج المذكور 726

الوجه الثاني من الاعتراض على الاحتجاج المذكور 727

الوجه الثالث من الاعتراض على الاحتجاج المذكور 728

الوجه الرابع من الاعتراض على الاحتجاج المذكور 729

الوجه الخامس من الاعتراض على الاحتجاج المذكور 730

الوجه السادس من الاعتراض على الاحتجاج المذكور 732

خاتمة وفيها ترسيم اُمور 733

الأوّل : حجيّة الظنّ كما يجري في حقّ المجتهد يجري في حقّ المقلّد والمتجزّي 733

ص: 831

الفرقة الاُولى : يمكن تقرير حجيّة الظنّ في حقّ المقلّدة بوجوه : 733

الفرقة الثانية : تقرير حجيّة الظنّ في حقّ المتجزّي 738

الفرقة الثالثة : تقرير حجيّة الظنّ في حق أهل الاجتهاد المطلق 740

الثّاني : حكم الظنّ بالموضوعات المستنبطة يرجع إلى الظنّ بالحكم الشرعي 742

حجيّة الظنّ في بعض الموضوعات التي يتعذّر العلم بواقعها 743

الثّالث : يظهر من الماتن تقديم العمل بالظنّ المطلق عند فقد الطريق المظنون على العمل بغيره 745

المناقشة فيما أفاده الماتن 745

الرابع : أقسام من الظنون التي قد ثبت اعتبارها في الشريعة 747

الخامس : حكم الظنّ في مسائل اُصول الفقه 751

السادس : اعتبار الظنّ في مسائل اُصول الدين وعدمه ؟ 751

السابع : أنّ المعتبر من الظنّ بالطريق هو الظنّ الفعلي الحاصل بعد استفراغ الوسع 761

الثّامن : الظنون المطلقة بعد القول بعدم حجيّتها هل تجري مجرى الظنون المحرّمة أم لا ؟ 766

فهرس مصادر التحقيق 771

فهرس الموضوعات 813

ص: 832

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.